ويقول الراوي: إن عين كانت تعشق الفصول الأربعة. ألفنا أغلبية الناس تؤثر بالحب فصلا بعينه أو فصلين، أما هي فكانت تعشق الفصول الأربعة. تحب الشتاء والسحب والمطر، لا تحول رياحه بينها وبين الجولات الثملة بالعطف، ولا يفزعها مطره إذا انهل فوق مظلتها المنشورة وجرى تحت قدميها ماء عكرا. وتحب الصيف وتتوافق سريعا مع حرارته وتنوه بلياليه العذبة، وتعشق الخريف وتقول عنه إنه فصل الجمال المغسول، والليالي المفتونة بالنجوى وتحيات الوداع المتبادلة. أما الربيع فهو فصل الحديقة والأصوات، وتجيء الخماسين محملة بالرسائل من أراض بعيدة مجهولة تشتعل أفئدتها بنار مقدسة، وهي تستجيب ولا شك للفصول المتغيرة بطبيعتها السمحة وإيمانها الراسخ.
وتموج حارتنا بالعواطف والانفعالات والأصوات المتلاطمة، وتجتاحها العواصف والخصومات ووجهات النظر المتضاربة، فتتابع ذلك بهدوء وإشفاق، وتدعو للخير أن ينتصر، ولا يرد على قلبها خاطر سوء أبدا. ولم يكن عن لامبالاة صفاؤها؛ فهي تدري غالبا - هي التي لا تنقطع عن الناس - أين يتأرجح الخير وأين يكمن الشر، وهي كما قلنا تدعو للخير أن ينتصر، ولكنها لا تنسى أن جميع المتنازعين أو كثرة منهم في حاجة إلى عونها. •••
ومما يذكر أن عامة المستهينين بها لم يعاصروا نشاطها، ولم يدركوا الفترة الأخيرة من حياتها، ولا شهدوا ختامها. ومما يذكر أيضا أن أكثرهم نشأ وتربى وشق طريقه بفضل إحسانها ورحمتها، ولكنهم يجهلون ذلك، أو يتناسونه أو يسيئون تأويله كما رأينا، وتتلاحق الأعوام فتتضخم السيرة في ضمير الراوي حتى تصير جبلا شاهقا، ولكنه مثل سائر الجبال يتعرض لعوامل التعرية.
2
وذات يوم - كما يقول الراوي - تجلس ست عين تحت خميلة الياسمين في الحديقة ترمي بلباب الخبز المغموس في المرق إلى مجموعة من القطط لا تقل عن الخمس عدا، وعزت واقف بجلبابه المقلم وصندله فيما بين الخميلة والفسقية، يقبض بيده الصغيرة على شعاع الشمس الغاربة الذي يتقلص على جذع شجرة الليمون. الصيف يودع الأيام الأخيرة من رحلته ولم يبق على مدفع الإفطار إلا قليل. وعين تطعم القطط بيدها، وتؤلف بينها وبينها ساعات الطعام وساعات المؤانسة؛ الأم «بركة» طحينية اللون ذات نجمة بيضاء في وسط الرأس، والأب «أبو الليل» أسود فاحم، إنعام وصباح من سلالتهما، ونرجس مهداة من أسرة غريبة، وكلهن روميات منفوشات الشعر، عن العلاقة الحميمة بينها وبين القطط، عن التفاهم والتخاطر، عن المودة والتناغم، عن الطاعة والدلال، عن الولاية والأسرار، عن كل أولئك تحكي القصص والنوادر.
وفي الهدوء يعلو صوت مستأذنا: يا أهل الله!
ترامى من ناحية الممر المفضي إلى مدخل الدار. تبتسم عين مستأنسة وتهتف: تعالي يا أم سيدة.
تقبل المرأة في ملاءتها اللف سافرة الوجه شأن الكادحات من نساء الحارة، تتبعها صغيرتها «سيدة» بشعرها الممشط وقبقابها الأخضر، تتصافح المرأتان على حين تمضي سيدة بتلقائية نحو عزت لتشهد صراعه مع شعاع الشمس الغاربة. ورغم أنها تماثله في السن - السادسة - إلا أنها تكبره تجربة ووعيا بأربعة أعوام. التفت نحوها التفاتة مقتضبة ثم رجع إلى الشعاع، ووقفت هي تراقبه باسمة وصامتة. وقالت عين لأم سيدة: لم أرك منذ ثلاثة أيام يا ولية يا خائنة.
تضحك أم سيدة من حنجرة غليظة وتقول: للرزق أحكام يا ست الكل.
ثم وهي تجلس فوق الأعشاب عند قدمي عين: ربنا يعلم أن يوما يمر من غير أن أراك لا يحسب من العمر.
Bilinmeyen sayfa