4
لأنهم يدعون أن الإدراك أيا كان إنما يقع على التصورات الماثلة في الذهن، كما يحدث في الأحلام، لا على موضوعات متمايزة من التصورات، وأن تصديقنا بوجود الأجسام بقيمة المعاني والمبادئ العقلية إن هو إلا توهم، ومن باب أولى التصديق بالروحيات.
وقد اصطنع الحسيون هذا المبدأ التصوري، واتحدوا مع أصحابه، فأجابوا جميعا على المسائل الثلاثة بالنفي. وهذا موقف خطير للغاية يقضي على الفلسفة كعلم للوجود. ونحن ننحاز إلى وجهة الإثبات، ونبين أن قوانا العارفة آلات صالحة للإدراك صادقة بالرغم مما تقع فيه أحيانا من أخطاء، وأن هناك حقائق لا يتطرق الشك إليها: منها أولية بينة بنفسها، ومنها كسبية يتبرهن اليقين بها بالأولية، فتستطيع المضي في الفلسفة، ومعالجة المسائل الوجودية.
هذه المسائل منها عامة ومنها خاصة: المسائل العامة نجد مكانها في هذا الكتاب، وهي تدور على معنى الوجود بالإطلاق، وعلى الأمور التي تلحقه بهذا الاعتبار، فنلحق كل موجود وتدخل في تفهم حقيقته، مثل الجوهر والعرض، والقوة والفعل، والعلة الفاعلية والعلة الغائية. وتؤلف المسائل الخاصة كتابا آخر: «الطبيعة وما بعد الطبيعة» ونقسمه إلى قسمين: أحدهما يضم مسائل الوجود الطبيعي، فيفحص عن تركيب الكائن المادي إجمالا، ثم عن خصوصياته وهي الكائنات الحية نامية وحاسة وناطقة. والقسم الآخر يرتفع إلى الله علة الوجود الطبيعي، ويحاول تعرف ذاته، وفسخ الإشكالات التي أثارها الحسيون والتصوريون بشأن إمكان البرهنة على وجود الله، وإمكان إضافة صفات إلى الذات الإلهية. وبعد الفلسفة النظرية تجيء الفلسفة العملية أو فلسفة الأخلاق، نتناولها في كتاب ثالث نسميه: «الأخلاق الإنسانية»، للدلالة على أن للإنسان أخلاقا لائقة به، مغايرة للأخلاق التي توحي بها الطبيعة الحيوانية الخاضعة للذة الجسمية والمنفعة المادية. وعلى هذا الوجه نعوض مذهبا تاما يتسم باليقين والإيمان، وبدونهما لا حياة للإنسان بما هو إنسان.
وإذا سئلنا عن اسم هذا المذهب وعن مصدره، قلنا: إنه المذهب العقلي
Intellenctualisme
5
ولكن المذهب العقلي المعتدل
Modetre
يؤمن أيضا بالوجود ويقدر تعلقه عليه. ثم قلنا إن أفلاطون قد سبق إلى بعض لمحات منه، ولكن أرسطو هو زعيمه الأول الذي استخلص معانيه الأساسية ومبادئه المنطقية والميتافيزيقية وصاغ تعريفاتها واستخرج نتائجها، وإن الفلاسفة الإسلاميين، وبخاصة ابن سينا وابن رشد، قد أسهموا فيه باللسان العربي المبين. فنحن نعود إلى هؤلاء جميعا، ونؤيد شروحهم وأدلتهم، ونبين تهافت الذين حادوا عنها من الفلاسفة المحدثين. لقد تنوسيت تلك التعاليم القديمة وطال عليها النسيان، أو صارت تروى لمحض التأريخ دون اعتقاد لها بقيمة فكرية وحقيقة وجودية، لا بل مع اعتقاد أن الآراء الحديثة قد نسختها، كما نسخ العلم الحديث العلم القديم، ونسخ كل حديث كل قديم فيما يقال، فعسى أن يقتنع قارئ هذا الكتاب بأن الحق مكنون في هذا القديم الذي نبعثه.
Bilinmeyen sayfa