121

قال ثالث: لو كانت مجنونة لتساوى في مرأى عينيها الشيوخ والشباب، وإنما هي مفتونة!

قال رابع: إن من حقها أن يفتنها جمال الشباب، فإن في وجهها أمارات تنبئ أنها كانت ذات يوم شابة فاتنة!

وكانت نوركلدي منهم بحيث تسمع وترى، وعرفت لأول مرة بماذا يتحدث عنها أهل تلك المدينة ... أفذلك رأي الناس عنها وتلك أحاديث الشيوخ والشباب، فقد عرفت إذن لماذا ترف هذه البسمات على شفاه الناس حين يرونها!

وازدحمت في رأسها ذكريات بضعة وعشرين عاما مرت بها بطيئة متثاقلة، تتعاقب فيها على نفسها ألوان من الهم والأسى لم يخطر مثلها على قلب بشر، واحتشدت في مرأى عينيها صور ذلك الماضي الحافل بالآلام وأوجاع النفس، وما احتملت من مشقات الحياة راضية في سبيل ما تنشد من أمل، وضاق صدرها عن ذلك القلب الذي يختنق بذكريات الماضي وأماني المستقبل، فكأنما رفرف بين ضلوعها بجناحي طائر، وهم أن يثب ليخرج من قفصه إلى فضاء الله، ثم ارتد من عجز كسير الجناح ... وهوت العجوز الشابة على الطريق ليس لها وعي ولا حراك!

وأسرع إليها الفتيان ينظرون ما بها واستداروا حولها حلقة، ثم حملوها جسدا ساكنا إلى دار قريبة وراحوا يعالجونها بالعطر والبخور، ويذكرون في أذنيها اسم الله ...

وأفاقت ودارت بعينيها فيما حولها ثم أطرقت ... ومضت ساعات قبل أن تجد في نفسها القوة؛ لتعود إلى الدار التي اتخذتها مأوى في هذه المدينة التي ليس لها فيها حبيب ولا نسيب.

وصحبها على الطريق شيخ من شيوخ المماليك إلى حيث تذهب، وكان اسم ذلك الشيخ: جاني باي! - إذن فأنت جاني باي صاحب الأمير خاير بك؟ - نعم يا سيدتي! - وكنت تعرف رجلا من تجار المماليك في بطانة قايتباي اسمه جقمق؟ - نعم يا سيدتي، وقد كان - رحمه الله - أخي وجاري!

وبلعت المرأة ريقها وهمت أن تسأله سؤالا آخر ثم أمسكت، لقد عاودها الأمل في لقاء طومان باي، وإنها بهذا الأمل لسعيدة ، وإنها مع ذلك لخائفة، تخشى أن تذهب سعادتها هذه الطارئة لو سألته فأجاب ... فيردها جوابه ذاك إلى اليأس والعذاب!

قال جاني باي وقد ضاق بذلك الصمت: ولكن ما شأنك يا سيدتي وشأن جقمق؟

فعادت المرأة إلى نفسها وقالت باسمة: ذلك ماض بعيد، فهل تذكر أن جقمق قد باعك ذات مرة في حلب فتاة جركسية اسمها مصرباي، فرحلت بها في قافلتك إلى القاهرة؟ - نعم، أذكر ذلك يا سيدتي، وكيف أنسى خوند مصرباي أرملة الناصر بن قايتباي، وزوجة الظاهر قنصوه، وصديقة أمير حلب خاير بك؟

Bilinmeyen sayfa