بلا شك كانت دهشة التمثال لسؤالي إياه عن حاله أكبر بكثير من دهشتي أنا حين سألته، فنطقت ملامحه وارتفع من الدهشة حاجبه؛ دهشة شديدة دفعت به ليس فقط أن تتجعد جبهته، وإنما أن يستدير بوجهه ليواجهني، أجل يستدير بوجهه ويواجهني. حركة رآها مئات الناس الذين يحفل بهم الميدان معي، ولكني أكاد أقسم أن أحدا منهم لم يرها شيئا غريبا ولم يجد فيها ما يبعث على الدهشة؛ ومعذور ألف مرة؛ يندهش على إيه وللا إيه وللا إيه؟ المستشار الذي يقطن في المنزل المجاور لبيتنا رأى العفاريت، وبهدوء أعصاب تام استدعى البوليس، وأيضا لم يندهش ضابط البوليس وبكل روتينية كتب بيد غير مرتعشة في المحضر: وحيث إننا شاهدنا بأنفسنا الأرواح الشريرة وهي تفتح الأبواب عنوة، وترفع الأطباق في الهواء وتقذفها إلى الأرض حيث تنكسر وتتناثر شظاياها، فقد رأينا أن نرسل في طلب شيخ من مشايخ الجن المدرب على ترويضها. وجاء من مصر القديمة وأنهى المهمة، وهجعت حركة الجن في الشقة تماما، وقيد الحادث ضد كائنات مجهولة، حيث إن الشيخ لم يستطع أن يتعرف على أحد من الجن باعتبارهم ليسوا من ذوي السوابق، وقفل المحضر ... إلخ ... إلخ. يندهش على إيه واللا إيه واللا إيه؟ البنت المفعوصة التي كانوا يسمونها نعسة الحولة جاءت بالأمس تزور الحتة في «حتة» مرسيدس تمساح لونها أحمر، وأصبح اسمها دوسة، وشعرها ذهبيا، وتدير أمكنة بلغت من تعدادها أن اتخذت لها في أحدها مكتبا بسكرتيرة وتايبريتر. أماكن يرتادها أناس من غير حاجة إلى جن يرفعون بالنقود كاساتهم وتطير رءوسهم نفسها في الهواء، بموافقة ضابط آداب دون محاضر إلا محاضر لا يوقع عليها متهم، محاضر أنس يقبض فيها بدل إغلاق العين إياها ! يندهش من ماذا؟ وكم الدهشة أصبح أكبر بكثير من كم اللادهشة مثلما أصبحت القذارة أكبر بكثير من طاقاتنا وطاقة البلدية والمحافظة وربما جيوش الحلفاء في الحرب العالمية على النظافة. يندهش على إيه واللا إيه وفي كل بلاد الدنيا يخترعون التليفون والعربة والقطار والأتوبيس لتكون وسائل اتصال أسرع، ونحن أبدا لا نندهش حين تتحول عندنا فقط إلى وسائل انفصال دقيق، وكأنها اخترعت لتعزلنا أو لتعطلنا أو لتضيع وقتنا وأرواحنا.
المهم أبدا لم يندهش أحد، وطلعت حرب - التمثال - يستدير برأسه الهائل ويواجهني، وقد كسيت ملامحه بمزيج غريب من الدهشة ولا أقول الرعب والحيرة والغيظ، ثم أخيرا شيء وكأنه عودة الروح التائهة في صحراء بشرية يصرخ وينادي لخمسة عشر عاما بلا أمل في جواب، وأخيرا ها هو ذا يتلقى الأمل في رد، أمل حقيقي، بدليل أن شفتيه راحتا تتحركان بكلام، ضاع طبعا وسط الضجيج الهائل الذي تصنعه صفافير وزعقات وميكروفونات أربعين ضابط مرور وعسكريا وأمين شرطة واقفين لينظموا المرور، في أضبط مكان «بحكم جغرافيته» لانسياب المرور. تحركت شفتاه، أصخت بسمعي، وضعت يدي مفرودة خلف أذني لتلتقط ما يريد قوله، اشرأبت أطراف أصابعي، سددت الأذن الأخرى بلا فائدة، وكان علي أن أعدي الميدان وأندفع إلى حيث قاعدة التمثال. محاورة سريعة كالطلقات دارت بيني وبين أمين الشرطة: - ممنوع يا افندم! امش على الرصيف. - بس أنا رايح لطلعت باشا. - من ع الرصيف أرجوك. - بس هو في الميدان. - شاور له واتقابلوا بره بعيد عن الميدان من فضلك. إذا عديت غرامة خمسين قرش. - بقول لك عايز طلعت باشا ده (وأشرت للتمثال). - يا افندم مافيش وقت، عايز طلعت باشا، سليمان باشا. أي باشا أي بيه أي حد ع الرصيف من فضلك وإلا الغرامة. - اتفضل.
ودفعت الغرامة، وانشغل هو في تحرير إيصال لم أحفل به. ورأسا اتجهت لصرة الميدان، وعلى رصيف الصرة وقفت، وبأشد الزعيق من ناحيته (فقد كان صوته الطبيعي منخفضا وكان قليل الكلام)، وبأقصى ما أستطيع من رفع صوتي دون أن ألفت أنظار ضابط المرور الجالس فوق موتوسيكله ذي الصوت المزعج، تكلمنا . - مالكم يا بني؟ - مالنا؟ أقول لك إيه واللا إيه واللا إيه يا جدنا الباشا؟ زي مانت شايف. - أنا مش شايف حاجة أبدا من كتر الزحمة. - ولا احنا وحياتك. - ومين اللي قال لكم حطوني هنا. - شلنا سليمان باشا الفرنساوي وحطيناك. - كيف تشيلون بطل مثله كان أول من نقل الجيش المصري من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، وتحطوني أنا؛ أنا الذي لم أصنع شيئا؟ - أبدا يا باشا. هذا تواضع! أنت الذي خلقت الصناعة المصرية الوطنية، أنت سعد زغلول الحقيقي؛ فاستقلالنا ظل نظريا إلى أن أنشأت أنت بنك مصر وشركاته، أول انتفاضة للاقتصاد المصري التي صنعت منا فعلا دولة، ولولاها الآن لكنا مجرد جزر مايوركا. أنت الذي ... - لا أنا ولا أنت يا بني. دعنا من دوري؛ فأنا محكوم علي بالسجن داخل هذا الميدان ووجهي إلى حائط الهيلتون الذي بنوه، لا أحد يسأل عني أو يستفيد بي أو يرجع إلي أو إلى آرائي. قلقي على أولادي زاد؛ أكاد أبكي. - اطمئن يا باشا؛ أولادك جميعا على خير ما يرام، أقل ما فيهم رئيس مجلس إدارة بنك أو وزير أو حتى مليونير لحسابه الخاص! - هؤلاء تلاميذي، ولكني أتكلم عن أولادي. - ما أعرفه يا باشا أنك لم يكن لك ذرية. - أتكلم عن بنك مصر وشركاته! لماذا لم تعودوا تفهمون بسرعة؟ - لأن الخبز الذي نأكله يا باشا فيه مكونات العلف أضعاف أضعاف ما فيه مكونات العيش! - معلش مجرد أزمة ستمر. رأينا ما هو أبشع منها في الثلاثينيات. سأسألك الآن عن أولادي واحدا واحدا، كيف حال البنك؟ - البنك عال والحمد لله؛ الودائع كثيرة، والموظفون بالآلاف، والأفرع في كل مركز، والأشيا معدن. - طيب كانت هناك ابنة لي أعزها كثيرا، ومت وهي صغيرة، إنما كانت ناجحة تماما، وكانت تنتج في العام أكثر من ثلاثين فيلما. ماذا حدث لها؟ - تقصد شركة مصر للتمثيل والسينما؟ رحمها الله. - ماتت؟! - ليتها ماتت، إنما هي بالحياة ماتت. سينما استوديو مصر أعتقد أنها مغلقة للتحسينات من أكثر عشر سنوات، وللآن لا تمت تحسينات ولا فتحت أبوابها للجمهور مع أنها تحتل قلب القاهرة! استوديو مصر الذي ينتج ثلاثين فيلما وعدد موظفيه لا يتجاوز الثلاثين، أصبح فيه الآن ألف موظف وعامل ولا ينتج فيلما واحدا! وأخيرا أجروه لشركة تليفزيون!
كادت الدموع تنساب من عينيه، لمحت فعلا وجنتيه تلمعان بدمع اختلط بصدأ النحاس الأزرق. وفجأة سأل: وشركة مصر للطيران؟ - اعلم يا باشا لقد كنت فعلا إنسانا عظيما تقدمي الفكر، لم تكتف بالدعوة لتمصير الاقتصاد المصري في وقت كان الخواجات فيه كالقوتين العظميين في العالم الآن؛ فتوات الاقتصاد ممكن أن يفترسوا أي منافس ويمسحوه من على وجه الأرض. نزلت بنظريتك الاقتصادية الوطنية إلى أرض الواقع الرهيب، ومن قروش المصريين الفقراء أنشأت بنكا، ولم تكتف بأن يقوم البنك بتمويل شركات مضمونة الربح كما فعلت بإنشاء شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، بل أيضا قفزت بأجور عمالها، وأول من أنشأت للعمال في مصر مساكن، فقد كانت نظريتك أن الأجر العالي والحياة المضمونة هي الدافع الحقيقي لزيادة أي إنتاج. لم تكتف بإنشاء شركات مضمونة في الربح، بل ومضمونة السوق بتصنيع أعظم خامة قطنية في العالم وطرحها غزلا أو نسيجا بحيث لا يستطيع أي إنسان في العالم منافستها، ولكنك أنشأت ورعيت ومولت شركات كانت تعتبر في رأي كثير من اقتصاديي ذلك الزمان - بل وربما هذا الزمان - أنواعا من التخريف والسفه. أنشأت - والطيران يكاد يكون معروفا وربما حتى غير معترف به كوسيلة للسفر والانتقال - أنشأت أول شركة طيران في أفريقيا كلها، والمضحك أنها في ذلك الزمن البعيد كانت لا تغطي مصروفاتها فقط، ولكنها كانت تربح ربحا كبيرا. بل أكثر من هذا «جنونا» أقصد رؤيا عميقة ضاربة في ضباب المستقبل تدرك كنهه، أنشأت شركة مصر للتمثيل والسينما في الثلاثينيات، أي لم تكن قد مضت ثلاثة أعوام فقط على اختراع السينما الناطقة.
وكأنها مصر الآن تنشئ مصنعا لصناعة العقول الإلكترونية أو ما هو أحدث، إنشاء واستنباط وتشغيل أشعة الليزر. ولو عشت لمصر يا باشا لكانت لدينا من المحتم مصانع لإنتاج الطاقة النووية وليس مجرد استيراد مصانع لإنتاجها.
بل إنك أيها الاقتصادي الخارق الذكاء قد أدركت في هذا الزمن السحيق أن لا اقتصاد حديثا بغير صناعة حديثة، ولا صناعة حديثة بغير إنسان حديث؛ إنسان حديث بمعنى أنه ليس مثقفا تلك الثقافة العامة العالمية، ولكنه مثقف الوجدان ثقافة وطنية فنية نابعة من صميم أحاسيسه الأصيلة وقيمه وإنسانياته. وهكذا كنت أول اقتصادي ينشئ جنبا إلى جنب مصنع القطن ومصنع الغزل ومصنع الفن «السينما»، ومسرحا هو مسرح الأزبكية اليتيم الذي كان شرطك لإنشائه أن يقدم فقط الإنتاج المسرحي الوطني المصري الرفيع.
أما المضحك حقا يا باشا، المضحك إلى حد البكاء أننا وبعد أن سرنا على منوالك في ثورتي 23 يوليو و15 مايو ومصرنا البنوك والشركات وأممنا الصناعة وبدأت تصبح لدينا بعض الصناعات المتقدمة التي نستهلك نحن معظمها ونصدر بعضها، وحتى جئنا بالانفتاح وسياسته مقصودا به أن يكون دعما للصناعة الوطنية بحيث ننفتح لنستورد من كافة أقطار الأرض أدوات إنتاج وعقليات حديثة تدير إنتاجنا الوطني الحديث. فهم قطاعنا الزاخر الخاص أنه انفتاح لأجل أن يغتني بعض الناس، ومن أجل أن نغرق أسواقنا بالبضائع الاستهلاكية الأجنبية حتى لو كانت أقل جودة من بضاعتنا المحلية. جئنا بالمنسوجات - تصور يا باشا - لتنافس «اللينوه» وال «جيل»، جئنا بالموكيت ومن أغلى مصادره لينافس مصانع السجاد الرائعة في دمنهور، قتلنا ذلك الذي بدأ على يديك جنينا سرعان - وبقوة صاروخية - ما نما وجاءت الحرب العالمية الثانية ليشب عن الطوق، وجاءت 23 يوليو ليصبح قاب قوسين أو أدنى من النضج، وفتحنا النوافذ له بثورة 15 مايو كي يتنفس ويطل على العالم، فإذا ببعضنا يستورد الغازات الخانقة والسائلة والسفن أب لتحيله إلى جثة.
المضحك؛ المضحك إلى حد البكاء يا باشا، أن الشركة التي أسستها وسميتها «شركة بيع المصنوعات المصرية» لتتخصص في عرض وتسويق منتجاتنا المصرية في مصر أولا ثم في بلادنا العربية والأفريقية ثم في العالم؛ هذه الشركة هي الآن شركة لبيع المصنوعات المستوردة، كل ما فيها مستورد، تنافس تجار الشواربي وأصحاب البوتيكات في استيراد ورق الحائط الإنجليزي والسجاد البلجيكي والمصنوعات الفرنسية والإيطالية واليابانية؛ أصبت باختناق وأنا أرى فترينتها وفترينة عمر أفندي وصيدناوي! حتى أيام الخواجات كانوا يفضلون أولا عرض البضاعة المصرية لأن المصريين أيامها كانوا فخورين بصناعتهم الوليدة وبمصريتهم الوليدة. أما الطبقة النجسة التي في يدها النقود الآن، فهي بقدر ما تجعجع بذكر «نحن مصريون» ومصر أولا وأخيرا إذا ذكرت الثقافة أو المعرفة أو تشغيل العقل، تصاب بالأرتيكاريا إذا اضطرت لشراء مصري أو لاستعماله. تصور يا باشا أنا أشعل سيجارتي المستوردة بعود كبريت مستورد، بينما صناعة الكبريت في مصر منشأة منذ عام 1830، وبينما لدى شركة النيل كبريت قيمته مليون جنيه احترق في مخازن الشركة لأننا نعطي بإجرام شديد تصاريح لاستيراد كبريت أجنبي ثمنه خمسة أو سبعة أضعاف الكبريت المصري.
وأنا أفهم أن يصيب النزق بعض الأفراد أو التجار، أما أن يصيب النزق العمود الفقري لصناعتنا وتجارتنا الوطنية، أما أن تتحول شركة بيع المصنوعات المصرية إلى بوتيك للبضائع الأجنبية، فهنا لا يصبح النزق نزقا وإنما يصبح خيانة. لقد كافحت مصر مئات السنين لكي تستعيد استقلالها السياسي؛ ولهذا فهي تحكم بالإعدام على أي إنسان يحاول إخضاعها أو سرقة هذا الاستقلال. ولقد كافحت مصر بك يا باشا ومن قبلك ومن بعدك، وكافحت طويلا من أجل أن تكون لنا صناعتنا وتجارتنا، فإذا انتهينا إلى أننا أصبحنا نستورد اللبن الزبادي! تصور يا باشا!
لا يمكن أن تكون الإصابة في عقولنا قد وصلت إلى حد ارتكاب الجريمة مع سبق الإصرار والترصد، ولا يمكن أن تكون القوة الوطنية الاقتصادية المسيطرة قد وصلت إلى هذا الحد من المداراة على الجريمة لتكريس ما يفعله المجرمون، بل - وهذا هو الأدهى - إخضاع القطاع الصناعي والتجاري العام للذين يعدون لقتل صناعتنا وتجارتنا وإنسانيتنا أخيرا بهدف ربح حقير مهما قيل عنه وقيل في تبريره. •••
Bilinmeyen sayfa