ولم يمض يسير زمان حتى سقط ثمانية من رجال «طوس» بين قتيل وجريح، وأسر منهم ثلاثة، وأوشك الباقون أن تخونهم الأقدام وتخذلهم السواعد فيخروا حول الهودج - رايتهم - هالكين، وعندئذ سمع ضرب نفير يردد، ولم يشعر العدو الكثير العدد الفرح بالظفر، إلا ونحو مائة من ليوث الأبطال يتضاغطون عليه كما تضاغط الجبال، فلقيهم حق لقائهم حملا ووثبا وطعنا وضربا، كأنما يأبى إلا عذراء الهند يأخذها غصبا.
فعاد القتال أشد، وطال السيف وامتد، ولكن المتطوعين كانوا قد تمكنوا من أخذ الهودج ومن فيه، فسار به أربعة منهم خلف حصن حصين من ظهور إخوانهم المقاتلين، وعذراء الهند تستجير ولا مجير، وتستصرخ ولا نصير، وتصيح: حارس حارس، إلي يا حارس، أين وفاؤك؟ هذا وقته، أتخذل مولاتك وابنة مولاك وهي لم يبق لها من ملك الدنيا سواك؟ أما حارس فكان قد نفر بادئ بدء، كما هي طبيعة السباع، ثم زاده نفورا أنه كان خارج المعركة يرأرئ بحدقتيه كالمفتش عن مكان مولاته فلا يراها، فما صدق أن وصل صراخها إلى خروق المسامع، حتى طار إلى الصوت وثبا كأنه الأفعوان النافر، فرمى بكتلة جسمه الجهنمية في صدور الرجال الأربعة، فمزقها شر ممزق، ثم إنه وقف بجانب مولاته رافع الرأس بارز اللسان من شدة الخفقان، ولسان حاله يقول: هل من مزيد؟
هذا ما أصاب عذراء الهند، أما ما كان من أمر المتقاتلين، فإن استئناف القتال بينهم لم يلبث أن انجلى عن انتصار رجال «طوس» وأبطال الحرس، وقتل أكثر المتطوعين، غير أن هؤلاء لم يتقهقروا خطوة ولم ييأسوا، حتى كأن هناك سلاحا آخر. وعلى هذا السلاح كانوا يتكلون، وفي الحقيقة كان وراء صفهم كاهن، وكان كامنا يتربص ثم تبين أن السلاح قد خان، وأن الثبات أمام العدو لم يعد في الإمكان، أخرج آلة تقذف مسحوقا أبيض كريه الرائحة، فسلطها على الأعداء، فكان كل من علقت ثيابه شيئا من هذا المسحوق من القوم، يصفر لونه ويضطرب جسمه ويميل رأسه، ثم يسقط مغشيا عليه؛ فحين أبصر رجال «طوس» ذلك أخرج أحدهم صفارة فضرب بها ثلاثا فأقبل على القوم رجل جهنمي مهول، يهدر كأنه الأسد الأفريقي أو هو الغول، وكان كذلك كامنا خلف هضبة يتربص، فلما رأى ما حل برجاله وإخوانهم أبطال الحرس، أخرج من صدره شريطا طويلا من ورق أخضر، فأشعل طرفه فتصاعد منه دخان متكاثف طيب الرائحة، فكان من يتنشقه من المصابين بالمسحوق يستفيق في الحال، ثم يخف نشطا سريعا إلى القتال.
وإذ رأى الكاهن ذاك أبرز شبه مرآة صغيرة شديدة الضوء مستديرة ومد بها يده من بين الصف، ثم أدارها في وجوه المقاتلين، فكان من تأثيرها الوقتي في أعصابهم الارتعاش والارتعاد، واضطراب الأجساد ، حتى لقد كان السلاح يسقط من أيديهم فلا يملكون له من منع ولا استرداد، فلم يكن من الرجل الجهنمي إلا أنه صرخ صرخة تميد لها جبال الحديد، ويقصر عن مثلها الأسد الفتى الشديد، فزالت تلك الحالة الاضطرابية، ورجع القوم إلى حالتهم الطبيعية.
وبعد ذلك تقدم نحو الكاهن محتدا بالغضب، يقول: ما لي ولهؤلاء المساكين أعذبهم؟ فوربي الذي أعبد، لا أخذت سواك يا كاهن النفاق، ولا أخذتك إلا بنظرة، كما يؤخذ صغار السحرة. ثم نظر إليه نظرة فراح الكاهن مأخوذا مسحورا لا يملك لنفسه حسا ولا شعورا، وأسر من كان باقيا من المتطوعين، فخلا المكان للرجل الجهنمي، وحينئذ ارتجل نظرة إلى الأفلاك، ثم قال: لم يبق من النصف الأول من الليل إلا مسافة الذهاب إلى القصر، فليرجع إذن أبطال الحرس بسلام مشكورين، وليحملوا معهم أسرى المتطوعين إلا هذا الكاهن، فإن لي وله شغلا، ثم جعل رجاله قسمين، وكانوا اثني عشر، فسار ستة منهم بالهودج، قاصدين وجهة القصر، ورجع معه الباقون يسوقون أمامهم الكاهن إلى عذاب مستمر.
الفصل الرابع
الأمير في الطريق
تركنا الأمير ومؤدبه وعبده آخذين يمين السور الغربي، يسيرون في حماية السور وتحت مدارع الظلماء، آتين باب طيبة، ومنه إلى قصر النزهة بالضواحي، والآن نرجع إليهم، فنقول: كان الأمير يقول لصاحبه وهما في المسير يتحدثان: أرى يا «بنتؤر» أن في الوقت ما يكفي لنذهب فنؤدي الواجب نحو دعوتنا المقدسة، ثم ننثني فنستقبل الأميرة. قال: لعل مولاي يشير إلى الجمعية، فإنها تنعقد في هذا المساء؟ قال: نعم، إلى ذلك أشير. قال: وهب أن الوقت لم يمكنك من حضورها هذه الليلة، فإن الأحرار يعذرونك يا مولاي، وحاشاهم أن ينالوك بفكرة سوء، أو يظنوا بك إلا الخير فيما يظنون. قال: ولكني وأخي لم نعودهم التقصير من قبل. ولا أحب أن نعتاده معهم، فالنفس مع العادة بنت مرة. قال: ذلك أحب إلي يا مولاي، بل أنت إن فعلت زدت مكانة في نفوس القوم إلى مكانتك، وأصبحت منزلتك في القلوب منازل. قال: ولكن الوقت إن سامح بالذهاب إلى الجمعية، فهو لا يحتمل لنا أن نرجع إلى المدينة فنغير خيلنا ولباسنا. فما العمل إذن؟ وماذا ترى؟ قال: لا يفكر مولاي ولا يضجر؛ فإن «رادريس» لا يفوته في أمر الحزب صغيرة ولا كبيرة، وهو لا شك عالم أن الجمعية تلتئم في هذا المساء، فلا يقصر عن المبادرة إلينا بما نحتاج من خيل ولباس. قال: هذا إن وجد سعة في الوقت، وما أظنه واجدا. قال: بل سيجد يا مولاي؛ إذ حيث الأمر كما قدمت لك، يتناول مصلحة الحزب ويهم الأحرار. و«رادريس» هو ذلك الغيور، ألم يكن القائل للملك إذ هو في مقابلاته الرسمية إذ تحيط به حاشيته ووزراؤه:
أيها الملك
إن عفريت الحبشة ومدوخ أفريقيا لا يقبل أن يتقدم عليه صغار أولاد الكهنة في شرف الدخول عليك للتبريك، حتى نشأ عن ذلك تركه الأمور واعتزاله الخدمة حولين كاملين (مخلع البسيط):
Bilinmeyen sayfa