1 - البادية والحرب
2 - قريش ومخزوم
3 - نشأة خالد
4 - إسلامه
5 - مع النبي صلى الله عليه وسلم
6 - حروب الردة
7 - الفتوح
8 - العزل
9 - عبقريته الحربية
10 - مفتاح شخصيته
Bilinmeyen sayfa
11 - نهاية من صنع القدر
1 - البادية والحرب
2 - قريش ومخزوم
3 - نشأة خالد
4 - إسلامه
5 - مع النبي صلى الله عليه وسلم
6 - حروب الردة
7 - الفتوح
8 - العزل
9 - عبقريته الحربية
Bilinmeyen sayfa
10 - مفتاح شخصيته
11 - نهاية من صنع القدر
عبقرية خالد
عبقرية خالد
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
البادية والحرب
كان قتيبة بن مسلم من نوابغ القادة المعدودين الذين أنجبتهم الأمة العربية في صدر الإسلام.
وكان يلي خراسان لملوك الدولة الأموية، فخرجت بها خارجة أهمته، فقيل له: «ما يهمك منهم؟ ... وجه إليهم وكيع بن أبي مسعود فإنه يكفيكهم.» فأبى، وقال: «لا ... إن وكيعا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بعدوه فلم يحترس منه، فيجد عدوه منه غرة ...»
Bilinmeyen sayfa
وهذه كلمة من كلمات القائد العربي تنبئ عن كثير؛ تنبئ عن ملكة القيادة فيه، وتنبئ عن ملكة السيادة في الأمة التي نشأ منها، واستطاعت بها أن تسوس الأمم في الحرب والسلم سياسة للنجاح وللبقاء ...
فالحق أن شروط القيادة على وفرتها وعظم التبعة فيها جميعا، ليس يوجد بينها ما هو ألزم للقائد من القدرة على سبر قوته وسبر قوة خصمه. وكل ما عدا ذلك فإنما هو ترتيب لما يصنعه بقوته، وما يتوقع من القوة التي ينازلها أن تصنعه، أو هو تنظيم للأهبة والحيطة بين الفريقين في المكان الذي يتلاقيان فيه ...
وقد كانت لهزيمة الدول أمام العرب أسباب كثيرة: منها ضعف العقيدة واختلال النظام ونقص القيادة، وانحلال الترف وتفرق الآراء، ولكن البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الدول من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل. فانتصر العرب؛ لأنهم ظنوهم لا ينتصرون ولا يعتزمون الانتصار، وكان الاستخفاف والإهمال شرا على تلك الدول المتصلفة من الاستهوال والفزع؛ بل كان الاستخفاف والإهمال سببا لانقلابهم آخر الأمر إلى استهوال يخذل المفاصل وفزع يفت في الأعضاد، فاجتمعت عليهم البليتان من سوء التقدير، ولم تنفعهم قلة المبالاة بالعدو ولا فرط المبالاة به بعد الأوان ...
كانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلا نظرة السيد المبجل إلى الغوغاء المهازيل، الذين يحتاجون إما إلى العطاء وإما إلى التأديب، وبلغ من طغيان كسرى حين جاءته الدعوة المحمدية أن بعث إلى النبي العربي بشرذمة من الجند تأتيه به في الأصفاد! ... وبلغ من طغيان جنده عامة، وخاصة أنهم كانوا يأنفون أن يقرنهم أحد بالعرب في معرض من المعارض أو غرض من الأغراض ولو للحيلة والمكيدة. فاتفق في بعض وقعات العراق أن زعيما عربيا من جيرة الفرس أقبل على القائد الفارسي مهران بن بهرام؛ ليمده بأبناء قبيلته ويعينه على خالد بن الوليد وجنده. فقال له: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا» فجاراه القائد الفارسي مجاملة وخدعة؛ ليستخلص منه أقصى العون والنجدة، وقال له: «صدقت لعمري! لأنتم أعلم بقتال العرب وأنتم مثلنا في قتال العجم ...» فغضب أتباعه لمجاملته هؤلاء القوم الذين يعينونهم ويقاتلون في صفوفهم، وسألوه «كيف تقول ما قلت لهذا الكلب؟» فلم يهدءوا عنه حتى اعتذر لهم بأنه يخدع القوم ويغرر بهم، وقال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم ... فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوكم - أي المسلمون - حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مضعفون ...»
وسخفوا في طلائع وقعة «أليس» فلم يحفلوا بجيش خالد الزاحف إليهم، وتنادوا إلى طعامهم الذي هيئوه، ولم يكلفوا أنفسهم قبل ذلك مشقة استطلاع الطريق ... ليأمنوا البغتة قبل تهيئة الطعام.
أما الروم، فكان لهم غرور كهذا الغرور في مواجهة البادية العربية، وكان قصارى ما حذروه في أول الأمر أن يغير العرب على تخومهم لينهبوا ويسلبوا، ثم يفروا بسلبهم إلى الصحراء ... فإن أوغلوا في بلاد الدولة الرومانية، فهم مأخوذون بالهبات والوعود أو مأخوذون بالكثرة المستعدة، لا يقوم لها جند قليل يوشك أن يتجرد من السلاح بالقياس إليهم، فلما جد الجد، وعرفت الدولة الرومانية من تقاتل من أولئك الجند العزل على زعمها، إذا هي تنقلب من الغفلة الشديدة إلى الفزع الشديد ...
ويبدو لنا أن المؤرخين المحدثين لم يبرءوا كل البرء من هذا الخطأ القديم.
فلا يزال الأكثرون منهم يستعظمون على العرب أن يغلبوا الفرس والروم، ويحسبون هذه الغلبة شيئا قد حصل وكان ينبغي ألا يحصل، لولا أنها فلتة لا يقاس عليها ومصادفة لا تقبل التكرار ...
وبعضهم يلتمس العلة، فيقول: «إنما هي وهن الدولتين ومصابهما بالخور والانحلال»، أو يلتمس العلة، فيقول: «إنها عقيدة المسلمين القوية وافتقار الفرس والروم إلى مثل هذه العقيدة.»
وكل أولئك تعليل ناقص من كل نواحيه ...
Bilinmeyen sayfa
فالمصادفة لا محل لها في حوادث الوجود، ولا تطرد في قتال بعد قتال، من جوف الصحراء إلى عمران العراق والشام ومصر ومشارق الأرض ومغاربها بين إفريقية والصين.
وانحلال دولة من الدول قد يفنيها ويعجزها عن النصر، ولكنه لا يقيم دولة أخرى لم تتجمع لها أسباب النهوض والتمكين.
والعقيدة قوة لا غناء عنها بقوة أخرى لمن يفقدها، ولكنها هي وحدها لا تغني عن الخبرة والاستعداد، ولا تفسر لنا اختلاف النجاح باختلاف الخطط والقواد. وقد كان المسلمون على عقيدتهم الراسخة يوم لقائهم هوازن وشيعتها بوادي حنين، فأوشكوا أن ينهزموا؛ لاعتدادهم بكثرتهم وقلة مبالاتهم بعدوهم، وأوشكت عاقبة الاستخفاف هنا أن تصيب المسلمين كما أصابت الفرس والروم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (التوبة 25).
فمهما يهرب هؤلاء المؤرخون من الحقيقة، فلا محيص لهم من الرجوع إليها لفهم الغلبة الإسلامية، أو فهم الهزيمة الفارسية والرومانية. وهذه الحقيقة هي أن المسلمين كانوا أيضا أخبر بالفنون العسكرية من أهل فارس والروم، وكانوا أقدر على تنفيذ الخطط العسكرية التي تنفعهم من قواد تينك الدولتين، وإن البادية العربية سواء في عصور الجاهلية أو صدر الإسلام لم تكن من الجهل بفن الحرب بتلك الحالة التي توهمها المؤرخون الأوربيون؛ بل معظم المؤرخين عامة ولا نحاشي
1
منهم العرب والمسلمين ... •••
فالصورة الشائعة في خيال أكثر القارئين عن البادية أن حروب الصحراء لم تكن إلا مشاجرات بالسيوف والرماح أو بالقسى والمقاليع، لا ترجع إلى نظام ولا تنهج على خطة، ولا يخلص منها فن يتعلمه المتعلم، ويتلقاه اللاحق عن السابق، وقوام أمرها شراذم من السطاة
2
والمغيرين سرعان ما تقبل حتى تدبر، وقصارى ما تعرفه من أساليب القتال أن تفر بعد الكر أو تكر بعد الفرار.
Bilinmeyen sayfa
وهذه صورة مضللة لمن يسترشد بها في اختبار قدرة البادية على الحروب الكبيرة والمناوشات الصغيرة.
فمن الخطأ «أولا» أن تستخف بالرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب الأجيال على أمثال هذه المناوشات، أو على ما نسميه اليوم حرب العصابات، حتى لو صح أنها كانت هي كل ما يعرفه أهل الصحراء من فنون القتال.
فالذي لا ريب فيه أن الصحراء قد تعاقبت فيها الأجيال على حروب العصابات التي تشترك فيها القبائل أبدا بين عادية ومعدو عليها، وأن البدوي قد عاش زمنا كما جاء في التوراة «يده على كل إنسان ويد كل إنسان عليه». فحصل من ذلك على ملكة مطبوعة يصح أن تسمى «حاسة الحرب»، أو أهبة الميدان الخالد التي لا تفارقه في ليل ولا نهار. فلا يزال حياته في حيطة المدافع واستعداد المهاجم ويقظة القلب للنضال، الذي يتعرض له بين مضطر مغتصب أو طائع مختار.
وهذه ملكة لا تحصل لأبناء المدن الذين يندبون للقتال بين آونة وأخرى، ويتدربون عليه كأنه عمل يؤدي في مكان العمل، ثم يطرح عن العاتق في سائر الأوقات.
ومن الرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب حروب العصابات أنهم يتعودون الصبر على الفرار ويملكون الجأش عند الإدبار؛ لأن الفرار عندهم حركة من الحركات المألوفة في كل وقعة يخوضون غمارها، وليست هزيمة تطيش باللب وتخلع الفؤاد وتوقع في روع صاحبها أنه ضيع الأمل، ولم يبق له من أطوار القتال غير التسليم. فهو في حالة صالحة لاستئناف القتال إن أقبل وإن أدبر، وسواء طمع في النصر أو لاذ بالنجاة، وكأنه يتأخر ليتقدم في حينها أو بعد حين، ويتحول إلى الوراء كما يتحول إلى الشمال أو اليمين؛ طوعا لأمر مقصود وجريا في عنان ممدود، ومن هنا تيسر لقواد العرب في الغزوات الكبيرة أن يلموا شمل الجيش المنهزم في سويعات معدودات، وأن يتداركوا الخذلان من حيث يعسر على الجيوش المنظمة أن تتداركه قبل زمن طويل.
ولن تخلوا العصابات المغيرة - مع طول المرانة - من علم بأصول الاستطلاع والمباغتة والتبييت والمخاتلة وحسبان الحساب للرجعة والإفلات، وهي على بساطتها أصول لا ندحة عنها في أكبر الميادين وأصغرها على السواء.
هذا إن صح أن حروب العصابات هي كل ما حذقه عرب البادية من فنون القتال في تاريخهم القديم.
وذلك غير صحيح ...
فالعرب قد عرفوا في حروبهم التي وقعت بينهم تسيير الجيوش بعشرات الألوف على اختلاف الأسلحة والأقسام، وقيل: إن جيش الغساسنة الذي حارب المنذر بن ماء السماء لم يكن يقل عن أربعين ألفا بين راجل وفارس، وكان في الجيش معا راكبو الخيل، وراكبو الإبل، وحاملو السيوف، وحاملو الرماح، والضاربون بالسهام والنبال، والضاربون بالحراب والحجارة. •••
ولقد كان الغساسنة والمناذرة أصحاب ملك قائم لا يعسر عليهم تسيير هذه الألوف المؤلفة إلى الميادين القريبة، ولكن القبائل التي لم تكن على شيء من هذا الملك كانت تسوق الألوف للقاء أمثالها، وتستعد لها بالجيوش التي تساوي في عددها بعض جيوش القتال في عصرنا الحديث، فاستعدت مذحج لقتال تميم يوم الكلاب الثاني بثمانية آلاف، وجرى بين الفريقين من حيل الاستطلاع والمراوغة والهجوم والمطاردة ما هو محتو لكل عناصر الكفاح الأولي في كل زمان.
Bilinmeyen sayfa
على أن البادية لم يفتها قط علم الحرب، كما علمته دول الحضارة في عصور الجاهلية العربية، فكانت غسان على مقربة من الروم تدخل معهم في الفرق المتطوعة على حالي الدفاع والهجوم، وكان ملوك الحيرة على مقربة من الفرس يخدمهم أحيانا كتيبتان من الجيش الفارسي، هما الشهباء والدوسر أو «الدوشير» بمعنى الأسدين شعار الدولة الفارسية. وكان جند الشهباء من أبناء فارس وجند الدوسر من أبناء القبائل العربية، وليس يحتاج العربي إلى أكثر من هذه المقاربة وهذه القدوة؛ لالتقاط الفنون التي يحتاج إليها في تعبئة الجيوش وللفطنة إلى المخاوف التي يتقيها في مواجهة التعبئة النظامية من جانب دول الحضارة .
وقد تبين هذا فعلا في وقعة ذي قار التي تغلب فيها العرب على الدولة الفارسية، فإن العرب كانوا في تلك الواقعة أبرع قيادة وأخبر بفنون الزحف والتعبئة من قادة الجيوش النظامية، لم يغفلوا قط عن حيطة واجبة أو حيلة نافعة قبل اشتباكهم بالجيوش الفارسية؛ بعثوا الطلائع وبثوا العيون وقسموا جموعهم إلى ميمنة تولاها بنو عجل، وميسرة تولاها بنو شيبان وقلب تولته بطون من بكر عليهم رئيسهم القدير هانئ بن مسعود، وأنفذوا إلى قبائل العرب الذين في جيش الفرس رسلا يثيرون نخوتهم ويغرونهم بالتخلي عن أصحابهم حين يجد الجد ويلتحم الجيشان، فوافقتهم إياد وبرت بوعدها فولت من الميدان في أحرج الأوقات ... •••
ولما أصبح يوم الوقعة الحاسمة أقبل الفرس ومعهم الأفيال والفرق المدرعة، فلم يرع قادة العرب ما شاهدوا من ذلك الجيش الزاخر وتلك العدة الوافية؛ بل تشاوروا في أمرهم وعقدوا بينهم ما يشبه «مجلس الحرب» في اصطلاح هذه الأيام. فقال ربيعة بن غزالة السكوني: «لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها، ولكن تكردسوا كراديس، فإذا أقبلوا على كردوس شد الآخر». وقال حنطة بن ثعلبة: «إن النشاب الذي مع الأعاجم يفرقكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم، فعاجلوهم اللقاء، وابدءوهم بالشدة». وقال يزيد بن حمار: «أكمنوا لهم كمينا»، ففعلوا وأكمنوه في موضع يقال له الخبيء، وأوصوه أن يظهر حين يشتد القتال بين العسكرين، وتفر قبيلة إياد من صفوف الأعاجم، فيكون فرار أنصارهم وإقبال المدد إلى خصومهم مع احتدام القتال ضربتين متداركتين، لا يقوون بعدهما على الثبات.
ولم يغفلوا عن حمية الجند والفرسان يلهبونها للمجازفة بالحياة والأنفة من طلب النجاة، وهو ما نسميه اليوم بالروح المعنوية، فعمد حنطة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته - أي حزامها - فقطعه، وتتبع رواحل النساء فقطع وضنها جميعا فسقطت على الأرض، وصاح بقومه: «ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته ...» وراح السيافون يقطعون أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وتسابق الخطباء والشعراء في التذمير والتحريض فذهبوا جميعا يرددون قول قائلهم: «المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره.»
وتبارز بعض الفرسان من العسكرين، ثم التحم الفريقان وحمي الوطيس، وظهر الكمين في أوانه وولت إياد، فتبعها فريق ممن كسرت قلوبهم هذه الصدمة التي فوجئوا بها على غير رقبة، وأطبق الكمين على قلب الجيش ومعه كوكب الجيش العربي كله فحقت الهزيمة العاجلة على أقوى الجيشين، وكتب النصر لأولى الفريقين به في ميزان الفن العسكري الذي يشمل جميع المرجحات، ما عدا المرجح المادي دون غيره، وهو العدد والسلاح.
إذ الحقيقة أن غلبة العرب في يوم ذي قار إنما كانت غلبة لليقظة على الغفلة، وللكفاية على العجز، وللخفة على الفخامة، وللفن الحربي الصحيح على النظم التقليدية التي لا تصرف فيها، وللعزة المشكورة على الكبرياء المذمومة، وكان العرب خلقاء أن ينتصروا بكل وسيلة من وسائل النصر في الحروب القديمة والحروب الحديثة، إلا تفوق الفرس في بعض العدد التي لم ينفعهم تفوقهم فيها عند التحام الصفوف.
وليس في وسع عالم من علماء الحرب في زماننا هذا أن يأخذ عليهم خللا في خطتهم لم يلتفتوا إليه، أو يحصي عليهم وجها من وجوه التدبير قصروا فيه؛ لأن وجوه التدبير كلها فضول بعد أن تستقيم للمقاتل: (1) أهبة الاستطلاع. (2) رسم الخطة. (3) تنظيم الجيش في مواقفه. (4) تنظيم الجيش في حركاته. (5) إذكاء العزيمة في نفوسه. (6) إضعاف العزيمة في نفوس خصومه ... وهذه كلها هي صفوة لباب الحرب في العصر الحاضر وفي العصور الغابرة، وفي جميع العصور إلى آخر الزمان.
ويبدو لنا أن مزية الفرس والروم في أنواع الأسلحة والعدد كانت مزية مبالغا فيها على الأقل في ميادين الاشتباك والالتحام، إذا صح أن لها الرجحان في مواقف الحصار ومواقف الحرب من بعيد؛ لأننا عرفنا من أخبار الحروب الماضية أن بعض الفرسان البواسل كانوا يترجلون ليحكموا الضرب والحركة، وكانوا يخلعون عنهم شكتهم تبرما بها وتخففا من ثقلها ولا سيما في أيام القيظ أو في المواضع الوعرة التي تصعب فيها حركة المدرعين في الشكة السابغة، وكان بعض الضباط من النبلاء يستصحبون خدما لهم؛ ليحملوا لهم شكتهم إلى حين الحاجة إليها، وجاء في كتاب فيجتيوس
Végétius
إنجيل الحرب عند الرومان الأقدمين أن الجنود كانوا يضيقون ذرعا بالدروع المعدنية ويستثقلونها ويودون لو يطرحونها ويتاح لهم العمل بغيرها، ولم تكن لهم حاجة بها إلا حين يرادون على الاقتراب من مواقع السهام والنبال والحراب الطويلة، لأداء عمل من الأعمال.
Bilinmeyen sayfa
وعندنا أن العرب قد كسبوا الطريقتين معا بنشأتهم في البادية واقترابهم من دول الحضارة، ونعني بهما طريقة العصابات وطريقة الجيوش في إدارة الحروب.
فهم قد برعوا في حرب العصابات بالمرانة الطويلة، ثم اقتبسوا ما لزمهم أن يقتبسوه من فنون الحرب عند الدول الكبرى على أيامهم، فلم يخسروا بذلك إحدى الطريقتين بل جمعوا بينهما واستفادوا بما تفيده كل منهما في موضعها، فأضافوا سرعة العمل في طريقة العصابات على إحكام التنظيم في طريقة الجيوش ... وكانوا يقاتلون بفنين متساندين، يأخذون منهما ما يأخذون ويدعون منهما ما يدعون، حيث كان الفرس أو الروم يتقيدون بفن واحد على التراث المحفوظ الذي لا يحسنون التجديد فيه ...
ومن المحقق أن قبائل العرب التي أقامت في الحواضر كانت على الزمن تتلقى النصيب الأوفى من كلتا الطريقتين، إما بالقدوة والتلقين أو بالتعليم المقصود، ولا سيما قبائل قريش التي كانت تقيم في عاصمة العواصم العربية من الوجهة الأدبية والثقافية، وكانت تجمع كل ما تفرق بين أبناء الجزيرة من المزايا والمعارف والصفات؛ لأنها أخذت نفسها بآداب الرئاسة المدنية والبدوية التي يدين بها جميع هؤلاء.
فالتاريخ الصادق يتقاضانا أن نعرف هذه الحقيقة؛ لنعرف موقع العدل والإنصاف من حكم الزمن بين الأمم الكبيرة التي تنازعت السيادة بعد ظهور النهضة العربية. •••
فالنهضة العربية لم يكتب لها النصر؛ لأن الفرس والروم كانوا يستحقون الهزيمة وكفى، بل هي قد انتصرت؛ لأنها كانت تستحق النصر بأسبابه التي لا مصادفة فيها ولا محاباة، ولا محل لفلتة نادرة لا تقبل التكرار ...
وإنما كانت أسباب النصر عند العرب ناقصة، فتمت في أوانها فغلبوا بوسائل الغلبة جميعها.
كانوا متفرقين بغير باعث إلى الوحدة والنهوض، فجاءتهم الدعوة الإسلامية تجمع شتاتهم وتبعث كرامتهم وتنطلق بهم في سبيلهم. فتم لهم ما نقص وتهيأت لهم ذرائع النصر في شرعة الأرض والسماء، وعلم النبي - عليه السلام - بيوم «ذي قار» وهو يدعو العرب إلى دين التوحيد، فرأى فيه بوادر نصر العرب على العجم، وأيقن أنه يوم تتلوه أيام، وأنه مسمع بدعوته الأمم جميعا عما قريب.
الفصل الثاني
قريش ومخزوم
كانت قريش موئل الثقافة من أنحاء الجزيرة كلها بين حاضرة وبادية، ومن قديم عصورها إلى حديثها.
Bilinmeyen sayfa
لأنها كانت وسطا بين الحضارة والبداوة، وكانت تقيم في عاصمة الحجاز وإلى جوار الكعبة التي يحج إليها العرب، تبركا بحرمتها ولياذا بأصنامها، ويحملون إلى أسواقها أزواد الأدب والشعر والحكمة، كما يحملون إليها أزواد القوت وسلع التجارة.
وكانت قريش تنتقل إلى بلاد العرب كما ينتقل العرب إليها من بلادهم، فكان لها رحلتان في الشتاء والصيف؛ إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام، وكانت تضيف إلى ما تعلمه بالسماع والرواية علم المشاهدة والمراس، حيثما نزلت في طريقها من ديار العرب أو من ديار الروم والحبشة، وسائر الأمم الأعجمية كما كانت تسميها.
والعرب من دأبهم حفظ السير ورواية الأحاديث والتنقيب عن الأخبار والطوايا؛ لأن الاستطلاع من طبيعة سكان الصحاري، وتتوقف سلامتهم أحيانا على خبر يعلمونه في أوانه، كما تستهدف أرواحهم أحيانا للخطر العظيم من جراء طارئ داهم تفوتهم الحيطة له في حينه، ولم يزل أبناء القبائل على ولعهم المأثور بالسير والأخبار لغير هذه الضرورة التي يدعوهم إليها حب الأمن والسلامة. فهم غيورون على تراث الآباء والأجداد تفاخرا بالنسب العريق، وتصحيحا للعلاقات، وتمييزا للأقربين والبعداء ...
ومع هذا الولع الأصيل في الطبيعة العربية باستقصاء الخبر، يصعب على الذهن أن يتخيل أن قريشا تجهل شأنا من شئون الثقافة العربية، وهي تقيم في مثابة الجزيرة كلها وتسهر على عاصمة العرب، وتجوب أنحاء هذا الوطن الكبير من شماله إلى جنوبه ومن جنوبه إلى شماله، وتتابع العصور حقبة بعد حقبة وهي في مرقبها الذي تطل منه كل ما يعنيها ...
فقلما غاب عنها علم عربي وصل إليه أبناء الحواضر والبوادي باجتهادهم واختبارهم، أو وصلوا إليه بالقدوة والسماع عن الأمم الأجنبية.
وقلما خفي عنها فن من فنون ثقافة العرب في مصالح السلم والحرب، أو معارض السياسة والشئون الاجتماعية.
ونظن أن خطأ المؤرخين في تقدير معارف العرب السياسية لا يقل عن خطئهم في تقدير معارفهم الحربية، وقد كانت كما رأينا كفؤا لحضارة الدولة الفارسية وتجارب قوادها وأساورتها.
وكذلك كانت لهم في السياسة والنظم الحكومية خبرة لا يستخف بها من ينفذ إلى بواطنها، فهي لا تبلغ أن تكون فلسفة مشروحة ومذاهب مفصلة على مثال النظم العصرية، ولكنها كذلك لا تنزل إلى الفوضى، ولا إلى الغريزة الهمجية التي لا مساك لها ولا تدبير فيها.
وأوجز ما يقال عن خبرتهم بالنظم الحكومية أن العالم القديم لم يعرف قط نظاما من أنظمة الحكم إلا كان للعرب نموذج منه يوافق مصالحهم وعقائدهم، ويجري على عاداتهم وخلائقهم.
عرفوا نظام الإمارة التي ينفرد فيها الأمير برأيه ويستأثر فيها بشريعته وقضائه.
Bilinmeyen sayfa
وعرفوا نظام الإمارة التي يتولى فيها الحكم نائب عن الأمير يفصل في قضايا الرعية بمعونة ذوي الرأي منها «إلا أن يكون غزو أو قتال»، فهو باسم الملك دون غيره، وهو النظام الذي جرى عليه أهل الحيرة زمنا مع ملكهم المنذر ونائبه زيد بن حماد من بني أيوب.
وعرفوا نظام الإمارة التي يختار أميرها من أمة أخرى كما تنتقل الأسر الأوروبية اليوم من مواطنها إلى الموطن الذي تحكمه بالمصاهرة أو بالاتفاق بين الدولتين. وعلى هذه السنة، اجتمع البكريون حين غلبهم سفهاؤهم وأكل قويهم ضعيفهم، فقال شيوخهم: «لا نستطيع دفع ذلك إلا أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير؛ فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، ولكنا نأتي تبعا فيختار لنا». فقصدوه فملك عليهم حجرا أمير كندة، وهو أبو امرئ القيس الشاعر المشهور.
وعرفوا الحمايات على أنواعها؛ حماية الإمارة التي تستعين بجيش أجنبي، وحماية الإمارة التي تعتمد على جيشها، وحماية الإمارة التي تدين لدولة واحدة، أو تدين لدولتين. كما حدث ذلك في ملك اليمن بين الحبشة وفارس وسادات البلاد.
وعرفوا رئاسة القبائل المنفردة ورئاسة القبائل المجتمعة إلى نسب واحد، ورئاسة الرحل الذين يرعون الإبل والشاء، ورئاسة أهل المدر الذين يغرسون المروج والبساتين ويزاولون التجارة من موسم إلى موسم ... •••
وكانت قريش تسمع بهذه النظم وتشاهدها في مواضعها وتقتبس منها ما هي في حاجة إليه. ولكنها لم تأخذ بنظام الإمارة؛ لأن التنافس بين بطونها يمنعها أن تتفق على ملك من إحداها، ولم تتعرض لنظام الحماية؛ لأنها بنجوة من سلطان الدول الأجنبية، ولم يوافقها نظام أهل الوبر ولا نظام أهل المدر؛ لأنها كانت وسطا بين الحضارة والبداوة كما قدمنا، وكانت ترعى مصالحها ومصالح الوفود التي تقبل إليها حاجة أو متجرة وليست هي من عشائرها التي تقبل منها حكم الشيخ في قبيلته على أية صفة من صفاتها.
فاختارت لها نظاما فريدا يوفق بين هذه الأطوار الاجتماعية المختلفة فيها، ولعله أشبه النظم بنظام المشيخة بين الرومان الأقدمين، وإنما يئول الرأي الأخير فيه إلى مجلس يجتمع من رؤساء كل بطن في القبيلة، ويوشك أن يكون أمره شورى أو على صورة الشورى التي ترضى بالمجاملة وإن لم يكن فيها رضا بالحقيقة؛ إذ الحقيقة أن المرجع الأخير إلى أقوى الأقوياء من أولئك الزعماء، كلما حزب الأمر وتشعبت الآراء ...
ومن زكانة الحكم عندهم أنهم فهموا مناط الرئاسة القرشية التي يدين بها حجاج البيت الحرام وقصاد مكة من الحضر والبادية، وهي الدين واللغة والتجارة المشتركة.
فحفظوا مناسك الكعبة، وجعلوا أسواقهم معرضا للبلاغة الشعرية والخطب المروية، وتعاهدوا على ضمان الثقة بالتجارة كلما غدر غادر بذمتها، أو اعتدى معتد على حقوقها. •••
واحتالوا على التوفيق بينهم بتقسيم المفاخر والمراسم على بطونهم وزعمائهم حسب أقدارهم ومزاياهم، فانتهى الشرف إلى عشرة بطون هم: هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، فكانت لهاشم سقاية الحاج، وكانت لأمية راية الحرب يخرجها عند القتال ليسلموها إلى قائدهم المختار، وكانت لنوفل الرفادة وهي إعانة الحجاج المنقطعين بالمال، وكانت لعبد الدار السدانة والحجابة واللواء، وكانت لبني أسد المشورة أو رئاسة مجلس الشورى في مهمات الأمور، وكانت لبني تيم الديات والمغارم، وكانت لبني مخزوم القبة وهي مجتمع الجيش والأعنة وهي قيادة الفرسان، وكانت لبني عدي السفارة، ولبني جمح الأيسار أو الأزلام، ولبني سهم الحكومة والأموال المحجرة، وظلوا يتولونها جيلا بعد جيل إلى ظهور الإسلام.
ولم يكن لهذه «الوظائف» الموزعة شأن واحد في جميع الأوقات والأحوال؛ بل كانت تعلو وتهبط على حسب الزعيم الذي يتولاها، وعلى حسب القوة التي يكون عليها بيته عند ولايته إياها، ولكننا إذا نظرنا إليها مجملة وجدنا منها ما كان يقصد به «جبر الخاطر» والإرضاء.
Bilinmeyen sayfa
وما كان يشبه الوظائف الشورية أو الإدارية الثانوية في حكوماتنا الحاضرة، ولم تجد بينها «سلطات» فعالة خليقة أن تتعاقب مع الزمن غير ثلاث متفرقات، وهي السلطة الروحية لهاشم وعبد الدار، والسلطة السياسية لأمية، والسلطة العسكرية لمخزوم.
من بني مخزوم هؤلاء نشأ خالد بن الوليد - بطل هذا الكتاب - وكانت نشأته في أعرق بيوتها وأعلاها وأشرفها وأغناها، فلم يكن من أبوته أو عمومته إلا رئيس ابن رئيس لا تعلو مكانته مكانة أحد من رؤساء الجاهلية ...
كان جده المغيرة بن عبد الله، الذي كان الرجل من بني مخزوم يؤثر أن ينسب إليه، فيسمى المغيرة تشرفا بالانتساب إلى الفرع الذي أناف على الأصول ...
وكان أبوه الوليد بن المغيرة الملقب بالعدل وبالوحيد؛ لأنه كان يكسو الكعبة وحدة سنة وتكسوها قريش كلها كسوة مثلها سنة أخرى.
وكان عمه هشام قائد بني مخزوم في حرب الفجار، وبوفاته أرخت قريش كما تؤرخ بالأحداث العظام، ولم تقم سوقا بمكة ثلاثا لحزنها عليه ... •••
وكان عمه الفاكه بن المغيرة من أكرم العرب في زمانه، له بيت للضيافة يأوي إليه من شاء بغير استئذان.
وكان عمه أبو حنيفة أحد الأربعة الذين أخذوا بأطراف الرداء، وحملوا فيه الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة، كما أشار النبي - عليه السلام - قبل الدعوة الإسلامية ...
أما الذي فض النزاع بين القبائل على هذا الشرف حين أذن التنافس بينها بالشر المستطير فهو عم آخر من أعمامه، وهو أبو أمية بن المغيرة الملقب بزاد الراكب كما جاء في بعض الروايات. فقد أشار عليهم أن يكلوا الحكم إلى أول داخل من باب المسجد ليختار من بينهم من يرفع الحجر إلى مكانه، فارتضوا مشورته وتم صواب المشورة بتوفيق البشارة النبوية قبل إهلالها على العالم بسنين.
ولقب أبو أمية زاد الراكب؛ لأنه كان يكفي أصحابه في السفر مئونتهم، فلا يتزودون بزاد.
ويظهر أن بني مخزوم هؤلاء كانوا في ثروتهم وعدتهم وبأسهم أقوى البطون القرشية حين ينفرد كل بطن منها عن سائر بطونها. ولكنهم لم يستأثروا بالزعامة القرشية؛ لأنهم كانوا ينافسون بني هاشم وبني أمية وبني عبد الدار، وهم ثلاثة بطون قوية يلتقون في جد واحد أقرب من الجد الذي يجمعهم ببني مخزوم، وهو مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر جد قريش أجمعين.
Bilinmeyen sayfa
وقد تبينت رجاحتهم هذه في مواقف كثيرة قبل الإسلام وبعده، فاضطلعوا وحدهم ببناء ربع الكعبة بين الركنين الأسود واليماني، واشتركت قريش كلها في بناء بقية الأركان ...
وكان لبني مخزوم وحدهم في وقعة بدر ثلاثون فرسا من مائة فرس لقريش كلها، ومائتا بعير وأربعة أو خمسة آلاف مثقال من الذهب غير الأزواد والأمداد ...
فلا جرم يعظم على نفوسهم أن يغلبهم منافس على الشرف والعزة، وأن يحوزوا كل ما حازوه من الرجال والأموال ثم تشيل كفتهم مرجوحة في ميزان الفخار ...
ولا جرم يأخذون الأمر مأخذ الأنفة والخنزوانة بينهم وبين بني عبد مناف حين تظهر النبوة في هؤلاء ولا تظهر فيهم.
وقد أخذوها هذا المأخذ حيث قال أبو جهل: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء ... فمتى ندرك هذه؟»
وإنما قال أبو جهل «بنو عبد مناف» ذهابا إلى الجد الذي يجمع هاشما وأمية وعبد الدار، كأنه يستعلي في كبريائه أن ينافس هاشما وحدها دون أن يصعد إلى أبيها الذي يجمع بينها وبين غيرها.
وكان الوليد بن المغيرة يزعم أنه هو أحق الناس بالنبوة والقرآن ويقول: «أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها؟» ففي ذلك يقول القرآن الكريم:
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (الزخرف: 31).
ونحن نعلم الآن أي عقبة كانت هذه الخنزوانة المخزومية في طريق الإسلام إذ نرجع إلى الآيات التي نزلت في رؤسائهم ووصفت ما كان من عنادهم وعتادهم، وما كانوا يقابلون دعوة الدين الجديد بدعواهم في آبائهم وأجدادهم، فلم ينزل في رؤساء قبيلة مثل ما نزل في رؤساء هذه القبيلة، ولم تتمثل منعة قوم كما تمثلت منعتهم في ردود القرآن على أقوالهم، وهي أقوى ردود عرفت في السور المكية الأولى، على ما جاء في الآيات الكثيرة من سورة «ن» وسورة «المدثر» وسورة «الكافرون» عدا إشارات أخرى في سورة «الحجر» و«عبس وتولى». •••
وكل أولئك فحواه شيء واحد، وهو أن بني مخزوم باءوا بأسباب المحافظة على القديم جميعا حين تصدى الإسلام لتبديل ذلك القديم، فهم أول من يصاب بهذه الدعوة الجديدة وآخر من يلبيها وله مندوحة عنها، ومن ثم كانت المصاولة بين الإسلام والجاهلية في وجه من وجوهها مصاولة بين محمد - عليه السلام - وبين خالد بن الوليد الذي انتهى إليه شرف الرئاسة المخزومية في ذلك الأوان.
Bilinmeyen sayfa
والناس يختلفون في تمثيل بيئاتهم وطبقاتهم غاية الاختلاف، ويصدقون في تمثيلها غاية الصدق وهم يتفاوتون بينهم تفاوت النقيض والنقيض؛ لأن البيئة مستودع شامل يوجد فيه الحسن والرديء ويأكل كل منه على حسب مأتاه ومورده، وحسب ما هو مستعد له وقادر عليه.
فإذا قيل سيد من سادات قريش أو نموذج من نماذج القرشية الجاهلية، جاز لنا أن نتمثله على ألوان كثيرة لا على لون واحد، وجاز أن يكون هذا السيد خير السادات من طبقته أو شرهم وشر أهل زمانه من جميع الطبقات.
ولكننا مع هذا قد نحصر الخصال المشتركة والنعوت الوسطى التي تشيع في هواء هؤلاء السادات غير من تجاوزوا الحد وبلغوا الندرة في الشذوذ والاستثناء.
فالغالب على هؤلاء السادة أنهم يتوارثون الثقافة العربية ويتدارسونها بالتعليم والتلقين والمعاشرة، ويستوعبون أخبار الحكماء وذوي الأحلام في علاج المشكلات، وتدبير الحيل ومصانعة الناس والأيام.
ويكثر فيهم أن يجمعوا الثقافة السياسية والعسكرية كما وصلت إليهم من تراث الأقدمين من عرب وعجم، وبخاصة من كان منهم منوطا بعدة الحرب وقيادة القبيلة في غزواتها أو مواقف دفاعها، كما كان خالد بن الوليد. •••
ومن صفاتهم الشائعة فيهم حب السيطرة، والصرامة، وقلة الرحمة، والاستزادة من المال، ومتع الحياة، والتفاخر بالوفر، والثراء، وجمع الحطام من حيثما اجتمع بأساليبهم التي كانوا يستجيزونها ولا يتحرجون منها، وأشيعها الربا والمغالاة بالأسعار.
وقد وجد في أسرة خالد من يكثر من الإقراض بالربا، ومن يرى في أموال الربا شيئا من الدنس يقاربه في أحوال ويستبعده في أحوال أخرى.
فمات أبوه وله على قبائل مكة وأرباضها ديون تحسب بالألوف لم يزل خالد يتقاضاها حتى أسلم وأسلم المدينون، فترك الربا من بعدها واكتفى برأس المال؛ عملا بالقرآن الكريم:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (البقرة: 278، 279).
وكذلك وجد في أسرته من نزه الكعبة عن أموال الربا وما شابهها، فقال لقومه: «يا معشر قريش ... لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا؛ لا يدخل فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد».
Bilinmeyen sayfa
وكلهم قرشي جاهلي من طبقة السادة وأصحاب المال.
فحين نقول: إن خالدا كان مثال طبقته وعنوان المحافظة على مزايا هذه الطبقة يحسن بنا أن نتجه إلى تلك الخلائق الوسطى ونترقب منه نماذجها المشتركة التي لا غلو فيها من هنا أو هناك، حتى نرى دلائل الزيادة في خليقة من تلك الخلائق، فذاك إذن خاصته التي يتميز بها بين قرنائه ولا تخرجه من معهود الطبقة كلها على الإجمال.
ولا يتم الكلام على تراث بني مخزوم حتى نضيف إلى مزاياهم المختلفة مزية ملحوظة لها شأنها في كل مجتمع إنساني وليس شأنها بالقليل في حياة خالد على التخصيص.
فقد كانت هذه القبيلة - على كثرة الأقطاب بين رجالها - مشهورة بجمال النساء بين الحواضر العربية، وبقيت لها هذه الشهرة إلى ما بعد قيام الدولة العباسية، إذ كان يقال لأبي العباس السفاح: إن المخزوميات رياحين العرب، وعندك منهن يا أمير المؤمنين ريحانة الرياحين.
ولا بدع يكون هذا شان القبيلة التي نبغ منها خالد بن الوليد وعمر بن أبي ربيعة. فقديما كانت الفروسية والغزل والمرأة بيئة واحدة تتعاون فيها البطولة والشاعرية والجمال.
وصفوة هذا جميعه أن خالد بن الوليد قد دخل الإسلام بأوفى نصيب من حمية السيادة العربية في عهد الجاهلية، فصنع للإسلام وصنع الإسلام له الأعاجيب، وكان مقياس العبقرية العربية في عهدين متقابلين.
الفصل الثالث
نشأة خالد
خالد بن الوليد بن المغيرة أحد سبعة إخوة من الذكور وقيل عشرة، بل ثلاثة عشر بين ذكور وإناث، ومنهم أختان ...
وقد تقدم إجمال القول في شرف قومه ونصيب أعمامه خاصة من الرئاسة والزعامة. أما أبوه الوليد، فقد كان الرأس بين الرءوس والزعيم بين الزعماء، وكانت له في بعض نواحي خلقه وعقله لمحات تلك المواهب التي تجلت بعد ذلك في عبقرية ولده العظيم.
Bilinmeyen sayfa
كان أغنى أبناء زمانه في صنوف الثراء المعروفة بينهم كافة؛ الذهب والفضة والبساتين والكروم، والتجارة والعروض، والخدم والجواري والعبيد، وسمي من أجل ذلك بالوحيد، ولقب من أجل ذلك بريحانة قريش.
وهو الذي قال فيه القرآن الكريم من سورة المدثر (11-14):
ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا .
ويروي سفيان الثوري أنه كان يملك ألف ألف دينار، ويروي ابن عباس أنه كان يملك من الفضة تسعة آلاف مثقال.
ولكبريائه في جوده أو جوده في كبريائه، كان ينهى أن توقد نار غير ناره في منى لإطعام الحجيج.
وكان يأنف لنفسه في الجاهلية أن يرى سكران، على إباحة الخمر وشيوعها في تلك الأيام، فانتهى عنها بغير ناه، وقيل إنه قطع يد السارق على سبيل القصاص.
وقد كان من أصحاب الحيلة والحول والإقدام، ضربة من ضرباته في موقف اللبس والتردد ترينا فيه أبا خالد قبل أن يعرف العالم ضربات خالد، وذلك يوم تداعت الكعبة وأوجس المشركون أن يهدموها ليعيدوا بناءها، توقيرا لتلك الحرمة التي كانوا يقاربونها بالضراعة والخشوع ويدخلها بعضهم حفاة الأقدام ولم يقربوها قط بهدم أو عدوان، فلما رأى وسواسهم وفزعهم تناول المعول وضرب الضربة الأولى بيديه وهو يقول: «اللهم لم ترع. اللهم لا نريد إلا الخير»، ومضى في أثره الهادمون غير متهيبين.
ويؤخذ من بعض أحاديثه مع أبي جهل أنه كان من أفقه الناس لمعاني الكلام ومن أحفظهم للشعر والخطب في أيامه.
قام النبي
صلى الله عليه وسلم
Bilinmeyen sayfa
في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي
صلى الله عليه وسلم
لاستماعه أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم، فقال: «والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى ... ثم انصرف إلى منزله.»
فقالت قريش: «صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم.» فأوفدوا إليه أبا جهل يحتال لصرفه عن الإسلام إن كان قد نوى الدخول فيه، وما زال به حتى قام معه إلى مجلس قومه، فقال لهم: «تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه تكهن قط؟ تزعمون أنه شاعر وما فيكم أحد أعلم بالشعر مني، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟»
يسألهم ويجيبونه: «كلا»، في كل سؤال.
حتى أعياهم أن يردوا كلامه، فسألوه رأيه في تفسير بلاغة القرآن، ففكر ثم قال: «ما هو إلا سحر يؤثر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر وهذا هو السحر المبين ...» فذاك إذ يقول القرآن الكريم:
إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (المدثر: 18-24).
واختلف المفسرون في تفسير المعنى المقصود بالعتل الزنيم الذي قيل إنه نزل فيه.
فرأى بعضهم أن الزنيم هو الدعي، وأن الوليد بن المغيرة يوصف به؛ لأن أباه ادعاه بعد ثماني عشرة من مولده.
ورأى بعضهم أن الزنيم وصف له من زنمة كان يعرف بها في عنقه، وهي اللحمة المدلاة، ويخالفهم آخرون فيقولون إن الرجل الذي كان يعرف بهذه الزنمة هو الأخنس بن شريق، وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة.
Bilinmeyen sayfa
وفي رواية أنه - عليه السلام - سئل عن العتل الزنيم فقال إنه هو الفاحش اللئيم، وغير ذلك من الروايات والتأويلات كثير.
إلا أن الذي يعنينا فيما نحن بصدده أن الوليد لم ينسب قط إلى أحد غير أبيه المغيرة، وأن المغيرة لم يكن بحاجة إلى استلحاق ولد غريب عنه لكثرة أولاده ونجابتهم بين فتيان مخزوم وقريش عامة، وأن شبه الوليد ببني المغيرة ظاهر حتى في بعض الفروع البعيدة. فإن عمر بن الخطاب كانت أمه قريبة خالد بن الوليد، وكان يشبهه أقرب الشبه كما يتفق في أيامنا هذه كثيرا بين أبناء العمات والأخوال، وأن غير الوليد لأولى بذلك الوصف لما تقدم من اعتزاز قريش بنسبته فيهم حتى لقب بريحانة قريش وسمي بينهم بالوحيد.
وعلى أية حال، فقد نشأ خالد في بيت الوليد بن المغيرة وهو سيد بني مخزوم، وأحد السادات المعدودين في قريش، وصاحب الكلمة التي يتعلق بها مصير قومه فيما يجنح إليه من شرعة أو دين.
أما أمه فهي لبابة بنت الحارث الهلالية، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين زوج النبي عليه السلام، وأخت لبابة بنت الحارث الكبرى زوج العباس عمه، وأخت أسماء بنت عميس التي تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب، ولها أخوات أخريات بنى بهن رجال من ذوي الأخطار ومقاديم العشائر النابهين.
وندر في بيوت العرب النبيلة بيت لم يكن له صلة بخالد وذويه بالنسب والمصاهرة، من جانب أمه أو جانب أبيه.
والأقوال في سن خالد وتاريخ مولده لا تنتهي إلى قول يمتنع فيه الخلاف. فمن المؤرخين من يقول إنه مات وله من العمر ستون سنة، فإذا كان قد مات في السنة الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين للهجرة؛ فقد ولد إذن في السنة الثامنة والثلاثين أو السنة التاسعة والثلاثين قبل الهجرة.
ولكنه قول يحول دون تصديقه والأخذ به أن خالدا كان صغير السن في عام الفتح - فتح مكة - كما يفهم من تلقيب أبي سفيان له بالغلام وشيوع هذا اللقب بين عارفيه.
فقد كان أبو سفيان والعباس يرقبان عبور الكتائب والقبائل في يوم الفتح، فكان خالد بن المغيرة أول من مر في بني سليم. فسأل أبو سفيان: من هذا؟ قال العباس: هذا خالد بن الوليد، فعاد أبو سفيان يسأل وهو يخفي حنقه: الغلام؟ قال العباس: نعم، كأنه لقب كان معروفا بين شيوخ قريش.
والرجل لا يقال له «غلام» وهو في نحو السادسة والأربعين، وقد يقال له ذلك وهو حول الأربعين إذا كان القائلون من رؤساء الشيوخ، وكان اللقب قد عرف قبل ذلك بسنوات وبقي بحكم العادة والتردد على الأفواه. فإذا كان خالد بن الوليد يومئذ في نحو السادسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين، فمولده على التقريب بين سنتي ثمان وعشرين وثلاثين قبل الهجرة.
وعندئذ تخطر لنا قصة أخرى لها صلة بهذا التقدير، وهي قصة المصارعة بينه وبين عمر بن الخطاب وهما غلامان وغلبته عمر وكسره ساقه في هذه المصارعة، وإنما يتصارع الندان أو المتقاربان. وعمر على تقدير مشهور قد ولد قبل الهجرة بأربعين سنة أو قرابة هذا التاريخ ...
Bilinmeyen sayfa
فالتوفيق بين هذه الأقوال جميعا إنما يستقيم لنا بتأخير مولد عمر قليلا عن سنة أربعين، وتقديم مولد خالد قليلا عن سنة ثلاثين، فيرجح إذن أن يكون مولده في نحو سنة أربع وثلاثين قبل الهجرة، ولا مانع إذن أن يصارع عمر ويغلبه كما يغلب الفتى في الرابعة عشرة مثلا زميلا له في السادسة أو السابعة عشرة، إذا كان مولودا للدربة على الرياضة وألعاب الفروسية، وكان خالد ولا شك كذلك؛ لأنه ورث قيادة الأعنة من باكر صباه.
نعم يظهر أنه كانت عليه مخايل الفروسية منذ صباه الباكر؛ إذ رشحه أبوه لقيادة الخيل ولم يكن أكبر أبنائه، ورأيناه على قيادة الفرسان - فرسان قريش - في وقعة أحد التي أحاط فيها برماة المسلمين من ورائهم، فحلت الهزيمة بجيش المسلمين بعد انتصاره.
وقد أسلفنا أن بني مخزوم كان لهم في الجاهلية أمر القبة والأعنة، فالقبة هي خيمة عظيمة يضربونها ليجمعوا فيها عدة القتال، والأعنة هي الخيل وفرسانها، وولاية خالد هذه «الوظيفة» الموكولة إلى قبيلته بين بطون قريش جميعا هي آية استعداده للرئاسة والقيادة منذ صباه.
وفي أخبار خالد قصة واحدة تنفعنا في تصوير ملامحه وسماته لقلة أوصافه المحفوظة، على خلاف ما تعودناه من أحاديث العرب عن أبطالهم، وهي في الغالب مفيضة في وصف أولئك الأبطال.
تلك القصة هي ما أشرنا إليه من المشابهة بينه وبين عمر بن الخطاب، حتى كان أناس من ضعاف النظر يخلطون بينهما من قريب، ولا يميزونهما بالرؤية ولا بسماع الصوت الخفيض.
وخلاصتها أن علقمة بن علاثة لقي عمر بن الخطاب ليلا فقال له: مرحبا بك يا أبا سليمان ... ثم دنا منه فلم يميزه مع دنوه وسماع صوته برد السلام عليه، فقال: عزلك ابن الخطاب؟ فأجابه عمر: نعم. فمضى علقمة يقول: ما يشبع، لا أشبع الله بطنه.
وأصبح عمر، فدعا بخالد وعلقمة وسأل خالدا: «ماذا قال لك علقمة؟» فنفى أن يكون قد لقيه أو جرى بينهما كلام، وكرر عمر السؤال فأقسم خالد بالله ما رآه ولا سمع منه شيئا ... فقال علقمة كالموسع له من حرج: «حلا أبا سليمان» ... ولم يفطن لغلطه، حتى تبسم عمر وأخبرهما بالحديث.
ومن هنا تفهم أن خالدا كان طويلا بائن الطول، وأنه كان عظيم الجسم والهامة، مهيب الطلعة يميل إلى البياض.
وغني عن تواريخ المؤرخين - ولا جدال - أن خالدا قد تعلم في صباه كل ما يتعلمه الفتى المرشح للحرب والفروسية وشمائل الرئاسة، ومن الصغائر العارضة التي زعم أناس أنها أصل الجفاء بينه وبين قريبه عمر بن الخطاب أنه صارعه كما تقدم، فغلبه وكسر ساقه، وهي صغيرة تنبئ عن دراية باكرة بفنون الصراع والكفاح، ولكنها لو لم تذكر في مصادرها لأغنانا عنها علم القائد الكبير بفنون الفروسية على أنواعها، وسرعته في مأزق النزال إلى مصارعة أقرانه ومبارزيه واحتضانهم بعنف شديد حتى يعجزهم عن الحراك.
وغير بعيد أنه تعود عيشة الشظف وراض نفسه على الخشونة عمدا في البادية ليصبر على مضانك الحرب وشدائد الجوع والظمأ حيثما تفرد عن موارد الزاد. فقد جاء في بعض الأحاديث أن خالدا كان يأكل الضب ويشتهيه كما يأكله الأعراب ويشتهونه، وهو أغنى إنسان في مكة أن يسيغ هذه الأكلة الأعرابية، مع يساره وافتنان أهله في الأطعمة الحضرية.
Bilinmeyen sayfa
قال ابن عباس رواية عن خالد: إنه دخل مع رسول الله على خالته ميمونة بنت الحارث، فقدمت إلى رسول الله لحم ضب جاءها مع قريبة لها من نجد، وكان رسول الله لا يأكل شيئا حتى يعلم ما هو، فاتفق النسوة ألا يخبرنه حتى يرين كيف يتذوقه ويعرفه إن ذاقه. فلما سأل عنه وعلم به تركه وعافه. فسأله خالد: أحرام هو؟ قال: «لا، ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه ...» قال خالد: «فاجتررته إلي فأكلته ورسول الله ينظر ...»
ومثل هذه التربية لقائد من قواد الحرب نموذج يحتذى في كل مدرسة من مدارس الفنون العسكرية الحديثة، وعلى سنتها كتب نابليون تقريره وهو طالب في المدرسة الحربية يعيب على النظام يومئذ أنه يسمح لأبناء الأعيان بمعيشة الترف واستصحاب الخدم بين جدران المدرسة، وهم أحرى بخدمة أنفسهم في مدرسة يتعلمون فيها الصبر على شدائد الحروب.
وكان لخالد - ولا ريب - علم بالبادية العربية من غير هذا الطريق، طريق الرياضة المقصودة إن صح ما رجحناه. فلعله سافر كثيرا في الجزيرة قبل الإسلام، ولعله عرف في تلك الأسفار دروبها العصية التي كان يطرقها من العراق إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى اليمن، ومن نجد إلى الشام، وبعضها كان يعتسفه على عجل بغير أدلاء.
ولم تكن بخالد ولا بإخوته حاجة على التجارة لكسب العيش وتحصيل المال؛ إذ كان أبوه على تلك الثروة التي لا مزيد عليها في البلاد العربية، وكانت ثروته أشبه شيء في عصرنا هذا بثروة المصارف التي تعمل في صفقات القروض والربا ومضاربات الأسعار. أما الثمرات والخضر في مزارعه، فلم تكن مما يحمل إلى البلاد القصية للبيع والشراء. وإنما قصاراها أن تباع في الحواضر الحجازية وما قاربها من البوادي القادرة على شيء من الترف والمتعة، ولا سيما في أيام الأسواق والحجيج. ولهذا فسر بعضهم وصف بنيه ب «الشهود» فيما تقدم من الآيات بأنهم كانوا أبدا في صحبته وجواره مفاخرة بهم وتنزيها لهم عن الكدح والتصرف في شئون المعاش. فإن قضيت لأحدهم رحلة أو سياحة، ففي غير هذه الأغراض أو غير حاجة ملحة إلى الاتجار، وإنما هي الدربة والتمرس بالمصاعب والانتفاع بخبرة السياحة وآدابها، وقد ينفقون في ذلك خير ما يكسبون، كما كان يصنع عمه «زاد الراكب» وأعمامه الآخرون الذين اشتهروا بالأنفة من مجاراة أحد لهم في الضيافة وبذل العطايا والهبات.
وموضع الترجيح والاستنتاج هنا إنما هو في إرسال خالد إلى البادية قصدا لرياضة النفس والجسد على خشونة الأعراب وشدائد الميادين ... فهذا، وإن جرت به عادة بعض الأشراف في حواضر الحجاز، لم يقطع به قول من الأقوال في سيرة الوليد بن المغيرة وبنيه «الشهود» على احتمال الشهادة للمعنى الذي قدمناه.
ولكن الأمر الموثوق به كل الثقة، الذي لا موضع فيه لترجيح ولا استنتاج - أن خالدا قد نشأ في الحاضرة أو البادية مستعدا للخشونة مستطيعا لمعيشة الأعراب، مستجيب السليقة والبيئة لما يتكلفه المجاهد في أوعر القفار وأعنف الحروب، وكانت له ضلاعة العصبيين الأقوياء المعهودين بين رجال السيف، وهي ضلاعة يوشك أن تستمد من حماسة النفس وشهامة القلب أضعاف ما تستمده من العضلات والأوصال.
فلم تعفه العبقرية من ضريبتها التي لا مناص من أدائها، وآية ذلك أنه مات على فراشه في نحو الخامسة والخمسين، وليست هي بالسن الغالبة فيمن يموتون بداء الشيخوخة من غير علة أخرى.
وإذا تجاوزنا هذه المظنة، وهي كافية، ألفينا في تراجم الأسرة كلها ما ينبئ عن عوارض الأسر التي تهيئها الأقدار لإنجاب العباقرة في شتى المواهب والمزايا.
فهذه الأسرة الغريبة تكثر فيها عوارض الاختلاف عن جملة الناس في تركيب الأعصاب خاصة، ويشاهد فيها فرد أو أفراد تتجمع فيهم عللها وتمعن بهم مخالفاتها وعناصر شذوذها حتى تسلمهم إلى الاختلال والاضطراب كأنهم ضحايا الأسرة كلها في سبيل إنجاب العبقرية منها.
وكانت هذه العوارض مشاهدة في أسرة خالد وفي إخوته على التخصيص. فذكر كتاب الاستيعاب في أسماء الأصحاب: «إن الوليد بن الوليد كان يروع في منامه، مثل حديث مالك سواء في قصة خالد.»
Bilinmeyen sayfa
وعن مسند ابن أبي شيبة أن خالد بن الوليد كان يفزع في نومه، فشكا إلى النبي عليه السلام، فقال له: «إن عفريتا من الجن يكيدك.»
وبذلت هذه الأسرة الممتازة ضحيتها الكبرى في شخص سليلها عمارة بن الوليد أحد الإخوة المذكورين بأسمائهم من ذرية الوليد بن المغيرة.
وعمارة هذا، هو صاحب عمرو بن العاص في رحلة الحبشة رسولين إلى النجاشي؛ لتسليم المسلمين بها إلى قريش.
وكان مولعا بالخمر والغزل، وسيما محببا إلى النساء. فلما كان بالسفينة مع عمرو وامرأته شرب ونظر إلى امرأة عمرو نظرة مريبة.
وقد نلمح عوارض الأسرة هذه في أعظم أفراد الأسرة كما نلمحها في هذا المسكين الذي ابتلى بالثمن الفادح والضحية الكبرى. فخالد بن الوليد - شرف بني المغيرة - لم يفتنه الميل إلى المرأة كما فتن أخاه، ولم يصرفه قط عن عبء من أعباء البطولة ولا عن فريضة من فرائض العظمة والعبقرية، ولكنه على هذا قد تعرض للمؤاخذة من عمر بن الخطاب ومن أبي بكر الصديق في صدد الزواج المعجل في غير حينه، فسبى امرأة مالك بن نويرة، وتزوج في حرب اليمامة وهو بميدان القتال، وسبى ابنة الجودي في دومة الجندل، وقيل: إنه فقد أربعين ولدا في طاعون الشام وهو بقيد الحياة لما يجاوز الخمسين بكثير.
وتلك في جملتها شواهد العوارض التي يقرر النفسانيون المحدثون أنها سمات العبقرية في منابتها، ومنابتها هي الأسر التي تنجبها وتبذل أثمانها قبل أن تنعم بمجدها وفخارها.
وكما ظهرت هذه العوارض في لون من ألوانها على أخيه عمارة، ظهرت في بعض ألوانها الأخرى على أخيه الوليد الذي كان مثله يراع في رقاده.
فهذا الأخ الكريم كان مع جيش المشركين في وقعة بدر فأسره المسلمون، وطال الكلام في فدائه لغناه وعداوة أهله للإسلام، فطلب آسره أربعة آلاف درهم، وأوصى النبي ألا يقبلوا فدية له غير شكة أبيه الوليد وهي درع فضفاضة وسيف وبيضة. وكل هذه المطاولة والمساومة والوليد باق على دين الشرك في أسر المسلمين. فلما تم فداؤه وذهب إلى أهله، أعلن إسلامه بينهم وهم كارهون، وعجب المشركون لأمره فسألوه: هلا أسلمت قبل أن تفتدى؟ فقال: كرهت أن يظن بي أنني جزعت من الإسار ... وصبر على التعذيب والنكاية والحبس بين أهله حتى أفلت بعد جهد وحيلة ولحق بالنبي مشيا على قدميه ...
هذه أيضا نفحة خالدية من نفحات تلك الأسرة القوية التي تأبى لخلائقها إلا أن تحير الناس وأن ترد عليهم من مورد التفاوت والإغراب والمخالفة للمألوف.
وهي في أطوارها المتباينة منجم العبقرية الذي لا مراء فيه، ومعدن البطولة التي تكتب لصاحبها وهو في الأصلاب.
Bilinmeyen sayfa