والخير يتميز بضده الذي هو الشر. والكلام هنا على الشر الطبيعي لا الشر الخلقي ، كما كان الكلام على الخير الطبيعي المساوق للموجود. فنقول: إن طبيعة الشر تظهر أولا بعض الظهور باستعراض أنواعه، وهي تقابل أنواع الخير. فمن الشرور ما ليس يؤثر باعتباره شرا، وقد يؤثر لوجه خير فيه: كالضار المقابل للنافع أو المفيد؛ فإنه ليس يطلب من جهة كونه ضارا. وقد يطلب كوسيلة إلى غاية ارتضيناها: مثل السم أو الحريق أو الغرق عند الذي عقد العزم على الانتحار، وكالمؤلم المقابل للذيذ؛ فإنه هو أيضا ليس يطلب من جهة كونه مؤلما. وقد يطلب في سبيل الوطن أو الدين أو غاية أخرى. ففي هذه الأقسام الثلاثة يظهر الشر كأنه غير مؤثر لذاته، أي من جهة كونه شرا. وهذا اسم سالب يؤذن بأن الشر نقص وحرمان كمال ما مثل الجهل والضعف وتشويه الخلقة، وأنه لذلك يثير في النفس عزوفا وإباء، على حين أن الخير وجود وكمال يثير في النفس الرغبة لملاءمته وموافقته للنزوع الطبيعي.
وهذا الرسم السالب يؤذن باستحالة التأدي إلى حد موجب كما تأدينا في تعريف الخير؛ فإن «الشر لا ذات له»، ولكننا نخلع عليه شبه ذات بنسبته إلى الذات التي تنتقص به أو تفسد: كتصورنا العمى عدم الرؤية، وتصورنا الصمم عدم السمع ... وعلى هذا النسق نتصور كل شيء على أنه عدم خير. ولا عبرة بهيئة الألفاظ المستعملة في اللغات؛ إذ إن كثيرا من هذه الألفاظ ما له هيئة محصلة، ومعناه معدول: كالألفاظ المذكورة الآن. «فالشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته»، أو «يقال شر لنقصان كل شيء عن كمالهن وفقدانه ما من شأنه أن يكون له».
وبناء على هذا التعريف يجب استبعاد ما أسماه ليبنتز بالشر الميتافيزيقي وأراد به فقدان كل مخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته، مثل ألا يكون للإنسان جناحان، وغير ذلك مما يسهل تأليفه من الأمثلة. ولكن إذا سلمنا بهذا النوع من الشر لزم أن يحصل كل مخلوق على كل الكمالات فيجمع العالم في واحد، وإلا كان العالم مجموعة شرور ميتافيزيقية. والحقيقة أن هذا ليس فقدان ما من شأنه أن يوجد، وإنما هو محض نفي؛ فإن لكل موجود ماهيته وطبيعته، فشره فقدانه شيئا مستحقا ومقتضى لماهيته وطبيعته. وإذا لم يكن للشر ذات وقوام فإن له دائما موضوعا يحل فيه؛ إن جاز هذا التعبير، أو يبتلى به، وهذا الموضوع هو موجود، وهو خير بما فيه من وجود ولو أنه منقوص بالشر، بحيث نستطيع أن نقول بدقيق القول إن الشرء لا يجيء إلا في الخير.
هذه القضايا الجلية تدعونا إلى أن نطهر عقلنا من تصورات المخيلة، ووساوس الحواس والمنفعة الذاتية؛ فإن المخيلة تضللنا في مثل هذه المسائل تضليلا شديدا، فهي توهمنا أن ما يعبر عنه بلفظ شكله محصل هو محصل كذلك من حيث المعنى، وقد يكون معناه معدولا. والمنفعة الذاتية توهمنا أن ما لا يوافقنا هو شر بذاته، كحكم القاضي العادل، فإنه خير في ذاته، ويعتبره المحكوم عليه شرا، أو كالسم في الأفعى والعقرب نظنه شرا بالذات، ولو كان كذلك لقتلها أولا. فقد كان أنبادوقليس واهما حين وضع الكراهية مبدأ للشر في العالم إلى جانب المحبة مبدأ الخير، وكان المانوية واهمين مثل وهمه في اعتقادهم بإله شرير بالذات صانع للشر إلى جانب إله الخير، وواهمون أيضا أولئك الذين يؤولون انتحار المنتحرين كأنه طلب للاوجود، ويرون فيه الدلالة على أن اللاوجود خير وغاية تطلب، خلافا لما قلناه من أن الوجود هو وحده غاية مطلوبة. والتأويل الصحيح أن المنتحر يرى في الشر النازل به فقدان خير لا يطيق هو فقدانه، فبالعرض وبسبب الخير المفقود كان اللاوجود مطلوبا. وواهمون أولئك الذين يريدون أن يثبتوا الوجود للشر بثبوت الألم الناشئ عنه؛ أجل إن الألم ثبوتي في الشخص الذي يتألم، ولكنه يدع الشر كما هو نقصا وعدما، الألم هو الشعور بالنقص والعدم، فلا يمكن الخلط بينهما، ولا الاعتقاد بثبوت هذا الشر الذي هو الألم إلا من الوجهة النفسية. وعلى ذلك فلا معنى لاقتضاء علة للشر تكون علته بذاتها وطبقا لطبيعتها؛ فإن العدم غير مفتقر إلى علته، وكل ما هنالك أن الشر أصلا أو ظرفا هو فعل علة وجودية، ومن ثمة خيرة، قاصدة إلى خير، ويحدث الشر عنها عرضا واتفاقا. والنتيجة الأخيرة أن «الوجود خيرية، وكان الوجود خيرية الوجود».
19 (6) الجمال
الصفة الرابعة هي الجمال، وأول ما ندرك الجمال، وأكثر ما ندركه يقع في المحسوسات؛ فإنها أيسر معلوماتنا اكتسابا، تملأ الأبصار والأسماع. وإنما يتحقق فيها الجمال بثلاثة عناصر أو شروط، وهي: التمام والتناسب والبهاء؛ تمام الأجزاء ضروري لقوام الشيء، والشيء الناقص قبيح لمجرد نقصه، وكل جزء تام من أجزائه قد يكون جميلا وغاية في الجمال في بابه، مثل يد تمثال مهشم. وليس يكفي التمام المادي في شيء أو في جزء منه، بل يتعين أن ينضاف إليه التمام المعنوي، وهو التناسب والتطابق بين الأجزاء؛ فإن المختلط والمهوش غير معقول وغير مستساغ من الحس، على حين أن التناسب جلي متميز، وإن الحس والعقل يغتبطان بالمتناسب ويسكنان إليها. ويختلف التناسب بحسب الأشياء والغايات طبعا، ولكنه واجب، وواجب بحيث تشرق منه صورة معقولة في أجزاء المادة، سواء الصورة الطبيعية والصورة الفنية، وسواء كانت فكرة أو عاطفة، دون إعنات العقل واضطراره للتفكير والتجريد. ومتى جاء الإشراف في أشكال محكمة، أو في ألوان متسقة لامعة، أو في أصوات منسجمة قوية أو عذبة، كان البهاء الذي يجذب الحس والعقل ويخرجه عن طوره.
فنستطيع أن نجمل هذه العناصر الثلاثة بقولنا: «الجمال إشراق صورة في أجزاء مادية متناسبة»، أو بعبارة أخصر: «الجمال بهاء التناسب»، وما علينا إلا أن نذكر موقفنا من الشيء المحروم جزءا أو أكثر، أو عديم تناسب الأجزاء، أو عديم البهاء؛ فإننا نصدف عنه ونصفه بالقبح، فصفات الجمال مضادة لهذه، مثيرة لشعور مضاد. وإلى هذا يرجع تعريف ابن سينا حيث يقول في (النجاة): «جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له.» وما يجب لأي شيء أجزاؤه وتناسبها فيما بينها كشرطين لوجوده، وبهاء الأجزاء في تناسبها كشرط لجماله.
وإذا كان المحسوس أول ما يتفق لنا أن نرى فيه الجمال؛ فإنه هو يخرج بنا من دائرته الضيقة ويسلمنا إلى المعقول المترامي الآفاق. ذلك بأن النسبة ليست شيئا محسوسا، ولكنها ربط معنوي بين شيئين أو أكثر، فلا تدركها حاسة من الحواس، وإنما العقل هو الذي يدركها، فالجمال المحسوس مدرك من مدركات العقل، وقد يظن أن البصر والسمع يدركانه. ونحن نقول بالفعل: «مناظر جميلة، وأصوات جميلة»، ولا نقول: «طعوم جميلة أو روائح جميلة»، بيد أن هذا محض ظن: فإن البصر ينفعل انفعالا فيزيقيا بزهو الألوان، كما ينفعل الأطفال والحيوانات باللون الأحمر وما إليه من ألوان شديدة التأثير. والانفعال الفيزيقي بوقع الأصوات أشد ظهورا؛ فإن تأثيرها يدفع بنا وبالحيوان دفعا تلقائيا إلى الحماسة أو الطرب أو الحزن، ثم ينبت في العقل معنى الجمال بالرجوع على الألوان والأشكال والأصوات وتأمل ما بينها من نسب. فالبصر والسمع يخدمان العقل بأن يقدما إليه المادة، والعقل هو الذي ينفذ إلى ما وراء المادة من نسبة ومعنى، كما أن العقل هو الذي يدبر المخيلة المبدعة في الفن، فيبتكر المعنى المراد التعبير عنه بالمصنوع الفني، ثم يستدعي من بين الصور المختزنة في المخيلة تلك التي تفيد في التعبير دون سائرها، ولولا هذا التدبير لذهبت المخيلة كل مذهب على ما تفعل في أضغاث الأحلام وهذيان الحمى، فجمال المحسوس جمال معقول.
وللمعقولات أنفسها جمالها يفوق الجمال المحسوس: فإننا إذا ارتقينا من المحسوسات بما هي كذلك بلغنا إلى الرياضيات التي تسقط من اعتبارها الألوان والنسب الواقعة بين الأشياء، وتقبل على نسب مطلة بين عناصر معقولة صرف فنلقى في تأملها وفي ابتكار تأليفاتها متعة روحية غير متعلقة بمادة أصلا. وإذا ارتقينا من الرياضيات بلغنا إلى الحكمة التي هي علم الوجود بمبادئه العليا، أي قوانينه الكبرى، وبخاصة المبدأ الأعظم، والعلة الأولى والقانون الأوحد. فحينئذ يجد العقل من سمو تعقله طرازا من الجمال الخالص الصافي يفعمه بهاء ونشوة، فيغتبط بالمعقول والتعقل معا، ويدرك أن الترتيب الطبيعي في تعريف الجمال هو البدء بمطلق الجمال، ثم النزول إلى جمال النسب المعقولة، وأخيرا إلى جمال النسب المحسوسة. فيعرف مطلق الجمال تعريفا مطلقا خلوا من ذكر التمام والتناسب كالذي أوردناه عن ابن سينا، ثم يخصصه في الدرجتين التاليتين بما يلاءم كلا منهما، فيذكر التمام والتناسب تارة على أنهما تمام عناصر معقولة وتناسب بينها، وطورا على أنهما تمام عناصر محسوسة وتناسب بينها.
ولما كان الجمال إدراكا والتذاذا معا، كان مشاركا في معنى الحق والخير معا، ولذا يجيء بعدهما في تسلسل لواحق الوجود ابتداء من الوجود عينه. فالجمال إدراك حق ما، لكنه يزيد على الحق أنه معجب لاذ، وقد يصير الحق كذلك فيعتبر جميلا. والجمال يصير نزوعا كالخير، ولكنه نزوع العقل الذي يدركه، أو البصر أو السمع اللذين يتأثران به؛ فإن هذه القوة طالبة له، لكنها لا تطلب امتلاكه في ذاته ووجوده كما يطلب الخير، بل يتجه نزوعها إلى تأمله فقط، وقد يطلب بعد ذلك في ذاته ووجوده فيصير خيرا مطلوبا. فالجمال بمثابة نوع من الخير قد يصير خيرا؛ فبين الجمال من جهة، والحق والخير من جهة أخرى، اتفاق، وبينه وبينهما اختلاف: لكن الاتفاق بين الجمال والحق أقوى منه بين الجمال والخير، والاختلاف بين الجمال والحق أضعف منه بين الجمال والخير. والمعاني الثلاثة متساوقة لا تختلف إلا بالاعتبار. وقد فطن الفلاسفة، بل فطن الناس عامة إلى ما بينها من قرابة، فوصفوا الحق والخير بالجمال، نعني الخير الخلقي - أو الفضيلة - الذي هو الخير الحق، مثل أفلاطون في قوله: «إن تحمل الظلم أجمل من ارتكابه.» والشواهد عنده وعند سائر الفلاسفة والشعراء والكتاب والمشرعين أكثر من أن تحصى، ونحن بالعربية ندعو الفضيلة أو الإحسان أو المعروف بالجميل، وندعو الرذيلة بالقبيح، كأنما الأخلاق جزء من علم الجمال.
Bilinmeyen sayfa