وأوشك العهد الذي كتبه الخليفة العربي لبطارقة بيت المقدس أن يصبح من محفوظات السياسة ورجال الدين في منف والإسكندرية بالرواية المتواترة، وعلموا أن الخليفة حضرته الصلاة وهو في صحن الكنيسة الكبرى ببيت المقدس، فخرج منها وصلى على درجها منفردا؛ لئلا يطلبها المسلمون ذكرى لصلاة الخليفة عليها، وأنه كتب في عهده أنه أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم: لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ومن خرج من الروم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. •••
وسيرى القارئ فيما يلي كيف خاض المؤرخون في حديث المقوقس كبير مصر، وكيف تخيلوا أنه احتال للصلح بشروط غير شروط الروم من جند هرقل في الإسكندرية، وسيرى أن هؤلاء المؤرخين نساخون يتخبطون في صناعة النسخ فضلا عن التأويل والتخريج؛ لأن اتفاق المقوقس بشطريه لم يكن إلا نسخة من اتفاق بيت المقدس بين العرب وأبناء البلاد، وكانت سياسة العرب أن يتفقوا مع أبناء البلاد، ثم لا يعنيهم من أمر الدولة الحاكمة إلا أن تنجلي بجنودها حيث تشاء، فإذا قبل أبناء البلاد شرطا متفقا عليه لم يكربهم أن يقبله الروم، ولم يأبوا عليهم الخروج إلى ديارهم آمنين مع من يتبعهم من رعاياهم المتعلقين بهم في موقف الرحيل.
الفصل السادس
المقوقس
نعرض الآن ببعض التفصيل لسيرة المقوقس وهو - كما تقدم - من أكبر الشخوص الخلافية في تاريخ مصر، ويندر أن توجد في تاريخ العالم كله سيرة خلافية من هذا القبيل.
وشطر من اللوم في ذلك على المؤرخين الناسخين، وشطر آخر من اللوم على المؤرخين الذين يدخلون أهواءهم الحديثة في مسائل التاريخ الخالية، ويكتبون بخصومات اليوم وأغراضه في شئون لم يكن فيها محل قط لتلك الخصومات والأغراض!
وقد كان تاريخ المقوقس مبهما كتواريخ حكام الرومان في البلاد التي فتحها العرب من فلسطين إلى إفريقية الشمالية؛ لأن أحوال الدولة الرومانية البيزنطية كانت في ذلك العصر مبهمة متقلبة، يتولاها الإمبراطور اليوم، فيولي ويعزل ويقرب ويبعد، ويغير المناصب وأصحابها، ولا يستقر على عرشه حتى يثور عليه طامع في الملك يهدم كل ما أقامه من أركان ملكه، وقد يبقي أناسا من أصحاب المناصب كانوا معه سرا أيام ثروته، وقد ينكل بأناس كان يداريهم ويداورهم إلى أن يتمكن منهم، وقد تنظم الدولة وتجري حوادثها على وتيرة معقولة بضع سنوات، ولكنها تصل إلى التاريخ في عصر قد اضطرب فيه التاريخ والمؤرخون، وحالت فيه الأهواء والمنازعات دون ذكر الحقائق والتبعات، فيقع اللوم على غير أهله، ويبذل الثناء لمن لا يستحقه، وتمسخ الأخبار والحوادث مسخا لمجاراة المآرب والشهوات!
وتاريخ المقوقس كان عرضة للمسخ والإبهام في جميع هذه الجوانب: كان عرضة للمسخ والإبهام من جانب المؤرخين النساخين، وعرضة للمسخ والإبهام من مؤرخي العصور الحديثة الذين نظروا إلى أيام الفتح العربي كأنهم ينظرون إلى فتح يحدث في هذه الأيام، ثم كان قبل ذلك جميعه عرضة للمسخ من تقلقل الأحداث وتغير الدول والحكومات والأحزاب الدينية والسياسية، ويكفي منها اغتيال إمبراطور وجنون إمبراطور بعده، ودخول مصر في حوزة الفرس وخروجها منها، وتنازع الكنائس على العبادات تنازعا قد استعصى على كل توفيق، فمن دان بمذهب فخصوم ذلك المذهب عنده كفرة مشركون ولا توسط بين الطرفين؛ لأن الخصومة تشمل عقيدة الدين وعصبية الجنس ومطامع السيادة والسياسة، وتطرأ في إبانها غارات من الخارج وثورات من الداخل لا تؤذن في حينها باستقرار!
لهذا اختلف المؤرخون على كل شيء يتعلق بالمقوقس حتى كادوا أن ينكروه!
اختلفوا على اسمه واختلفوا على جنسه، واختلفوا على منصبه، فضلا عن الاختلاف على مقاصده وأغراضه!
Bilinmeyen sayfa