62

فبادر خالد إلى تنظيم جيشه على وضع جديد، فميز المهاجرين وميز الأنصار وميز الأعراب كل بني أب على راية، وصاح بهم: أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتى.

ثم عول على الموت كما وصاه أبو بكر، فوهبت له الحياة ووهب النصر ... حمل على القوم حتى تجاوز الصفوف وجعل يخاطب مسيلمة ويعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق ومسيلمة يروغ منه، ثم نادى بشعار المسلمين: يا محمداه ... ودعا إلى المبارزة وهو يصول ذات اليمين وذات الشمال ولا من يثبت له في مجال، ولم يبال أن ينظر إلى ما وراءه؛ لأنه ترك كل شيء في تلك الساعة إلا أن يتقدم أمامه، ولم يزد على أن قال لجيرته أو من نسميهم اليوم أركان حربه: «لا أوتين من خلفي» ومضى إلى تقدم بغير رجوع، إلا رجوع ظافر مختار.

وظهرت في مقام الهول فضيلة الصناديد من كبار الصحابة، فحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو يحمل لواء الأنصار بعد ما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتا حتى قتل في مكانه.

وصاح زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدما. ثم أقسم: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكمله بحجتي. فكانت آخر ما فاه به في ذلك اليوم.

وحمى البراء بن معرور وأخذته العرواء التي كانت تأخذه حين تتعالى الوغى ويحتدم القتال، فكان كأنما يبحث عن الموت ويهرب من الحياة ...

وتجاوبت الساحة بأصوات الأبطال يوصون بعضهم بعضا، وينظر بعضهم إلى بعض وهم ينقضون على أعدائهم ويتنادون بينهم: يا أصحاب سورة البقرة ... يا أنصار الله ... كما ناداهم النبي - عليه السلام - في يوم حنين. فاستحى كل منادى منظور المكان منهم في ذلك المشهد العظيم أن ينكص على عقبيه، ولم ير منهم إلا قتيل في موضعه أو زاحف إلى الأمام.

وما هي إلا سويعات حتى انكشف أصحاب مسيلمة منكسرين، وهرول مسيلمة نفسه إلى حديقة مسورة من ورائه ... وقد سميت في ذلك اليوم بحديقة الموت؛ لكثرة من قتل في طريقها وكثرة من قتل فيها، ولاحت من البراء نظرة إلى جانب الباب فإذا هم قد أوشكوا أن يغلقوه عليهم، فصاح بإخوانه: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم من فوق سورها، فاحتملوه فوق الحجف،

6

ورفعوها بالرماح حتى بلغت أعلى السور فسقط منه على القوم بعد تردد، ولم يزل يعالج باب الحديقة حتى فتحه، وقد تواثب أفراد من المسلمين إلى جانبه فأعانوه.

وقتل في هذه الهجمة مسيلمة، كما قتل محكم بن الطفيل أكبر أعوانه ومشيريه، فاضطرب بنو حنيفة ووقعوا في الحيرة وهم في هزيمة لا يشار فيها برأي، ولا يصغى فيها إلى مشير، فشغلوا عن باب الحديقة وأعين المسلمون على اقتحامه من داخلها وخارجها. فحق لتلك الحديقة في ذلك اليوم أن تسمى حديقة الموت؛ لأنها اشتملت في يومها على ألوف من القتلى، وبلغ عدد القتلى جميعا في ذلك اليوم بين ساحة القتال وحديقة الموت عشرات الألوف، أقلهم في تقدير المقدرين عشرة آلاف من بني حنيفة وستمائة من المسلمين، وأكثرهم في تقدير المقدرين يرتفعون إلى سبعين ألفا أو ثمانين ألفا حنفيين وألفين مسلمين وهو رقم لا يدل على نبأ صحيح ولكنه يدل على هول صحيح سرى في الأنفاق من أنباء تلك المعركة التي ذهبت فيها نخبة من أجل الصحابة وأفقه الفقهاء ... ومن جراء مقتلهم في هذه المعركة أمر الخلفاء بجمع القرآن في المصحف بعد أن فني الكثيرون من حافظيه، وخيف أن يفنى آخرون.

Bilinmeyen sayfa