أما الذي يجتنب التصرف في العدل غيرة على الضعيف، وقدرة على القوي، وعلما بالتبعة، واضطلاعا بجرائرها، فذلك حي غني بالحياة، يعدل لفرط السليقة الإنسانية، والقدرة الحيوية، ولا يعدل لأنه آلة تشبه الميزان الذي لا حس فيه.
وشتان بين هذا وذاك، إنهما لنقيضان، وإن كانا في ظاهر الأمر شبيهين متقاربين.
والاعتماد على الأمثلة الخاصة، أولى بنا في هذا المعرض من الاعتماد على القواعد العامة والتقريرات النظرية.
فهذه أمثلة ثلاثة من أمثلة العدل الذي يبدو لأول وهلة، كأنه عدل الموازين الآلية حين تسوي بين الأوزان، وإن اختلفت القيم والأقدار، وتفصل في الأنصباء بغير نظر إلى فوارق الدنيا، ومقتضيات السياسة، وتبدل الأحوال، ونختارها من أجهر الأمثلة وأدناها إلى تأييد شبهات المستشرقين فيما زعموه من العقل المحدود؛ لنرى على قدر ضخامة هذه الأمثلة ضخامة الخطأ في استخراج ما تدل عليه.
كان عمرو بن العاص واليا لمصر وكان ابنه يجري الخيل في ميدان السباق، فنازعه بعض المصريين السبق، واختلفا بينهما لمن يكون الفرس السابق، وغضب ابن الوالي فضرب المصري وهو يقول: أنا ابن الأكرمين! فاستدعى عمر الوالي وابنه حين رفع إليه المصري أمره، ونادى بالمصري في جمع من الناس أن يضرب خصمه قائلا له: «اضرب ابن الأكرمين!»، ثم أمره أن يضرب الوالي؛ لأن ابنه لم يجرؤ على ضرب الناس إلا بسلطانه، وصاح بالوالي مغضبا: «بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» فما نجا من يده إلا برضا من صاحب الشكوى واعتذار مقبول.
وكان خالد بن الوليد أشهر قادة الإسلام في زمانه، فأحصى عليه عمر بعض المآخذ، ومنها إنفاقه من بيت المال في غير ما يرضاه، فأمر به أن يحاكم في مجلس عام، كما يحاكم أصغر الجند، وعزله بعد مقاسمته فيما يملك من نقد ومتاع.
وكان جبلة بن الأيهم أميرا نصرانيا، فأسلم وأسلمت معه طائفة من قومه، ثم وطئ أعرابي إزاره فلطمه جبلة على ملأ من حجاج بيت الله؛ فقضى عمر للأعرابي أن يلطم الأمير على ذلك الملأ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين سوقة وأمير.
هذه أمثلة العدل الذي لا يتصرف، ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها من فوارق وتعريجات، تتأبى على القصاص المستقيم، وهي من أقوى الشبهات على النظر المحدود في تقدير الجزاء بالحرف المكتوب، دون التفات إلى الأحوال والمقتضيات.
فهل هي في الواقع كذلك؟ وهل كان على عمر أن «يتصرف» في هذه الأقضية بلباقة الساسة الدهاة في جميع الأزمان، إذ يحتالون على حرف الشريعة ويدورون حول حدود القانون؟
نعم، كان عليه ذلك لو عجز عن سنة المساواة، واحتاج إلى الحيلة، فإنما يعاب على الوالي عدل الموازين، ويحمد منه التصرف والدوران؛ لأن المساواة تعييه، أو لأن المساواة تعرضه لعاقبة شر، وأظلم من الإجحاف، فإذا نظر إلى عاقبة المساواة في المعاملة، فرآها شرا وأظلم من عاقبة التفرقة والتمييز؛ فقد وجب عليه إذن أن يدور حول الحقيقة، وألا يواجهها نصا بغير انحراف.
Bilinmeyen sayfa