52

وقبل أن يستوي خالد في طريقه إلى «بزاخة» جاءه أناس من الطائيين فعرضوا عليه أن يكفوه حرب قيس ويعفيهم من حرب بني أسد لأنهم حلفاؤهم منذ الجاهلية. ولم يكن عدي بن حاتم على رأي قومه فقال لخالد: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه. أفأنا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم؟ ... فلم يشأ خالد أن يكره أناسا على حرب من يسالمونهم ولا يتحمسون في قتالهم، وقال لعدي: «لا تخالف قومك، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، والله ما قيس بأوهن الشوكتين. امضوا إلى أي القبيلتين أحببتم.»

وأتم تعبئته للقتال وهو على الطريق، فجعل القبائل على ميمنته والأنصار والمهاجرين على ميسرته، وصمد هو في القلب مع فئة من هؤلاء وهؤلاء ...

أما طليحة، فالظاهر أنه كان أحذر من أن يؤخذ على غرة، فإنه قد رصد العيون على فجاج الصحراء فعلم بمقدم المسلمين قبل وصولهم إلى «بزاخة»، وأعد العدة لكلتا الحالتين من غلبة وفرار، فعزل أكثر النساء في مكان أمين؛ لئلا يقعن في السبي إذا دارت الدائرة عليه، وأقام حوله أربعين فارسا من أشد فتيان بني أسد ليدرأوا الهجمة عنه، كأنه كان يعلم أسلوب خالد في قتاله، إذ كان وكده قبل كل وكد أن ينحي بالضربة المصمية على رئيس القوم فيفت في أعضاد القوم جميعا بقتله أو إكراهه على الفرار، ولم يكن طليحة جبانا يتنحى عن الطعن والضرب وراء غيره، بل كان مشهورا بالشجاعة معروفا عنه أنه أقسم لا يدعوه أحد إلى مبارزة إلا أجابه ، ولكنه كان على شجاعته أميل إلى الحذر والحيطة منه إلى المجازفة والحماسة، وكان في هذه الخصلة نقيض نده الذي يصاوله وينازله بالسلاح والأخلاق، فكان خالد أقرب إلى المجازفة والحماسة منه إلى الحذر والحيطة.

ولقد كانت لجيش طليحة مزيتان هما الكثرة والراحة ... فقد كان جيشه يربو على جيش المسلمين بألف مقاتل أو زيادة مع وفرة السلاح والركائب، وكان مستريحا في دياره على خلاف جيش المسلمين الذي كان عليه أن يلقاه بعد مسير مئات من الأميال في الأودية والجبال.

ولهذا أوشك أن يفوز بيومه لولا عزمة من عزمات القيادة التي تأتي في إبانها وتدور برحى الحرب من طرف إلى طرف في ساعات معدودات.

فلما التحم الجيشان، ثبت طليحة وأصحابه ثبات المستميت، وكروا على المسلمين كرة عنيفة فكشفوا الميمنة ولحقت بها الميسرة وانقضت هنيهة خيل فيها إلى المسلمين أنهم منكسرون لا محالة، وجاء بعض بني طيئ إلى خالد ينصح له أن يتراجع يومه ليعتصم بجبال طيئ ويستدرج المرتدين إليها، فأنكر عليه نصيحته وزجره قائلا: لا أعتصم بغير الله!

ثم عول على الكرة في كبة الجمع ليبلغ النصر أو يموت دونه، فأرسل فرسه وترجل مقاتلا على قدميه؛ ليملك الحركة حيث يشاء ويبعث القدوة في قلوب صحبه، ونادى بالأنصار كأنه ذكر موقف النبي يوم حنين: يا أنصار الله ... فلبوه مندفعين إليه، وثاب أبناء القبائل إلى مواضعهم فاستحر القتل في الفريقين حتى قتل حرس طليحة جميعا، واستقر هو في «دثار الكهانة» يوهمهم أنه يتلقى الوحي أو ينتظر المدد من السماء.

وقد كان أتباعه يحبون أن يؤمنوا به مجاملة له ومرضاة لكبرياء القبيلة في أنفسهم، فلما جد الجد أحبوا أن يروا لهذا الإيمان علامة، وسأله زعيم فزارة عيينة بن حصن، وهو من أعز أنصاره وألد أعداء المسلمين: هل جاءك جبريل؟ قال: لا ... ثم رجع له مستعجلا وحي السماء صائحا به - وقد نسي في غضبه أنه يخاطب على زعمه نبيا من الأنبياء - لا أبا لك، أجاءك صاحبك؟ قال: لا ... فصاح به: حتى متى؟ قد والله بلغ منا. فلما عاوده الثالثة خجل أن يجيبه جوابه الأول وقال له: نعم ... جاءني وأوحى إلي «أن لك رحى كرحاه، وحديثا لا ننساه ...» فسخر منه عيينة وقال: «نعم ... حديث لا ننساه»، ونادى في قومه وهو مؤمن بهزيمة طليحة وإدبار أمره: انصرفوا يا بني فزارة ... إنه لكذاب، وجعل طليحة يسألهم من حيرته ما يهزمكم؟ فأجابه أحدهم: «أنا أحدثك ما يهزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه.»

وأدرك طليحة حذره، وكان قد أعد لهذا الحذر عدته، فركب فرسه وأردف امرأته النوار على راحلة وراءه، ونجا بها وهو ينادي أتباعه: «من استطاع أن يفعل هكذا فليفعل»، وما زال في فراره حتى لحق بالشام. •••

وتعقب خالد فلول المرتدين ومن مالأهم من قبائل هوازن وسليم حتى لحق بهم في «ظفر» حيث أحاطوا بسلمى أم زمل وهي كأمها من قبلها مضرب المثل في العزة والمنعة. كان يقال عن أمها «أعز من أم قرفة»؛ لأنها تعلق في بيتها خمسين سيفا، كل سيف منها لرجل من ذويها، وقد سبيت هي في عهد النبي عليه السلام فأعتقتها السيدة عائشة - رضي الله عنها - فذهبت إلى قومها مغضبة لتلك العزة التي انتهى بها عناد قومها إلى الأسر والخدمة، واستثارت حمية الرجال بهذه الغضبة التي تثير الطبيعة البدوية ولو لم تجتمع إليها بواعث أخرى للغضب والثورة ... فدار بين خالد وبين جيشها أحر قتال، ووقفت هي على جمل مشهور تضرم النخوة في قلوب جندها، وترد الشجاعة إلى من أدبر للفرار، ومضى اليوم وهي تكافح ومن حولها زعماء جيشها يكافحون، فجعل خالد مائة من الإبل لمن يصيب الجمل ... وأرسل نخبة من فرسانه عليه فعقروه، وقيل: إنهم لم يصلوا إليه حتى قتل من دونه مائة رجل من حماتها المستيئسين.

Bilinmeyen sayfa