الفصل الثالث
ما كان يجري في طريق الخفاء
كان الفصل نيلا، والليل خفيفا ثقيلا، جفيفا بليلا، صدئا ثقيلا، لا قصيرا ولا طويلا، وكان الليل في طفولته الأولى لا ينفع الضال، ولا يغني عن الساري فتيلا، والأرض يبدو عليها الزرع، ويتخللها الماء، فهي سوداء للناظر خضراء حمراء، وكان على الجانب المهجور من الصحراء، وهو المعروف بطريق الخفاء نحو عشرين فارسا من الخفاف الأقوياء متوسدين الثرى ينتظرون على الظلماء، وخيلهم على البعد بعضها رابض يجذب بالغبراء، ومنها الناهض المنيف بأنفه في السماء، وبين الخيل والفوارس، هودج معمور بربته آنس، وهي فتاة حلوة المحيا في مجموعة نضرة القوام الرشيق، سوداء العينين بقليل ضيق (الطويل):
إذا برزت أبدى النهار قميصها
يغير به شمس الضحى فتغار
وإن نهضت للمشي ود قوامها
نساء طوال حولها وقصار
وهي قد جلست خلف الهودج مطرقة أسيفة. تنظر تارة إلى السماء كالضارعة وطورا تنظر في يدها اللطيفة، وكان لدى الفتاة هنالك نمر بديع في شكله، عزيز في نوعه، وقد ربض بجنبها آنسا بها، مطمئنا بقربها، وحدقتاه الحمراوان لا تشتغلان لحظة عن شخصها الفتان، ولسان حاله يخاطبها بهذا المقال:
أنا يا مولاتي الخدم والحشم، وأنا الوطن والأهل والنعم، وأنا سيوف أبيك المجردة تحميك، وستبدي لك خطوب الزمان كيف يخلص ويفي الحيوان.
فبينما الفرسان في السمر ينتظرون على المكان، وكان الليل قد ذهب ثلثه الأول أو كاد، لم يدروا إلا بخيل تنهال من كل جانب، وتحوش عليهم السبل والمذاهب، فنفروا عن مجلسهم منذعرين ثائرين، كما أطلقت إبلا صعابا أو هيجت آسادا غضابا، يصيح بعضهم ببعض: إنهم يا قوم متطوعة المعبد، هاجمونا ليخطفوا عذراء الهند. فويل لنا من «طوس» إن هي أخذت منا! وما هو إلا كلمح البصر حتى تلاقى الرجال واشتبك القتال، وزاد اختلاف السلاح في الأهوال، فضربا بالسيوف، ورميا بالنبال، ونزلا بالبلط الثقال، وحملا بالمزاريق الدقاق الطوال.
Bilinmeyen sayfa