من طفل في الخمسين
لماذا لا نزال نكتب؟!
الكاتب عمله أن ينقد
ليس كلاما في السياسة
الانفتاح إلى الداخل أيضا
الخطة الجهنمية الجديدة1
عن عمد اسمع فتسمع
المستقبل والعنبر
حيرة الكاتب
الخناقة على الطريقة المصرية
Bilinmeyen sayfa
التصرف المصري أمام الخطر
أرقام فلكية
تعالوا إلى كلمة سواء
تحية لهم، وعزاء لنا
ليلة العيد
اختراع جميل جدا
حوار عن المرأة
للموظفين فقط
لمن اخترعت كلمة «الدمث»؟
الإسكان تحول من أزمة إلى مأساة خلقية
Bilinmeyen sayfa
المهم: أي سينما؟
رماديات
وعن السينما أيضا
ما دمنا نتكلم عن الفن
الجد واللعب
للشعب الآخر
الفرق بين «الجدية» و«ثقل الدم»
موضة
جمهورية حسن الإمام
الخبر المزعج
Bilinmeyen sayfa
الذكاء الجميل
الذكاء المصري
الطفل الذي يلعب والطريق السريع
قبل أن تنهار عمارة بيومي
كاتب بلاد الغنى والضياع
حوار مع زوج مارلين مونرو
عن كامل الشناوي
من طفل في الخمسين
لماذا لا نزال نكتب؟!
الكاتب عمله أن ينقد
Bilinmeyen sayfa
ليس كلاما في السياسة
الانفتاح إلى الداخل أيضا
الخطة الجهنمية الجديدة1
عن عمد اسمع فتسمع
المستقبل والعنبر
حيرة الكاتب
الخناقة على الطريقة المصرية
التصرف المصري أمام الخطر
أرقام فلكية
تعالوا إلى كلمة سواء
Bilinmeyen sayfa
تحية لهم، وعزاء لنا
ليلة العيد
اختراع جميل جدا
حوار عن المرأة
للموظفين فقط
لمن اخترعت كلمة «الدمث»؟
الإسكان تحول من أزمة إلى مأساة خلقية
المهم: أي سينما؟
رماديات
وعن السينما أيضا
Bilinmeyen sayfa
ما دمنا نتكلم عن الفن
الجد واللعب
للشعب الآخر
الفرق بين «الجدية» و«ثقل الدم»
موضة
جمهورية حسن الإمام
الخبر المزعج
الذكاء الجميل
الذكاء المصري
الطفل الذي يلعب والطريق السريع
Bilinmeyen sayfa
قبل أن تنهار عمارة بيومي
كاتب بلاد الغنى والضياع
حوار مع زوج مارلين مونرو
عن كامل الشناوي
عن عمد ... اسمع تسمع
عن عمد ... اسمع تسمع
تأليف
يوسف إدريس
من طفل في الخمسين
عمري ما احتفلت أو حفلت بعيد ميلادي. كنت أعرف وقته دائما، 19 مايو، ولكني في أحيان كثيرة، ومن فرط عدم اهتمامي؛ كنت في أحيان أنساه تماما ولا أتذكره إلا على كلمة تهنئة من صديق، أو بوكيه ورد من صديقة. وكنت كثيرا ما أتشاجر مع صديقي الكبير فنان الحياة الأعظم كامل الشناوي على ذلك الاكتئاب والتشاؤم الغريب الذي يقابل به يوم ميلاده حين يقترب. وحين «فعلها» مرة وكتب في حالة كتلك قصيدته المشهورة «جئت يا يوم مولدي ... جئت أيها الشقي» إلى أن يقول «ليتك يوما بلا غد»، أي ليت الحياة تنتهي بك ولا تبدأ؛ تشاجرت معه، لا لما حفلت به القصيدة من تشاؤم مهول، ولا لأنه زاد الطين بلة فأعطاها للمطرب العاطفي الكبير الحافل صوته بالحزن، وكأنه يحيل الموسيقى والكلمات ليس إلى شعر مهموس ولكن إلى خيط دمع طويل مدرار. لم أتخانق مع كامل الشناوي لهذا، وإنما كنت أتخانق معه لاهتمامه هذا الاهتمام الكبير بيوم ميلاده، حتى لو كان ذلك الاهتمام الحزين المتشائم الموتور، بل أخانق فيه هذا التناقض الغريب، ذلك الرجل الذي يعشق الحياة إلى حد الوله والعبادة حتى ليضن على نفسه أن ينام وينقص كوبه الليلي الذي يتجرعه بمتعة زائدة قطرة. ذلك الموله بالحياة، كيف يلعن اليوم الذي أصبح فيه ذلك الكائن الحي؟! اليوم الذي وجد فيه على ظهر أرض كان يرتعب رعبا دونه رعب الأطفال من مغادرتها؟!
Bilinmeyen sayfa
ولا أذكر بماذا كان يجيبني، ولكن ما أذكره أنه لا يرد أبدا بشيء مقنع أو يستطيع إقناعي؛ ذلك لأن ما كان يعتريه كان إحساسا، مجرد إحساس لا منطق فيه أو له. ولم يكن وحده صاحب إحساس كهذا؛ معظم الناس، بل أكاد أقول كل الناس، تنتابهم حالة غريبة من الأمر كلما اقترب يوم مولدهم أو ليلة رأس السنة مثلا، وأبدا ليس حزنا على عام انقضى أو تخوفا من عام سيجيء. ربما السبب الأعمق هو أن هناك زمانين لكل منا: ذلك الزمان العام الذي تسير على وقعه أحداث العالم وأحداث اليوم، والذي من أجله نحمل الساعات ونحرص على ضبطها (وإن كان حقا في منطقتنا العربية نحرص على وجاهتها). ذلك الزمن العام هو العداد العام الذي ما دام يعد السنين والأيام للناس كلها علنا وأمام بعضهم البعض وفي ونس من بعضهم لبعض وفي إحساس شامل أن الساعة إذا مضت فهي ساعة موزعة على أربعة آلاف مليون من البشر، وأن العام كذلك موزع علينا جميعا بالقسطاس، بحيث لا ينال الواحد فينا من العام بأكمله إذا مضى إلا فتفوتة إحساس، مجرد همسة زمن. وهناك - وهذا هو الأهم - ذلك الزمن الخاص، عدادك الخاص أنت، الذي صحيح كثيرا ما «تفكر» فيه، ولكنك نادرا تماما ما «تنظر» فيه، فأنت حين تنظر فيه من المحتم عليك أن توغل بنظراتك إلى أعمق أعماقك، إلى حبك الخفي الغويط، ودائما ما تدرك وتتيقن أن الجزء الذي يغوص منك في بئر الزمن المطلق، العدم، قد ازداد، وأن جزأك الباقي فوق سطح الحياة قد نقص، والنقص غير موزع على أربعة آلاف مليون بشري، بل ولا على أربعة حتى، النقص منك أنت ويخصك كله؛ ولهذا يرتدع البعض، وعند عمر معين يتجنبون النظر تماما إلى ساعاتهم أو زمنهم الخاص، إلا أن يرغمهم قدوم رأس العام مرة أو حلول عيد الميلاد مرة بالقوة الغاشمة، يلوي أعناقهم لتنظر إلى الداخل، إلى الغاطس والطافي من وجودهم، إلى ما ذهب وما تبقى أو مفروض أن يتبقى. هذه الساعة التي لا ننظر فيها إلا كل عام مرة، أو بالضبط هذه النظرة السنوية هي التي كنت أتحاشاها دائما؛ ذلك أن حساباتي في مسألة العمر مختلفة قليلا عن حسابات معظم الناس؛ فأنا أحسب السنين بحسب ما حققته وليس بعدد ما عشته، وأنزعج من فكرة العمر أيضا، لا بمقياسها الزمني ولكن بمقياسها التحقيقي. وهكذا كنت لا أحفل أبدا بالسنين في شبابي وصباي؛ ذلك أني كنت أنظر إلى الأهداف، وكان العمر يبدو طويلا وممتدا بالقياس إلى الأهداف التي كانت تبدو كعناقيد العنب في متناول الوثبة. بل أذكر أني وأنا في السادسة عشرة والسابعة عشرة كنت أستعجل الزمن، كنت أحلم في منامي ويقظتي أنني أصل بالواحدة والعشرين، ويا سلام، فمنتهى سعادتي أن أجد نفسي فجأة في السادسة والثلاثين، أما الاثنان والأربعون فقد كان لها في نفسي سحرها الغامر الذي لا يقاوم. كنت ألهو بلعبة الأيام كما يلهو الطفل بألاعيبه؛ إذ موقفي الجدي كان مع الأهداف التي كان معظمها ليس خاصا، وبالتأكيد ليست أحلاما أو أعمالا أحققها ككاتب. مصر الغنية المثقفة المصنعة، والعرب وقد أحالوا بترولهم حضارة كالإسلام، والاشتراكية في العالم وقد سادتها الديمقراطية تماما، والديمقراطية في الدنيا وقد سادتها الاشتراكية، ومن مجاميع الحضارات التي تنمو مع العالم النامي يصبح الكون مائة زهرة فعلا قد تفتحت وسخرت لخدمة وإمتاع إنسان هذا العصر الذي أحيا فيه، لعب عيال، كنت أظنها سنوات. أقصى ما أعطيه لها عشرون عاما يحدث فيه هذا كله، بحيث حين أكون في الخمسين أبدأ أعيش إذ أعيش في إجازة أتعلم فيها الموسيقى وأعزفها - ذلك كان حلم حياتي - وأشتغل بعض الوقت وبمزاجي جراحا.
أما أهم ما أوجه له جهدي فهو دراسة الطبيعة النووية التي كان حلم صباي أن أدرسها. وبالمرة أكتب، إلى بشرية ذهب عنها الظلم ولم تعد فيها الكتابة أنات من السخرة الحديثة ولا شكايات من القهر. ليست كتابة مرضى يحاولون علاج زملاء مرضى هم الآخرون، ولكن كتابة أصحاء لقوم أصحاء انتهت شكاواهم، وانتهى الأدب كوسيلة لإيصال رسالة سياسية أو اجتماعية، وانفتح على الروح البشرية مباشرة يستكشفها ويضيئها ويرويها، كتابة ما بعد اختفاء الجوع والمرض والظلم والحرب والجريمة، وآلاف الأسطر والكلمات يمكن أن أسوقها عما كنت أحلم به، ومتأكد تماما أنه سيتحقق آنذاك.
ولكن ها أنا ذا أفاجأ أن اليوم هو 19 مايو، وأن عمري أصبح فعلا خمسين، وأن مسائل قياس العمر بالأهداف قد استغرقتني تماما، قليل تحقق، هذا صحيح، ولكن كثيرا قد تحقق لي أسوأ، وزمان ونحن أطفال حين كانوا يقولون عن فلان: ياه! دا راجل عمره خمسين سنة يا شيخ! كنا نضعه نحن الأطفال تحت بند «الكهنة» البشرية؛ فخمسون عاما كانت كمية كبيرة جدا من السنين في الماضي؛ ذلك الماضي الذي كان يجري يومه بهدوء وانسياب وراحة بال، وكأنك ممتط «كارتة» ساعة العصاري على الكورنيش. الخمسون عاما اليوم تمضي في ومضة، في ومضة ملهوفة عصبية قلقة تقضيها مروعا من ألف اعتبار، وكأنك تعبر ميدان التحرير عن غير طريق المشاة ومشدود من العربات القادمة التي تفاجئك من كل اتجاه، وإن كنت في عربة خائف أن تقتل، وإن كنت من المشاة خائف أن تقتل، وإن كنت على دراجة خائف من الماشي ومن الراكب ومن الأتوبيس ومن كل شيء يتحرك أمامك أو خلفك أو على جانبيك، والخوف يطيل اللحظة ولكنه يقصر العمر، وهكذا في ومضة تستيقظ على الخمسين.
ولأنها غريبة وراودتني فيها عن الناس وعن الحياة وعن نفسي أفكار لم تخطر على قلبي، وربما على قلب بشر، فقد غامرت وجعلتها البداية لعودتي للانتظام في كتابة المفكرة. أفكار، منها مثلا فكرة أن الناس تكبر بالعكس أو على الأقل بعض الناس، فأنا من هؤلاء الذين قضوا طفولة جادة تماما لم يعرف المرح طريقه إليها؛ رجل رهيب في ثوب طفل، كل ما أعتقد أني أريده أحرمه على نفسي بل وأنظر له وكأنه خطيئة أرتكبها تجاه الآخرين، همي الأكبر كله أن أصنع مثلما يصنع الكبار لأكون كبيرا، وألا تبدو من طفولتي بارقة نزق واحدة تشف عن «الولد الصغير» المرتدي جاكتة أبيه أو معطفه، فالطفولة كانت في طفولتنا «عيبا»، ولا تزال لغتنا حافلة «ده شغل عيال.» و«أنت عيل.» «هو لعب عيال؟» الطفولة واللعب، الانطلاق وحق ارتكاب الخطأ، المطالب والهدايا واللعب؛ كل هذه كانت «تهما» نموت حنينا إليها في أعماقنا، ولكننا نموت خوفا أيضا أن نطلبها أو نصرح بها وإلا أصبحنا «عيالا» وكأن كلمة «طفل أو عيل» مرادفة لكلمة «امرأة» حين تذكر على محمل التأنيث والإهانة.
وكان الصبا أيضا جادا؛ إذ قام «الواجب» فيه محل معطف الرجل. من طبقات مطحونة، علينا أن نأخذ من المدينة كل علمها، وكل وسائل تقدمها، لنطفو فوق سطح الحياة، ولا نطفو وحدنا، وإنما في الغالب ينفق والد الواحد فينا فيكون عليه هو الكبير أن يصبح حاملا فوق كاهله ربما نصف دستة أو أكثر من الإخوة والأخوات، وبهذا يحكم عليه أن يعوم ويظل يطفو ... ضاعت الطفولة في إرهابنا أن نتصرف كالأطفال.
وضاع الصبا في صعود الجبال الوعرة إلى الطريق الأكثر إنسانية وراحة.
وجاء الشباب لندرك أن المشكلة ليست مشكلة كل منا بمفرده، وإنما هي مشكلة بلد، بل منطقة، بل عالم بأكمله علينا أن نغيره، نحلم بتغييره ونحقق الحلم ونواجه حكومات تلو حكومات، وعقوبات تلو عقوبات، وسجونا ومعتقلات، ويضيع الشباب في مقاومة الشر ومحاولة استنبات ما أمكن من خير، ثم يطل عليك عامك الخمسون وهو يخرج لك لسانه، فجيشك شرد معظمه وتشتت، وجيلك كرش واصلع وشاب، وأمانيك أصبحت لا تصلح إلا كعناوين لمواضيع إنشائية أو شعارا من شعارات تنظيمات الشباب الرسمية. •••
وليس ما ذكرته مرارة ولا ندما؛ فقد كان لا يمكن أن يحدث إلا ما حدث، فإننا ومن أجل وفي سبيل هذا كله، ومن الأفعال وردود الأفعال، من الزق والدفع والجذب، من الأمل والإحباط، من جماع ذلك كله وأنت تناضل موجة أعتى منك بكثير وأطول قامة، وبحرا كالغول فاغرا فاه، من هذا كله صنعت دون أن تدرك «نتيجة»؛ نتيجة حياة هي هذا الشيء الذي تجلس اليوم تتأمله وتحس بكل ذرة منه حفنة من دمك، وكل واقعة فيه كومة من لحمك وعمرك، ولكنك أيضا تحس بروعة لأن هذا كله كان اختيارك وباختيارك صرفا، وأنها حياة لم تفرض عليك، ولكنك أنت الذي فرضت حياتك تلك على الحياة ...
بل المضحك الذي أكتشفه الآن فقط أنني نجحت في تربية نفسي حقا ... فإذا كانوا قد ربونا على أن نكون رجالا ونحن أطفال، ومسئولين ونحن صبية، وشهداء ونحن شباب، أي نعكس وضع الأمور جميعا، ونستلب من كل فترة الممتع من محتواها؛ فقد كان علي وعلى كثيرين مثلي أن يقوموا لأنفسهم بالثورة التربوية؛ تلك التي لا تقسم الإنسان إلى مراحل هرمية ينبذ أي منها بكل ما فيها من ألم أو متعة بعد انتهائها. ولكن أن يعيش كل مراحل العمر معا وفي كل آن، في كل جزء من يومه يطلق الطفل المحروم، وفي لحظة تنبت له أحلام الصبا، شابا ينزق ويتصرف إذا عن له أن يفعل، شيخا في السبعين أو الثمانين يتأمل، مراهقا وكأنها اللحظة الأولى التي تنبت فيها أول مجموعة من شعر الشوارب، حكيما وكأنه وصل إلى لحظة الاستغناء المطلق عن متع الدنيا كلها والحكم عليها وعلى نفسه وعلى الناس بموضوعية، تكاد تقترب من موضوعية القديس.
وكان هذا - وإليكم أعترف - أصعب جزء من المهمة، مهمة أن تحيا، ليس كما أريد لك، ولكن كما اخترت أنت وكما قررت - فكأنها اللحظة التي عليك أن تخضع فيها عالما بأكمله لمشيئتك البشرية المحدودة، والنصر الحقيقي، والحياة الحقة، والفوز الأعظم - أن تفعلها.
Bilinmeyen sayfa
فهل استطعت؟ هل أيكم استطاع؟
ها أنا ذا جالس إلى مكتبي في يوم عمري ما خططت فيه حرفا في حياتي، ذلك العيد الميلاد الذي لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة، وليته يأتي ليقسمها إنما هو يأتي ساخرا في العادة مخرجا لك لسانه، مبتعثا فيك أشد الشك في كل ما فعلت وحققت، وفي نفس اللحظة، وكأنما ليغيظك أكثر، مبتعثا في نفسك أيضا كل ما تتوهم أنه كان معجزات، وحققت، ولكنه على الحالين ساخر، وإمعانا في سخريته مشفق ...
ولكن، ها أنا ذا، ولأول مرة، لا أجلس أمامه كالمذنب الذي يتلقى التأنيب أو يحاول الدفاع، ها أنا ذا جالس وقد عرفت - واليوم فقط - سر اللعبة؛ لعبة الأيام. إننا أبدا لا نحياها مراحل تنتهي لنقلب صفحاتها تماما ولا نعود نرجع إليها، ولكن نحياها، كل المراحل معا، فلا خلاص لنا من متاعب المسئولية، إلا أن نحظى بوقت من اليوم نحياه أطفالا غير مسئولين، ولا خلاص لنا من الخمسين إلا بأن نحيا معه جنبا إلى جنب العشرين والعشرة والثلاثين، ولا خلاص لنا من رعب النظر في زمننا الخاص كل عام مرة إلا بأن نتعود النظر إليه يوما بيوم بل وحتى ساعة بساعة لنسرق نحن من زمننا زمنه، نسرق خوفنا منه، نحيل أرقامه إلى الصفر، إلى ما لا نهاية.
وهكذا أحس اليوم وقد قضيت الصباح ألعب مع ابنتي (4 سنوات) أني زاولت فيها طفولة تساوي طفولة عام من أسعد الأعوام. وهكذا أحس، وأنا أكتب لكم هذا أيضا، طفلا في الخمسين، لا يخوفه الزمن ولا الرقم ، لا يخوفه حتى كل ما ضاع وفات؛ إذ ما ضاع شيء وفات إلا أوجد مكانه شيئا يستحق أن يبقى، ولا يخيفه ما هو آت، مهما كان ما هو آت فهاته هات؛ إذ هل سيكون أشد سوءا أو أكثر روعة مما جاء وفات. وإذا كبرتنا أيها الزمن، فسنصغر لك، وإذا صغرتنا سنكبر عليك؛ فقد ساهيناك ووصلنا زمننا الخاص بالزمن العام.
وحرمتنا متع الصبا والشباب والطفولة، وستحرمنا - أنا متأكد - متع الشيخوخة، فسنخرج لك نحن لساننا ونعيشها كلها معا، وإذا خذلنا الحاضر سنضمهم معا جميعا الماضي والحاضر والمستقبل وبهم نواجهك ونوجد ...
اصنع ما شئت بسنينك؛ فالسن لا تزال عندنا ليس العمر وإنما الهدف، وستظل أهدافنا أقوى من تعدادك، وإلا لما وصل إنسان إلى ما وصل إليه الآن.
وليكن اليوم وقفة مع الخمسين في المائة من العمر والأهداف والإصرار، وقفة بعدها يمكن فعلا أن تبدأ الحياة الحقة.
لماذا لا نزال نكتب؟!
قال لي: بعد إذنك، لمن تكتب ما كتبت؟ وبالأصح: ما فائدة ما تكتب؟ إن القراء ينفعلون قليلا أو كثيرا، هذا صحيح، بعض المسئولين يقرءون كلاما، مجرد كلام. ما أكثر ما تنشر الصحف ونسمع ونرى من كلام وكلام وكلام! صحيح أن كل كلام ليس مثل أي كلام، ولكن مهما كانت الكلمات ومهما بلغ مفعولها، أتعتقد أنها يمكن أن تغير الواقع؟ يمكن أن تحل أزمتي أو أزمتك؟ يمكن أن تجعل النقود تنسال إلى جيبي الخاوي أو تشتري لي الطعام؟ ما فائدة يا سيدي أن تكتب؟ وما فائدة أن تقرأ؟
نظرت إلى محدثي مرة ثانية. موظف، واحد من مئات الآلاف من شعبنا الموظف، خريج جامعة يبدو، ولكن الزمن والوظيفة من الواضح أنهما تكفلا به؛ فأحالاه إلى ذلك الجسد السمين والقميص الكالح والبنطلون الأكلح. نظرت إليه، ولم آخذ كلماته ببساطة أبدا، رحت بعمق شديد أفكر فيما قال. ولم تكن هذه أول مرة أفعل، وإنما خلف وعيي، ودون أن أشعر، وقبل أن أكتب وأنا أكتب وأنا أقرأ ما أكتبه ويكتبه غيري، يلح السؤال، نفس سؤال الموظف القارئ، رحت بعمق أفكر ، والتفكير يقودني إلى السؤال تلو السؤال حتى أصل في النهاية إلى ذلك اللغز: كيف يتغير الواقع؟ ومن الذي يغيره؟ أهي الظروف؟ أهو الإنسان؟ أم بالصدف المحضة ينتقل الكائن من حال إلى حال؟!
Bilinmeyen sayfa
في الحقيقة ما أزعجني في السؤال هو أيضا هذا الكم من الاكتئاب الذي يحتويه. إن للاكتئاب النفسي الفردي أعراضا معروفة في علم النفس، منها التشاؤم وفقدان الهمة والإحساس المحض أن كل شيء مثل أي شيء، وأن كله كلام في كلام، وكله لا فائدة فيه، حتى الشهية للطعام والشراب والجنس والحب وأي متعة في الحياة تفتقد طعمها، ويصبح الإنسان يعيش وكأنه يؤدي دورا، يؤديه مجرد أداء واجب سخيف ثقيل في رواية ممجوجة لا معنى لها بالمرة اسمها الحياة.
ولكننا هنا لسنا أمام حالة اكتئاب فردي هذه أعراضها فقط، نحن أمام ما هو أكبر بكثير، أمام حالة اكتئاب جماعية. وأنا لا أعرف إن كانت هناك حالة في الطب النفسي أو علم الاجتماع كهذه الحالة، ولكن ما أعرفه بالتأكيد هو أننا مصابون تماما بها، هذه الحالة تتخذ شكل الفوضى الشاملة الناتجة عن فقدان الإرادات الفردية المحددة للواجب والحق، فوضى في السرور، فوضى في العمل، فقدان البعد الزمني في تقدير الحاضر والماضي والمستقبل حتى ليصبح المجتمع كله وكأنه يحيا الدقيقة لدقيقتها فقط، لا دقيقة ستأتي بعدها. وإذا تحددت الحياة في اللحظة الراهنة تصبح هي كل الحياة، وليمت الإنسان بعدها فادفع و«زق» واخبط بالكتف والذراع ودس على أي قيمة، وملعون أبو أي مجتمع وأي شعار؛ فأنا ميت أو سأموت في اللحظة التالية.
أنا هنا لا أقدم بحثا «أكاديميا» عن حالتنا، ولا أزعم أني أكتشف شعبا جديدا، ولكني فقط أسجل بعض الأحاسيس والانطباعات التي كثيرا ما تنتابني حين أمشي في شارع طلعت حرب أو 26 يوليو، أو أقابل الجماهير الخارجة من مباراة كرة قدم، وأتمعن في وجوه الناس؛ فأجد وكأنهم ليسوا بأناس بالمرة، أجسام معظمها تخين من فرط فقدان الإرادة ولهيب الطموح، سائرة، هائمة، كما يقولون بالضبط «لا تلوي على شيء.» لا هدف لها ، حتى الفرجة على الفتارين ليست الهدف ولا التمشي في الشارع ولا أي هدف بالمرة، إنما هو التحرك الراكد في اللاشارع واللاشيء، والسير إلى اللاهدف، والتطلع إلى اللارؤيا، وسماع اللاصوت. وثمة بخار خانق يتصاعد من الأجساد وتنفثه نوافذ البيوت ومداخن العربات وعيون القطط الضالة والكلاب؛ بخار كثيف غير مرئي يتجمع وينعقد كسحابات الفجر فوق الرءوس، وتستنشقه الصدور؛ لتعود فتنفثه وقد تحمل بضجر أكثر وضيق أكثر وأكثر، وكأنما السؤال الرهيب المعلق في الفضاء، يدق بمقامع من حديد ويلح ويقول: وبعد! أما لهذا نهاية؟
وبالطبع، فإن لهذا كله، ولأي شيء في الوجود نهاية. ولكن النهاية هنا صعبة تماما؛ لأن على المفقود في اللانهائية - الذي هو نحن - أن يجدها، بل وأن يضعها، وأن يقوم بها.
ولهذا فنحن يا سيدي الموظف القارئ نكتب.
ولهذا أيضا فأنت لا تزال تقرأ.
والواقع أني شخصيا فعلا لم أختر شكلا «من مفكرة فلان» عبثا. لقد اخترتها بعد تفكير وإمعان شديدين، فقد كان الشيء الذي يلح علي هو: كيف أدعو مسدود النفس إلى تذوق طعم كلمة ونفسه تعاف الكلام كله، بحلوه ومره. قصص؟! أي قصة أقرأ وأنا في قلب مأساة لا يتفتق عنها ذهن أعتى قصاص أو تراجيدي. شعر؟! وما فائدة الشعر ومائتا قتيل يسقطون يوميا في بيروت ببنادق عربية، والحرة في بلاد أخرى تبيع جسدها من أجل أن تطعم الأولاد والزوج. رواية؟! مسرحية؟! كيف تهز أعماقا أصبح دوي القنابل الذرية نفسها لا يهزها، بحيث لو مسحت اليوم مدينة مصرية أو عربية بأكملها من الوجود لما ارتفع لها حاجب دهشة أو استغرابا.
هكذا جاء شكل «المفكرة»، مجرد دعوة، دعوة بحذر شديد أقدمها، ذلك أني ما زلت أومن أننا نحن الذين سنغير هذا كله، وحيث إن الله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنحن الذين علينا أن نغير الواقع ونغير أنفسنا وهنا يأتي دور الكلمة.
فأول كلمة نزلت على نبينا الكريم كانت كلمة: اقرأ.
والسيد المسيح هو القائل: في البدء كان الكلمة.
Bilinmeyen sayfa
فالكلام يا سيدي الموظف القارئ أبدا ليس أي كلام.
وليس كل الكلام مثل كل الكلام. هناك دائما أبدا ما أسميه أنا: الكلمة- الفعل، أي الكلمة التي ليست بديلا عن الفعل وليست مجرد تفاصح وإظهار للقدرة على القراءة والكتابة، ولكنها الكلمة التي تصدر عن قلب عاناها ويعانيها ويحياها وتحياه بحيث إنه فعلا ومن الممكن أن يموت في سبيلها. الكلمة الصدق، الكلمة الصدق الفعل، الكلمة التي تغير لأنها تصدر عن متغير، لأنها تصدر عن قرن استشعار اجتماعي خلقه الله ليكون لقومه الموقظ والمنبه والنذير والمبشر والمهدهد والراعي، والحاكم، المستيقظ إذا ناموا، النائم فقط حين يستيقظون؛ تلك الكلمة وحدها هي التي تشفي اكتئابنا الفردي والجماعي، ففي داخلها كيمياء. الصدق المغير والمحول، في داخلها شحن الطاقة الذرية، وإشعاع الحقيقة المعدية، في داخلها يكمن السر.
أعرفت الآن يا سيدي الكاتب الموظف لماذا لا نزال نكتب؟!
ولماذا لا تزال أنت تقرأ؟!
الكاتب عمله أن ينقد
العودة للكتابة كالعودة لحمل السلاح، لها رهبة، فلست أعود باختياري، والفن ليس مزاجا ووحيا ومهنة وتخصصا كما يحلو للبعض أن يقول، وألف مرة رثيت لأولئك الأصدقاء والزملاء الذين كانوا ينعون علي أني أضيع وقتي في العمل «الإداري»، بينما المفروض ألا أفعل شيئا في هذه الحياة إلا الجلوس إلى المكتب وكتابة القصص والمسرحيات، أرثى لهم لأنهم يحيلون بهذا الكاتب إلى حرفي، بالضبط إلى ساعاتي جالس طوال النهار إلى مكتب هو الآخر، كل الفرق أنه بدلا من تصليح الساعات، «يصنع» القصص والمسرحيات. ومن قال إن الكاتب هكذا؟
من قال إن القصص تستجلب من تخصص وجلسة إلى مكتب وتحديق في الفراغ؟ من قال إن الفن صنعة وحرفة ووظيفة؟
إن الفن، كالعواطف، خاصية، وبمثل ما لا يمكنك إطلاقا أن تحترف البكاء أو الضحك، فكذلك لا يمكن ومن غير المعقول أن تحترف الإبكاء أو الإضحاك أو تحريك العواطف. إني معهم أن هناك أناسا يفضلون أخذ الكتابة والفن على هذا النحو، تماما كما أن هناك «ندابات» متخصصات في الإبكاء و«بلياتشوهات» متخصصة في الإضحاك.
ولكن في رأيي، وفي رأي العلم على ما أعتقد ، أن الكتابة إفراز حتمي لحياة فنية.
أنت تحيا وتكتب، ولست أبدا تحيا لتكتب.
Bilinmeyen sayfa
ومن قال إن شغل المنصب الإداري هو «ترك» للكتابة؛ إن الكتابة لا يتركها الإنسان مطلقا، إنها معه اينما كان وسار، صار، عمل، إنها خاصيته. أما أن يعمل أو يكافح أو يسجن أو يسافر أو يعشق، فتلك أشياء لا بد له منها كي يعيش ويوجد، على الكاتب أن يوجد أولا، أن يوجد كمواطن مثله مثل غيره من المواطنين، أن يكون له موقف، أن يكون له عمل، أن يزاول حياته الروحية والجسدية كاملة، وبعد هذا إذا كتب كان بها، وإذا استطاعت هذه المشاغل الأساسية أن تمنعه عن الكتابة فمعنى هذا أن الكتابة ليست أصيلة فيه، فلا شيء يستطيع أن يحول بين الكاتب الأصيل والكتابة سوى الموت. وحين أقول الكتابة، فإنما أعني الحياة ككاتب عليه ليس فقط أن يكتب وإنما أن يقرأ أيضا ويعرف ويقود.
أولئك الإخوان والأصدقاء الذين سخروا من فكرة أن أعمل أو بمعنى أشمل أن يعمل الكتاب والفنانون مثل الصديق الدكتور لويس عوض، الذي أصر مرة على أن يأتي لمكتبي «ليتفرج» على يوسف إدريس - على حد تعبيره - وهو يقوم بعمل إداري، إنما كانوا جميعا كالأب المشفق على ابنه دائما أن يفعل أي شيء آخر سوى أن يستذكر دروسه مخافة أن يرسب في الامتحان أو يكف عن الكتابة. الكاتب في رأيهم معناه قلم وورقة، مثلما أن التلميذ معناه مكتب وجلسة وكتاب، وأي عمل خارج عن هذا هو عبث لا طائل من ورائه. لا يا سادة، الكتابة ليست قلما وورقة، الكتابة حياة كاملة، وموقف من الحياة، وصراع مرير وعمل، وعرق، ومعايشة للحياة والدنيا، لا كمتفرج وإنما كمشارك لمواطنيه في معركة انتزاع القرش من فم الكفاح اليومي الشاق. الكتابة عندي وأصر على كلمة «عندي»؛ فلكل «شيخ طريقته»، أن أعيش الحياة، بكل ذرة من كياني وقدرتي، أعيشها كساكن يدفع الإيجار، ويستخرج بطاقة التموين ويلعب عشرة طاولة، ويسافر ليلتحق بجيش التحرير الجزائري، ويزاول عملا يوميا مثله مثل أي رب أسرة ، ومن عصارة هذا كله تتفتح له سبل الخيال أو الحقيقة. ويكتب.
حرية الكاتب أن يكتب = حرية أن يرسم حياته
كل المشكلة أني ممن يؤمنون بحتمية المسئولية الفردية في إنجاح أي تنظيم أو مؤسسة أو قطاع، وفي مقابل هذا لا بد من منح حرية التصرف ثم المحاسبة. حرية من ناحية ومسئولية من ناحية أخرى. ولقد قضيت في وزارة الثقافة أكثر من سبعة شهور، خرجت منها بنتيجة كان من المستحيل علي أن أحظى بها لو كنت قد استمعت لآراء الآباء اللويس عوضين المتصورين الكاتب تصور الوالد للتلميذ.
وسيأتي اليوم حتما ذلك الذي أكتب عن هذه التجربة فيه ومستعد ساعتها أن أحاسب ككاتب.
فليترك لنا حرية أن نعمل أو لا نعمل، نتفرغ أو لا نتفرغ، ولنحاسب في النهاية على ما نكتبه، وليس مهما أبدا أن تحاسبني على الطريقة، الحساب في الكتابة مثلها مثل أي عمل آخر، بالنتيجة. فلو أني أصغيت لنصح الأصدقاء، وبالذات نصح هؤلاء الأصدقاء الذين يعملون فعلا ثم يوصونك بألا تعمل، لما أمكنني أن أمضي هذه الشهور السبعة رابضا في قلب ذلك «الليفياثان» الهائل المسمى بالحكومة، متأملا له من الداخل تأمل بطل دستوفسكي لأحشاء الحوت الداخلية حين ابتلعه الحوت، ولما أمكنني أن أرى هذه الآلة الجهنمية المسماة بالروتين، وهي، ببطء سلحفائي أميري شديد، تعمل وتلتهم وتهضم، حتى الثورات تهضمها، كيف كان باستطاعتي أن أحظى بهذا كله، وهي أشياء لا تجدها في كتاب ولا يمكن أن تخطر على ذهن بشر.
مهمتنا تكسير المجاديف
ونحن في بلد الناس فيه شديدو الاهتمام بالآخرين. تسأل إنسانا في الشارع عن منزل ما، فيتجمع عشرة في ثانية ليسألوك ويلحوا عليك: عايز إيه؟ عايز مين؟ وعايزه ليه؟ وكأن - من كثرة الفراغ - لا عمل لنا إلا البحلقة والتأمل وتمزيق الحجب عن حياة الآخرين، ونحن في بلد كل منا ولي أمر الآخر وناصحه وضيف «برنامج رسالة» مستمر له، حتى أصبح الواحد بحكم العادة لا يجرؤ أن ينفذ فكرة عنت له، حتى في أشد المسائل خصوصية كالزواج أو أحيانا بل بالذات في الطلاق إلا بعد أن يستشير عشرة وربما عشرين من أقرباء وأصدقاء ومعارف، وتكون النتيجة في الغالب أن يكسروا مجاديفك حتما، وبدلا من أن تغامر مرة فتظفر بغنيمة أو بمعرفة أو بالميت بتجربة فشل مفيدة، تهبط عزيمتك وتتحول إلى كائن لا يعرف أن يفعل إلا ما تواضع على فعله الآخرون واتفقوا عليه، إلا أن تفعل أسلم الأفعال وأكثرها أمنا ودعة؛ أي لا شيء بالمرة. تكون النتيجة، أن يموت فيك أهم ما يميز الكائن الحي الإنسان، روح المغامرة والتحرر، روح التطلع، روح السعي وراء ما يصوره الخيال لتحيا وأنت تحيل أحلامك إلى واقع. وتلك هي الحياة، إما أن تحيا الحياة كما مضغها الآخرون ولاكوها وعجنوها وخبزوها، إما أن تحيا حياة خارجة كالجثة الهامدة من تحت النصائح والإرشادات والمواعظ، فهي حياة الموت أحسن منها وأرحم، على الأقل باعتبار الموت تجربة فذة جديدة.
أتمنى لو أن كل من خطرت له فكرة واقتنع بها أن ينفذها في الحال دون أن يراعي، وماذا سيحدث يعني لو ثبت أنها كانت خاطئة؟ هل ستنقلب الدنيا؟ هل ستقوم القيامة؟ أبدا والله، فإنه على أسوأ الفروض لو فشلت ستكون قد ظفرت بتجربة فاشلة عظيمة؛ لأن التجربة الفاشلة هي المقدمة الطبيعية للتجربة الناجحة؛ إذ الفشل نجاح مؤجل. تخيلوا واحلموا ونفذوا ولا يهمكم ماذا سيقول فلان أو علان، فليذهب قولهم إلى الجحيم، فأنت لو سمعت كلام الآخرين لن تتحرك، أما لو تحركت ونجحت فستتحول نفس أقوال الآخرين إلى قصائد مديح تدبج لك. وأنا مثلا، لو خرجت من عملي القصير في الحكومة بقصة مثيرة أو بمسرحية جيدة، لكان أولئك الذين نصحوني بعدم قبول العمل «الإداري» هم أول المشيدين بها وبي وبحذقي في اختيار التجربة التي دفعتني لكتابتها.
باختصار شديد، كتابا وقراء ناصحين ومنتصحين، أقول لكم رأيي بصراحة: لقد حللت النصائح التي تزجى للآخرين، فوجدت أن 90٪ منها على الأقل تبدأ بحرف النفي هكذا: لا تعمل هذا أو ذاك، حتى أصبح طالب النصيحة يتقي من يحس بغريزته أنه سينصحه بألا يفعل ليسأله النصيحة، كي لا يكون هو المسئول - بينه وبين نفسه - عن نكوصه أو رفضه للعمل.
Bilinmeyen sayfa
لا بد من وقفة زاعقة
وهنا لا بد لنا من وقفة زاعقة حاسمة، هنا لا بد أن ندق جرسا أو نطلق مدفعا أو نصنع ضجيجا هائلا؛ إذ قد وصلنا إلى أس البلاء وعلة العلل، ألا وهي عدم الرغبة أو القدرة على تحمل المسئولية، وكما تؤدي كل الطرق إلى روما مثلما قالها المرحوم الدوتشي موسوليني، فإن كل أمراضنا وعللنا ومخازينا الاجتماعية تقود إلى هذه الحقيقة التي أصبحت في حاجة إلى ثورة خاصة بها تقتلعها من جذورها اقتلاعا. أجل، نريد ثورة تقوم لتطالب بمطلب واحد فقط، ألا وهو أن نتعلم كيف نتحمل المسئولية ونتحملها بشجاعة، ومهما كان الثمن. فلقد تدربنا على التهرب من المسئولية كبيرنا وصغيرنا، حتى أصبحنا عباقرة في هذا المجال.
قد تسمع من المصري أي شيء، مثل: أنا جدع ... أنا حر ... أنا متأسف ... أنا لي رأي، ولكنك أبدا ولكي نكون دقيقين الدقة العلمية الواجبة، أندر الناس أن تسمع: أنا المسئول عن كذا أو كيت. وخاصة إذا كانت هذه المسئولية تتضمن مسئولية عن خطأ ما، بل بالذات حين تكون المسئولية متضمنة ذلك الخطأ.
في حياتي الصحفية التي ليست بالقصيرة، وفي حياتي كمواطن، تلقيت كما تلقى غيري آلاف الشكاوى، وبدون أي مجهود أو تعب تلاحظ في تلك الشكاوى أن الدنيا كلها قد أخطأت ما عدا صاحب الشكوى؛ الغلبان المظلوم الذي قاسى وكابد من كل هذا الظلم الفادح، بمعنى أنه غير مسئول إطلاقا عما حدث له، بل إنه حين يلجأ لرفع هذا الظلم الذي حاق به يلجأ إليك وإلى العشرات غيرك (فالشكاوى عادة تكون إلى أكثر من جهة ومطبوعة على ورق كربون إن لم يكن بالبالوظة أو بالرونيو أو أحيانا بالمطبعة) كي يرفع هذا الظلم عنه. بمعنى آخر هو لا يريد أن يكون مسئولا أيضا عن رفع الظلم عن نفسه، وإنما يريد أن يلقي عليك وعلى الآخرين مسئولية رفع الظلم. في الحب، في الصداقة، في كل شيء يريد كل منا أن يتنصل من مسئوليته الشخصية عن عمل ليلقيها على غيره. والاستعمار هو المسئول حين عرفنا كلمة الاستعمار، التكنوقراطية أو البرجوازية أو الرأسمالية أو الإقطاعية، كل هؤلاء هم المسئولون عن أنهم تخطوني في الترقية. أما أن يكون هذا التخطي مسئوليتي الخاصة باعتبار أني مهمل أو مقصر أو مشاكس فهو ما لا يمكن أن يخطر على بالي مطلقا.
من المسئول عن النكسة؟
لهذا فكما نحيا مجتمعا متلاصقا متقاربا له ألف نوع ونوع من القرابة، فنحن نعيش معا ونخطئ معا، ولكننا أبدا لا يحاسب بعضنا البعض، أو إذا فعلنا نجد المسئولية تتقاذفها الألسن كالكرة تخلصا منها، بل لا نرضى حتى أن تكون المسئولية مسئوليتنا جميعا، إنما جماعتنا كطوائفنا وهيئاتنا، لا بد أن تقذف بالمسئولية خارجا تماما لتحملها لكائن أو قوة غريبة عنا.
لا نتهرب جبنا
والغريب أننا لا نتهرب من المسئولية جبنا، مع أن المقياس الوحيد للشجاعة هو القدرة على تحمل المسئولية، إنما نحن نتهرب منها لأننا منذ أكثر من سبعة آلاف عام اكتشفنا للعالم الخير والشر. وفرقنا بينهما تفريقا عميقا بشعا، وباعدنا بينهما بحيث أصبح أحدهما الجنة والآخر النار، أحدهما الكمال المطلق والآخر الفساد المطبق، وبحيث أصبح الخطأ صنوا للشر، أي أننا بالغنا كثيرا في تجسيد بشاعة الشرير أو المخطئ مبالغة أصبح معها الاعتراف بالخطأ مسئولية أكبر بكثير من أن يتحملها الكائن الإنساني الفرد، ويبقى حيا ويظل مواطنا مثل غيره من المواطنين. وللأسف لم يكن في التراث الفرعوني حديث كثير عن العفو، إنما الشر وصمة أبدية تلحق بروح فاعله وتظل معه في الحياة الأخرى. الخطأ عندنا إذن بهذه الآلاف المؤلفة من السنوات المتراكمة أصبح شيئا أبشع آلاف المرات من خطيئة المسيحيين وحرام المسلمين، ولست أدري ماذا كان يمكن أن يصبح عليه وضع الشعب المصري لو لم يجئ المسيح ومحمد وتدخل في قاموس المصريين ألفاظ العفو والمغفرة والسماح والتوبة.
استمرارا للصراحة أقول
أحس أني وإن كنت لم أبعد عن الهدف الذي حددته لكلمتي، إلا أني طرقت موضوعات، أو بالأصح رءوس موضوعات كثيرة، كل منها بحاجة إلى وقفة وتأمل طويلين. فالهدف كان أن أوضح أن لجوئي إلى العمل الإداري وتركي الصحافة لم يكن جريمة أو خطأ بشعا كما تفضل عشرات من الزملاء والأصدقاء وصوروه لي، وكان السؤال دائما يلح ويبقى: لماذا؟ لماذا أترك الكتابة للصحافة وأزاول عملا مهما كان ما أفعله فيه فهو بالتأكيد أقل فاعلية من الكتابة؟ وهنا لا بد أن أعترف أن هذا صحيح، وأن الكتابة للصحافة فعلا أهم وأبقى، ولكني - استمرارا لموجة الصراحة وفتح القلب على مصراعيه - أقول إني تركتها مضطرا، فقد كان ذلك قبل النكسة، وكنت قد تلفت ذات صباح، وكل صباح تحدث لي صاعقة فكرية أحس معها بكل كياني وأفعالي وأحلامي وأخطائي وميزاتي تتفاعل فجأة وتحدث شرارة كهربية ضخمة تنير لي الطريق، فألمح النفس على حقيقتها. وعلى هدي هذه الشرارة وجدت أني أبت بالكتابة في الصحافة إلى زقاق مسدود، فلم يعد أمامي موضوع لليوميات إلا نقد لمحافظة أو تريقة على روتين أو مجاملة لكاتب زميل على كتاب أخرجه أو مسرحية كتبها أو نقد لفيلم لا يستاهل النقد. وأفعل هذا لا عن فقر في الموضوع، وإنما عن عجز، فأهم ما يشغل بالي وبال الناس أن قضايانا الأساسية، مشاكلنا الجذرية، بعيدة عن متناول القلم، لا لأن هناك حجرا على حرية الكاتب، فالكاتب حقا وصدقا كان حرا أن يكتب ما يشاء بشرط أن يتحمل مسئولية ما يكتب، ولكن المشكلة أني كنت أحس أن الكتابة نفسها أصبحت غير مجدية بالمرة.
Bilinmeyen sayfa
كان الموقف في رأيي مخيفا، والمخيف فيه أننا كنا قد حققنا لبلادنا أوضاعا وإنجازات كانت تبدو منذ سنوات قليلة جدا كالأحلام؛ كنا قد أجلينا المستعمرين عن بلادنا بلا أي قيد أو شرط، ورفضنا الأحلاف والتبعية، وخلقنا مع غيرنا كتلة عالمية ضخمة واتجاها فكريا تقدميا رائعا اسمه الحياد الإيجابي. وكنا قد واجهنا قوى الاستعمار العالمي بالنجاح، بل وأصبناه بضربات قاصمة وفي الصميم مثل تأميم القناة والمساعدة في تحرير الجزائر وتونس ومراكش واليمن والجنوب العربي المحتل ولبلادنا العربية، أصبحت القومية والوحدة حقيقة تكاد بين لحظة وأخرى أن تقع ، وفي الداخل كنا قد حققنا ثورة صناعية ضخمة ووضعنا أقدامنا على أعتاب عصر آلي حقيقي كان سيغير من وجه الحياة في مصر في سنوات قلائل تغييرا جذريا ينقلها من عصر إلى عصر. كان كل شيء ضخما رائعا عظيما، كالمعجزة، وكل هذا تحقق في سنوات قليلة وبأقل الخسائر.
ولكن ...
ليس كلاما في السياسة
في 16 سبتمبر 1970 بدأ يحدث شيء في الساحة العربية لا أعتقد أنه قد حدث قبلا في تاريخها أو سيحدث من بعد. في ذلك اليوم من شهر «أيلول» قرر الملك حسين أن يذبح خمسة وعشرين ألف فلسطيني «من رعاياه»!
والقرار دبر له في عناية بالغة، وربما ترك الملك حسين مزايدات واستفزازات بعض منظمات المقاومة الفلسطينية تعمل عملها في تهيئة الجو كي ينقسم رعاياه إلى أردنيين وفلسطينيين أعداء، وكي يحين الوقت ليبدأ المذبحة.
إن الوصف التفصيلي لهذه الجريمة المروعة لم أقرأه في صحف عربية، بل في الصحف الأجنبية التي كان لها مراسلون في عمان شاهدوا ورأوا بأعينهم ما جرى. هؤلاء الشهود «المحايدون» قرر أكثرهم أن البشاعة والوحشية التي تم بها هذا العمل لم تحدث في تاريخ البشرية إلا مرتين، مرة على يد تيمور لنك عندما أراد فتح العاصمة «هيرات» القائمة على الحدود بين الهند وإيران، فانتقى قرية صغيرة بجوار العاصمة وذبح جميع سكانها نساء وأطفالا ورجالا وشيوخا، ثم أرسل رجلا من أعيانها إلى العاصمة بعد أن فقأ عينيه ليكون الراوي الوحيد الباقي على قيد الحياة؛ يقص على سكان العاصمة ما شهده بعينيه حتى يستسلموا.
ولكن المروع لم يكن فقط ما يدور في عمان وإربد، المروع الأكثر هو ما حدث في الساحة العربية، ولا أقول الساحة العربية الرسمية؛ فقد دعا القائد الخالد إلى عقد اجتماع قمة على عجل لإيقاف المذبحة، المروع هو ما كان يحدث على الساحة الشعبية العربية، فلقد وقفنا جميعا من «المحيط الهادر» إلى «الخليج الثائر» نسمع الأخبار وبعضنا يشيح على أثرها بيده وكأن لا فائدة، وبعضنا سادر في حياته وكأن شيئا لم يكن، والبعض القليل المتحمس تائه مروع حائر لا يدري ماذا يفعل. ولن أغالي إذا قلت إننا جميعا عشنا أياما طويلة بضمائر مرهقة قد أثقلها الإحساس بالعجز.
بعد عامين فقط، وأيضا في 16 سبتمبر (أيلول الأسود) بدأ جيش «الدفاع» الإسرائيلي بنفسه مذبحة أخرى لتصفية بقايا الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان، أذاعت الخبر وكالات الأنباء، وبنفسها راحت إسرائيل تجاهر ودون أدنى خجل بهجومها على سوريا والأردن وتصدر البلاغ تلو البلاغ عن عمليات «التمشيط» التي تقوم بها قوات «الدفاع الإسرائيلية» وتتولى فيها قصف مخيمات اللاجئين بالقنابل والنابالم للقضاء على «الإرهابيين» أنى وأين كانوا. وأي طفل فلسطيني إرهابي في نظر إسرائيل، وأي امرأة «إرهابية» باعتبارها ستلد «إرهابيا»، وأي شيخ إرهابي لأنه لا بد أب أو جد لإرهابي.
إنما المحير حقا هو موقفنا نحن العرب، وأيضا من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، تجاه هذا الذي يحدث. ولا أقول أيضا كقيادات سياسية أو كحكومات، وإنما كشعوب عربية، إن لم تكن قد ذاقت نفس طعم المذابح مثلما حدث لنا هنا في مصر أيام غارة مصنع أبي زعبل ومذبحة الأطفال في مدرسة بحر البقر، إن لم تكن قد ذاقت فهي لا بد يوما ما ذائقة نفس الطعم.
ماذا فعلنا؟
Bilinmeyen sayfa
على رأي كاريكاتير صلاح جاهين المشهور، كان ناس كثيرون في القاهرة، وفي ذلك اليوم بالذات مشغولين بحدث ضخم هائل أهم، حفل المطربة صباح في نادي الجزيرة وحكاية بيع فستانها. وأعتقد أنهم لا بد في مراكش كانوا يسمعون وإلى الرابعة صباحا مثلنا حفل موشحات أندلسية أو تسجيلا معادا لاحتفالات ميلاد الملك، واليمن الجنوبية كانت مشغولة بالشمالية والعكس بالعكس، والعراق بإيران. والأردن كان يعقد الندوات لمناقشة مشروع الملك حسين لحل الأزمة. وهكذا استشهد من الجيش اللبناني 41 ضابطا وجنديا ومن قوات الفدائيين 61 فدائيا وعدد لا يحصى من أطفال المخيمات ونسائها في سوريا ولبنان.
دعوة سريعة وممن؟
جاءت الدعوة سريعة وبالتليفون. كان مقرها أمانة النقابات المهنية بالاتحاد الاشتراكي، وحضرها الأمين العام، وكان أعضاء الاجتماع هم أعضاء مكاتب النقابات المهنية في مصر، وكانت نقابة المحامين قد طلبت من أمانة المهنيين أن تدعو لاجتماع لمناقشة هذا العدوان الإسرائيلي الحادث في وضح النهار ودون أدنى مواراة أو خجل.
والحقيقة لم أتوقع أن يكون الاجتماع من النوع الذي تسوده هذه الروح؛ روح ديمقراطية لا تخضع لأي قيد على رأي ممكن أن يعن لصاحبه. وتحدث عدد وافر من الحضور، وكنت قادما في التو من بيروت بعد حضوري المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وكنت قد تركت لبنان وأثار جريمة العدوان بادية لكل عيان، ونقلت لزملائي المجتمعين ما رأيته وما لمسته من غياب يكاد يكون تاما للرأي الشعبي العربي.
لقد استثمرنا أحلى السنوات من عمر ثورتنا في الوطن العربي، وسقط منا الشهداء تلو الشهداء دفاعا عن هذه الأمة من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، وخسرنا الكثير، بل كدنا نصبح الخاسرين الوحيدين في معركة تعرف هذه الأمة على ذاتها وكيانها ورسالتها. جاء عبد الناصر إلى مصر مصرية ولا شيء أكثر من هذا، وغادرها وقد آمنت مصر برسالته وأدركت ولأول مرة منذ زمان طويل أنها عربية وأنها جزء من أمة عريضة ومترامية من المحال أن تحيا بغير هذه الأمة، ومن المحال أن تحيا هذه الأمة أو تكون بغيرها. إنها غنية برجالها وإمكانياتها، وحتى بصراعاتها غنية، تكاد تصبح بمواردها الطبيعية أغنى أمة على سطح الأرض، وتنفرد مع قليل غيرها من الأمم بلغة واحدة، ومزاج نفسي يكاد يكون واحدا، ودين في أغلبه واحد. ولقد سرت بعد هزيمة 67 بالذات نغمة في مصر راحت تروج للعودة للتقوقع على النفس ولعق ما أصابنا من جراح، ولكن فات أصحاب هذا التيار أن صعوبة التحقيق لا تعني بالضرورة أن المبدأ خاطئ أو قاصر، إنها تعني فقط أن العقبات كثيرة وأن المسائل لا تتحقق هكذا بين يوم وليلة، وأنه إذا كان القدر قد ألقى بحكم الموقع والتاريخ والحجم على مصر أن تقود نضال هذه الأمة، فالتصدي لهذه العملية التاريخية شيء مكلف ومحفوف بالمصاعب والمخاطر، فالتصدي أبدا إذا انهزمنا مرة أو طعنا بالانفصال مرة أن ننفض يدنا ونيئس. إننا تصدينا لرسالة يلزم لتحقيقها عشرات السنين ومئات المحاولات، وجريمة حقيقية أن نكسر بأنفسنا إرادة الطموح فينا، وعند أول عقبة نعود للتقوقع والانكفاء للعق الجراح.
إن الصدمة التي حدثت لنا بهزيمة 67 لم أكن شخصيا ولا أعتقد أن أحدا كان باستطاعته أن يتنبه إلى أنها ستغور في أنفسنا بعيدا إلى هذا العمق. لقد ضخمنا العدو إلى ما هو أكثر بكثير من حجمه، وقللنا من أنفسنا إلى ما هو أقل بكثير من حجمنا.
إنني لا أفهم كثيرا في تعبير «الحرب النفسية»، ولكنني متأكد أن آثارها إن كان بعضها بفعل دعايات العدو وأجهزته، فإن معظمها بفعلنا وبأيدينا. وصديقا لصديق وجارا لجار وسيدة لأخرى نتولى جميعا وبالحديث اليومي الذي لا يتغير ولا يشذ تحطيم أي بارقة أمل فينا أو بصيص نور. ربما ليبرر كل منا لنفسه تقاعسه واستسلامه المطلق لسقوطه الخاص والشعور بالهزيمة الذي يعفيه من مسئولية الأمل؛ فالأمل لا ينبت إلا في صدور الأحرار، والعجز إحساس عبيد ومبرر لكل التصرفات الخسيسة التي يمكن أن يقوم بها إنسان فقد تاج الإنسان، وتاج الإنسان كرامته.
لا لم نمت، ولا انتهينا في 67، ولا في غير 67 سننتهي.
كل ما في الأمر أننا في حاجة إلى صدمة، ولتكن كهربائية، أو من أي نوع كان، لنفيق.
الوفد يتشكل
Bilinmeyen sayfa
وأعود إلى اجتماع النقابات المهنية الذي ذكرته.
تحدث الكثيرون حديثا نافعا في أحيان، مضحكا في أحيان، ولكن القلوب والعقول مفتوحة، وفي صراحة تسكب المحتويات.
وصدر عن الاجتماع بيان هام وقرارات.
وكان أحد هذه القرارات إيفاد عدد مختار من أعضاء المؤتمر للتوجه إلى سوريا ولبنان والاتصال بالمسئولين هناك وبقيادات المقاومة لنشاركها الموقف من ناحية، ومن ناحية أخرى نتدارس معها ماذا يمكن أن نفعله.
وشرفني المجتمعون واختاروني عن نقابة الصحفيين ضمن هذا الوفد. وفي الحق لم أجد في نفسي حماسا كبيرا للعودة - بعد يومين فقط من المجيء - إلى بيروت دمشق. إن الزيارة الواحدة لبيروت تحدث لي في العادة نوعا من الحمى يلزمني دائما بعض الوقت كي ألم شتات نفسي وأعود كما أنا.
كان الوفد مكونا من الأستاذ مصطفى البرادعي نقيب المحامين ، ومن الدكتور عبد الرازق عبد الفتاح سكرتير عام نقابة المهندسين، ومن الأستاذ يوسف كامل عبد العزيز عضو مجلس نقابة المحامين، والأستاذ أحمد يحيى سكرتير عام النقابة، والدكتور المعتز بالله مبارك سكرتير عام نقابة الأطباء.
وصلنا بيروت، وقررنا أن نبدأ مهمتنا بعقد مؤتمر صحفي نظمه لنا الزميل الأستاذ طه نقيب الصحافة اللبنانية في نقابة الصحافة هناك، ولم أكن أتصور أننا وفقط في هذا المؤتمر الصحفي الأول نفسه سنكتشف حقيقة المهمة التي جئنا من أجلها. الغريب أننا لم نتفق على شيء، كل ما اتفقنا عليه كان أن ننتخب الأستاذ البرادعي رئيسا للوفد. ولكن بقيت المشكلة؛ ماذا نفعل؟ هل نكتفي بكلمات المجاملة التقليدية نحملها إلى إخواننا أعضاء المقاومة والشعب اللبناني الشقيق؟ هل نحمل لهم تحيات وتمنيات زملائنا النقابيين في مصر والذين يمثلون نصف مليون متعلم ومثقف؟ هل نقول قلوبنا معكم وسحقا لما يرتكبه الأعداء؟
السلاح المجهول
بالضبط لماذا لا يكون هناك عمل شعبي شامل وسريع وعلى مستوى الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج؟
عمل ليس مهما حجمه أو لونه، ولكن المهم فيه أن يكون شاملا وفي وقت واحد، فليس مطلوبا من العمل - وبالذات في مراحله الأولى - أن ينزل بأمريكا أو بإسرائيل أضرارا بقدر ما هو مطلوب منه أن يكشف لأنفسنا عن أنفسنا، وبإرادتنا نصنع إرادتنا، إنها ليست كلمات إنشاء أو تراكيب أدبية، إنها حقائق علمية. إن السبب الرئيسي لروح الهزيمة واللامبالاة التي استشرت عقب 67 أننا بعد أن كنا أمة تكاد تكون - ولو بالروح - واحدة قبل الحرب، انقسمنا إلى أمم كثيرة وشيع بعدها، بل حدث ما هو أكثر، وأصبح كل فرد منا أمة بمفردها، أي استحال المائة مليون عربي في الحقيقة إلى عربي واحد هو أنا أو أنت فقط، أنا وحدي المهزوم واليائس وفاقد الإرادة، وحدي أتفرج ووحدي أحمل المأساة.
Bilinmeyen sayfa
والهزيمة الحقيقية أن ننفرط إلى أفراد لا مبالين. ماذا أصبح يجمع الشعب العربي في كل مكان؟ لا شيء، حتى الأماني المشتركة لا تجمعه، لا الكلمة أصبحت واحدة ولا الهدف واحدا ولا واحدة في أي شيء .
المطلوب من العمل الشعبي شيء واحد فقط في أول خطوة؛ أن نشترك جميعا في عمل، حتى لو كنا قد تفرقنا مبادئ وشيعا، فليجمعنا العمل الواحد، أبسط الأعمال، ولو حتى نتفق أن نصمت جميعا ولمدة دقيقة واحدة غدا في التاسعة صباحا.
قد يبدو للبعض أن الاقتراح ساذج وبسيط، ولكن أخطر ما فيه أنه ساذج، إذ أن نتيجته مروعة.
إن جزءا كبيرا من اليأس الذي عم شعوبنا سببه أننا في تفكيرنا لمواجهة الغزو الصهيوني الاستعماري كنا دائما نتصور أننا لا بد أن نتصدى له بواجهتنا الرسمية فقط، بما فيها من قيادات وجيوش وحكومات، وحتى ليس كل القيادات والجيوش والحكومات، بعضا فقط سميناه دول المواجهة، وعلى جيوش هذه الدول أو بالضبط على بعضها فقط ألقينا عبء «العمل».
ولقد بدأت تتضح لنا الآن أبعاد القضية. والحديث عن قومية المعركة ليس إلا إدراكا واحدا من إدراكات ذلك البعد؛ فقد كنا نظن أننا نواجه إسرائيل فإذا بنا نكتشف أننا نواجه يهود العالم مجتمعين. وقد كنا نظن أننا نواجه حروبا صغيرة فإذا بنا نكتشف أننا نواجه خطة خبيثة وماكرة ومدبرة بعناية - ومنذ نصف قرن من الزمان على الأقل - وأن إسرائيل واليهودية العالمية ليست وحدها عدونا إنما وراءها رأس الرمح في القوى الاستعمارية العالمية؛ أمريكا وأفلاكها. وراءها رأي عام عالمي استطاعوا خداعه وتلفيقه - وأيضا من زمن طويل - شيئا فشيئا بدا يتضح لنا أن المواجهة أكبر من أي قطر عربي بمفرده، وحتى أكبر من قومية المعركة لو اجتمعت لها الحكومات العربية كلها، إنما لا بد لها أيضا من شعبية المعركة، من اشتراك كل مواطن عربي في المعركة ولو بعمل صغير، ولو بقرش واحد يمول به كل أسبوع معركة حياته أو موته.
وأبدا لم تستعمله
وشعبية المعركة ليست لعبا بالكلمات، إنها السلاح السري الخطير الذي يملكه العرب ولم يستعملوه إلى الآن. إن الذي يخيف إسرائيل وأمريكا، وكل الدوائر المتآمرة علينا والمتربصة بنا، أن يحدث وعلى امتداد الوطن العربي كله توقف الخمس الدقائق أو نصف الساعة وفي وقت واحد جامع شامل يلم شتات عامل البناء في طنجة والوزير في حكومة اتحاد إمارات الخليج وخفير المخزن في اللاذقية والرعاة في اليمن الجنوبية والسودان.
ذلك أننا لو فعلنا هذا لأدخلنا إلى المعركة السلاح الرهيب الذي لم نستعمله أبدا، سلاح الكم الهائل من البشر الذي نمتلكه، سلاح المائة مليون إنسان. إن إسرائيل تخاف من سلاح المائة مليون إذا حشد؛ لأنها مهما فعلت لن تستطيع التفوق لا هي ولا أمريكا معها في هذا المجال. إن إدخال الشعب طرفا في المعركة الرهيبة الذي إذا دخل المعركة لن يخرج منها أبدا إلا منتصرا، وأن الأمر قد يبدأ برفع الذراع علامة المشاركة، ولكنه لا بد أن ينتهي حتما بالسيطرة الكاملة على كل المصالح الأمريكية في المنطقة، وعلى خنق إسرائيل ولو حتى بأجسادنا نفسها مجتمعة ومتلاصقة وزاحفة لاسترداد هذا الجزء من أرضنا.
إن إشراك الشعب العربي كله في المعركة يضع أمريكا وإسرائيل أمام أمرين لا ثالث لهما: إما إبادة هذا الشعب لإبادة إرادته، وإما التسليم له بما يريد. ولأننا لم نعد في عصر تستطيع فيه حتى ولو دولة معربدة مغرورة مسلحة مثل أمريكا أن تبيد مائة مليون مهما رغبت في هذا الأمر وحلمت به، فلن يبقى لها إلا التسليم.
بالضبط، لماذا لا يكون هناك عمل شعبي شامل وسريع وعلى مستوى الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج؟
Bilinmeyen sayfa
هكذا تبلورت مهمتنا الشعبية في مؤتمرنا الصحفي الأول، أصبحت هدفا واضحا نتحرك تجاهه، ونتصل بالنقابات وبالقيادات وبالسياسيين على أساسه.
والحق أني لم أتصور أن رد الفعل سيكون بهذه الضخامة؛ خرجت الصحف اللبنانية جميعها في اليوم التالي وهي تتحدث عن «المبادرة الشعبية المصرية».
ولكن الأمر لم يسلم من المضحكات، فعقب إعلان مهمتنا اتصل بي صديق يمني وسألني بالتدقيق عن هذا «الوفد» المصري الشعبي، وبعده جاءني أكثر من صحفي وسياسي من المقيمين في لبنان وبروح من الشك راحوا يستجوبونني عن هذا «التحرك» وعن علاقته بنوايا مصر والقيادة السياسية في مصر. إلى هذه الدرجة فقدنا الثقة في أنفسنا. إن أي تفكير أو مبادرة لا بد أنه موحى به من جهة أو وراءه نية ما. أصبحت البراءة في عالمنا العربي أبشع التهم، إذ إنك لن تجد للبراءة سببا أو مبعثا واضحا يريح بعض النفوس ويلون العمل. وهكذا تظل التهمة على البراءة مسلطة ومشرعة.
ولكن الصدى الأهم كان هو الصدى الشعبي الذي أردناه؛ بدأت الأفكار تتفجر والحماس للفكرة لدى القيادات النقابية في لبنان وسوريا يطغى. صحيح! لماذا يقف الشعب مكتوف الأيدي معزولا عن المعركة؟ لماذا يترك الأمر كله لجامعة الدول العربية تتصرف فيه وتحله؟ وأين الجامعة «الشعبية» العربية، جامعة الإرادة الشعبية والعمل الشعبي؟
أيكون هذا هو السلاح؟
أن نتحرك كشعب هائل وأن نعوض بحركاتنا تلك ما ينقصنا؟
أن نبدأ الحركة بخطوة بسيطة واحدة، وأن نختار وبسرعة لجان اتصال من النقابات والهيئات والقيادات الشعبية والاتحادات العمالية والفلاحية والطلابية والنسائية والشبابية العربية كي نقوم بعمل واحد وسريع نرفع به الرأس ونواجه العدو؟
إني أطرح الفكرة على قيادتنا السياسية وعلى اتحادنا الاشتراكي وعلى تنظيماتنا العمالية والنقابية.
بإلحاح أطرحها.
ملحوظة: هذه المقالة أعتقد أنها في عام 1980 كوميدية تماما، ولكني آثرت أن أثبتها، فمن يدري ماذا يكون الحال؟
Bilinmeyen sayfa
الانفتاح إلى الداخل أيضا
كانت السينما هي حدث الأسبوع الماضي دون شك، حدث ولا أقول حديثا؛ فالحديث عن السينما في صحفنا ومجلاتنا لا ينقطع، بل هو - إذا أضيفت الإذاعة والتليفزيون - يكاد يكون المادة الطاغية على كل حديث. بل جاء علي وقت أحسست فيه شخصيا أن الهدف الثقافي العام لمجتمعنا أصبح مقرره الوحيد هو مادة السينما والتمثيل والإخراج والماكياج والديكور والمونتاج، لدرجة أني كنت أتابع برنامجا هاما جدا لا بد أن تتابعوه؛ إذ لا أعتقد أن أحدا يلتفت إليه التفاتا ملحوظا. وهو برنامج «الغلط فين» الذي يذاع يوم الجمعة. وأنا لا أتابعه لأنه برنامج طريف فقط، وإنما لأنه ترمومتر خطير جدا للمستوى الثقافي العام، لا للشعب قاطبة، وإنما للمتعلمين من هذا الشعب طلبة وطالبات، معاهد وجامعات، ومراكز بحوث وإحصاءات. المهم أن الخطأ يحدث في كل شيء وأي شيء إلا في الأشياء المتعلقة بالفن . لا خطأ في اسم ممثل أو ممثلة أو فيلم، لا خطأ في أي تعبير سينمائي أو مسرحية. تقريبا هي والأمثال الشعبية تكاد تكون المادة الثقافية التي يشترك، لا أقول الشعب كله، ولكن حتى المتعلمون في معرفة أدق تفاصيلها. و«الغلط فين!» والمسئول عن هذا من وفين؟ والسبب ماذا؟ وفيه أشياء ليست موضوعنا الآن. فموضوعنا وإن كان السينما إلا أنه ليس السينما، عناوين أفلام وأسماء نجوم ومواصفات تمثيل وإخراج. كان الحديث عن السينما حديثا عنها كصناعة، هذا شيء بلا شك رائع وجميل، بل الأروع أنه حديث عنها باعتبار أنها مقدمة أو عينة ل «سياسة» الانفتاح الاقتصادي. كانت المسألة إذن قضية وطنية سياسية من الدرجة الأولى، أو هكذا كان يجب تناولها. لكن ضايقني تماما أولئك الذين أخذوا الموضوع مأخذا شخصيا وصنعوا من قضية هامة وخطيرة مظاهرة سباب ضد وزير الثقافة عبد المنعم الصاوي. بالضبط كما ضايقني تماما موقف مجلس الشعب من الأمر بحيث خرجت علينا الجرائد بمنشتات تقول: مجلس الشعب يناصر عبد المنعم الصاوي في موقفه من السينما، وكأن المسألة كانت خناقة بين عبد المنعم الصاوي من ناحية وبين آخرين.
أنا شخصيا حين عرفت أن الموضوع مهما نشرته الجرائد يتعلق بمستقبل السينما في مصر، وباعتبار السينما وسيلة الثقافة الأولى لشعبنا، وباعتباري أمت بدرجة ما إلى هذه الثقافة، ذهبت فعلا إلى مجلس الشعب لأحضر الاجتماع الذي عقدته لجنة الثقافة والفنون بالمجلس، والحقيقة ذهبت غير مدعو، ذهبت وفي ذهني أني فقط سأستمع إلى ما سوف يثار من مناقشات خاصة بالسينما، وليس في ذهني مطلقا أنها مناقشات خاصة بقضية خاصة، بل بواقعة اتهام خاص.
مستمعا ذهبت، ومستمعا أصغيت إلى البيان الذي أدلى به الوزير عبد المنعم الصاوي، فإذا به بيان يرد فيه على ما دار في اجتماع أعضاء غرفة صناعة السينما حول واقعة بعينها، وهي اعتزام هيئة السينما تكوين شركة بينها وبين مستثمر مشترك (سعودي أمريكي)، شركة ضخمة برأسمال قدره 160 مليون جنيه سيكون لهيئة السينما فيها 51٪ من الأسهم، وسيقوم المستثمر السعودي بدفع 49٪ من رأس المال . أما كيف ستقوم الهيئة بدفع هذه ال 51٪ من الأسهم وهي تشكو من العجز في ميزانيتها وعدم قدرتها على الصرف على دور عرضها واستديوهاتها، فسيتم هذا بأن تبيع الهيئة للمستثمر أو بمعنى أدق للشركة الجديدة المزمع تكوينها أربع دور عرض هي ميامي وديانا ومتربول وفريال في الإسكندرية واستديو الأهرام في الجيزة، قدرت أثمانها بأربعة ملايين من الجنيهات في مقابل أربعة ملايين أخرى من المال السائل يقوم المستثمر بدفعها. وبهذا تبدأ الشركة عملها بثمانية ملايين جنيه على أن يتم استكمال رأس المال الباقي (160 مليونا) باستغلال هذه الأماكن الاستراتيجية في إقامة دور عرض واستصدار قانون جديد يبيح إقامة عمارات فوق دور العرض (إذ القانون الحالي يحرم إقامة مبان فوق دور العروض السينمائية والمسرحية) ومن الربح الضخم الناتج عن إقامة هذه العمائر يتم استكمال رأس مال الشركة وتبدأ في إقامة دور عرض سينمائية (400) في بقية أنحاء القطر المصري.
وهنا قامت قيامة أكثر من جهة، أولها غرفة صناعة السينما (أي اتحاد المنتجين السينمائيين المصريين)؛ إذ إن هذه الشركة الممولة لن تقوم فقط بإنشاء دور العرض، وإنما سيكون لها الحق في إنتاج وتمويل الأفلام السينمائية والتليفزيونية. وحيث إن رأسمال أكبر منتج في الغرفة لا يتعدى نصف المليون جنيه، فكيف ستواجه هذه الأسماك ذلك الحوت الهائل الذي من المحتم أنه سيبتلع الجميع؟
ومن الجميل في قيامة غرفة صناعة السينما أنها ربما لأول مرة تذكرت أنها صناعة وطنية خطيرة، أنها تملك التحكم في توجيه الفكر لا في مصر وحدها ولكن في العالم العربي كله، وأن المنتجين هم أصحاب المسئولية الأولى في المحافظة على الفكر الوطني الإبداعي. وهذا الأمر طبعا نكتة، فتسعون في المائة من إنتاج هؤلاء السادة لا فكر فيه على الإطلاق، أو إذا كان فيه فكر مناهض ورجعي وشلل لطاقات الإنسان المصري والعربي على القوة والإبداع، وأظن أن الصراخ الذي يأتينا دويه من المصريين المقيمين في البلاد العربية خير دليل أن أكثر المنتجين غير قوامين بالمرة على أمر الفكر المصري أو العربي، وأنهم بالدرجة الأولى تجار وطنيون ، هذا صحيح ، ولكن يتاجرون في مادة خطرة هي القصة والبطل والممثل في السينما العربية، وفقط أدركوا مدى خطورة ما تصنعه أيديهم حين جاء منافس أكبر، من المحتم أنه لن يكون أكثر حرصا على الفكر العربي منهم، ولكن المؤكد أنه سيكون أسخى وأغنى في تصنيع بضاعة وتغليفها وتسويقها. ومع هذا فهم أيضا رأسماليون وطنيون إن اعتبرناهم تجار سينما، بمعنى أنهم بالتأكيد يتجاوبون في النهاية مع النقد ويراعون الحرمات بعض الشيء، وأناس «على قدنا» نستطيع أن نؤثر فيهم ويؤثروا فينا، ولكن الشركات الكبرى في هوليود ونيويورك وأوروبا تصل بثرائها ونفوذها إلى أنها تصبح فوق أي نقد، بل هي التي «تصنع» النقد، وهي التي «تفكر» للناس، وهي التي «تخلق» نمط الحياة والسلوك وتجعل من الجواسيس ورجال المخابرات «أبطالا» يصبح المثل الأعلى لكل شاب أن يحذو حذوهم. وإذا كنا نحن في القاهرة نشكو من «النماذج» السيئة التي يقدمها كثير من منتجينا السينمائيون، ونحاول قدر الطاقة أن نستبدلها بنماذج أخرى للإنسان أروع وأقوى، فهناك تبلغ الشركات بقدرتها الفائقة على إخفاء السم في منتجاتها حدودا تصل إلى نخاع المتفرج دون أن يملك الناقد مهما نقد أن يحول بينه وبين الاستسلام الكامل المطلق لما يرى. هناك «المؤسسة» هي الأقدر والأبشع والأذكى والأخبث والأكثر قدرة على التلون والتنكر، بحيث تضع أنت الناقد نفسه وربما وأنت لا تدري تجد نفسك تصفق لعمل كان عملك أنت نفسك، ويسخر من قدرتك على الاكتشاف أنت نفسك. •••
حسن جدا، قامت غرفت السينما - المشكورة - بدورها الهام في التخوف التام من هذا القادم الصناعي الجديد، على هيئة الدفاع التام عن «الفكر» الوطني، والإشفاق على المواطن المصري من السم الزعاف الذي من الممكن أن تنفثه صناعة قتالة كصناعة السينما أو بالأصح صناعة العقول؛ قامت مشكورة بالرفض (9 ضد واحد) ثم قامت مشكورة بالتخوف، ثم قامت مشكورة بالموافقة (10 ضد لا شيء)، خافت على الفكر المصري وصرخت: احذروا الذئب القادم، ثم هكذا وبأية قدرة لا أعرف اكتشفت أن المسألة لا ذئب فيها، أو أننا كلنا ذئاب وأولاد ذئاب أو مصيرنا أن نصبح كذلك، وأن كل شيء تمام وشكرا يا سيادة الوزير على اهتمامك بصناعة السينما، والسلام عليكم ورحمة الله. هكذا قالت الغرفة، ثم من بعدها اللجنة، ثم جاء المجلس الأعلى؛ مجلس الشعب ليضع إمضاءه، وليصبح كل شيء تمام التمام. فهل كل شيء تمام التمام؟ •••
إن السيناريو كما رأيته وعايشته ضعيف جدا، ولو استحال إلى فيلم فسيسقط سقوطا بشعا ويكون كارثة على منتجيه. وكما تفعل وزارة الثقافة نفسها - رحمة بالمنتجين - فتراجع السيناريو وهو لا يزال حبرا على ورق، وتجيزه أو ترفضه أو تعدله قبل أن يصرف المنتج عليه دم قلبه ثم تصادره الرقابة، فكذلك نريد أن نفعل بموضوع السينما.
وقبل أن يغلق ملف الموافقة ليفتح ملف التنفيذ، فهناك أشياء هامة جدا لا بد من قولها.
فأولا أنا ضد كل ما قيل تجريحا في شخص الوزير ونقيب الصحفيين السابق، والكاتب الذي تابعته وتابعه معي الآلاف منذ أن كان يكتب في «المصري» ويحيا حياة الكفاف في لندن ليتعرف على أوروبا في بلادها ويثقف نفسه بنفسه وطنيا صادق الوطنية.
Bilinmeyen sayfa