مقدمة
الباب الأول: وجود العقل
1 - التصور الساذج
2 - الحكم
3 - القياس
4 - الاستقراء
الباب الثاني: نقد العقل
1 - الشك واليقين
2 - التصور والوجود
3 - العقل وإدراك الطبيعة
Bilinmeyen sayfa
4 - العقل وما بعد الطبيعة
الباب الثالث: المعاني والمبادئ الأولى
1 - الوجود
2 - لواحق الوجود
3 - مبادئ الوجود
4 - أقسام الوجود
مقدمة
الباب الأول: وجود العقل
1 - التصور الساذج
2 - الحكم
Bilinmeyen sayfa
3 - القياس
4 - الاستقراء
الباب الثاني: نقد العقل
1 - الشك واليقين
2 - التصور والوجود
3 - العقل وإدراك الطبيعة
4 - العقل وما بعد الطبيعة
الباب الثالث: المعاني والمبادئ الأولى
1 - الوجود
2 - لواحق الوجود
Bilinmeyen sayfa
3 - مبادئ الوجود
4 - أقسام الوجود
العقل والوجود
العقل والوجود
تأليف
يوسف كرم
مقدمة
أرخنا للفلسفة اليونانية، ثم الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وأخيرا للفلسفة الحديثة،
1
وكنا كلما صادفنا مذهبا كليا أو رأيا جزئيا عقبنا عليه بالتأييد أو التفنيد؛ إذ إننا نعتقد أن مؤرخ الفلسفة فيلسوف أيضا، وأنه لا يليق به أن يضع نفسه موضع الببغاء، فيقصر مهمته على حكاية أقوال الفلاسفة دون عناية يتدبرها والحكم فيها. بيد أن تعقيبنا كان يجيء مقتضبا لأننا كنا بسبيل التأريخ أولا. ففي هذا الكتاب نعالج المسائل لذاتها محاولين الكشف عن وجه الحق فيها. وعنوانه يؤذن بأننا نقدم دراسة العقل، كما يقدم العامل امتحان الآلة قبل الشروع في استخدامها. ولسنا نزعم أن هذا الترتيب واجب؛ فإن الناس جميعا يصدقون عقلهم وحواسهم بادئ ذي بدء، وللفيلسوف المؤمن بصدق العقل والحواس أن يجاريهم فيقتحم المنطق ويثني بالفلسفة الطبيعية مرجئا نقد المعرفة إلى مكانه المنطقي الذي هو علم ما بعد الطبيعة أعم العلوم والمختص من ثمة بالفحص عن أعم المسائل.
Bilinmeyen sayfa
لكن كل مطلع على الفلسفة يعلم أن مسألة المعرفة هي المحور الذي تدور حوله مسائل الوجود، بمعنى أن حلول هذه المسائل تتعين تبعا للحل المرتضى لمسألة المعرفة، ففي تقديم هذه المسألة إظهار للأسباب الأولى التي حدت بكل فيلسوف على سائر آرائه. لما كانت المعرفة الإنسانية تتألف من مدركات تمثل الأجسام، أي مظاهرها المحسوسة مكتسبة بالحواس الظاهرة ومختزلة في المخيلة، ومن مدركات مجردة عن كل عرض محسوس ومكتسبة بما يسمى بالعقل، وكان الفلاسفة متفقين إجمالا على أن المعرفة العقلية (على تضاربهم في طبيعتها وقيمتها) أعلى من المعرفة الحسية وحاكمة عليها؛ انتهت مسألة المعرفة إلى أن تكون مسألة العقل.
فإذا أردنا أن نعرف العقل ريثما نقبل على دراسته بالتفصيل، قلنا إنه قوة في الإنسان تدرك طوائف من المعارف اللامادية. يدرك العقل أولا ماهيات الماديات، أي كنهها لا ظاهرها،
2
ويدرك ثانيا معاني عامة: كالوجود، والجوهر والعرض، والعلية والمعلولية، والغاية والوسيلة، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحق والباطل. ويدرك ثالثا علاقات أو نسبا كثيرة: كالعلاقة بين أجزاء الشيء الواحد، وعلاقات الأشياء فيما بينها، وعلاقات المعاني التي ذكرناها الآن، والعدد والترتيب. فهذه المدركات غير مادية، فلا ينفذ الحس إليها بحال. وليست العلاقة أو النسبة موجودا واقعيا، وإنما الموجود طرفاها، فإدراكها إدراك معنى غير مادي. ويدرك العقل رابعا ما بدئ عامة في كل علم علم وفي العلوم إجمالا، وليس في التجربة شيء عام. ويردك خامسا وجود موجودات غير مادية، كالنفس والله وخصائصها الذاتية، وذلك بالاستدلال بالمحسوس على المعقول أو بالمعلول على البادي للحواس على العلة الخفية عليها. وسادسا بالاستدلال أيضا يؤلف الفنون والعلوم، مما لا مثيل له عند الحيوان الأعجم مع حصوله على المعرفة الحسية.
ولقضية العقل وجهان: أحدهما وجوده، والآخر قيمة إدراكه إذا كان موجودا. والأصل في الوجه الأول أن فريقا هاما من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا الوحيدة للمعرفة، وأن ما يسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها. هؤلاء يدعون بالحسيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة، وبالماديين متى دار على الوجود، وذلك لقولهم: لا وجود لغير المادة، ولا معرفة دون الإحساس، ويدعون أيضا بالاسميين أو اللفظيين لقولهم: ما المعاني إلا أصوات في الهواء، أي أسماء أو ألفاظ وحسب. وهم أميل إلى تسمية العقل بأسماء ذات دلالة واسعة غامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها، فيقولون بالفرنسية:
Entendement ، وبالإنجليزية: “Mind, spirit” Understanding
مما يقابل قولنا: «الذهن» على حد تعريفه بأنه: «قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة».
3
وطبيعي أنه لو صح مذهبهم لعاد البحث في مسائل الوجود إلى تحليلها للكشف عن كيفية تكوينها من الصور الخيالية والعادات النفسية، أي عادت الفلسفة كلها إلى مسألة المعرفة. وقد حدث هذا فعلا من جانبهم، وكان محتوما أن يحدث بناء على مبدئهم. لذا كان أول ما عنينا به إثبات وجود العقل بإثبات أصالة أفعاله ومغايرتها لأفعال الحواس، وكان هذا موضوع الباب الأول.
ما نكاد نضع هذه النتيجة حتى يبرز لنا الوجه الآخر لقضية العقل، ذلك أن العقل قد يكون موجودا ثم يكون أداة غير صالحة للإدراك، فهل باستطاعته الوصول إلى اليقين، أو هو مضطر لتعليق الحكم والتزام الشك؟ هذه مسألة عامة مبدئية تتخصص في ثلاث مسائل؛ الأولى: هل باستطاعة العقل أن يبرر يقينه بإدراكه؟ الثانية: هل باستطاعته أن يبرر اليقين بإدراك الحواس؟ الثالثة: هل باستطاعته أن يجاوز دائرة الوجود الطبيعي إلى ما بعد الطبيعة؟ في هذه المسائل نلقى الحسيين بأدلتهم، ونلقى بنوع خاص طائفة من الفلاسفة نسميهم بالتصوريين؛
Bilinmeyen sayfa
4
لأنهم يدعون أن الإدراك أيا كان إنما يقع على التصورات الماثلة في الذهن، كما يحدث في الأحلام، لا على موضوعات متمايزة من التصورات، وأن تصديقنا بوجود الأجسام بقيمة المعاني والمبادئ العقلية إن هو إلا توهم، ومن باب أولى التصديق بالروحيات.
وقد اصطنع الحسيون هذا المبدأ التصوري، واتحدوا مع أصحابه، فأجابوا جميعا على المسائل الثلاثة بالنفي. وهذا موقف خطير للغاية يقضي على الفلسفة كعلم للوجود. ونحن ننحاز إلى وجهة الإثبات، ونبين أن قوانا العارفة آلات صالحة للإدراك صادقة بالرغم مما تقع فيه أحيانا من أخطاء، وأن هناك حقائق لا يتطرق الشك إليها: منها أولية بينة بنفسها، ومنها كسبية يتبرهن اليقين بها بالأولية، فتستطيع المضي في الفلسفة، ومعالجة المسائل الوجودية.
هذه المسائل منها عامة ومنها خاصة: المسائل العامة نجد مكانها في هذا الكتاب، وهي تدور على معنى الوجود بالإطلاق، وعلى الأمور التي تلحقه بهذا الاعتبار، فنلحق كل موجود وتدخل في تفهم حقيقته، مثل الجوهر والعرض، والقوة والفعل، والعلة الفاعلية والعلة الغائية. وتؤلف المسائل الخاصة كتابا آخر: «الطبيعة وما بعد الطبيعة» ونقسمه إلى قسمين: أحدهما يضم مسائل الوجود الطبيعي، فيفحص عن تركيب الكائن المادي إجمالا، ثم عن خصوصياته وهي الكائنات الحية نامية وحاسة وناطقة. والقسم الآخر يرتفع إلى الله علة الوجود الطبيعي، ويحاول تعرف ذاته، وفسخ الإشكالات التي أثارها الحسيون والتصوريون بشأن إمكان البرهنة على وجود الله، وإمكان إضافة صفات إلى الذات الإلهية. وبعد الفلسفة النظرية تجيء الفلسفة العملية أو فلسفة الأخلاق، نتناولها في كتاب ثالث نسميه: «الأخلاق الإنسانية»، للدلالة على أن للإنسان أخلاقا لائقة به، مغايرة للأخلاق التي توحي بها الطبيعة الحيوانية الخاضعة للذة الجسمية والمنفعة المادية. وعلى هذا الوجه نعوض مذهبا تاما يتسم باليقين والإيمان، وبدونهما لا حياة للإنسان بما هو إنسان.
وإذا سئلنا عن اسم هذا المذهب وعن مصدره، قلنا: إنه المذهب العقلي
Intellenctualisme
5
ولكن المذهب العقلي المعتدل
Modetre
يؤمن أيضا بالوجود ويقدر تعلقه عليه. ثم قلنا إن أفلاطون قد سبق إلى بعض لمحات منه، ولكن أرسطو هو زعيمه الأول الذي استخلص معانيه الأساسية ومبادئه المنطقية والميتافيزيقية وصاغ تعريفاتها واستخرج نتائجها، وإن الفلاسفة الإسلاميين، وبخاصة ابن سينا وابن رشد، قد أسهموا فيه باللسان العربي المبين. فنحن نعود إلى هؤلاء جميعا، ونؤيد شروحهم وأدلتهم، ونبين تهافت الذين حادوا عنها من الفلاسفة المحدثين. لقد تنوسيت تلك التعاليم القديمة وطال عليها النسيان، أو صارت تروى لمحض التأريخ دون اعتقاد لها بقيمة فكرية وحقيقة وجودية، لا بل مع اعتقاد أن الآراء الحديثة قد نسختها، كما نسخ العلم الحديث العلم القديم، ونسخ كل حديث كل قديم فيما يقال، فعسى أن يقتنع قارئ هذا الكتاب بأن الحق مكنون في هذا القديم الذي نبعثه.
Bilinmeyen sayfa
الباب الأول
وجود العقل
الفصل الأول
التصور الساذج
(1) المعنى المجرد الكلي
نفتتح القول إذن بإثبات مغايرة الأفعال العقلية للأفعال الحسية. ومتى ثبتت هذه المغايرة ثبتت أصالة العقل، وثبت له وجود خاص، من حيث إن كل فعل فله بالضرورة فاعل معادل له. ونقصد بالأفعال العقلية على وجه التحديد الأفعال الثلاثة المعروفة في المنطق بالتصور الساذج والحكم والاستدلال (بنوعيه من قياس واستقراء). ومعلوم أن التصور الساذج - أي البسيط - سمي كذلك بالنسبة على الحكم والاستدلال؛ فإنه محض إدراك معنى ما، كالعلم والإنسان والمثلث والفضيلة، بينما هما إدراك بإثبات أو نفي يجمعهما تحت اسم التصديق. وعلى هذه الأفعال يدور هذا الباب الأول.
المعنى يمثل ماهية الشيء المدرك، أي طبيعته دون تمثيل لما تبدو فيه الماهية أو الطبيعة من الأعراض. ويحصل عليه العقل بتجريد الماهية عن المادة الشخصية وعن الأعراض الملازمة للمادة، كالمقدار واللون والصوت والرائحة والطعم والحرارة والبرودة. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى مجردة هكذا عن كل ما يخصص الوجود الواقعي؛ فإن العقل يتصور إمكان تحققها في ما لا نهاية له من الأفراد، ولو لم تعرض عليه التجربة سوى فرد واحد لماهية واحدة. وبهذا الاعتبار يقال للمعنى المجرد إنه كلي، ويقال لأفراده إنها جزئيات لأنها بمثابة أجزاء له. وواضح أن التجريد سابق على تصور الكلية؛ لأن المعنى إنما يطلق على كثيرين لكونه غير متضمن لشيء مما يعين ويخصص في الواقع. وهذه الملاحظة على جانب عظيم من الأهمية، وهي تقتضينا ألا نقول «المعنى الكلي» إلا حيث تكون الكلية مقصودة فعلا، وأن نقول «المعنى» أو «المعنى المجرد» حيث نقصد الماهية فقط، أي المفهوم دون الماصدق، فنرفع لبسا كان مثارا للخطأ عند كثيرين من الفلاسفة.
والتجريد على هذا النحو أساس «العلم» الذي هو وصول العقل إلى معنى الشيء، ومتى وصل العقل إلى معنى الشيء فقد عرفه بعلته، أي أدرك علة تكوينه وعلة خصائصه وعلة أفعاله. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى المجرد ثابتة، كان العلم بها ثابتا لا يلحظ تغير الأعراض ولا يتغير بتغيرها، فضرورة العلم لازمة من ضرورة الماهيات. وتبعا لذلك لا يكون العلم إدراك الجزء بما هو جزئي حاصل على كذا وكذا من الأعراض التي تميزه من سائر أفراد نوعه، بل يكون العلم إدراك الكلي، على حد القول المأثور عن أرسطو وأتباعه، أي إدراك الماهية المجردة التي هي كلية بالقوة من جراء تجردها، وتصير كلية بالفعل متى التفت العقل إلى جزئياتها الحقيقية والممكنة.
ويتفاوت التجريد على ثلاث درجات: في الدرجة الأولى يتناول العقل الشيء المادي كما هو ماثل في الصورة الخيالية، فيجرده عن أعراضه المحسوسة بالفعل، كمقداره وشكله ولونه وحرارته ... إلى غير ذلك مما هو خاص بشخصه لا بماهيته ونوعه، مثلما نجرد صورة زيد عن أعراضه التي من هذا القبيل فنحصل على معنى الإنسان. بعد هذا التجريد يبقى المعنى مشتملا على مادة مخصوصة داخلة في حقيقة الماهية؛ فإن الإنسان يوجد حتما في لحم وعظم، لكنها مادة معقولة إجمالا، أي مجردة عن الأعراض. وهكذا الحال في سائر الكائنات الطبيعية، نتصور كلا منها في المادة التي تخص ماهيته لكن مجردة مجملة، والكائنات المتصورة على هذا النحو هي موضوعات العلم الطبيعية.
وفي الدرجة الثانية يتناول العقل هذه الموضوعات، فيجردها عن المادة المخصوصة المجردة أو الإجمالية، فتبقى لديه المادة على العموم، وهي التي لما جردت على المادة المحسوسة شخصية وإجمالية لم تعد محسوسة، بل أضحت معقولة فقط، تتصور أبعادا وأشكالا، أي خطوطا وسطوحا وحجوما دون أي عرض من أعراض الكائنات الطبيعية، فيحصل العقل بذلك على معنى الكمية المتصلة وينشأ علم الهندسة، ثم يحصل على معنى الكمية المنفصلة أو العدد، وذلك بالتمييز بين كميات متصلة مختلفة والجمع بينها، أو بقسمة الكمية المتصلة والجمع بين الأقسام، وينشأ علم الحساب الذي هو أكثر تجردا من الهندسة لعدم تعلق الأعداد بالمكان كتعلق الأبعاد والأشكال، وأخيرا يحصل على معنى الكمية إطلاقا، وينشأ علم الجبر الذي هو أكثر تجردا من الهندسة والحساب.
Bilinmeyen sayfa
وفي الدرجة الثالثة يجرد العقل الشيء عن المادة المعقولة أيضا، فلا يبقى لديه سوى معنى الموجود، وهو معنى غير متعلق بالمادة بالذات؛ إذ قد يكون الموجود جسما وقد يكون روحا. كذلك يلحظ العقل بعض معان توجد تارة في مادة وتارة في غير المادة: كالجوهر والعرض والكيفية والإضافة والقوة والفعل والكلي والجزئي والعلة المعلول والغاية والوسيلة، فيعلم العقل أنها تلحق الموجود من حيث هو موجود لا من حيث هو جسم طبيعي أو رياضي، ويحصل بذلك على موضوعات ما بعد الطبيعة.
فالتجريد واسطة الاتصال بين العقل والوجود، وفيه ضمان موضوعية العلم وحقيقته. والفلاسفة الذين ينكرون العقل ويحاولون الاكتفاء بالحس (مثال هوبس لوك وهيوم ومل وسبنسر) ولا يستطيعون تسويغ العلم الذي يدور على الماهيات المجردة والقوانين الكلية، بينما الحس لا ينال سوى الجزئيات. والفلاسفة الذين يؤمنون بالعقل وينكرون هذا التجريد (أمثال ديكارت ومالبرانش وليبنتز وسبينوزا وكنط)، لا يستطيعون تعيين العلة الحقة للمطابقة بين العقل والأشياء. (2) المذهب الحسي والمعنى
ينكر الحسيون وجود معان في أذهاننا، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين: أحدهما أنه لما كان كل موجود حسيا، كانت معارفنا إما إحساسات أو راجعة إلى إحساسات. والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تصور متناقض يلغي عجزه صدره؛ إذ إن الكلية تمنع عن المعنى التعيين، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتما. هل نستطيع تصور إنسان لا هو أبيض ولا أسود ولا أصفر ولا أحمر، ولا هو طويل أو قصير، ولا هو كذا أو كذا مما يسمى بالأعراض؟ هل نستطيع أن نتصور حركة متمايزة من الجسم المتحرك ولا هي سريعة ولا بطيئة، ولا مستقيمة ولا منحنية؟ هل نستطيع أن نتصور مثلثا لا يمثل نوعا من أنواع المثلثات ويشملها جميعا؟ ويقاس على ذلك سائر المعاني التي لها التجرد والكلية.
غير أنهم يجدون أنفسهم مضطرين للإقرار بما يشبه المعنى المجرد الكلي، فيحاولون تفسيره ابتداء من الحسي، فيقولون إنه صورة تكتسب بالانتباه على الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي، وهذا هو التجريد عندهم، فنحصل على صورة ناقصة تحوي بعض خصائص الشيء دون بعض. وندل على هذه الصورة بلفظ، فنخلق بينهما علاقة عرفية يكون من أثرها أنه كلما سمعنا اللفظ أو قرأناه بدت في ذهننا صور أشياء حاصلة على تلك الخصائص، وهذه هي الكلية عندهم، تتسع أكثر فأكثر بتناقص عدد الخصائص المستبقاة في الصورة على ما تشير إليه كتب المنطق حين تعين العلاقة بين المفهوم والماصدق. ومن الحسيين من يعترف للذهن بفاعلية ذاتية في المضاهاة بين الخصائص والانتباه إليها، ومنهم من يرى أن الذهن منفعل وحسب، وأن تكرار الإحساس أو شدته تبرز الخصائص المشتركة وتفرض الانتباه على الذهن، فتحدث الصورة حدوثا آليا . والحسيون المعاصرون يؤيدون تفسيرهم للتجريد بتلك «الصور المركبة» التي حصل عليها جالثون حوالي سنة 1880؛ إذ وضع في فانوس سحري بضع ميداليات تمثل كليوباترة ووجه الضوء إلى موضع واحد، فظهرت صورة هي متوسط الميداليات. وكذلك صنع بميداليات تمثل إسكندر الأكبر، وبصورة شمسية تمثل أفراد إحدى الأسر، فكانت هذه التجارب دليلا ماديا على ترسخ المشابهات وتلاشي الفوارق. (3) المعنى والصورة
نقسم ردنا على هذه الأقوال إلى قسمين: الأول مقارنة بين المعنى والصورة، والثاني مقارنة بين المعنى واللفظ. ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة، فنقول: إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه، فإذا حذفت إحداها أو أضيفت أخرى تعدلت الصورة الناتجة عنها. فالصورة المركبة صورة متوسطة للصور الجزئية المستخدمة في إنتاجها، ولها فقط؛ وهي لا تعتبر مشتركة في الحقيقة إلا بالقياس إلى الصور الجزئية الحادثة هي عنها، وبالقياس إلى الذي يعرف هذه الصور الجزئية. أما إذا لم نعرفها، فالصورة المركبة تكون بالقياس إلينا صورة جزئية معينة بأعراض خاصة كواحدة من تلك الصور؛ إذ إنها إنما تمثل الملامح المحسوسة لطائفة من الموجودات معينة. وعلى ذلك يستحيل الحصول على صورة مركبة إذا ما تباعدت المشابهات المحسوسة بين أصناف النوع الواحد، ومن باب أولى بين أنواع الجنس الواحد: كيف نحصل على صورة متوسطة للإنسان باستخدام صور الأصناف البشرية من أبيض وأسود وأسمر وأصفر وأحمر؟ على أي شكل يظهر فيها الرأس والعينان والأنف والشفتان والقامة؟ إن كل أولئك يظهر على شكل مشوه لمميزات كل صنف. وكيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية، كالإنسان والقرد والأسد والثور والفرس والحوت والخفاش والقط ... إلخ؟ وكيف نحصل على صورة متوسطة لمثلث أو اللون أو لغير ذلك من الأجناس؟
هذا فضلا عن أن الصورة المركبة أيا كانت هي صورة محسوسة، فلا يمكن أن تتكرر بالذات في كثيرين، بينما المعنى ينطبق بالذات على عدد لا يحصى من الأفراد. قال ابن سينا (في كتاب النجاة): «إن الحس لا ينال الإنسان المقول على كثيرين، وكذلك الخيال؛ فإنك أي صورة أحضرتها في التخيل أو في الحس الجسماني، لم يمكنك أن تشرك فيها سائر الصور الشخصية؛ لأن ما يرتسم في الحس أو الخيال يكون مع عوارض من الكم والكيف والأين والوضع غير ضرورية في الإنسانية ولا مساوية لها.» وقال أيضا: «ليس يمكن في الخيال البتة أن يتخيل صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع (أي الممثل بالصورة)؛ فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس.» وهكذا نعتقد أننا قد فرغنا من أمر الصورة المركبة وأبطلنا استشهاد الحسيين بها.
على أننا نسلم بوجود الصورة المشتركة في مخيلتنا ومخيلة الحيوان الأعجم، يأتي اشتراكها من غموضها واقتصارها على خطوط عامة قليلة التعيين، وإنما يمكن ذلك؛ لأن الخيال قوة حية لا جامدة، وأن الإدراك فعل معنوي لا مادي فيحتمل التعيين. وإذا عدنا إلى التفاوت في أنفسنا، وجدنا أن المعرفة تتدرج من العام إلى الخاص: ففي دائرة المعرفة الحسية نذكر أننا إذا رأينا شيئا عن بعد، فإننا ندرك كونه جسما قبل كونه حيوانا، وكونه حيوانا قبل كونه إنسانا، وكونه إنسانا قبل كونه هذا الشخص المعين. ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي - تأييدا لهذه القضية - أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر، ويدعون كل رجل أبا وكل امرأة أما قبل أن يفردوا الأب والأم الحقيقيين عن باقي الرجال والنساء. وكذلك الحال في دائرة المعرفة العقلية؛ فإن العقل يدرك الماهيات في أول الأمر إدراكا إجماليا، ثم يخصص هذا الإدراك ويستكمله بتحليل الأشياء إلى عناصرها أو خواصها، أي بتجريدات متتالية.
فحين نقول إن التصور الساذج إدراك الماهية، لا نقصد أن العقل ينفذ فورا إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعة إلى خصائصها الجوهرية. إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبدا إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية، فلا يحدها الحد الذي يشترطه المنطق في العلم الكامل، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي . ولعجز العقل عن حد الماديات فإنه يقنع برسمها أي بتعريفها تعريفا تجريبيا وصفيا بأعراض خارجة عن الماهية دالة عليها مميزة لها مما عداها باجتماعها لها دون غيرها. كما نشاهد في علومنا الطبيعية حيث تعرف العناصر الكيميائية بوزنها وألفتها وآثارها، وتعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء وما إلى ذلك. فليست المعاني سواء في كمال التصور، ولكنها تتفاوت: فمنها الغامض والواضح، ومنها المختلط والمميز.
الفارق الجوهري بين المعنى والصورة المشتركة، أو بين الحد والرسم، هو أن الصورة تشتمل على أعراض الشيء وأجزائه كما تبدو للحواس وحسب، وأن المعنى يتضمن علة الخصائص التي يمثلها. فحين نحد الإنسان بأنه حيوان ناطق، نحن نعلم أن الحيوانية والنطق علة جميع أفعاله وجميع خصائصه، كالحرية والأخلاق والدين واللغة والعلم والفن والاجتماع، فإن أولئك جميعا راجعة إلى النطق لازمة عنه. وحين نعدد عناصر الصورة المشتركة للإنسان، فنقول إنه جسم حي حاس غير ذي ريش ولا وبر يمشي على قدمين رأسه مرتفع إلى أعلى، نجد أننا نجمع عناصر محسوسة بعضها إلى بعض، ولا نعلم علة وجود هذه العناصر للإنسان. بل حين نعرفه بالخصائص المعقولة اللازمة عن النطق دون النطق نفسه، فلا يكون تعريفنا إلا رسما كالرسم الجامع للعناصر المحسوسة، ولا يصير حدا إلا بذكر النطق أولا باعتباره الخاصية الأساسية المقومة للماهية المعبرة عما «هو» الإنسان والمفسرة لجميع خصائصه؛ لأنها هي العلة في كون الإنسان إنسانا وكون هذه خصائصه. والأمر كذلك في الصورة المشتركة للساعة أو القاطرة أو الطائرة أو غيرها من الآلات؛ فإن الحيوان الأعجم يتصورها، ويتصورها الإنسان الجاهل حقيقتها، ولكن علة وجود أجزائها وعلة اجتماعها لا تدرك إلا في معنى الساعة وهو أنها آلة لقياس الزمان، أو في معنى القاطرة أو في معنى الطائرة، وهذه المعاني معقولة غير محسوسة.
فإذا كنا قد سلمنا أن الإنسان لا يتبين المعنى المعقول في الماديات، فقد كان مرادنا التبين الصريح، وما نزال ندعي أن الإنسان يتبين الماهيات المادية نوعا من التبين، مستشهدين بالتجربة التي ترينا الحيوان الأعجم يستظل بالشجر ، ويأكل العشب والثمر، وينتفع بغير ذلك من الأشياء، ثم لا يستعيض عما يفوته منها، ولا يحدث أي أثر إيجابي فيما حوله. بينما الإنسان يستنبت الشجر والعشب ويستخدم الأشياء وخصائصها على وجوه شتى كثير منها لم يعرض في الطبيعة. والعجماوات هي التي تقف عند الظاهر المحسوس الذي يقتصر عليه الحسيون، والإنسان ينفذ إلى ما وراء المحسوس من المعقول.
Bilinmeyen sayfa
هذا فيما يختص بالماديات، أي بمعاني الدرجة الأولى من درجات التجريد. فإذا ارتقينا إلى ما فوقها قلنا بدون تحفظ ولا استدراك: إن العقل يدرك الماهيات. فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك؛ فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية كما بينا، وهي لا تشتمل إلا على المادة المعقولة التي هي السطح والخط مجردين عن كل كيفية حسية، فيستوعب العقل خصائصها، ويبرهن على هذه الخصائص بخاصية رئيسة مأخوذة من المعاني أنفسها، أي من الماهيات الممثلة في المعاني. وما الأشكال المتخيلة ههنا بإزاء المعاني سوى صورة جزئية ليست هي المقصودة بالحد والبرهان.
ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق، شاهد أبلغ على إدراك العقل للماهيات؛ فإنها تتأبى على كل تخيل كما هو واضح، ومنها ما يطلع على أشياء متباينة الماهية بحيث لا يبقى أي وجه لدعوى الحسيين أن معانينا عناصر محسوسة مشتركة ينضم بعضها إلى بعض بالتشابه: ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين تمثال وقصيدة وقطعة موسيقية وزهرة، وغيرها كثير، حين نصفها بالجمال؟ فإن قيل إن هذا الوصف غير مستفاد منها بل من أثرها فينا، أجبنا أننا نشعر تمام الشعور أن الوصف متجه إليها، وندرك بجلاء أنه إذا لم يكن لها صفة الجمال لم يكن لها أي أثر. ثم ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة والسخاء، وغيرها من الفضائل حين نجمعها تحت معنى الفضيلة؟ فإن سئلنا بأي حق نجمعها هكذا، أجبنا أن هناك تشابها، ولكنه تشابه معقول غير محسوس يبدو في التعريفات التي نؤلفها لهذه المعاني بأجناس وفصول معنوية، كما سنبينه كلما صادفنا معنى من تلك المعاني العامة الشاملة التي هي أصول المعرفة الإنسانية.
الخلاف إذن بيننا وبين الحسيين قائم في أنهم يأبون الاعتراف بالمعقول، ويجهدون أنفسهم في رده إلى المحسوس. ويظهر هذا الخلط في نقدهم للمعنى المجرد؛ إذ يقولون إنهم لا يستطيعون أن يتصوروه لأنه غير معين، وهم يقصدون أنهم لا يستطيعون أن يتخيلوه، ونحن نقرهم على أنه لا يتخيل من حيث إن المخيلة قوة حسية عاجزة بطبعها عن تمثيل ما ليس بمحسوس. أما إن أريد بالتصور التعقل فهو مستطاع؛ إذ إن المعنى المجرد غير المعين من جهة الأعراض المحسوسة، معين تمام التعيين بعناصره المعقولة التي تدخل في تعريفه. وإذا عد تصورا ناقصا لكونه لا يحتوي إلا على تلك العناصر، فإنه تصور تام ما دامت هي المقومة للماهية. فالتعريف الصحيح للتجريد ليس قولهم إنه انتزاع صورة جزئية من صورة جزئية أعقد، مثلما تفعل الحواس الظاهرة التي يدرك كل منها كيفية معينة من كيفيات الشيء الواحد، فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها، والانتباه الذي يجعلون منه وسيلة التجريد لا يعطي الصورة الواقع عليها أي قسط من التجرد، بل بالعكس يقوي جزئيتها: كانتباه البصر إلى لون شيء ما، فإنه يفسر انفصال اللون عن الشيء، ولكنه يدعه هذا اللون المعين في هذا الشيء المعين.
وإنما التعريف الصحيح للتجريد هو الذي يذكره ابن سينا نقلا عن المدرسة الأرسطوطالية، حيث يقول: «إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها.» أو بكلمة واحدة: التجريد إحالة المحسوس معقولا. إننا نخطئ بلا مراء إذا تصورنا اللون أو الحركة أو الماهيات الجسمية مفارقة للأجسام لكونها مجردة عنها في تصورنا، أما إذا لاحظنا الحركة مثلا فيما يخصها بالذات، وهو أنها الانتقال التدريجي من مكان إلى آخر، بصرف النظر عن الموضوع المتحرك، وعن أعراض الحركة من اتجاه وسرعة وبطء، فليس في هذا التجريد كذب؛ لأن الموضوع المتحرك ومشخصاته لا تدخل في حقيقة الحركة ، وليس فيه امتناع، وإنما هو عام عادي كما يشهد الوجدان وتشهد العلوم التي إنما مدارها على أمثال هذه المجردات. ومن عجب أن يغفل الحسيون شهادة الوجدان وشهادة العلوم تشبثا بمبدئهم. (4) المعنى واللفظ
بل إن مبدأهم قد ساقهم إلى أشهد من هذا خلفا وأدعى للعجب؛ ذلك أنهم لم يؤمنوا بالمعاني وآمنوا بالألفاظ. فقد مر بنا تفسيرهم للكلية أنها استعراض صورة جزئية عند سماع الأسماء الموضوعة لها أو قراءتها. ولما جزموا بأن المعاني ألفاظ وحسب، انتهوا إلى أن مدار العلوم على ألفاظ. فإنكارهم للعقل قضى عليهم بإنكار قيمة العلم.
أجل إن اللفظ أو الاسم غير متعلق بصورة جزئية معينة؛ هذا قول صادق، وأصدق منه وأصرح أن نقول: إن الاسم كلي حين يتصور الذهن الكلية، وأنه يصير جزئيا بالإشارة إلى عين من الأعيان، كأن نقول: هذا الإنسان وهذه الشجرة. ويعود كليا حين نستعمله بصيغة الجمع فنقول: الناس والأشجار. أو بصيغة مهملة مثل: إنسان ما وشجرة ما. فما هو السبب في إمكان وضع الاسم مستقلا هكذا عن الصور الجزئية، وجميع إدراكاتنا واقعة على جزئيات فيما يقولون؟ أليس هذا دليلا قاطعا على أن المعنى والكلية سابقان على الاسم، وأنهما السبب في وضع الاسم، وأن لا قيمة للاسم إلا إذا قرن به المعنى وأدركت الكلية؟ ليس التفكير لوك ألفاظ، ولكنه إدراك الأشياء المدلول عليها بالألفاظ. ونحسب أن كل هذا من البداهة بحيث لا يحتاج إلى إلحاح.
يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون. وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء، ولكنه كان واهما، فقد نسلم جدلا باسمية هذين العلمين، فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية، فهي تتطلب تفسيرا آخر غير الاسمية. ولكننا لا نسلم بما يقول؛ فإن لكل من الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل من الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي، فيرجع العلمان إلى حكم سائر العلوم: ففي الجبر تدل الحروف دلالة مطردة على كميات معلومة أو مجهولة، وفي الحساب تدل الأعداد على كميات معينة، وتعتبر بمثابة الأنواع الواقعية، فيختلف بزيادة وحدة أو إنقاص وحدة، كما يختلف «الحي» بزيادة «الحاس» أو حذفه، وكما يختلف «الحيوان» بإضافة «الناطق» أو حذفه على ما هو ظاهر في شجرة فورفوريوس. ولما كان العد أو الحسبان في العلمين منهجا مستقلا عن المعدودات منطبقا على أي منها، فإن العقل يصرف النظر عن المعدودات، أي عن الموضوعات المدلول عليها بالعلامات، ريثما يجدها عند التطبيق. وعلى هذا الاعتبار يستخدم الرياضيون الأعداد والحروف ويؤلفونها بعضها مع بعض في كل علم. أما إذا كانت عاطلة عن كل دلالة فكيف نفسر العد والتأليف والتطبيق؟
الإدراك العقلي سابق إذن على اللفظ مستقل عنه، ويتضح هذا الاستقلال أيضا بالمقارنة بين طوائف الألفاظ وبين الإدراك المقابل لها في العقل: فمنها الألفاظ المشككة، تلك التي تقال على كثيرين مختلفين بالماهية، فتنطبق باتفاق من جهة وافتراق من جهة أخرى، مثل قولنا: «منظر جميل، وتمثال جميل، وقصيدة جميلة، وغناء جميل»، أو قولنا: «إنسان طيب، وفاكهة طيبة، وقلم طيب»، فإن لفظي «الجمال والطيبة» ينطبقان على الموصوفات بمعنى عام، هو وجه الاتفاق الذي يذكر في تعريفها حيث نقول: إن الجمال تناسق ورونق، وإن الطيبة موافقة الشيء لماهيته أو للغاية المنشودة منه. ولكن العقل يعلم أن الجمال أو الطيبة لا يتحققان في الموصوفات على نحو واحد من حيث إن لكل منها ماهية خاصة، فليس جمال التمثال كجمال القصيدة، وليست طيبة القلم كطيبة الإنسان أو كطيبة الفاكهة. وبهذا العلم يدخل العقل في إدراكه لكل موصوف معنى ليس في اللفظ ولا يمكن أن يكون في اللفظ لتعدد الموصوفات واختلافها.
وثمة شاهد آخر على هذا التمايز بين المعنى واللفظ، هو أن لفظا موضوعا لمعنى معين بالمطابقة يوحي أيضا بمعنى متضمن فيه أو لازم عنه، مثل دلالة كل من لفظ البيت ولفظ السقف على الحائط. وليست هذه الدلالة راجعة إلى اللفظ، بل إلى العقل الذي يدرك أن ما يدل على الكل يدل على الجزء بطريق التضمن، أو أن ما يدل على جزء ما فهو يدل على جزء آخر متصل به، فيصرف العقل اللفظ الموضوع للأول بالمطابقة إلى الدلالة على الآخر بطريق الالتزام أو الاستتباع.
وشاهد ثالث يؤخذ من المترادفات؛ فإنها أسماء مختلفة متواردة على مسمى واحد، وذلك لأن الألفاظ عرفية وضعية لا دلالة لها بذاتها وأن العبرة بفهم العقل.
Bilinmeyen sayfa
وشاهد رابع نجده في الألفاظ المشتركة التي يطلق الواحد منها على مسميات متباينة كل التباين: كما يطلق لفظ العين على منبع الماء والعضو المبصر والدينار، ويطلق لفظ الكلب على الحيوان المعروف وعلى الشعر، ويطلق لفظ المشتري على قابل عقد البيع وعلى الكوكب الذي في السماء ... وغيرها كثير في جميع اللغات. فههنا ليس للفظ مدلول خاص، ولكن العقل يخصص المدلول في كل حالة تبعا لإدراكه هو. وإذا قلنا إن هناك وجه شبه هو الأصل في الاشتراك، رجعت هذه الألفاظ إلى المشكلة وبقيت النتيجة التي نريد أن نبينها، وهي أن فعل العقل هو الأول وأن اللفظ أداة ليس غير.
بل إن استقلال التعقل عن اللفظ يظهر من وجود معان دون ألفاظ، وهذا ما يسميه علماء النفس المعاصرون بالفكر الضمني
، ويضربون له شتى الأمثلة: منها الشعور بالذات وبالحرية وبالتبعة، والمواقف العقلية الناجمة عن أمثال هذه الأقوال: انتظر، اسمع، انظر؟ والشعور بالانتباه والعجب والشك وبالسهولة أو الصعوبة بإزاء مهمة ما، والانتقاد الصامت لما نقرأ أو نسمع أو نرى، والشعور بالوضوح، والشعور بالاتفاق أو الاختلاف بين أمور عدة معروضة علينا، والشعور بالتردد بين فكرتين أو بين عاطفتين أو بالانتقال من الواحدة إلى الأخرى، واختمار الأفكار والعواطف في اللاشعور قبل أن يتعين ويطلق عليها اسم، والفكرة الفجائية تخطر لشخص يجيد عدة لغات ويحب اللغة التي يعبر بها عن فكرته. فكيف يزعم الزاعمون أن المعاني ألفاظ وأن التفكير تنسيق ألفاظ؟ إن هذا البحث في التصور الساذج ليدل الدلالة القاطعة على بطلان المذهب الحسي وكم سنصادف من أدلة قاطعة فيما يلي من بحوث!
الفصل الثاني
الحكم
(1) تعريف الحكم
قلنا إننا لا ندرك الأشياء بجميع خصائصها وأعراضها دفعة واحدة، ولكننا ندرك الأعراض والخصائص شيئا فشيئا باستخدام حواسنا وإعمال الفكر، فنحلل الشيء إلى معان عدة ونحن نعلم أن هذه الكثرة متحققة فيه، فنردها إليه في قول يعلن أنها له، مثل قولنا: «سقراط فاضل»، ويسمى هذا تركيبا. وقد نخطئ فنضيف إلى الشيء ما ليس له، فإذا تبينا خطأنا عدنا فاستبعدنا عن الشيء تلك الإضافة في قول يعلن أنها ليست له، مثل قولنا: «ليس سقراط كافرا»، ويسمى هذا فصلا أو تفصيلا باعتبار المقصود منه وهو الاستبعاد، ولكنه تركيب أيضا من حيث إنه تأليف بين معينين في صيغة سالبة.
هذا التركيب الموجب أو السالب مغاير للمعنى المركب المتصور دون إيجاب أو سلب، فليس تصورنا «الإنسان الشجاع» كتصورنا «هذا الإنسان شجاع»: في التصور الأول معنيان مؤلفان في ماهية واحدة، وفي التصور الثاني تقرير بأن المعنى المضاف موافق للشيء المعبر عنه بالمعنى المضاف إليه (أو غير موافق له). فالحكم يقتضي ثلاثة أفعال تمهد له: وهي تصور معنيين، والمضاهاة بينهما، وإدراك ما بينهما من نسبة توافق أو عدم توافق، فيعقب الحكم هذا الفصل الثالث توا، فإن إدراك النسبة مجرد العلم بإمكان إضافة معنى إلى آخر، وماهية الحكم الإضافة فعلا والتصديق بالنسبة.
أما أن الحكم تركيب بين معنيين، وأن التصور الساذج سابق عليه، فهذا ما يبدو واضحا وما قيل به أزمنة متطاولة. لكن بعض علماء النفس المعاصرين ارتأوا أن الحكم تصور إجمالي نحلله إلى المعاني المؤلفة له، أي إننا ندرك أولا كل موقف جملة ونعبر عنه بقضية، مثل: «أمشي» و«أعطي»، ثم ندرك جزأي القضية ونحصل على معنيين، فالمعنى الواحد يركب بحكم أو بجملة أحكام. هذا الرأي قائم على سوء فهم: فإنه إذا لم يكن تمايز جزأي الحكم سابقا عليه امتنع الحكم وامتنع التعبير عنه في قضية لعدم توافر المعاني والألفاظ التي نؤلف بينها، والتي يجب أن يكون لكل منها في ذهننا مدلول محدد مستقل عن مدلول الآخر. وإدراك موقف ما جملة هو إدراكه بوساطة ما لدينا من معان، فتعقل طرفين سابق على الجمع بينهما، وإلا كان الجمع عبثا. والأمر واضح للغاية في الحكم السالب؛ فإن المسلوب غير موجود، فلا يمكن أن يقال إننا ندركه في تصور تركيبي ثم نحلل هذا التصور إلى جزأيه، والمعنى الذي يكتسب بحكم أو بعدة أحكام مسبوق ضرورة بمعان أبسط منه تركب منها هذه الأحكام.
هذا التركيب يجيء إيجابا أو سلبا. والإيجاب متقدم عموما على السلب؛ لتقدم الوجود على اللاوجود، ولتقدم إدراك الوجود على إدراك اللاوجود، ولما هو بين من أن السلب، لاحتوائه على أداة سالبة في العقل وفي اللفظ، فهو أعقد من الإيجاب، والأعقد متأخر عن الأبسط. وإذا سلمنا أن الحكم السالب احتجاج على حكم موجب ممكن، كما يقول برجسون، وأنه من ثمة متأخر عنه، كان هذا من الوجهة النفسية فقط، أي باعتبار كيفية صدور الحكم السالب، لا من الوجهة المنطقية أو الميتافيزيقية، أي باعتبار قيمة الحكم السالب، فلا نتابع رأيه أن الحكم الموجب منصب على الموضوع، وأن الحكم السالب تعليمي واجتماعي يصدر للإنكار: إن الحكم، موجبا أو سالبا، يفترض أننا قد وضعنا مسألة وضاهينا بين معينين، وهذه المضاهاة يمكن أن تحدث في بادئ الأمر في قضية سالبة بحيث يقع السلب على الموضوع كما هو الشأن في الحكم الموجب. فمن هذه الناحية نضع الحكم السالب والحكم الموجب على قدم المساواة، ونقول إن قسم حكم إلى موجب وسالب هي قسمة جوهرية.
Bilinmeyen sayfa
من قسم الحكم هذه يلزم للحال خاصية تميزه من التصور الساذج، وهي أنه يتضمن بالذات الصدق أو الكذب. أجل إن الإحساس المطابق للمحسوس صادق، وإن التصور الساذج الواقع على ماهيته هو صادق أيضا، ولكن هذا الصدق غير ظاهر فيهما صراحة، على حين أنه ظاهر في الحكم حيث يعلن العقل أن الموضوع هو كذا فيبين عن عمله بمطابقته للموضوع. إن مثل الإحساس والتصور الساذج كمثل المرآة تعكس صور الأشياء ولا تدري أنها تعكسها، على حين أن العقل في الحكم يعلم أنه يقول قولا يؤدي معنى تاما يحسن السكوت عليه، إن لم يقابل بالإنكار .
والنسبة الحكمية قد تبدو إما بالمضاهاة بين معنيين مستفادين من الحس، كقولنا: «هذا الماء ساخن»، أو بالمضاهاة بين معنى مستفاد من الحس ومعنى آخر معقول، كأن نحكم بوجود نار لا نراها بسبب الدخان الذي نراه. أو بالمضاهاة بين معنيين معقولين، كأن نحكم بوجود صفة لا نراها لشيء لا نراه بسبب أثر نراه، فنقول: «النار عظيمة» بسبب شدة تكاثف الدخان. وهذه هي الحال كلما انتقلنا من معلول نراه إلى علة لا نراها صفة لا نراها ولكنها مقتضاه لها في نظر العقل. والأحكام التي من هذا القبيل صادقة ضرورية لا ينتقص من قيمتها خفاء المعنيين على الحس، فإن العبرة هي في النسبة بينهما وفي سبب إيقاعها.
وإنا لنلفت النظر إلى هذه النقطة، فقد اختلط الأمر على بعض الفلاسفة، وفي مقدمتهم الحسيون: فإذا قلنا إن لأفعال الكائن الحي علة نسميها النفس، وإن للعالم علة نسميها الله، قالوا إنهم لا يرون النفس ولا يرون الله، ونحن لا نطلب إليهم أن يروهما، بل أن يؤمنوا بوجودهما كما يؤمنون بوجود النار ولنفس السبب الذي هو ضرورة العلة. وإذا قلنا إن العلة الأولى غير متناهية، قالوا إن العقل الإنساني لا يتصور اللانهاية، ونحن لا ندعي أننا نتصورها، بل إننا نتصور ضرورتها للعلة الأولى. وغير هذا كثير سننبه عليه كلما صادفناه.
ومن الفلاسفة، وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا، من جافوا منطق أرسطو حتى تجاهلوا هذا الفهم للحكم، وقرروا أن في النفس معاني، وأن الحكم هو التصديق بالمعاني. قال ديكارت: إن العقل قوة انفعالية بحتة، وبالعقل وحده لا أثبت ولا أنفي، بل أقتصر على تصور الأشياء التي أستطيع أن أثبتها أو أنفيها؛ والإرادة هي القوة الفاعلية، وهي التي تحكم أي تثبت أو تنفي أو تمتنع من الإثبات والنفي. وقال سبينوزا: ليس المعنى شيئا أخرس كالصورة المنقوشة، ولكنه قوة فاعلية؛ فإنه مصحوب بضرب من الشعور بوجود موضوعه ما لم يعارضه معنى آخر، فتصديقاتنا هي التصورات الغالبة فينا، وليس يوجد في النفس من إثبات أو نفي إلا من ينطوي عليه المعنى بما هو معنى.
لكنا لا نرى لهذه النظرية معنى ولا سندا: فليس من شأن الإرادة الإثبات أو النفي، التصديق أو الإنكار، إلا بتسويغ من العقل. فمتى كانت النسبة الحكمية بينة أثبتها العقل وصدق بها، ومتى كانت غير بينة نفاها العقل أو علق حكمه. فليس العقل منفعلا وحسب كما يقولون، وإنما هو فاعل أيضا. أجل كثيرا ما تحرض الإرادة العقل على الحكم لناحية أو لأخرى، تبعا لما يوحي به الاستعداد الشخصي من هوى، ولكنا هنا أيضا نرجع إلى تقدير العقل؛ إذ إنا نزعم أن من المعقول أو من الخير أن نفعل كذا أو كذا. ومهما يكن من أمر الإرادة، فإن الوجدان يظهرنا على أن تفكيرنا وكلامنا مؤلفان من أحكام بالمعنى الذي نقصده، أي مركبة من موضوع ومحمول ورابطة بين الاثنين، فيتعين اعتبار الحكم إطلاقا على هذا الغرار، ويتعين تفسيره، وهو لا يفسر إلا بالمعنى المجرد، فإن المحمول صفة أو معنى مجرد دائما، والموضوع معنى مجرد في كثير من الأحيان، أعني في الأحكام العلمية فإنها كلية ضرورية.
في كل ما تقدم لم نلحظ سوى الحكم البسيط أو الحملي، ولم نشر إلى الأحكام المركبة التي أهمها الأحكام الشرطية، والسبب في ذلك أن الأحكام المركبة تنحل إلى حمليات، وتخضع لقواعد الحمليات، فلا تثير مسائل جديدة. غير أن بعض الفلاسفة المعاصرين اعتقدوا أنهم استكشفوا نوعا من الأحكام المركبة لم يذكره أرسطو ولا هو يرد إلى منطقه ولكنه يؤلف منطقا على حياله، ذلك هو الحكم الإضافي أو النسبي الذي يثبت إضافة أو نسبة بين شيئين، على حين أن الحكم الحملي يسند صفة إلى موصوف. ما أكثر ما نقول: «أكبر من «ب»» أو «هذا المثل غير مساو لذاك» إلى سائر ما هنالك من نسب: كالتشابه والتخالف والتباين والتقارن والتعاقب والتساوي والعلية ... إلخ. فأكبر من «ب»، وغير مساو لذاك، قول يعبر عن نسبة لا تقوم الموضوع ولا في حد المقارنة الوارد بعده، ولكنه يجمع بين النسبة وبين الحد الثاني ويكون من الاثنين محمولا مثبتا للموضوع كأنه صفة له وجزء منه، وليس الحال كذلك. وقولنا: ««أ» و«ب» غير متساويين» يجعل من عدم المساواة محمولا مشتركا بين الحدين، وهذا واضح البطلان؛ فقد ضاهينا بين «أ» و«ب» ولم نضاه بين «أ» و«ب» من جهة وبين معنى عدم المساواة من جهة أخرى. وإذا قلنا: ««ح» متقدم على «د»» أو ««ح» و«د» متعاقبان»، كان الحدان الحقيقيان «ح» و«د» مع إدراك نسبة تعاقب بينهما، لا «ح» من جهة والمحمول «متقدم على «د»» من جهة أخرى، ولا «ح» و«د» من جهة والمحمول «متعاقبان» من جهة أخرى. وهكذا نصوغ الحكم في أمثال هذه النسب كأن الحد الثاني صفة للأول، فنرجع النسب الإضافية إلى نسبة الملائمة أو عدم الملائمة بين موضوع ومحمول.
ونحن نقول: لا يوجد منطق إضافي أو نسبي مستقل عن قوانين المنطق الحملي وقواعده، والقضايا الإضافية مركبة من موضوع ورابطة ومحمول كالقضايا الحملية: ««أ» (الموضوع) هو (الرابطة) أكبر من «ب» (المحمول)» إلا أن الرابطة تنصب على الموضوع لا كما هو في نفسه، فلا تعبر عن تقوم المحمول فيه، بل باعتبار الإضافة والنسبة بينه وبين الحد الآخر، أي في تصورنا إياه وقت عقد المقارنة، وحينئذ يتضمن الموضوع المحمول؛ إذ يكون معنى المقارنة أن «أ» بالنسبة إلى «ب» هو أكبر من «ب». كما نستطيع أن نجعل من النسبة غير المعينة موضوعا، ومن تعيينها محمولا، فنقول: نسبة «أ» إلى «ب» (وهذا هو الموضوع) هي (الرابطة) نسبة أكبر إلى أصغر (وهذا هو المحمول). وفي الحالين إسناد محمول إلى موضوع كما هو الحال في الحكم الحملي. فالعقل على حق في تصور المحمول كالصفة في القضايا الإضافية، والمنطق واحد لم يتعدد. (2) المذهب الحسي والحكم
فيما سبق من شرح كان الغرض تحليل الحكم كما يبدو في الذهن، وتعيين شأنه في المعرفة الإنسانية. لكن الحسيين ينقدون هذا الفهم للحكم، ويعرضون له تفسيرا يرده إلى الحسية والاسمية. فتمحيص أقوالهم يتيح لنا إكمال هذا الشرح بدرء الشبهات عن موقفنا وبيان فساد الموقف الحسي.
وأول ما نلقاه من أقوالهم مأخذان وجههما إليه السفسطائيون اليونان: أحدهما أن الحكم إسناد لفظ إلى لفظ مختلف عنه، مثل «الإنسان طيب»، وليس يتضمن معنى الإنسان أو معنى الطيبة شيئا من معاني الصفات التي تسند إليه. فهذا الإسناد غير سائغ، وكل ما يسوغ هو قول: «الإنسان إنسان» و«الطيب طيب» وهكذا، بحيث يجتمع اللفظان على معنى واحد. والمأخذ الآخر أن الحكم قد يسند إلى لفظ واحد ألفاظا عدة، كما لو قلنا: «سقراط عالم فاضل شجاع»، وما فيه كثير هو كثير لا واحد، ومن ثمة لا يصح الإسناد ...
وفي العصر الحديث ردد الحسيون المذهب القديم، فقال هوبس: إن الحكم تركيب ألفاظ، فالقضية الموجبة تعني أن الموضوع والمحمول اسمان لشيء واحد، وتعني القضية السالبة أن اسمين يختلفان في الدلالة. وقال كوندياك: إن الحكم انتباه مزدوج، فمتى وجد في الذهن في وقت واحد إحساسان أو صورتان أو إحساس وصورة وجد الحكم على الفور، مثل «الشمس مضيئة» و«الثلج بارد». وقال ستوارت مل: إن الحكم يرجع إلى تداعي الصور، فحين أقول: «الثور مجتر» فالمقصود هو فقط أنه كلما صادفت الظواهر المتضمنة في لفظ «الثور» استطعت أن أتوقع الظاهرة المتضمنة في لفظ «مجتر».
Bilinmeyen sayfa
ليس أبعد عن حقيقة الحكم من هذه التفسيرات، فليس الحكم إسناد لفظ إلى لفظ أو معنى إلى معنى حتى يقال إن اللفظين أو المعنيين مختلفان وإن تركيبهما معا غير سائغ. إن اللفظ دال على معنى، والمعنى دال على شيء هو موضوع الإسناد، كما لو قلنا: «الإنسان فان» و«النفس باقية»، فلسنا نسند لفظ الفناء إلى لفظ الإنسان، ولا معنى الفناء إلى معنى الإنسان بما هو معنى، ولكنا نسند الفناء إلى الإنسان بما هو موجود حقيقي أو ممكن. فالحكم يوحد بين موضوع ومحمول مختلفين تعريفا موحدين وجودا لكون المحمول متحققا في الموضوع.
ويقال مثل ذلك في تعدد المحمولات؛ فإن الكثرة ههنا ليست كثرة موجودات مستقلة، ولكنها كثرة وجهات لموجود واحد. فالتوحيد في الحكم صورة للوحدة في الشيء، وكاد يكون نقد السفسطائيين صائبا لو كان قولنا: «الثلج بارد» يعني أن الثلج هو البرودة، وكان قولنا: «الإنسان طيب» يعني هو أن الإنسان هو الطيبة. ولكن المقصود أن للثلج صفة البرودة، وأن للإنسان صفة الطيبة، والبرودة والطيبة وكل محمول فهو معنى مجرد. ولولا التجريد لما أمكنت إضافة لأن الأشياء موجودة في نفسها والإضافة نسبة ذهنية.
والفارق الجوهري بين الحكم وتداعي الصورة هو أن في الحكم رابطة تعني إسناد المحمول إلى الموضوع إسنادا صريحا موعيا مسبوقا بمضاهاة، على حين أن التداعي يتم آليا دون مضاهاة ولا إسناد، فلا تدرك النسبة فيه إلا بعد حدوثه. وهو إنما يحدث بسبب ما بين الصور من تشابه أو تضاد أو تقارن، على حين يحدث الحكم بسبب حقيقة الموضوع والمحمول. فحين أقول: «الثور مجتر» أثبت نسبة معينة بين الثور وبين نحو معين من أنحاء الهضم وأنفي عنه سائر الأنحاء المعروفة في سلم الحيوان والمتواردة على ذهني بالتداعي. أجل لقد وجدت «المجتر» بالتجربة حين عرفت «الثور» وأنا أتوقع الأول عند إدراك الثاني، لكن هذا التوقع يتخذ في الحكم معنى مغايرا لمعناه في التداعي، وهو أن الاجترار صفة جوهرية في الثور وأن توقعي ضروري لابتنائه على هذا الأساس.
ولو صدق الرأي الحسي لكانت أحكامنا كلها موجبة تسند محمولا إلى موضوع لإدراكنا إياهما مجتمعين، وليس السلب موضوع إحساس. وكانت أحكامنا كلها مطابقة للظواهر المحسوسة، فلم نقل إن الأرض تدور حول الشمس، وإن الشمس أكبر من الأرض، وغير ذلك مما هو مكتسب بالبرهان العقلي ومعارض للتجربة المتمكنة فينا بالتداعي منذ أول نشأتنا. فالحكم فعل عقلي يثبت نسبة معقولة بين محمول هو دائما معنى مجرد وبين موضوع هو معنى مجرد في القضايا العلمية، وهذا يخرجه من دائرة الحس بالمرة.
الفصل الثالث
القياس
(1) تعريف الاستدلال
التركيب والتفصيل في الأحكام يتمان دفعة في البديهية منها، فما من أحد يتردد في الحكم بأن الكل أعظم من الجزء. ولكن مسائل كثيرة تعرض لنا ولا ندري أول الأمر أي حكم نتخذ فيها، ونعني بالمسألة عبارة مؤلفة من موضوع ومحمول تقتضينا الإجابة بإضافة المحمول إلى الموضوع أو بنفيه عنه، فنعمل على الاهتداء إلى واسطة نضاهي بينها وبين الحدين، فإن وافقاها حكمنا بأنهما متوافقان، كما نحكم بأن الشيئين المساويين لثالث هما متساويان، وإن وافقها أحدهما وباينها الآخر حكمنا بأنهما متباينان. ولا وجه لافتراض أن الحدين جميعا قد يباينان الواسطة؛ إذ في مثل هذه الحالة تمتنع المضاهاة، فيمتنع الاستدلال، كما تنبه على ذلك القاعدة القائلة: إن القضيتين السالبتين لا تنتجان. فالاستدلال انتقال من معلوم هو المضاهاة إلى مجهول هو نتيجتها.
وماهية هذا الانتقال هو ذلك اللزوم الذي نعبر عنه في النتيجة بقولنا: «إذن»؛ فإنه يزيد على النسبة بين الحدين في كل حكم نسبة الأحكام فيما بينها. وهذه النسبة الثانية تجعل من الاستدلال حركة متصلة من طرف إلى طرف، واتصالها يعطيها وحدتها، فإذا قلنا مثلا: «كل إنسان حجر، وكل حجر نبات، فإذن الإنسان نبات»، كنا مخطئين من حيث مادة الاستدلال. ولكنا نرى أن وضع المقدمتين يسوقنا سوقا إلى النتيجة، فالاستدلال فعل واحد مع تركيبه من عدة أفعال أو أحكام، لما بينها من ترابط وتبعية.
هذا التعريف للاستدلال بأنه تأليف معارف لأجل الاستنتاج، مرادف للتعريف الذي وضعه أرسطو وتنوقل بعده باطراد، وهو أن الاستدلال: «قول مؤلف من أقوال إذا ضعف لزم عنها بذاتها، ولا بالعرض، قول آخر غيرها اضطرارا.» وقد دعاه «سولوجسموس» أي الجامعة، لجمع النتيجة بين المعنيين اللذين لم نكن نعلم إن كانا يتوافقان أم يتخالفان، والتخالف كالتوافق جمع في مبنى القضية بين الموضوع والمحمول لكي نقول إنهما لا يتوافقان. ومن ثم دعا أرسطو جميع أنواع الاستدلال «سولوجسمي» مع عنايته بتبيان ماهية كل منها، وترجم اللفظ اليوناني إلى العربية بلفظ «قياس»، وأطلق كذلك على مختلف الاستدلالات؛ لأن الاستدلال كما عرفناه يقيس معنيين إلى ثالث، فحدث في العربية مثل ما حدث في اليونانية من اشتراك لفظ القياس بين الاستدلال عموما وبين نوع من أنواعه هو الذي نقصده ههنا، والذي يذكر في المنطق قبل الاستقراء والتمثيل وما إليهما.
Bilinmeyen sayfa
غير أن كثيرين من المناطقة المحدثين يفهمون الاستدلال بمعنى أوسع من المعنى الذي حددناه، فيقولون إنه مطلق استخراج قضية من أخرى سواء كان ذلك بواسطة أو بدون واسطة. ويذكرون تقابل القضايا وعكسها وتعادلها تحت عنوان «الاستدلال المباشر»، أي الذي لا يلجأ فيه إلى حد ثالث. ونحن نرى أن هذه الحالات لا يوجد فيها استدلال؛ فإن القضية الثانية محتواة في الأولى احتواء صريحا، فليس هناك حقيقتان مختلفتان، وليس هناك من ثمة استنتاج مجهول من معلوم، بل كل ما في الأمر ترجمة عن نفس القضية بصيغة أخرى، كما لو قلنا: «بعض الإنسان كاذب» و«بعض الكاذب إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو طيب الطبع» و«بعض الطيب بالطبع إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو أناني» و«غير صحيح أن بعض الإنسان ليس أنانيا»، فكل قضيتين من هذه القضايا المتقابلة أو المنعكسة تقولان نفس المعنى لا أكثر ولا أقل. ولو كنا نكتب في المنطق لاستقصينا الحالات جميعا استيفاء للتمثيل، ولكنا هنا في غير حاجة إلى التكرار. فليس يوجد استدلال مباشر. (2) تعريف القياس
في القياس بمعناه المحدد الذي هو موضوع بحثنا الآن، يجيء الترابط بين الحدود الثلاثة على هيئات مختلفة، فلكي ندرك ماهية القياس ننظر في هذه الهيئات للوقوف على ما تشترك فيه وعلى ما هو خاص لكل منها، وبذا نمهد للرد على الحسيين. يقال عادة: إن للقياس أربعة أشكال ناتجة من طريقة تأليف الحدين مع الثالث في المقدمتين، فإن الحد الثالث أو الواسطة قد يكون إما موضوع المقدمة الكبرى ومحمول الصغرى، أو محمولا في المقدمتين، أو موضوعا فيهما، أو محمول الكبرى وموضوع الصغرى. هذا صحيح من الوجهة الصورية، غير صحيح في واقع الأمر. وليس الاختلاف في مكان الحد الثالث من الاثنين الآخرين اختلافا عرضيا كما قد يبدو، ولكنه ينطوي على دلالة ذاتية في كل شكل.
وهذه أمثلة على الأشكال الأربعة إيجابا وسلبا تعيننا في تفهم طبيعتها وطبيعة القياس على العموم:
الشكل الأول «كل صالح فهو كريم.» «وكل عالم فهو صالح.» «إذن كل عالم فهو كريم.» ••• «لا واحد من الصالح بحسود.» «وكل عالم فهو صالح.» «إذن لا واحد من العالم بحسود .»
الشكل الثاني «لا واحد من الصالح بحسود.» «وكل طماع فهو حسود.» «إذن لا واحد من الطماع بصالح.» ••• «كل صالح فهو كريم.» «ولا واحد من الطماع بكريم.» «إذن لا واحد من الطماع بصالح.»
الشكل الثالث «كل حكيم فهو حر.» «وكل حكيم إنسان.» «إذن بعض الإنسان حر.» ••• «لا واحد من الحكيم بمستذل.» «وكل حكيم إنسان.» «إذن بعض الإنسان ليس بمستذل.»
الشكل الرابع «كل إنسان فهو حيوان.» «وكل حيوان فهو حساس.» «إذن بعض الحساس إنسان.» ••• «كل إنسان فهو حيوان.» «ولا واحد من الحيوان بنبات.» «إذن لا واحد من النبات إنسان.»
فمرمى الشكل الأول أو الغاية المتوخاة منه هو، في حال الإيجاب: البرهنة على ثبوت محمول لموضوع لاشتمال الموضوع على حد مشتمل على المحمول. وفي حال السلب: البرهنة على انتفاء المحمول عن الموضوع. ومعنى البرهنة: بيان علة النتيجة، بحيث لو سئلنا: لم قلنا «كل عالم فهو كريم»؟ أجبنا: «لأن كل عالم فهو صالح، وكل صالح فهو كريم.» وهكذا نجد فيه الحدود منطوية بعضها في بعض، مترابطة ترابطا محكما، ونجد النتيجة مسبوقة بعلتها لازمة عنها. وبناء على هذا يمكن أن نعين له مبدأ من وجهة المفهوم، ومبدأ من وجهة الماصدق: فمن وجهة المفهوم مبدؤه أن «كل ما يقال على محمول يقال أيضا على الموضوع»، كما لو حكمنا على العالم بالصالح، فكل حكم يثبت للصالح ثابت للعالم بالضرورة. ومن وجهة الماصدق مبدؤه أن «ما يقال على كلي فهو يقال على جزئياته، وما ينفى عن كلي فهو منتف عن كل واحد من جزئياته».
ومرمى الشكل الثاني إدحاض دعوى والرد على خصم، لذا هو يتضمن دائما مقدمة سالبة فتجيء النتيجة دائما سالبة، وذلك بالاهتداء إلى حد مناف لموضوع النتيجة فنستنتج أنه مناف للحد الآخر. أعني أن هذا الشكل ينفي محمولا عن موضوع النتيجة بسبب أن أحدهما يشتمل على حد مناف للآخر أو أنه يثبت محمولا لأحد موضوعين وينفيه عن الآخر، فيلزم التباين بين الموضوعين. فمبدؤه مبدأ الشكل الأول، والمقدمة الكبرى فيه كلية مثل كبرى الشكل الأول، فإنها هي التي تقرر أن محمولا ما يتضمن محمولا آخر أو ينافيه، مع هذا الفارق وهو أن المبدأ المشترك لا يطبق هنا بالمشابهة، بل بالمباينة، فإن الشكل الأول يستنتج ثبوت التالي من ثبوت المقدمة، بينما الشكل الثاني يستنتج نفي المقدمة من نفي التالين فيسمى مبدؤه «المقول على المباين».
ومرمى الشكل الثالث معارض قضية كلية بمثال مخالف لها، أي إبطال صدقها صدقا مطلقا لوجود ما يخالفها، وحصر صدقها في جزء فقط من موضوعها. والدلالة بهذه الجزئية على أن وقوع المحمول للموضوع ليس ضروريا، وإنما هو اتفاقي عرضي، فتجيء النتيجة دائما جزئية (موجبة أو سالبة)، كما لو قال قائل: «كل إنسان فهو حر» وأنكرنا ذلك، فإنا نبحث عن حد أوسط تتحقق فيه الحرية، فنقع على الحكيم. ولما كان الحكيم جزءا فقط من الإنسان فإنا نقول: «إذن بعض الإنسان حر» لا كله. لذا يسمى مبدأ هذا الشكل «المقول جزئيا»، وهذا المبدأ تخصيص آخر لمبدأ «المقول على الكل» الذي هو مبدأ الشكل الأول ومبدأ القياس على العموم، وصيغته هكذا: «الحدان المشتملان على جزء مشترك (وهو الحد الأوسط) يتوافقان توافقا جزئيا، وإذا اشتمل أحدهما على جزء لا يشتمل عليه الآخر، فهما يتخلفان تخلفا جزئيا»، ويسمى أيضا: «المقول على مثال»؛ لاعتماده على المثال أو الجزء الخارج للقضية الكلية.
Bilinmeyen sayfa
أما الشكل الرابع فما هو إلا الشكل الأول في هيئة مقلوبة من جراء نقل المقدمتين إحداهما إلى مكان الأخرى، وهذا لا يزيد نسبة جديدة بين الحدود. إن كل شكل إنما يتعين بنسبة الأوسط إلى الطرفين، فسواء جاء الأوسط موضوعا فمحمولا كما هو الشأن في الشكل الأول، أم جاء محمولا فموضوعا كما هو الشأن في هذا الشكل الرابع، فالحال واحد ما دام يجيء موضوعا تارة ومحمولا تارة أخرى. ثم إن قلب المقدمتين يخرج نتيجة مقلوبة كذلك، غير مألوفة، بعيدة عن طبع العقل، من حيث إنها تضيف الحد الأصغر للأكبر، على حين أن الترتيب الطبيعي إضافة الأكبر للأصغر، فيقال: «سقراط إنسان، سقراط مائت، الإنسان حساس، لا واحد من الإنسان بنبات»، ولا يقال : «بعض الإنسان سقراط، بعض المائت سقراط، بعض الحساس إنسان، لا واحد من النبات بإنسان»؛ إذ إن الأصل في الإضافة أن يضاف الجنس إلى النوع، ويضاف النوع والجنس إلى الشخص. فهذا الشكل الرابع لا يعد شكلا إلا من الوجهة الصورية البحتة، أو من الوجهة النحوية، لا من وجهة المنطق وحقيقة التفكير، فإن موضوع النتيجة فيه (أو المبتدأ النحوي) هو عند العقل محمول، ومحمولها (أو الخبر النحوي) هو عند العقل موضوع.
من هذا البيان الوجيز نرى أن القياس إطلاق مضاهاة حدين بثالث، وأن الشكل الأول أظهر صورة لهذه المضاهاة من حيث إنه يعتمد على انطواء الحدود بعضها في بعض، وأنه أقوى صورة لها من حيث إنه يبين ما للإنتاج أو اللزوم من سبب وجودي أي في واقع الأمر، وسبب منطقي أي في علمنا من حيث إن العلم ههنا هو العلم بالعلة، فهو الشكل البرهاني بمعنى الكلمة. والشكل الثاني أدنى منه، لا ينطبق فيه مبدأ المقول على الكلي إلا بشيء من التعيين والتضييق، فليس أرسطو وسطا حقا، فما هو موضوع حد ومحمول الآخر، ولكنه محمول مرتين، فهو أوسع ماصدقا من الحدين، فإن سمي وسطا فبمعنى أنه واسطة المضاهاة، ولذا كانت نتيجته أقل ظهورا. والشكل الثالث أدنى من الثاني، فإن أسماء الحدود لا تتحقق فيه هو أيضا؛ إذ إن أوسطه هو الحد الأضيق ماصدقا لمجيئه موضوعا مرتين في المقدمتين، ونتيجته جزئية ولا ينتج كلية أصلا. ومع هذا فالشكلان الثاني والثالث قياسيان صحيحان سليمان، تتضح صحتهما وسلامتهما للعيان بردهما إلى الأول على ما هو مبسوط في كتب المنطق، دون أن يكون هذا الرد ممنوعا ما دام لكل شكل مبدؤه وغايته، حتى لا يمكن في الحقيقة أن يحل واحد منها محل الآخر بالنسبة إلى الغاية المطلوبة. والشكل الرابع تقضي طبيعته برده إلى الأول بنقل مقدمتيه، فتجيء نتائجه مستقيمة؛ أو بإلحاقه بالأول كهيئة له غير مستقيمة أي مقلوبة. والواقع أن أرسطو لم يذكره، بل اعتبر قسمة القياس إلى ثلاثة أشكال قسمة حاصرة؛ كذلك أبى مناطقة العصر الوسيط أن يعدوه شكلا قياسيا، ويقال إن الطبيب الفيلسوف جالينوس (المتوفى في نهاية القرن الثاني للميلاد) هو الذي جعل منه شكلا خاصا. وعلى كل حال فقد بدا كذلك في عصر النهضة لدى المناطقة الاسميين، والاسميون قوم يقفون عند الظاهر ولا يحاولون النفوذ إلى حقائق الأشياء، فاقتصروا على اعتبار مكان الحد الأوسط من الحدين الآخرين، ولم يفطنوا إلى أن هذا المكان علامة ظاهرة فقط، وأن الأشكال القياسية أشكال للتفكير أولا.
وكلية الحد الأوسط شرط ضروري يستحيل بدونه تركيب القياس. وهذا ما تقوله القاعدة التي تحذر من إيراد الأوسط جزئيا في المقدمتين، وتحتم أن يجيء كليا في إحداهما على الأقل. وذلك لأن الحد الجزئي يمثل جزءا غير معين من جنس ما، فقد يوافق أحد الطرفين في جزء من أجزائه، ويوافق الطرف الآخر في جزء آخر، فيكون الطرفان مضاهيين بحدين مختلفين لا بحد واحد بعينه، ويكون القياس مؤلفا من أربعة حدود، فلا يكن استنتاج شيء مثلما إذا قلنا: «السنديان شجرة (ما)، والجميز شجرة (ما)»، أو قلنا: «النبات حي (نام)، والحيوان حي (حساس)» فلا نستنتج أن الجميز سنديان ولا أن الحيوان نبات. ولا يمكن الاستنتاج سلبا؛ إذ قد يتفق الجزءان في بعض الحالات، لكن يمكن الاستنتاج إذا كان الأوسط كليا في إحدى المقدمتين، فما دمنا نثبت شيئا للأوسط كله فلنا أن نثبته بعد ذلك لجزء من أجزائه. ومعنى هذه القاعدة أنه لا يمكن الاستدلال بالأقل على الأكثر، أو استنتاج الأكثر من الأقل. وهذا أيضا مبدأ القاعدة القائلة إن النتيجة تتبع أضعف المقدمتين، فالحسيون إذ ينكرون المعنى المجرد الكلي يعطلون التفكير بتاتا.
وكما قد أثار بعض المناطقة المحدثين إشكالا بصدد الحكم الإضافي، فقد أثار بعضهم إشكالا بصدد القياس الإضافي. قالوا: إن الاستدلال في الأقيسة المركبة من قضايا إضافية يختلف بالمرة عنه في الأقيسة الحملية المعبرة عن حصول محمول لموضوع، فلا يخضع لقواعد القياس، ومنها قاعدة الحدود الثلاثة، ولكن له صوره وقواعده الخاصة. مثال ذلك: «فرساي أصغر من باريس، وفونتنبلو أصغر من فرساي. إذن فونتنبلو أصغر من باريس.» فإذا قلنا: إن الحد الأكبر هو محمول الكبرى «أصغر من باريس»، وأن الحد الأصغر هو موضوع الصغرى «فونتنبلو»، فماذا يكون الحد الأوسط؟ لا يكون «فرساي» الذي هو موضوع الكبرى ولكنه في الصغرى جزء فقط من المحمول، ولا يكون «أصغر من فرساي» الذي هو محمول الصغرى والذي جزء منه فقط موضوع الكبرى. وإذن فلا يكون هناك حد أوسط مع كون الاستدلال صحيحا مشروعا.
والجواب أنه كما أن لكل شكل من أشكال القياس الحملي مبدأ يهيمن على الاستدلال فيه ولا يدخل في صلب القياس، فكذلك الأقيسة الإضافية مبدأ يهيمن على الاستدلال فيها ولا يظهر في منطوقها، مثل قولنا: «ما يتضمن شيئا فهو يتضمن ما يتضمن هذا الشيء» أو «الأعلى من شيء هو أعلى من الأدنى من ذلك الشيء»، فإذا راعينا المعنى أدركنا أن «أصغر من» ليس صفة للطرفين كالمحمول في القضايا الحملية، ولكنه «نسبة» بين الطرفين، فينتج لنا أن القياس الإضافي مركب هو أيضا من ثلاثة حدود مترابطة فيما بينها برابطة خاصة هي «نسبة». إن الحد الأوسط «فرساي» يفيد في إثبات نسبة مقدارية بين فونتنبلو وباريس. فالأقيسة الإضافية منتظمة على منطق القياس الحملي وخاضعة لقواعد المنطق الأرسطاطالي، ولا ضرورة لتأليف منطق جديد لأجلها. وهذا ما أشار إليه ابن سينا
1
بقوله: «قياس المساواة: إنه ربما عرف من أحكام المقدمات أشياء تسقط، ويبنى القياس على صورة مخالفة للقياس، مثل قولهم: («ج» مساو ل «ب»، و«ب» مساو ل «ل»، ف «ج» مساو ل «ل»)، فقد أسقط منه أن (مساوي المساوي مساو)، وعدل بالقياس عن وجهه من وجوب الشركة في جميع الأوسط إلى وقوع الشركة في بعضه»، فما أعظم ما يفيد المتأخرون من دراسة المتقدمين! (3) المذهب الحسي والقياس
هذا العرض للقياس كاف وحده لتسويغه، ولكن المذهب الحسي يقضي على رجاله بإنكاره لابتنائه على المعنى المجرد الكلي وشهادته بوجود العقل. وبالفعل منذ العصر القديم أخذ السفسطائيون والشكاك يتندرون عليه وينظمون المغالطات للهزء منه، وقد تناقلوا حجة ظنوا أنها تهدمه من أساسه، قالوا: ليكن هذا القياس : «كل الناس مائتون، وسقراط إنسان، إذن سقراط مائت.» فالمقدمة الكبرى الكلية لا تصدق إلا إذا كانت النتيجة معلومة من قبل، أي لا يقولها القائل إلا لعلمه أن سقراط مائت، فلا تعود هناك حاجة لتركيب قياس؛ أما إذا لم يعلم فلا يسوغ له قولها، ولا يعود هناك إمكان لتركيب قياس. وإذا مضى فقال: «إذن سقراط مائت»، ارتكب مصادرة على المطلوب؛ فإن المطلوب معرفة ما إذا كان سقراط مائتا، ومعرفة أن «مائت» متضمنة في المقدمة الكبرى. وقد اصطنع هذه الحجة الحسيون المحدثون واشتهر بها جون ستوارت مل، وصارت تذكر عنه كأنها من ابتكاره. وهم يفسرون الاستدلال عموما بأنه انتقال من محسوس إلى محسوس، وأنه من ثمة يرجع إلى تداعي الصور بالتشابه. ونحن نكشف عن تهافت حجتهم، ثم نبين بطلان تفسيرهم للقياس بتداعي الصور.
قوام حجتهم خلط جسيم بين القضية الكلية (مثل: «كل الناس مائتون»)، والقضية المجموعية المكتسبة بجمع الجزئيات (مثل: «كل ركاب الباخرة نجوا من الغرق»). وقد قال مل معبرا عن رأيهم: إن القضية الكلية سجل أو مذكرة مختصرة للتجربة، والتجربة جزئية محدودة كما هو معلوم، فيتصورون القياس كأن مقدمته الكبرى مجموعية، تدرج تحتها مقدمة صغرى (مثل: «وزيد من ركاب الباخرة»)، فينتج أن زيدا نجا من الغرق. هذا قياس مزعوم وتأليف ظاهري فقط، فليست المقدمة الكبرى فيه كلية بمعنى الكلمة؛ فإنما أسند محمولها إلى موضوعها بعد التحقق من المحمول في كل واحد واحد من أفراد الموضوع، فهي تحتوي على النتيجة بالفعل، وتتأخر عنها في علمنا، وليس الحد الأوسط فيها (ركاب الباخرة) تعليلا للنتيجة كالحد الأوسط في القياس الصحيح. أما القضية الكلية حقا، فهي التي موضوعها معنى مجرد، ومن ثم كلي يحتوي بالقوة (لا بالفعل) على جميع الأفراد الممكنة، وبين حديثها نسبة ذاتية، فلا يشترط أن تتأخر في علمنا عن إحصاء الأفراد، وقد تكون مستفادة من التجربة بحديها وبالنسبة بينهما، ثم تكون في ذاتها مبدأ مجردا مستقلا عن الأفراد بفضل الإدراك العقلي الذي يرينا أن المحمول من ماهية الموضوع. فالقضية القائلة: «كل الناس مائتون» تعني أن ماهية الإنسان هي بحيث إنه مائت، ويدلل عليها بأن الإنسان مركب من عناصر متباينة، وأن كل مركب هكذا فهو منحل. فإذا قلنا بعد ذلك: «وسقراط إنسان»، أي: حاصل على الماهية الإنسانية؛ خرجت لنا النتيجة من الجمع بين القضيتين، أعني من الكبرى بوساطة الصغرى، دون أن تكون هذه النتيجة مفترضة في الكبرى، بل بالعكس هي الكبرى التي تحدث النتيجة. والذي يكسب موقف الحسيين شيئا من الوجاهة هو التعبير عن الكبرى من وجهة الماصدق «كل الناس مائتون»، فإنه يشعر كأنها نتيجة تعداد، فما إن نعبر عنها من وجهة المفهوم ونقول: «كل إنسان فهو مائت» أو «الإنسان مائت»، حتى يتبدد الوهم. وخير هذين التعبيرين وأصدقهما دلالة على الإدراك العقلي هو الثاني الذي يستبعد لفظ «كل»، فيمحو كل أثر للماصدق ويبرز الماهية مجردة.
أما تداعي الصور فإنه يحاكي الاستدلال؛ إذ يجعلنا نتوقع المستقبل ونعمل كما لو كنا قد استدللنا. فالحيوان الذي ضرب بالسوط يتوقع أن يضرب متى رآه أو سمع صوته، والعامي من بني الإنسان يتوقع المطر حين يدرك ظواهر جوية معينة. ولكن الاستدلال شيء آخر بالمرة؛ إذ إنه يعطينا السبب في تعاقب الظواهر ويجعل التوقع صادرا عن فهم لحقائق الأشياء، بينما التوقع في التداعي فعل آلي ناشئ من العادة. إن الأصل في الاستدلال هو المطلوب الذي يصير نتيجة، وهو لا يصير نتيجة إلا إذا وجدنا نسبة بين حديه، ولا نجد النسبة إلا بالحد الأوسط. فبالتداعي نستعيد صورة جزئية بمناسبة صورة جزئية بناء على تعاقب واقعي، وبالقياس نستكشف علاقة ضرورية بواسطة قانون أي قضية كلية. فإذا قلنا إن التداعي يفسر سيرة الحيوان وطفل الإنسان، فيجب أن نعتبر بأن الطفل لا يلبث أن يجاوز هذه المرحلة فيدرك العلاقة الجوهرية حينما يستطيع إدراكها، ويسأل ويلحف في السؤال حينما تخفى عليه. وليس يقتصر الطفل على التأدي من العلة المنظورة إلى المعلول المرتقب، ولكنه يعود من المعلول المنظور إلى علته، منظورة كانت أو غير منظورة، فيدل بكل ذلك على انتقاله من طور التداعي إلى طور التفكير. فانظر إلى دقة هذه الأمور، ثم اعجب لقلة تدقيق الفلاسفة الحسيين. إن الإنسانية تفكر تفكيرا قياسيا، وهم في جملتها وإن كانوا لا يدرون، فليسوا ينالون منه في واقع الأمر، إنما هو ينال منهم كما تنال الصخرة من ناطحها!
Bilinmeyen sayfa
الفصل الرابع
الاستقراء
(1) تعريف الاستقراء
هذا النوع الآخر من الاستدلال كثير الاستعمال كثرة وافرة في الحياة العادية والعلوم الطبيعية، نؤلفه أول الأمر بوحي التجربة، وبخاصة متى تكررت، ثم نحاول أن نستكشف النسبة بين حديه زمنا يطول أو يقصر تبعا لدرجة وضوح هذه النسبة وتقدم العلم واجتهاد العلماء، وتعريف الاستقراء أنه: «استدلال يضيف محمولا إلى موضوع كلي بسبب مشاهدة هذا المحمول في جزئيات ذلك الموضوع كلها أو بعضها».
1
وقد تكون الجزئيات أفراد نوع، أو أنواع جنس، أو أجناسا سالفة تحت جنس عال. وقد تكون استقرئت كلها؛ وهذا هو الاستقراء التام، أو لم يستقرأ سوى بعضها؛ وهذا هو الاستقراء الناقص. وقد يكون الاستقراء الناقص كافيا أو غير كاف. وستتضح هذه المعاني فيما يلي، ولنمثل أولا للاستقراءين التام والناقص:
استقراء تام «النباتات والعجماوات والأناسي كائنات نامية.» «والنباتات والعجماوات والأناسي هي كل الأجسام الحية.» «إذن كل جسم حي فهو نام.»
استقراء ناقص «الذهب والفضة والحديد والنحاس موصلة للكهرباء.» «والذهب والفضة والحديد والناس معادن.» «إذن المعدن موصل للكهرباء.»
هذا هو الاستقراء الذي نقصده، فيجب التفرقة بينه وبين ما يسمى بالمنهج الاستقرائي المفصل بقواعد فرنسيس بيكون وستوارت مل المذكورة في كتب المنطق، فإن هذا المنهج أولى به أن يسمى «البحث عن العلة» من حيث إنه يحاول حصر علة ظاهرة ما في ظاهرة أخرى معينة. فإذا أفلحت المحاولة عرفت العلة من هذا الطريق معرفة محققة. أما ما نقصده فهو الاستدلال المتأدي من جزئيات عدة إلى الكلي الذي ننسبها إليه.
يلوح لأول وهلة أن الاستقراء التام (متى تسنى تحقيقه وحصر آحاده) لا يثير إشكالا من حيث إنه يحكم على الكلي بما يشاهد في الكل، وإنه إذن مستكف بنفسه لا يفتقر إلى تبيان وتأييد. بيد أن هذا وهم ناشئ من الخلط بين الكلي المنطقي والكلي المجموعي، أي بين الكلي والكل، وذلك الخلط المألوف عند الحسيين والذي نبهنا عليه غير مرة. إننا إذا أخذنا الاستقراء التام على هذا الوجه لم نجد له سوى صورة الاستدلال لا حقيقته؛ إذ إن كل ما يعنيه هو أن أفراد كل ما مشتركون فعلا في محمول ما، فلا يفيد الانتقال من الصغرى إلى النتيجة معرفة جديدة، بل ننتقل من الآحاد إلى مجموعها، أي من الشيء إلى الشيء نفسه. أما إذا أردنا استدلالا صحيحا فيجب أن نفهم صغرى الاستقراء على أنها تذكر الجزئيات لكي تنتقل إلى الكلي الذي يمثلها، والذي هو علة حصولها على المحمول، فنصل بالنتيجة إلى معرفة جديدة هي نسبة كلية ضرورية بين الماهية المشتركة والمحمول المشاهد في الجزئيات، بغض النظر عن الجزئيات وعددها.
Bilinmeyen sayfa
2
فالمسألة التي تبرز ههنا هي أن لا بد من وسيلة لإتمام الاستقراء التام نفسه، وملء الفراغ بين الجزئيات كجملة وبين الكلي الذي ترجع إليه والذي بسبب احتوائها عليه هي حاصلة على المحمول، وهذا هو المطلب الحق للعلم.
إذا كان هذا واجبا في الاستقراء التام فإنه في الاستقراء الناقص أوجب لما هو بين من أن الانتقال من البعض إلى الكلي (في الاستقراء الناقص) أقل أمانا من الانتقال من الكل إلى الكلي (في الاستقراء التام). وليس يجدي شيئا قول ابن سينا (وقد ردده الغزالي وغيره): إن الاستقراء الناقص يعتمد على أكثر الجزئيات أو على كثير منها، ما دام تمام الاستقراء نفسه لا يكفي، وما دام أكثر وكثير لا يقالان إلا مع اعتبار الكل، والكل هنا لم يستقرأ. أحر بنا أن نقول: إن الاستقراء الناقص يعتمد على «عدد كاف» من الجزئيات، تاركين للفطنة الشخصية مؤيدة بالخبرة العلمية تقدير كافية العدد تبعا لما يتبدى من اتفاق المحمول للجزئيات في أمكنة عدة وأزمنة مختلفة وظروف متباينة. وهذا التفاوت بين عدد الجزئيات وبين الكلي مدعاة أخطاء غير قليلة، يقع فيها الناس بحيث يكون «الاستقراء الناقص غير موجب للعلم الصحيح، فإنه ربما كان ما لم يستقرأ خلاف ما استقرئ، مثل التمساح».
3
في المثال المذكور، فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ لا فكه الأسفل كسائر الحيوان. ومثل طير الماء أو البجع المدعو أيضا بالقنس تعريبا للفظ اليوناني،
4
فقديما كان المعتقد أن البياض عرض لازم له بناء على ما كانوا يشاهدون، ولما اكتشفت أستراليا وجد فيها بجع أسود بكل خصائص النوع. أما إذا تبدت لنا نسبة الجزئيات المستقرأة إلى الكلي، أي علة وجود المحمول في تلك الجزئيات، أضحى العدد الكافي مجرد دليل إلى تلك النسبة، غير ذي قيمة في ذات؛ إذ قد يصح الحكم على الكلي بجزئي واحد إذا تأكدنا أن المحمول صادر فعلا عن ماهية هذا الجزئي.
فأساس الاستقراء أو السبب الذي يخولنا الحق في الانتقال من الجزئيات إلى الكلي الشامل لها هو، في الاستقراء التام: أن المحمول الحاصل لكل الجزئيات هو محمول حاصل للموضوع المعادل لها، وهذا أمر بديهي. وفي استقراء الناقص هو: أن المحمول الحاصل لعدد كاف من جزئيات موضوع كلي في أحوال عدة وظروف مختلفة هو محمول حاصل لذلك الموضوع الكلي؛ وهذا أمر بديهي أيضا. فإن تكرار المحمول في الجزئيات دليل على أن المحمول خاصية لازمة عن الماهية المشتركة بين الجزئيات، والثابتة فيها وسط تغير الأعراض، والضامنة لضرورة أفعالها وضرورة القوانين الطبيعية، وإلا كان التكرار بغير علة، وهذا غير معقول. وهكذا نطوي المسافة بين الجزئيات والكلي، ويرجع الاستقراء الناقص إلى الاستقراء التام، وتبطل دعوى الحسيين أن الاستقراء الناقص استدلال سفسطائي يذهب اعتسافا من البعض المستقرأ إلى الكل، فيضع نتيجة كلية حيث لا يجيز انحصار الجزئيات سوى نتيجة جزئية، فحقيقة الاستقراء تلتئم من جزئيات مدركة بالحس ومن مبدأ يطبقه العقل. وما أدق وأبلغ ما قرره ابن سينا بهذا الصدد حيث قال (في منطق النحاة): «المجربات أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء تكرر ذلك منا في الذكر (وهذا هو الوجه الحسي)، واقترن به قياس هو أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيا عرضيا لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف (وهذا هو الوجه العقلي)، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة فطلبت سببا لما عرض من أنه لم يوجد.»
مما تقدم يتبين جليا تمايز الاستقراء والقياس تمايزا جوهريا، لا كذلك الخطأ الشائع بأن القياس نزول من الكلي إلى الجزئي، وأن الاستقراء صعود من الجزئي إلى الكلي، فهما كالسلم الواحد يقطع في اتجاهين مختلفين، أجل كثيرا ما ينتهي إلى نتيجة جزئية. ولكن هناك أقيسة صحيحة صادقة نتيجتها مضارعة ما صدقا للمقدمة الكبرى، كقولنا: «كل ناطق فهو ضحاك، والإنسان ناطق، فالإنسان ضحاك.» فظاهر أن «ناطق وإنسان وضحاك» حدود متعادلة؛ إذ ليس يوجد ناطق وضحاك سوى الإنسان. حقيقة القياس أنه انتقال من مبدأ إلى نتيجة بين لزوم النتيجة عن المبدأ بقياس حدين إلى ثالث، وماهيته هي في هذا الارتباط بين الحدود الثلاثة، بغض النظر عن علاقات الكلية والجزئية، فما هذه العلاقات إلا اعتبار ثانوي منطقي.
أما الاستقراء، فإنه انتقال من جزئي إلى كلي يبين ظهور النتيجة أو الكلي من التجربة الحسية، وهو إذن لا يقيس، فلا يحتوي على حد أوسط بمعنى الكلمة، أي حد كلي. ولما كان استدلالا فهو يحتوي على «واسطة» للربط بين المحمول والموضوع في النتيجة، وهذه الواسطة هي الجزئيات المستقرأة يسردها في المقدمة الكبرى لكي يثبت لها المحمول المشاهد في التجربة، ويسردها في المقدمة الصغرى لكي يعادل بينها وبين الكلي الشامل لها؛ فالواسطة وموضوع النتيجة فيه واحد.
Bilinmeyen sayfa
5
وعلى ذلك فاتجاه العقل ونوع الاستدلال الذي يقوم به يختلفان في الاستقراء عنهما في القياس، ولا يمكن رد الاستقراء إلى القياس ولا رد القياس إلى الاستقراء، كأن كل ما هناك طريق واحد ينعكس قطعه. (2) المذهب الحسي والاستقراء
بعد هذا البيان لطبيعة الاستقراء والإيضاح لمبدئه، لم تعد هناك حاجة في واقع الأمر لذكر المذهب الحسي، ولا سيما أن رجاله لا يجيئون بشيء جديد في هذه المسألة. إن موقفهم فيها بسيط كل البساطة، لما كانوا ينكرون وجود المعنى المجرد في العقل، والماهية الثابتة في الأشياء ، فإنهم لا يقبلون سوى الاستقراء التام، ولا يعتبرونه إلا كمجموع، ولا يؤمنون بالمجموع إلا إلى وقت لاعتقادهم أن التجربة غير مضبوطة بمبادئ أو قوانين، وأنها «مفتوحة دائما» قد تلد كل عجيبة. وإذن فليكن الاستقراء مجرد توقع آلي أو مجرد عادة يولدها التكرار، فنعتقد أن المستقبل سيكون شبيها بالماضي، ونتدرج في اعتقادنا بقيمة الاستقراءات من أضعف احتمال إلى الأشد فالأشد كلما تكاثرت التجارب المؤيدة لها ولم تعارضها تجربة واحدة. وهكذا نعود إلى تداعي الصور الذي ذكرناه عنهم في الفصول السابقة، فإنه ابتكارهم الأوحد وتكأتهم الفذة.
أما أن تداعي الصور يولد في الحس الباطن توقعا آليا؛ فهذا أمر معلوم، وقد أشار إليه ابن سينا في النص الذي اقتبسناه منه، بعد أن أشار إليه أرسطو في نهاية «التحليلات الثانية». ولكن هناك توقعا عقليا أشار إليه أيضا، وهو يستند على مبدأ كلي يغني عن تكرار التجارب أو لا يدع لهذا التكرار من قيمة سوى قيمة الدليل الظاهري. وإنا لنسأل الفلاسفة الحسيين: أليس يتعين تفسير التكرار أو الاطراد؟ وماذا عسى أن يكون تفسيره سوى أن الطبيعة خاضعة لقوانين؟ وعلام يدل تحقق توقعنا إن لم يدل على أن بين العقل والطبيعة توافقا وانسجاما؟ وكيف يستسيغوا أن يمجدوا الصلة الجوهرية بين المحمول والموضوع في القضية الاستقرائية وأن يردوا العلية إلى مجرد علاقة تعاقب، على حين أن أساطينهم واضعي مناهج البحث العلمي - كما يدعون - يعترفون بأن الغرض من هذه المناهج عزل «المقدم الضروري الكافي» من بين سائر المقدمات، واعتباره علة لتال معين بسبب ما ظهر من اتفاقهما في الحضور والغياب ودرجة التغير. ماذا عسى أن يكون المقدم الضروري الكافي إلا أن يكون هو العلة؟ وماذا عسى أن يكون مثل هذا الاتفاق بين المقدم والتالي إلا أن يكون صلة جوهرية؟ إن الفلاسفة الحسيين ليذعنون لهذه البديهيات في قرارة أنفسهم، وإنهم ليعلمون أن الواحد منا ومنهم متى وقف على العلة التي يبحث عنها أيقن بها لفوره دون انتظار تأييد مستقبل ودون تدرج في الاحتمال. ولكن اقتناعهم بمبدئهم يصرفهم عن الإذعان الصريح المطرد ويدفع بهم إلى العناد واللجاج.
إلى هنا نقف الحديث مع الحسيين ريثما نستأنف في مواضع أخرى، فقد قصرنا غرضنا في هذا الباب على تحليل أفعال العقل وبيان أصالتها، ومن ثمة على إثبات وجود العقل، وبقي علينا الفحص عن مسائل كثيرة. وللحسيين في كل مسألة رأي، وإن تكن آراؤهم فطرية هزيلة من الطراز الذي عرفناه للآن، وقد نجمل تهافت مذهبهم بقولنا: إنه من الجهة الواحدة يزعم مشايعة التجربة ومتابعة الواقع المحسوس، ومن الجهة الأخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضرورتها، فيدع العلم بلا سند.
الباب الثاني
نقد العقل
الفصل الأول
الشك واليقين
(1) مذهب الشك
Bilinmeyen sayfa
إذا كان لنا عقل فهل يعقل الوجود؟ وهل يعقله على حقيقته؟ لقد تضاربت آراء الفلاسفة في الإجابة عن هذين السؤالين أشد التضارب. إن الناس في جملتهم يعلمون أنهم يخطئون أحيانا في الإدراك الحسي، ويخطئون أحيانا في الاستدلال العقلي، ولكنهم يصححون أخطاءهم ويظلون على الاعتقاد بأن حواسهم آلات حسنة لمعرفة الأشياء، وأن عقلهم آلة صالحة للتصور والاستدلال. والفلاسفة منهم يعتقدون مثل هذا بالفعل، ويحيون وفقا لهذا الاعتقاد، ولكن بعضهم حين يفلسفون ينساقون إلى نظريات تستتبع الشك في قيمة المعرفة فيشكون فيها.
كانت الفلسفة اليونانية ما تزال في مهدها لما ارتأى بارمنيدس أن العالم كائن واحد ساكن، فنتج لديه أن ما تظهرنا عليه الحواس من موجودات متكاثرة متغيرة إنما هو محض وهم. واقتنع معاصره هرقليطس بأن الأشياء في تغير متصل، فاستنتج من ذلك أتباعه من السفسطائيين أن الإحساس تغير ذاتي تابع لحالتنا البدنية ولحالة الأشياء منا، وأننا من ثمة ندرك انفعالنا بالأشياء ولا ندرك الأشياء أنفسها، وكان ديموقريطس قد ذهب إلى أن الموجودات مؤلفة من ذرات متجانسة غير مكيفة. ولما كانت حواسنا تصور لنا كيفيات في الموجودات، فقد صارت الحواس متهمة بالخداع. وتوالت المذاهب والآراء في نقد الحواس ونقد العقل، وتكونت مدرسة شكية أخذت على نفسها مهاجمة المعرفة الإنسانية والتوقف عن إثبات أي شيء.
1
وموضوع هذا الباب الثاني تمحص تلك المذاهب والآراء في ترتيبها التاريخي الذي يبين تأثر اللاحق منها بالسابق، فيساعد على فهم نشأتها وتطورها، ثم الدفاع عن موضوعية الإدراك الحسي ووجود العالم الخارجي، وأخيرا الدفاع عن موضوعية الإدراك العقلي للماديات، وعن كفاية العقل لتكوين ما بعد الطبيعة، بحيث نصل إلى آخر هذا الباب وقد فزنا بالثقة بالعقل وبالحواس، وانفتحت أمامنا الآفاق إلى كل الوجود.
ترجع الحجج التي جمعها قدماء الشكاك من اليونان وخلفوها لمن جاء بعدهم إلى الأربعة التالية:
أولا:
الأخطاء التي يقع فيها الناس، ومنها أخطاء الحواس، وأخطاء الوجدان في اليقظة والمنام، وأخطاء الذاكرة، وأخطاء الاستدلال، وهذيان المحمومين، وتخيلات المجانين. إن البرج المربع ويبدو لنا عن بعد مستديرا، والمجذاف يبدو منكسرا في الماء، ومتى سارت بنا مركبة أو سفينة بدا الطريق وبدا الشاطئ كأنه يسير. ونحن جميعا نعتقد بحقيقة ما يتراءى لنا من الصور في الأحلام، فلم لا تكون اليقظة وهما كالحلم؟ والذي نسميه مجنونا لا يعرف أنه مجنون بل يظن نفسه عاقلا، فما يدرينا أن عقلنا ليس جنونا؟ ولما كان التصديق مصاحبا لتصوراتنا جميعا، فبأية علامة نميز الحق من الباطل؟ وما الذي يضمن لنا أننا لا نخطئ دائما؟
ثانيا:
اختلاف الناس في إحساساتهم وآرائهم وعقائدهم وأخلاقهم وعاداتهم، حتى ليمتنع التوفيق فيما بينها على من يحاوله، والمذاهب الاعتقادية متعارضة يهدم بعضها بعضا، ومع ذلك فكل مقتنع برأيه متعصب له. إن هذا الاختلاف الشامل دليل ساطع على عدم وجود حقيقة بالذات، أو على عدم استطاعتنا الوصول إليها إن وجدت.
ثالثا:
Bilinmeyen sayfa
امتناع البرهان التام، فإن البرهنة على قضية ما تستلزم الاستناد على قضية أخرى، وهذه تستلزم الاستناد على ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية. فنحن مسوقون إلى التسلسل دون أن نستطيع الوقوف عند حد وإرساء العلم على أساس.
رابعا:
امتناع التدليل على صدق العقل، وهذا الدليل واجب؛ إذ من الخلف الوثوق بالعقل قبل الاستيثاق من إمكان الوثوق به، ولا نستوثق من هذا الإمكان إلا بالعقل، ولا يصح أن يكون العقل حكما في صدقه هو، أو نقع في دور لا مخرج منه.
والشكاك لا ينكرون شعورهم باليقين الأولي الحاصل لجميع الناس بالإحساسات الظاهرة والباطنة؛ إذ إن التصديق بها طبيعي لا يقاوم، وكان شأنهم معها كشأن جميع الناس في الحياة العادية. وقد روي أن إمامهم «بيرون» اضطر ذات يوم إلى الهرب من كلب، فأخذ يركض وهو يقول: «ما أصعب التخلص من الطبع!» ولكنهم يقولون: إنهم يمتحنون هذا اليقين الأولي فلا يجدون له مبررا يحيله يقينيا عقليا، وإن الموقف الحكيم في هذا الامتحان أو البحث النقدي اللاحق على التصديق الأولي إنما هو تعليق الحكم والقول «لا أدري». فالشاك يعلم مثلا أن هذا الشيء يبدو له أبيض، وهو يصرح بذلك، أي روي إحساسه، ولكنه لا يؤكد أن الشيء في ذاته أبيض، فكانت في ذهنه فجوة بين المعرفة النقدية والحياة العملية، وكانت هذه الفجوة مثار اعتراض قوي على الشكاك هو وقوعهم في التناقض. فابتدع أحد مشاهيرهم «قرنيادس» نظرية الرجحان لتسويغ الإرادات والاختيارات؛ قال: ليست التطورات سواء، وإنما هي تتفاوت درجات: فمنها ما إذا اعتبر في ذاته بدا راجحا، ومن هذا الفريق ما إذا قورن بغيره فلم ينافه ازداد رجحانا، أو بدا متسقا معه مؤيدا له فازداد رجحانا على رجحان. فالشكاك كلما أقبلوا على شئون الحياة أمكنهم أن يؤثروا رأيا على آخر بناء على رجحانه مع احتفاظهم بارتيابهم في النظر.
هذه الأقوال ما أوهنها وما أيسر تفنيدها؛ إنها تحمل في ثناياها دلائل تهافتها، وتشير بذاتها إلى أسباب فسادها. كيف يتخذ من الخطأ دليلا ضد الحقيقة، والخطأ لا يدعي كذلك إلا بالنسبة إلى الحقيقة المعلومة يقينا؟ دليل على وجود الحقيقة، فليس هو محتوما متصلا. وإذا كنا نخطئ فنحن لا نخطئ دائما، ونحن نصحح أخطاء الحواس بمعارضة حاسة أخرى، وبالتجربة السابقة، وبالعقل والبرهان، ونصحح أخطاء العقل بمعارضة معارفه بعضها ببعض، وبتقدير نتائجها. ومن ذا الذي لم تعلمه الأيام أن الأشياء تختلف عند الحس باختلاف مسافاتها منه، واختلاف أوضاعها، واختلاف وقوع الضوء عليها؟ ومن ذا الذي لا يميز بين إدراك السليم وإدراك المريض، وبين إدراك اليقظان وإدراك الحالم، وبين إدراك العالم وإدراك الجاهل؟ فكل ما يتعين على الفيلسوف وهو ينظر في مسألة الخطأ لا يعدو تعريف الخطأ وتعريف الحقيقة وتحديد الوسائل والمناهج للتمييز بينهما، لا إنكار قدرتنا على إصابة الحقيقة بتاتا لكوننا نخطئها أحيانا.
وليس اختلاف الآراء محتوما متصلا؛ فإن الناس متفقون على أمور كثيرة نظرية وعملية، مجمعون على كثير من الحقائق الواقعية والمبادئ العقلية، ولولا ذلك لامتنع التفاهم بينهم وامتنعت كل حياة اجتماعية، ولا يبدو اختلافهم إلا في الأمور المعقدة والمسائل الدقيقة. وليس الاختلاف دليلا على فساد العقول؛ فقد يكون السبب فيه اختلاف الظروف البيئية والتاريخية، أو اختلاف وجهة النظر: فمن المعقول أن يصطنع كل شعب السيرة التي تلائم أحوال معيشته، فيكون لأهل البلد البحري من الخصائص والعادات غير ما لأهل البلد البري. ومن المعقول أن ينظر كل شعب وكل فرد إلى مصلحته الخاصة، فيكون حكمه حكما حقا من هذا الوجه. وفي الأخلاق نرى اتفاقا على المبادئ العامة، ولا يبرز الخلاف إلا في تطبيقها بسبب الجهل أو الهوى: فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الخير (أيا كان) مطلوب، وأن الشر (أيا كان) مهروب منه، وأن واجب الإنسان السير بمقتضى العقل، وأن العدالة ضرورية عند العقل لابتنائها على المساواة، وأنها لازمة لحياة المجتمع ... وغير ذلك من البديهيات التي إذا جحدت فإنما تجحد بالقول فقط لا بالاعتقاد الباطن. فنحن لا ندعي أن الإنسان يعلم الحقيقة بالضرورة أو أن في مقدوره أن يعلم كل حقيقة، وأن جميع أحكامه صادرة عن العقل السديد، بل نقول إنه كفء لأن يعلم علما يقينا بأن يرجع بأحكامه إلى العقل؛ يردها أو يصححها أو يقرها.
وليس البرهان التام تسلسلا إلى غير نهاية؛ هذا الزعم صادر عن تصور خاطئ هو أن البرهان وحده يولد التصديق، ولكن الحق في هذه المسألة هو أن هناك قضايا بينة بذاتها تتضح النسبة فيها بين المحمول والموضوع حالما نتصورها وبدون واسطة: من ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الكل أعظم من الجزء؟ أو أنه يمتنع إثبات محمول ما لموضوع ما ونفيه عنه في نفس الوقت ومن نفس الجهة ؟ من ذا الذي يحس في نفسه حاجة لبرهان على قضية من هذا القبيل؟ والقضايا التي من هذا القبيل حقائق حاضرة طبعا في العقل، ومبادئ مطلقة تنتهي إليها البراهين ويسكن عندها العقل؛ لأن علة التصديق بها موجودة فيها هي. فكما أن التمييز بين النور والظلمة لا يقتضي شيئا ثالثا، بل يكفي فيه النور نفسه، فكذلك المبادئ الأولية لا يحتاج بيانها لغير نفسها.
وهذا الرد على الحجة الثالثة يفيد في إبطال الحجة الرابعة الزاعمة أن العقل لا يبرهن على صدقه إلا ويفترض نفسه صادقا، وأن هذا دور أو مصادرة على المطلوب. إن اقتضاء برهان على صدق العقل قبل كل تعقل لهو عبث محض. وإنما يلتمس البرهان على صدق العقل في التعقل نفسه، كما يستوثق من صلاح أي آلة باستعمالها. فالعقل حين يزاول فعله الأساسي الذي هو الحكم، سواء كان الحكم بديهيا أم نتيجة استدلال، يدرك مطابقته للموضوع المحكوم عليه، أي يحس ضمنا أنه يدرك أن الموضوع هو كما يحكم عليه. وحين يعود على هذا الإدراك ويدرك هذه المطابقة بالفعل يحس بالفعل أنه كفء لإدراك الحق. فليس البرهان ههنا قياسا حتى يتسلسل من مقدمة إلى أخرى، ولكنه اقتناع بديهي في مزاولة التعقل، وبخاصة، أي بشكل أيسر وأوضح، في التعقل البديهي للمبادئ الأولية.
أما مذهب الرجحان فلم يفد من التقهقر في الشك سوى الإمعان في التناقض. إن الرجحان ابتعاد عن الشك واقتراب من الحقيقة، فإذا لم يكن هناك حقيقة لم يكن هناك رجحان. أو إذا قلنا إن رأيا أرجح من رأي، كان القصد أن للأول من خصائص الحقيقة أكثر مما للثاني، وأننا نعرف خصائص الحقيقة ونستطيع البلوغ إليها. وإذا كانت قوانا الداركة خادعة بالطبع، كما يعتقد الشكاك جميعا، فكيف يسوغ لنا أن نستخدمها ونصدقها في الموازنة بين أسباب الرجحان؟ وهذه الأسباب إن كانت محض تصور كانت عديمة الجدوى في النظر وفي العلم على السواء، وإن كانت مجدية كانت جدواها دليلا ساطعا على مطابقتها لطبائع الأشياء أي على حقيقتها. لقد ظن أصحاب هذا المذهب أنهم يوفرون لأنفسهم ميزة المذهب الاعتقادي دون أن يتقيدوا بمبادئه، فكانوا بهذا الخلف المتصل الذي وقعوا فيه عبرة لمن يعتبر بعبث منهج التخير في الفلسفة وتهافت الحلول الوسطى التي يتوهم ملفقوها أنهم قطفوا من كل شجرة ثمرة ...
الردود السالفة تدفع اعتراضات الشاك. ولكنا لا نقنع بها، ولا نقبل دعواهم أنهم ناقدون معترضون وحسب، بل نريد أن نتحول نحن أيضا إلى النقد والاعتراض من زيادة في جلاء المسألة وفي إيضاح المنهج القيوم الذي يتعين أن تسير عليه الفلسفة في مشكلة المعرفة، فنبين امتناع الشكل المطلق امتناعا باتا، ووجوب البدء باليقين. أما امتناع الشك المطلق فيبدو من ثلاثة أوجه:
Bilinmeyen sayfa
الوجه الأول:
تعجيز الشاك عن الدعوة إلى مذهبه، وذلك بأن نطلب إليه أن يبرر موقفه ويبرهن على صحة قوله إنه لا يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا، فإن رفض الاستجابة إلى هذا المطلب خشية التورط في الإثبات والنفي، كان لنا أن ننكر دعواه ابتداء ونؤكد إمكان العلم اليقيني تأكيدا، من حيث إن ما يثبت جزافا ينفى جزافا، وإن حاول أن ينظم برهانا فمن الضرورة أن يقدم له بمقدمات يقينية فيناقض دعواه بامتناع اليقين.
الوجه الثاني:
أن في منطوق الشك المطلق تناقضا أساسيا يرده غير مطلق، أي يقضي بيقين واحد على الأقل، وذلك أن الشاك إما أن يعلم وجوب الشك في كل شيء علما يقينيا، فيعلم علما يقينيا هذه القضية، وهي أنه ينبغي الشك في كل شيء، ويعلم من ثمة علما يقينيا أنه لا ينبغي الشك في كل شيء. وإما أن يعلم علما يقينيا أن مذهبه راجح فقط، فلديه إذن سبب مرجح يأخذ به. وإما أن يعترف بأنه لا يعلم علما يقينيا ولا راجحا، وحينئذ فهو لا يضع الشك كمذهب، ويقر بالعجز.
الوجه الثالث:
أن في الشك نفسه ثلاث بديهيات يأبى كل عقل الشك فيها، بل يصدقها العقل حالما يتعقلها. هذه البديهيات هي: وجود الذات المفكرة، وعدم جواز التناقض، وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة. أما وجود الذات المفكرة فبين بالفكر ذاته، والذي يفكر يصدق بالفعل أنه موجود فيقول: «أنا أفكر»، ولا يبرهن على وجود الذات المفكرة ولو بقياس إضماري كقولنا: «أنا أفكر فأنا إذن موجود»؛ فإن الوجود المطلوب البرهنة عليه مثبت في المقدمة «أنا أفكر». وأما عدم جواز التناقض، فالشاك يعلمه بداهة كذلك: إنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقيني وما الإنسان وما المثلث ... إلى غير ذلك من المعاني، ويعلم أن كل لفظ وكل معنى فهو يختلف عن ضده أو نقيضه، فلا يجمع بين الألفاظ وبين المعاني على ما يتفق؛ فيقر أن اليقين غير الشك، وأن الإنسان غير المثلث، وأن من غير المستطاع الإثبات والنفي في آن واحد ومن جهة واحدة. وأما كفاية العقل لمعرفة الحقيقة، فالشاك يعلمها في علمه بكل بديهية؛ كما قلنا في الرد على الحجة الرابعة، ويعلمها في نفس الشك. فإنه حين ينتهي إلى الشك إنما يعول على نقد العقل للعقل، وطالما أقام على الشك إنما يعول على حكم العقل بوجود الشك؛ فهو يذعن دائما لحكم العقل، فيقع في الدور الذي يتهم به خصومه. فهذه الحقائق الثلاثة متضمنة في كل تفكير، ولا يمكن أن يشك فيها شاك، ولولاها لما وجد شكه، والشك فيها وضع لها في الحقيقة.
2
لقد أصاب ذلك الشاك القديم الذي قال إن فلسفته ليست عقيدة وإنما هي منحى أو اتجاه، والواقع أن الشاك المطلق يحمل نفسه على الشك حملا، ويعاند البداهة بالإرادة، ويعلق حكمه داعيا هذا التعليق حكمة على الرغم من التناقض المطبق عليه من كل صوب، ومتى قلنا التناقض عنينا الإفحام والقضاء على التفكير حتى ينحدر الشاك إلى درك النبات.
المنهج القويم في الفلسفة يبدأ إذن من اليقين الطبيعي بالبديهات. وفي الفلسفة الإسلامية «تجربة» جديرة بالذكر في هذا المضمار، هي تجربة الغزالي: فقد حكى في «المنقذ من الضلال» أنه عانى الشك في نفسه لما رأى من اختلاف الملل وكثرة الشبه، وأقواها هذه الشبهة: «أن المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكام ويكذبه حاكم العقل، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى يكذب العقل في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته ...» إلى أن قال: «فحاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر؛ إذ لم يمكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب المبادئ الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يكن تركيب دليل. فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثقا بها؛ إذ إن الأوليات غير مطلوبة وإنما هي حاضرة لا يشك فيها. ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر.» يعني نور الحدس الذي به يدرك العقل الأوليات دفعة دون حاجة إلى برهان. وسواء كانت هذه الحكاية صادقة أم مركبة للتشويق والتفهيم، فإن الحل الذي تنتهي إليه هو الحل الصحيح.
ومتى أذعن العقل لنور الأوليات، أو بالأحرى: متى كفت الإرادة عن الافتتان بالشك وقهر العقل على الانصراف عن نور الأوليات، لم يعد أمامنا مانع من المضي في الفحص عن سائر المسائل لاقتناص ما يتيسر من يقين. إن دعوى الشكاك بأن الحياة لا تعطي يقينا ما لهي دعوى بينة البطلان، قادهم إليها مذهبهم الحسي الذي لا يعترف بغير المحسوسات ويستبعد ما فيها وما فيهما بينها بعضها البعض من أمور معقولة. إنهم هم الحسيون الأصليون الملتزمون منطق مذهبهم من مبدئه إلى منتهاه، ولكنهم كانوا واهمين. إن الواحد منهم ليعلم مثلا أنه إذا أكل شبع، وإذا لم يأكل ظل جائعا؛ وهو يأكل ويشرب، ويتذوق ما يأكل وما يشرب، ويتحاشى مواطن التهلكة وأسباب المرض، ويتعاطى الدواء استردادا للصحة. وفي كل ذلك حكم بأن كذا حق وكذا باطل، وأن الحق خير من الباطل، والأكل خير من الجوع، والصحة خير من المرض، والحياة خير من الموت، وهو يعلم أن القواعد الصحية مأخوذة من طبيعة الجسد الإنساني، وأن الأدوية مأخوذة من طبائع الأشياء ومما بين الأشياء وجسد الإنسان من نسبة. هذه بديهيات أخرى لا مفر من التسليم بها متى أخلص المرء لوحي عقله ولم يتشبث بالعناد. وكم ذا في الحياة من بديهيات لا يعتورها الخطأ لبساطتها وبيانها بذاتها، وإنما يخشى الخطأ في كل قضية أو واقعة لا تبدو بمثل هذا البيان، وبخاصة حين يحتاج الأمر إلى تكريب استدلال. ويؤمن الخطأ في الاستدلال بمراعاة القواعد المنطقية، والاحتراز من أسباب كثيرة خارجة عن فعل العقل ومؤثرة فيه مع ذلك: كاندفاع الهوى واضطراب الخيال والسهو وقلة البضاعة العلمية. ذلك هو المنهج القيوم في العلم والفلسفة، وذلك هو المنهج الذي يتبعه بالفعل العلم والفلسفة. وإن في قيام العلم الرياضي والعلم الطبيعي على الأقل لأقوى تفنيد للشك. (2) الشك المنهجي
Bilinmeyen sayfa