الأول:
أن نغفل ذكرها إغفالا حتى وإن كانت عنوانا قيما ليقظتنا الفكرية، وخطوة واسعة تستدعي الإعجاب والاغتباط. ولا يبرر هذا الإغفال حتى ولا الاعتذار بأن الجمهور يتطلب الآن موضوعات معينة لا يرضيه سواها؛ لأن هذا الجمهور المتهم هو هو الذي يبتاعها ويستهلك طبعاتها، فكيف يجد متسعا من الوقت لمطالعة كتاب بكليته ويضيق وقته وصبره دون قراءة سطر عنه؟
النوع الثاني:
هو إما مرقة دهنية لزجة مزجت فيها مواد الثناء والمدح والإطراء يطلى بها ذكر الكتاب، دع عنك كونه صائبا أو غير صائب، وإما تقريظ بالاستعارات المألوفة التي لم تعد تعني شيئا يختم (كما تختم جميع الصلوات بآمين) بكلمات لا مفر منها مثل «حث الجمهور على اقتناء هذا السفر النفيس» أو «التمني أن يصادف هذا الكتاب الشيق النافع ما يستحقه من الرواج والانتشار».
أما النوع الثالث:
الذي أرادوا أن يطلقوا عليه اسم «النقد الحديث» فهو نقيض «التقريظ» العتيق. ويفكهني أن أتخيل أحيانا أن جميع اصطلاحات الثناء والإطراء «أضربت عن العمل» هي الأخرى لحين ما فتكأكأت في مكان واحد متماسكة متجمدة، ففاجأتها قنبلة تائهة فافرنقعت متطايرة أشظاظا ملتهبة تقمصت بفضل بعض النقدة «العصريين» قذفا وطعنا وتهجما.
ومما يؤسف له أن من هؤلاء النقدة من هو ذو مقدرة كبيرة، لو هو أنال مقدرته كل موهبة من التثقيف والصقل والملاينة والكياسة الفنية، فتذكر أن نقده ليس بالبلاغ العسكري يعلن الأحكام العرفية، ولا هو بالمنشور الأسقفي يحرم عضوا من شركة المؤمنين وشفاعة القديسين، ولا هو بأمر «المعلم» القروي (على الطراز القديم) غضب على تلميذ مسكين لم يحفظ أمثولته كما ينبغي فحظر عليه أن يأكل، أو يشرب، أو يتحرك، أو يتنفس بغير سماحه . كلا. ليس النقد بشيء من ذلك. إن هو إلا نظرة فرد معرض للخطأ في عمل فرد آخر معرض للخطأ يختلف عنه ميولا وتأثيرات وكفاءة ووراثة. وإذا كان الأدب واجبا في الخطاب الشفهي، فهو في الخطاب الكتابي أوجب. وأول مظاهر الأدب هو التهيب أمام شخصيات الناس لكونها شخصيات إنسانية فحسب، فكيف بها إذا هي بذلت مجهودا ما، وكانت ذات ميزة علمية، أو فنية وأخلاقية؟
إن ألزم مميزات الناقد هي العطف. لست أعني العطف بمعنى الإغضاء والتساهل واعتبار العيوب والنقائص حسنات وكمالات. وإنما أعني عكس التحامل والتعنت ليتهيأ له التجرد من ذاتيته تجردا موقوتا يتسنى معه الدخول في حياة المنقود شاعرا معه، متوجعا لحاجته، مراعيا عادات بيئته ومطالبها، خاضعا لجميع مؤثرات المحيط، طالبا لحين غايته من الحياة. وإلا فكيف يدعي أنه فهم المنتقد عليه؟ وإن لم يفهمه فكيف يكون رسوله إلينا؟ كيف يجرؤ امرؤ على تحويل حاجات الناس إلى حاجته، وحصر عقلياتهم في عقليته، وسجن قلوبهم في قلبه، وقياس أحوال حياتهم بمقياس حياته، ثم يأتينا بحكم يزعمه نهائيا بلا نقض ولا إبرام؟! إلا أن ذاك هو الهاجي وليس بالناقد. هو المتصلب وليس بالفنان. هو الذي يتجاهل أن النقد لا يقوم بإظهار العيوب (وجميع الناس بارعون فيه) وإنما هو إحكام التمييز والتعليل، شأن المصور في توزيع الأنوار والأظلال على ما يجب أن تكون في اللوحة الواحدة.
أعلم أن بين نقدة الفرنجة كثيرين من المتحاملين، ولكن ما يأتونه من ضروب الطعن والنهش لم يقنعني بأن العصمة في جانبهم، ولم أر في أحكامهم سوى رأيهم الخاص ليس إلا ... وهذه الصورة التي أرسم من التيمورية إنما هي نظرة فردية في طبيعتها ولا زعم لي أنها صورة مطلقة. وأتمنى أن تتنبه الرغبة في معرفتها في نفس كل من شاء مسايرتي فيدرسها معي متصفحا روحها، راسما لذاته صورة منها خصيصة. فإن الحرية الفكرية هي ما ننعم به ولله الحمد. وبها سيبقى الإنسان كبيرا نبيلا وإن كان في سواها عبدا ذليلا. •••
وقد أحصيت الأسباب العمومية لدرس الشاعرة ، ولكن لدي سببا آخر؛ وهو مقابلة معنوية جرت لي معها منذ حداثتي القصوى.
Bilinmeyen sayfa