وهناك ضرب من التشكيك نشير إليه ولو أنه لا يتعلق بالمسألة الراهنة؛ ذلك هو الواقع في «أشياء تنسب إلى شيء واحد نسبة تقديم وتأخير، كقولنا في الأشياء المنسوبة إلى الطب طبية، وإلى الحرب حربية» (ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة). فيقال اللفظ المشكك بطريق «النسبة» لا بطريق التناسب؛ إذ إنه يدل على صفة في كثيرين، أحدهم أصيل حاصل عليها بالمطابقة، والآخرون منسوبون إليها لعلاقة ما، كقولنا: هواء صحي، وغذاء صحي، ومنزل صحي، ومنطقة صحية ... وما إلى ذلك مما هو علة أو وسيلة أو أثر للصحة التي هي للحيوان بالمطابقة وداخلة في تعريف سائر الحدود الثانوية. وظاهر أن اسم الوجود لا يقال بالنسبة على هذا الوجه، وإلا عدنا إلى القول باشتراكه، وقد أبطلنا هذا القول. (3) جهات الوجود
بعد هذا البحث في معنى الوجود ننظر في بعض معان متصلة به اتصالا وثيقا ومفيدة في تفهمه. أولها معنى اللاوجود، وهو إما سلبي أو عدمي. واللاوجود السلبي نفي شيء ليس من شأنه أن يوجد، كسلب العقل عن النبات والحيوان؛ فليس من شأنهما، أي ليس من ماهية هذا أو ذاك أن يكون حاصلا على العقل. واللاوجود العدمي نفي شيء من شأنه أن يوجد، كسلب الإبصار أو السمع عن إنسان ما حين نقول إنه أعمى أو أصم. ومع أن لفظ العدم يجيء مرادفا للفظ اللاوجود السلبي في الفلسفة الإسلامية، إلا أنه مخصص للاوجود العدمي. قال الفارابي: «العدم هو لا وجود ما من شأنه أن يوجد.»
17
وقال ابن سينا: «العدم هو أن لا يكون في ذات شيء من شأنه أن يقبله ويكون فيه.»
18
واللاوجود بالمعنيين غير معقول في ذاته كما يعقل الوجود في ذاته؛ إذ ليس له ماهية ولا خصائص ولا علاقات يعقل بها، فلا يتصور إلا كنفي وجود أو عدم وجود. فمعنى الوجود متقدم على معنى اللاوجود تقدما ذاتيا وتقدما إدراكيا.
وقد بدا لبعض الفلاسفة أن اللاوجود المطلق؛ كتصور لاوجود العالم قبل وجوده أو بعد زواله، هو معنى زائف متناقض، أو هو مجرد لفظ. قال برجسون: «لا يمكن تصور اللاوجود الكلي دون أن ندرك، ولو إدراكا مختلطا، أننا نتصوره، أي إننا نعمل وأننا نفكر، وأن شيئا ما من ثمة لا يزال باقيا. وإذن فليس يكون الذهن أبدا صورة بمعنى الكلمة للاوجود الكلي»، «وأن ما يوجد وما نتصوره هو حضور شيء أو آخر، لا غيبة شيء ما ... محال أن ننفعل بالسلب».
19
وظاهر بعد الذي قلناه أن برجسون يخلط بين تصور اللاوجود وبين صورة اللاوجود. أجل يمتنع تصور اللاوجود الكلي بحيث يشمل هذا التصور اللاوجود الحقيقي للذهن المتصور، ولكن نفي كل وجود هو نفي معنى محصل، وهذا المعنى المحصل هو الذي ننفعل به أولا، ثم نتصور عدم وجوده. وقد نبهنا على أن من الفلاسفة؛ وعلى رأسهم أفلاطون، من اعتقدوا أن لمعانينا جميعا مقابلات في الخارج مشابهة لها، ولكن معنى اللاوجود معنى معدول يكونه الذهن بنفي الوجود، على حد قول ابن رشد: «العدم وبالجملة السلب إنما يفهم بالإضافة إلى الوجود.» وقوله: «لا يوجد عدم مطلق كما يوجد وجود مطلق، بل عدم مضاف؛ إذ كان العدم عدما لشيء.»
20
Bilinmeyen sayfa