ويقول أبو نواس:
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ولكن الإنسان لا يقمع نفسه عن الخطيئة بل يظل متعلقا بها؛ تغريه متعتها ويطيبه إغراؤها وتجتذبه نشوتها، فإذا وزعه من الإيمان وازع رده بالأمل في المغفرة. ويمضي إلى خطيئته لا يلوي على شيء، حتى إذا انحسر خمارها، وثاب إلى نفسه اللوامة تاب وآب، وعاد يرجو الله سبحانه الغفران. وهل هناك أوسع من مغفرة الله؟ سبحانه هو بارئ النفوس وهو العليم بما يصنعه الشيطان من تجميل الشر، ومن جعل الشين زينا والمقبوح من الفعل مكسوا بالرواء والبهاء والجاذبية.
ويظل الإنسان بين شد وجذب وبين إقبال على المحرمات وانصراف عنها. ويبلغ أحدهم الكبر وتحيط به الشيخوخة، ويضطره العجز إلى الاستقامة، ولكنها استقامة هو مرغم عليها، ولم يقصد إليها عن اختيار؛ فهو تائب في غير عفة. ولا يقعد به الكبر أن يصرح بذلك، فيقول ذلك البيت الشهير:
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت
أم الله إن لم يعف عنها يعيدها؟
وما رأيت بيتا يجمع التوبة والفجور في شطريه كما يفعل ذلك البيت؛ فهو يرجو الله أن يغفر له، وهو في الوقت ذاته لا يخجل أن يقول للذات العلية إذا كان لا بد من العقاب فلا بأس، ولكن أرجو أن تتاح لي القدرة على إتيان ذنوبي مرة أخرى لتتوافر لي المتعة ما دامت المغفرة غير متاحة. وهكذا نجد أن الفجور قديم قدم الصلاح، وأن الفجور لا يقف به أمد ولا ينتهي عند حد، كما أن الصلاح عميق الأغوار بعيد المدى. والإنسانية تتأرجح بين الجانبين بغير حيرة وإنما عن بصيرة ووعي، وفي الوقت نفسه بين رغبة عاجلة في متعة عابرة وبين إيمان عميق الجذور يرجو وجه غفور رحيم.
والإنسان ظالم لنفسه، هو الذي اختار أن يحمل الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها. حتى إذا استجاب الله لسؤال الإنسان، وألقى على كتفيه أمانة الاختيار، تخبط في حياته هذا التخبط، وراح يضرب في الأرض ونظره إلى السماء؛ فهو بين رغبات الأرض وبين إيمانه بالسماء في شد وجذب وإقبال وإدبار.
ويضيق بعض الناس فيعلن إلحاده وكفره مختارا اليأس، مفضلا له عن رعب الانتظار، موهما نفسه أن اليأس إحدى الراحتين، ولكن هيهات؛ فالملحدون أشد الناس عذابا؛ لأنهم في البعيد من نفسهم يعلمون أنهم على باطل، وهم في أعماقهم يتمنون أن يحظوا بالجنة التي وعد الله بها المتقين من عباده، ولكنهم يدركون أيضا أنهم أبعد الناس عنها بما كفروا وألحدوا، ويظلون مع أنفسهم في صراع مرير بين ما أعلنوا من إلحاد وما تشعر به قلوبهم من أن صاحب هذا القرآن لا يقول إلا الحق. وما تزال أفئدتهم بين يأس وأمل وبين إقدام وإحجام فعل اللص المبتدئ يمد يده للسرقة برغبة الغنى، حتى وإن كان عن طريق محرم، ويكف يده بأمل التوبة والغفران من الرحمن الرحيم، الذي وسع غفرانه ذنوب البشر، وشملت رحمته المؤمن والعاصي والعابد والعربيد والقانت والزنديق. ويقول شوقي الخالد في رثاء إسماعيل أباظة باشا:
Bilinmeyen sayfa