فصرح بأن القوة الأساسية للعالم غير معروفة، ولا يمكن معرفتها.
وقد أتحفت «لجنة التأليف والترجمة والنشر» قراء العربية بترجمة كتابين نفيسين؛ أحدهما: «عرض تاريخي للفلسفة والعلم»، تأليف أ. وولف، أستاذ المنطق بجامعة لندن. والآخر: «فلسفة المحدثين والمعاصرين» للمؤلف نفسه، ففي وسع حضراتكم تصفحهما وتصفح أمثالهما؛ للوقوف على تفصيل ما أجمله في هذا المقام.
ومن الضروري الإشارة إلى ظهور طائفة من الفلاسفة المؤمنين
theistic philosophers
بين الإنجليز، وهم تلامذة الفلاسفة الألمان، أمثال: كانت وفخت وشلنج وهيجل وشوبنهاور وهارتمان ولوتز، ولكن آراءهم لم تصمد أمام التقدم الفلسفي العالمي، وإن بقيت الآن بعض آراء لكانت وهيجل ولوتز في صورة منوعة. وأهم هؤلاء الأعلام بلا جدال هو كانت، وقد كان - على حد تعبير الأستاذ وولف - شديد الاحترام للنتائج التي وصل إليها العلم الطبيعي، بحيث لم يستطع رفض كل ما تذهب إليه تلك النتائج، على الوجه الذي يدعو إليه مذهب هيوم التشككي الذي كان يقول: إنه كلما تعمق فيما يسميه نفسه تخبط وتعثر في بعض الإحساسات، ولم يستطع أن يقبض على نفسه أبدا. وكان يعتبر كل ما يبدو حقيقيا مجموعا متعددا من التأثرات والآراء المتقطعة التي يكسبها تداعي المعاني مظهر الحوادث المتسلسلة، ويخيل لنا أن مادتها ثابتة؛ لخطئنا في الظن بأن التأثرات المماثلة لتأثرات سابقة هي بعينها، وكل ما يوثق به هو تيار التجارب المتغيرة. حتى الرياضيات نفسها ليست يقينية، وأقصى ما يمكن افتراضه لشيء هو الاحتمال.
كان الفلاسفة المؤمنون في العصور السابقة يعتزون في التدليل على الألوهة بالطبيعة نفسها، وبمظاهر الدنيا في ذاتها. فعندهم أن الأسباب الثانوية تدل على السبب الأول، وأن النظام الكوني يدل على العقل الغير المحدود، وأن الجمال في العالم يشير إلى الروح الأعلى. ولكن «كانت» قضى على هذا الطراز من المنطق، وأحل في موضعه طرازا من التعليل العلمي مقسما معارفنا جميعها إلى موضوعية وذاتية في عناصرها.
وينوه الأستاذ وولف بجدة الطريقة التي اتبعها «كانت» دفاعا عن العلم، وهي طريقة «التجريد» التي كانت تطورا بينا للمذاهب القديمة عن «الأفكار العامة» و«الحقائق الخالدة» و«الآراء المستكنة ». فقد كان «كانت» يرى أن موضوعات العلم نتيجة لعاملين: الأشياء المحسوسة وهي مستقلة عن العقل، وبعض صور وارتباطات يقدمها العقل. وهذه الصور الآتية عن الإلهام - كالزمان والمكان - والعلاقات والمقولات الفكرية - كالجوهر وعوارضه، والعلة والأثر ... إلخ - هي أولية سابقة، من حيث إنها لا تكتسب بالتجربة؛ إذ التجربة نفسها تستحيل بغيرها. ومن جهة أخرى نجد مادة الحس لاحقة؛ أي أنها تجيء فقط عن طريق التجربة، وإن تكن لا تأتي على ما هي عليه بالفعل، بل متغيرة بالصور والمقولات السابقة.
ولا تصل المعرفة البشرية إلى حقيقة الأشياء نفسها، بل إلى مظاهرها. واستخدام الصور والمقولات الأولية في كل ما يقع في دائرة التجارب البشرية حق مبرر، بل هو في الواقع أمر لا مفر منه، ولكنها يجب ألا تطبق على ما يتجاوز تلك التجارب. فالله والحياة الآخرة مثلا أبعد من متناول التجارب الإنسانية؛ وإذن فلا يمكن أن يكونا موضعا للمناقشة، فهما لا يمكن إثباتهما ولا نفيهما، ولا يمكن الإيمان بهما على أنهما من الاعتقادات التي تقوم على أسس نظرية، بل على أسس عملية. وعلى هذه الاعتبارات العملية بنى «كانت» الاعتقاد بوجود الله، وحرية الاختيار والخلود. فهذه الاعتقادات مسلمات تحتمها أصول السلوك العملي المطلق، كما أن الوجود الحقيقي لعالم الأشياء على صورة ما من المسلمات التي تحتمها النتائج النظرية للعلم. («عرض تاريخي للفلسفة والعلم» - ص98 و99).
ولكن هذا التدليل العملي الذي قدمه كانت لم يؤثر إلا على قليلين؛ لأن أساسه العلمي ضعيف، بخلاف نقده للتعقل الخالص
؛ فقد كان له أثر بليغ على الأفكار في القرن التاسع عشر. وهكذا اضمحلت آراؤه، كما اضمحلت آراء سابقيه ممن لم تصمد تعاليمهم للتطور العلمي، وحقائق البحث النفساني.
Bilinmeyen sayfa