تقديم
1 - عبقري
2 - رجل ممتاز
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - إسلامه
6 - عمر والدولة الإسلامية
7 - عمر والحكومة العصرية
8 - عمر والنبي
9 - عمر والصحابة
Bilinmeyen sayfa
10 - ثقافة عمر
11 - عمر في بيته
12 - صورة مجملة
تقديم
1 - عبقري
2 - رجل ممتاز
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - إسلامه
6 - عمر والدولة الإسلامية
Bilinmeyen sayfa
7 - عمر والحكومة العصرية
8 - عمر والنبي
9 - عمر والصحابة
10 - ثقافة عمر
11 - عمر في بيته
12 - صورة مجملة
عبقرية عمر
عبقرية عمر
تأليف
عباس محمود العقاد
Bilinmeyen sayfa
تقديم
تم تأليف هذا الكتاب في أحوال عجيبة هي أحوال بأس وخطر، فلا غرابة بينهما وبين موضوع الكتاب الذي أدرته عليه؛ لأننا لا نتكلم عن عمر بن الخطاب إلا وجدنا أننا على مقربة من البأس ومن الخطر في آن.
فما شرعت في تحضيره، وبدأت في الصفحات الأولى منه؛ حتى رأيتني على سفر بغير أهبة إلى السودان، فوصلت إليه وليس من مراجع الكتاب إلا قليل، وكانت الصفحات الأولى التي كتبتها في القاهرة مما تركته مع المراجع الكثيرة فيها، فأعدت كتابتها في الخرطوم، ومضيت فيه هنالك حتى انتهيت من أكبر شطريه، واستغنيت بمراجع الخرطوم عن المراجع التي أعجلني السفر عن نقلها؛ لأن أدباء السودان وفضلاءه يدخرون جملة صالحة من هذه المراجع، ويجودون بها أسخياء مبادرين إلى الجود، فلا أذكر أنني طلبت كتابا في المساء إلا كان عندي في بكرة الصباح.
وإني لأتوفر على كتابته، وأحسبني منتهيا منه في السودان؛ إذ رأيتني مرة أخرى على سفر بغير أهبة إلى القاهرة، فعدت إليها بالطائرة ألتمس العلاج السريع؛ لأن يدي أوشكتا أن تعجزا عن تناول القلم بما عراهما من ثآليل «الخريف».
فعدت وما يشغلني عن إتمامه شاغل في السفر والمقام، ولم أحسب هذا البأس في الحالتين من موانعه وعراقيله؛ لأنني ألفت بعض كتبي الكبار في أحوال تشبه هذه الأحوال، فألفت كتابي عن «ابن الرومي» بين السجن ونذره ومقدماته، وألفت كتابي عن «سعد زغلول» وأنا غير مستريح من كفاحه، وكلاهما من آثر الكتب عندي، وأكبرها في الموضوع وفي عدد الصفحات.
إنما حسبت هذا البأس من مطابقاته وموافقاته، ومن وضع الشيء في موضعه على نحو من الأنحاء، ولم أعدده من حرج التأليف، كما عددته من مهيئات جوه، ولا سيما حين ألفيتني أدرس آثار الحركة المهدية، وأتقلب بين مشاهدها وميادينها، وأستخرج العبرة من القتال بين الراجلين والفيلة في مواقع فارس، ومن القتال بين الراجلين والسفن المسلحة في مواقع الخرطوم وأم درمان، فهذه عقيدة وتلك عقيدة، ولكن العقيدة التي ظفرت كان معها حليف من الغد المأمول، ولم تكن العقيدة التي فشلت على وفاق مع الغد ولا مع الأمل.
ولكن الحرج كل الحرج في التأليف، إنما كان في محاسبة عمر بن الخطاب، أوليس الحرج في الحساب أيضا من العمريات المأثورات؟!
فالناس قد تعودوا ممن يسمونهم بالكتاب المنصفين أن يحبذوا وينقدوا، وأن يقرنوا بين الثناء والملام، وأن يسترسلوا في الحسنات بقدر ليتقلبوا من كل حسنة إلى عيب يكافئها، ويشفعوا كل فضيلة بنقيصة تعادلها، فإن لم يفعلوا ذلك فهم إذن مظنة المغالاة والإعجاب المتحيز، وهم أقل إذن من الكتاب المنصفين الذين يمدحون ويقدحون، ولا يعجبون إلا وهم متحفزون لملام.
عرض لي هذا الخاطر، فذكرت قصة العاهل الذي تحاكم إلى قاضيه مع بعض السوقة في عقار، يختلفان على ملكه، فحكم القاضي للسوقة بغير العدل ليغنم سمعة العدل في محاسبة الملوك، وعزله العاهل؛ لأنه ظلم وهو يبتغي الرياء بظلمه، فكان أعدل عادل حين بدا كأنه يحرص على مال مغصوب ويجور على تابع جسور؛ لأنه أنصف وهو مستهدف لتهمة الظلم، وقاضيه قد ظلم وهو يتراءى بالإنصاف.
قلت لنفسي: إن كنت قد أفدت شيئا من مصاحبة عمر بن الخطاب في سيرته وأخباره، فلا يحرجنك أن تزكي عملا له كلما رأيته أهلا للتزكية، وإن زعم زاعم أنها المغالاة، وأنه فرط الإعجاب.
Bilinmeyen sayfa
وهذه هي الأسوة العمرية في الحساب.
فالحق أنني ما عرضت لمسألة من مسائله التي لغط بها الناقدون إلا وجدته على حجة ناهضة فيها، ولو أخطأه الصواب.
وإن أعسر شيء أن تحاسب رجلا كان أشد أعدائه لا يبلغون من عسر محاسبته بعض ما كان يبلغه هو في محاسبة نفسه، وأحب الناس إليه.
ذلك رجل قل أن يجور عن القصد وهو عالم بجوره، وقل أن يتيح لأحد أن يكسب دعوى الإنصاف على حسابه، إلا أن يكسبها أيضا على حساب الحق والنقد الأمين.
فإذا عرفت منحاه من الخلق والرأي، وسلمت له مزاجه ووجهة تفكيره، فكن على يقين أنه لن يتجافى عن النهج السوي، ولن يتعلق بأمر يعدوه الصلاح ويشوبه السوء.
وذاك أحرج الحرج الذي عانيته في نقد هذا الرجل العظيم، وتلك حيطة معه إن لم يستفدها الكاتب، وهو مشغول بعمر ونهج عمر؛ فشغله عبث ذاهب في الهواء.
وعلم الله لو وجدت شططا في أعماله الكبار؛ لكان أحب شيء إلي أن أحصيه وأطنب فيه، وأنا ضامن بذلك أن أرضي الأثر وأرضي الحقيقة، ولكني أقولها بعد تمحيص لا مزيد عليه في مقدوري: إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقدا ومؤاخذة، ومن فريد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان.
وكتابي هذا ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة، فلا قيمة للحادث التاريخي جل أو دق إلا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغر الحادث أن أقدمه بالاهتمام والتنويه على أضخم الحوادث، إن كان أوفى تعريفا بعمر، وأصدق دلالة عليه.
وعمر يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه؛ لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية، وزعم الهاتفون بدينها أن البأس والحق نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيما واحدا كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية من أساسه؛ لأننا سنفهم رجلا كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة ... وفي هذا الفهم ترياق من داء العصر، يشفى به من ليس بميئوس الشفاء.
وإنه لجهاد جديد لعمر بن الخطاب، يطيب لنا أن نوجزه في كتاب.
Bilinmeyen sayfa
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
عبقري
... لم أر عبقريا يفري فريه.
1
كلمة قالها النبي - عليه السلام - في عمر - رضي الله عنه - وهي كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خلق لسياسة الأمم وقيادة الرجال.
فمن علامات العظمة التي تحيي موات الأمم أن تختص بقدرتين لا تعهدان في غيرها، أولاهما: أن تبتعث كوامن الحياة، ودوافع العمل في الأمة بأسرها، وفي رجالها الصالحين لخدمتها، والأخرى: أن تنفذ ببصيرتها إلى أعماق النفوس، فتعرف بالبديهة الصائبة والوحي الصادق فيم تكون عظمة العظيم، ولأي المواقف يصلح، وبأي الأعمال يضطلع، ومتى يحين أوانه، وتجب ندبته،
2
ومتى ينبغي التريث في أمره إلى حين.
كلتا القدرتين كان لهما الحظ الوافر في سيرة عمر بن الخطاب.
Bilinmeyen sayfa
فأين - لولا الدعوة المحمدية التي بعثت كوامن العظمة في أمة العرب - كنا نسمع بابن الخطاب؟ وأي موضع له كان من مواضع هذا التاريخ العالمي الذي يزخر بكبار الأسماء؟
إنه الآن اسم يقترن بدولة الإسلام ودولة الفرس ودولة الروم، وكل دولة لها نصيب في التاريخ، فأين كنا نسمع باسم عمر لولا البعثة المحمدية؟!
لقد كان - ولا ريب - خليقا أن يستوي على مكان الزعامة بين بني عدي - آله الأقربين - أو بين قريش - قبيلته الكبرى - ثم ينتهي شأنه هناك، كما انتهى شأن زعماء آخرين، لم نسمع لهم بخبر؛ لأنهم عظموا أو لم يعظموا، يعطون البيئة كفاء ما تطلب من جهد ودراية، وهي تطلب منهم ما يذكرون به في بيئتهم، ولكنها لا تطلب منهم ما يذكرون به في أقطار العالم البعيد.
وقد كان عمر قوي النفس، بالغا في القوة النفسية، ولكنه على قوته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع في الجاه والسلطان بغير دافع يحفزه إليه وهو كاره؛ لأنه كان مفطورا على العدل، وإعطاء الحقوق، والتزام الحرمات ما التزمها الناس من حوله، وكان من الجائز أن يهيجه خطر على قبيلته، أو على الحجاز ومحارمه المقدسة في الجاهلية؛ فينبري لدفعه، ويبلي في ذلك بلاء يتسامع به العرب في جيله وبعد جيله، ولكنه لا يعدو ذلك النطاق، ولا هو يبالي أن يمعن في بلائه حتى يعدوه.
بل كان من الجائز غير هذا وعلى نقيضه.
كان من الجائز أن تفسد تلك القوة بمعاقرة الخمر والانصراف إليها؛ فإنه كان في الجاهلية - كما قال - «صاحب خمر يشربها ويحبها» وهي موبقة،
3
لا تؤمن حتى على الأقوياء إذا أدمنوها، ولم يجدوا من زواجر الدين أو الحوادث ما يصرفهم عنها، ويكفهم عن الإفراط في معاطاتها.
فعمر بن الخطاب الذي عرفه تاريخ العالم وليد الدعوة المحمدية دون سواها، بها عرف، وبغيرها لم يكن ليعرف في غير الحجاز أو الجزيرة العربية.
أما القدرة الأخرى التي يمتاز بها العظيم الذي خلق لتوجيه العظماء، فقد أبان عنها النبي - عليه السلام - في كل علاقة بينه وبين عمر من اللحظة الأولى؛ أي من اللحظة التي سأل الله فيها أن يعز به الإسلام، إلى اللحظة التي ندب فيها أبا بكر للصلاة بالناس وهو - عليه السلام - في مرض الوفاة.
Bilinmeyen sayfa
سبر غوره، واستكنه عظمته، وعرفه في أصلح مواقفه؛ فعرف الموقف الذي يتقدم فيه على غيره، والموقف الذي هو أولى بتقديم غيره عليه.
وليست هي مفاضلة بين رجلين ولا موازنة بين قدرتين، ولكنها مسألة التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، والمهمة التي ينبغي أن يندب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه.
وربما رأينا في زماننا هذا رئيسا يوصي لنصير من أنصاره بالوزارة، ويوصي لغيره بقيادة الجيش، فلا نقول إنه يفاضل بين النصيرين، أو إنه يرجح أحدهما على الآخر في ميزان الكفاءة، وإنما يختار كلا منهما لموضعه في الوقت الذي يحتاج إليه، ولا غضاضة على أحد منهما في هذا الاختيار.
فالنبي - عليه السلام - كان يعلم من هو أبو بكر ومن هو عمر، وقد عادل بينهما أجل معادلة حين قال: «إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، ومثلك كمثل موسى قال:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .»
كان النبي - عليه السلام - يعلم - كما قال - أن عمر أشد المسلمين في الله، ويعلم أن في أبي بكر لينا وهوادة؛ فجمع للإسلام المزيتين حين اختار أبا بكر للصلاة، وضمن هذا الاختيار معنى من معاني الاستخلاف، أو كما جاء في بعض الروايات أنه نص على استخلاف أبي بكر بالقول الصريح.
فتعزيز الإسلام بعد نبيه كان في حاجة إلى كثير من الهوادة والمجاوزة، وكان كذلك في حاجة إلى كثير من الشدة والصرامة، ولن تذهب شدة عمر إذا احتاج إليها أبو بكر في محنة يشتد فيها اللين الوديع، إنما الخوف أن يذهب لين أبي بكر إذا اشتد عمر، ولا خوف من أن يلين عمر وأبو بكر شديد؛ فإن الموقف إذا استنفد حجج الرحمة حتى يلجأ فيه أبو بكر إلى البأس ويصر عليه، فأقرب شيء أن يعدل عمر عن لينه، وأن يثوب إلى المعهود من صرامته ولدده.
Bilinmeyen sayfa
4
وكان النبي - عليه السلام - يعلم أن احتمال التبعة أو «المسئولية» خليق أن يبدل أطوار النفوس في بعض المواقف والأزمات، فيجنح اللين إلى الشدة، ويجنح الشديد إلى اللين؛ لأننا إذا قلنا إن رئيسا أصبح يشعر بالمسئولية، فمعنى ذلك أنه أصبح يراجع رأيه فلا يستسلم لأول عارض يمليه عليه طبعه، ولا يقنع باللين أول وهلة إذا كان من دأبه اللين، ولا بالشدة أول وهلة إذا كان من دأبه الشدة. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين موقف الرجل وهو مسئول، وموقفه وهو غير مسئول.
وهذا الذي ظهر أعجب ظهور في موقفي الصاحبين من حرب الردة؛ فإن عمر الشديد قد آثر الهوادة، وأبا بكر الرقيق قد آثر القتال وأصر عليه. وكان عمر يقول: «إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم»، ثم يقول للخليفة: «الزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب.»
وكان أبو بكر يقول متسائلا: «أإن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، والله - أيها الناس - لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين!»
هنالك بلغت التبصرة بوجوه الرأي المختلفات غاية مداها، وجاء عمر بقصارى ما عنده من حجج الرأي الآخر حتى وضحت المناهج، واستقر العزم، والتقى الصاحبان عليه، فكانت شدتهما في الحق شدتين.
وهب الأمر مع هذا قد اختلف في موقف الصاحبين، فمال أبو بكر إلى السلم والمسامحة، فأين كانت شدة عمر ذاهبة عنه في هذه الحال؟! أغلب الظن أنه هو الذي كان يتولى يومئذ أن يبسط وجه الشدة في معاملة المرتدين؛ لأنه يعلم أنه المسئول عن بسط هذا الوجه دون غيره، فلا تفوت الإسلام مزية من مزايا الصاحبين.
إن محمدا - عليه السلام - قد عرف من هم رجاله، وما هو الموقف الذي هم مقبلون عليه بعد وفاته، فعرف الموضع الذي يضع فيه كلا منهم، والعمل الذي يتولاه خير ولاية في ذلك الموضع، ولم يفته أن يحسب حساب التبعة، وما في احتمالها من ضمان للأخلاق الصالحة والعقول الراجحة، وأبو بكر وعمر من خيرة أصحاب هذه الأخلاق وهذه العقول.
ولا يحسبن حاسب أننا نفسر الأمور بما كشفته لنا الحوادث بعد وقوعها، ولم يكن مقصودا في النيات قبل ذلك، فإن الذي يحسب هذا الحسبان يخطئ تلك الخطأة الشائعة، التي لا تثبت على أقل نصيب من الروية والمراجعة، يخطئ في وهمه خطأة الذين يتخيلون أن هذه السياسات العالية من بدع الزمن الأخير، وليست هي من البدع في زمن كان؛ لأن العظمة لم تكن قط وقفا على العصر الحديث، ولا سيما العظمة التي ترجع إلى الفطرة القويمة، والبديهة النافذة، والنظر السديد.
فكل هذا التقدير الذي أجملنا شرحه، كان تقدير قصد وتدبير، وكان مفهوما على البداهة بين ولاة الأمر في تلك الآونة، ملحوظا بينهم في مناجاة النيات، قبل أن نلحظه نحن في عصرنا هذا من تفسير حوادث التاريخ.
Bilinmeyen sayfa
وإلى ذلك أشار عمر في قول صريح، حين قال لمن هابوه وتحدثوا بخوف الناس منه: «بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق، فقد كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله:
بالمؤمنين رءوف رحيم ، فكنت بين يديه سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ذلك، حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله على ذلك كثيرا وأنا به أسعد، ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا ينكر دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله - عز وجل - وهو عني راض، والحمد لله على ذلك كثيرا وأنا به أسعد، ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت،
5
ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعض لبعض.»
Bilinmeyen sayfa
بل ظهرت آثار الشعور بالتبعة بعد موت النبي، والحال على أشده في يوم السقيفة، والمسلمون مختلفون على من يلي الأمر بعد محمد، حتى قيل فيما قيل: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير!
ففي تلك المحنة التي تشخص فيها الأبصار، وتعظم التبعات، وتودي زلة الساعة فيها بالكثير الذي لا تستدركه الأعوام، كان عمر الحاد الشديد يخشى بوادر الحدة من أبي بكر، ويهيئ الكلام اللين ليعالج الأمر بالرفق والتؤدة، ويقول فيما رواه عن محنته ذلك اليوم: «وكنت أداري منه بعض الحد - أي الحدة - فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر.»
عمر الحاد الشديد يحاذر من بوادر أبي بكر، وأبو بكر الحليم الوديع يكف عمر عن الكلام، فيطيع!
هؤلاء رجال يعرفهم صاحبهم، وهذه مواقف يعرفها صاحبها، وهذه مسألة فصل فيها الزمن، ولم يبق لنا نحن الذين نعود إليها ونستخلص عبرتها، إلا أن نراقب ما فيها من آيات الإعجاز، وسوابق النظر البعيد.
ما وضع أبو بكر خيرا من موضعه، وهو يلي الإسلام والخطر من داخل أهله، والطب الذي يطبهم به هو طب التآلف والإحجام عن السطوة ما كان إلى الإحجام عنها سبيل.
وما وضع عمر خيرا من موضعه، وهو يلي الإسلام والخطر عليه من أعدائه المحدقين به، والطب الذي يطبهم به هو طب الصلابة والحزم الذي لا ينكل
6
عن صراع.
وكأنما توقع النبي - عليه السلام - أن أيام أبي بكر معدودات، ولكنها الأيام التي تحتاج إليه، وتكفي لإنجاز عمله، وتوقع أن يأتي عمل عمر في حينه المقدور، فلا يفوت الإسلام أن ينتفع بمقدرته في عهد أبي بكر ولا في عهده، نقول هذا على الترجيح، ومن حقنا أن نقوله على التوكيد؛ لأن حديث النبي فيه غنى عن التخمين والتأويل، قال عليه السلام: «رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب،
7
Bilinmeyen sayfa
فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا
8
أو ذنوبين نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربا،
9
فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس وضربوا بعطن.»
10
وفهم فقهاء الإسلام أن ضعف النزع هو قصر المدة، وانصراف العزم إلى حرب الردة، وأن فيض الري على يد عمر هو فيض العبقرية التي ينفسح لها الأجل، وتنفسح أمامها منادح العمل، ويؤتى لها من السبق ما لا يؤتى لغير العبقريين.
ولنا أن نفسر العبقرية بمعناها الذي يفهمه الأقدمون، أو بمعناها الذي نفهمه نحن المحدثين، فكلا المعنيين مستقيم في وصف عمر بن الخطاب ... أتراها على كلا المعنيين شيئا غير التفرد والسبق والابتكار؟ كلا، ما للعبقرية مدلول يخرج عن صفة من هذه الصفات. ومن يكتب تاريخ عمر فقد يجد في النهاية أنه يكتب تاريخا «لأول من صنع كذا، وأول من أوصى بكذا»، حتى ينتهي بسرد هذه «الأوليات» إلى عداد العشرات.
وتلك هي العبقرية التي لا يفري فريها أحد، كما قال صاحبه وأعرف الناس به، صلوات الله عليه.
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
رجل ممتاز
يوصف عمر بالعبقرية إذا نظرنا إلى أعماله، ويوصف بها إذا نظرنا إلى تكوينه الذي جعله مستعدا لتلك الأعمال، مضطلعا بتلك القدرة، وإن لم يكن من اللازم اللازب أن تقترن القدرة بالعمل الذي تستطيعه، لما يتفق أحيانا من وقوف العوائق بينها وبين الإنجاز أو الاتجاه إلى ذلك العمل.
إلا أن عمر كان رجلا ممتازا بعمله، ممتازا بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين، من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين.
إذا وصفته للأقدمين الذين يقيسون العبقرية بالفراسة والخبرة، عرفوا من صفته أن الذي يوصف لهم رجل ممتاز، أو رجل نسيج وحده.
1
وإذا وصفته للمحدثين الذين يقيسون العبقرية بالعلم، أو مشاهدات العلماء، عرفوا من تلك الصفة أنه رجل ممتاز، أو رجل موهوب.
كانت نظرة إليه - قبل السماع بعمل من أعماله - توقع في الروع
2
أنه من معدن في الرجال غير معدن السواد،
3
Bilinmeyen sayfa
وأنه جدير بالهيبة والإعظام، خليق أن يحسب له كل حساب.
كان مهيبا رائع المحضر حتى في حضرة النبي الذي تتطامن عنده الجباه، وأولها جبهة عمر.
أذن النبي يوما لجارية سوداء أن تفي بنذرها «لتضربن بدفها فرحا أن رده الله سالما»، فأذن لها عليه السلام أن تضرب بالدف بين يديه.
ودخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، والصحابة مجتمعون.
فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت الجارية، وأسرعت إلى دفها تخفيه، والنبي - عليه السلام - يقول: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر!»
وروت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنها طبخت له عليه السلام حريرة،
4
ودعت سودة أن تأكل منها فأبت، فعزمت عليها لتأكلن أو لتلطخن وجهها، فلم تأكل، فوضعت يدها في الحريرة ولطختها بها. وضحك النبي - عليه السلام - وهو يضع حريرة بيده لسودة ، ويقول لها: «لطخي أنت وجهها» ففعلت.
ومر عمر فناداه النبي: «يا عبد الله»، وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما: «قوما فاغسلا وجهيكما.»
قالت السيدة عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله
Bilinmeyen sayfa
صلى الله عليه وسلم
إياه.
ومن تلك الهيبة أنها كانت - رضي الله عنها - تتحفظ في زيارة قبره بعد موته، وحكت ذلك فقالت: «ما زلت أضع خماري، وأتفضل
5
في ثيابي، وأقول: إنما زوجي وأبي، حتى دفن عمر بن الخطاب، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا فتفضلت بعد.»
وإن من أدب الرسول - عليه السلام - أنه كان يرعى تلك الهيبة رضا عنها، واغتباطا بأثرها في نصرة الحق وهزيمة الباطل، وتأمين الخير والصدق، وإخافة أهل البغي والبهتان.
وقد كان الذين يعرفون عمر أهيب له من الذين يجهلونه! وتلك علامة على أن هيبته كانت قوة نفس، تملأ الأفئدة قبل أن تملأ الأنظار. فربما اجترأ عليه من لم يعرفه ومن لم يختبره؛ لتجافيه عن الخيلاء، وقلة اكتراثه للمظهر والثياب. أما الذين عرفوه واختبروه فقد كان يروعهم على المفاجأة روعة لا تذهبها الألفة وطول المعاشرة، ومن ذاك أنه كان يمشي ذات يوم، وخلفه عدة من أصحاب رسول الله، إذ بدا له فالتفت، فلم يبق منهم أحد إلا وحبل ركبتيه ساقط!
وتنحنح عمر والحجام يقص له شعره، فذهل الحجام عن نفسه، وكاد أن يغشى عليه، فأمر له بأربعين درهما.
فهي هيبة من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، إلا أنه مع هذا كان في منظر الجسد رائعا يهول من يراه، ولا يذهب الخوف منه إلا الثقة بعدله وتقواه.
كان طويلا بائن الطول يرى ماشيا كأنه راكب، جسيما صلبا يصرع الأقوياء، ويروض الفرس بغير ركاب، ويتكلم فيسمع السامع منه وفاق ما رأى من نفاذ قول وفصل خطاب.
Bilinmeyen sayfa
تشهد العيون كما تشهد القلوب أنه لمن معدن العظمة، أو معدن العبقرية والامتياز بين بني الإنسان، وللمحدثين علامات في العبقرية تتصل بالتكوين وتركيب الخلقة كما تتصل بمدلول الأخلاق والأعمال.
فالعالم الإيطالي «لومبروزو» ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أن للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها، وهي علامات تتفق وتتناقض، ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة.
فيكون العبقري طويلا بائن الطول، أو قصيرا بين القصر، ويعمل بيده اليسرى أو يعمل بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره، أو بنزارة الشعر على غير المعهود في سائر الناس، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور، وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ، فيكون فيهم من تفرط سورته،
6
كما يكون فيهم من يفرط هدوءه، ولهم على الجملة ولع بعالم الغيب وخفايا الأسرار على نحو يلحظ تارة في الزكانة
7
والفراسة، وتارة في النظر على البعد، وتارة في الحماسة الدينية، أو في الخشوع لله.
ومهما يكن من الشك في استقصاء هذه العلامات، والمطابقة بين تفصيلاتها وبين الواقع، فهي - بلا ريب - صادقة في حالات، مقاربة في حالات، غير أهل في كل حال للتصديق التام، ولا للبعد التام، ولا سيما عندما تتفق فيها الظواهر والبواطن، وتتلاقى فيها ملاحظات العلماء وشواهد العرف المأثور.
وفي عمر بن الخطاب من هذه العلامات كثير.
كان - كما تقدم طويلا - يمشي كأنه راكب، وكان أعسر يسرا؛
Bilinmeyen sayfa
8
يعمل بكلتا يديه، وكان أصلع خفيف العارضين، وكان كما وصفه غلامه، وقد سأله بلال: كيف تجدون عمر؟ فقال: خير الناس، إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم.
وكان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأثر البكاء في صفحتي وجهه، حتى كان يشاهد فيهما خطان أسودان.
ومن فرط حسه وتوفز شعوره أنه كان يميز بين بعض المذوقات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها؛ سقاه غلامه ذات يوم لبنا فأنكره، فسأله: ويحك! من أين هذا اللبن؟ قال الغلام: إن الناقة انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله.
وقد عرفنا أهل البادية، وعرفنا أنهم جميعا أصحاب إبل وألبان، ولكننا لم نجد منهم إلا قليلا يدعون أنهم يفرقون بين لبن الناقة ولبن غيرها هذه التفرقة السريعة، ولا سيما في المناخ الواحد والمرعى المتقارب.
وكانت له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، ويرى أن «من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»، وتروى له في أمر هذه الفراسة روايات قد يصدق منها القليل، وتتسرب المبالغة إلى كثير، ولكنها على كلتا الحالتين تنبئنا بحقيقة لا شك فيها، وهي أنه اشتهر بالفراسة وحب التفرس، والاستنباط بالنظرة العارضة، فمن ذلك أنه كان جالسا، فمر به رجل جميل، فقال ما معناه: أحسبه كان كاهنهم في الجاهلية. فكان كذلك!
ومنه أنه أبصر أعرابيا نازلا من جبل، فقال: هذا رجل مصاب بولده، قد نظم فيه شعرا لو شاء لأسمعكم، ثم سأل الأعرابي: من أين أقبلت؟ فقال: من أعلى الجبل، فسأله: وما صنعت فيه؟ قال: أودعته وديعة لي. قال: وما وديعتك؟ قال: بني لي، هلك فدفنته. قال: فأسمعنا مرثيتك فيه. فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما تفوهت بذلك، وإنما حدثت به نفسي. ثم أنشد أبياتا ختمها بقوله:
فالحمد لله لا شريك له
في حكمه كان ذا وفي قدره
قدر موتا على العباد فما
Bilinmeyen sayfa
يقدر خلق يزيد في عمره
فبكى عمر حتى بل لحيته، ثم قال: صدقت يا أعرابي.
وكان عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية يذكران مصاب أهل بدر، فقال صفوان: والله ما إن في العيش بعدهم خير. فوافقه عمير، وهو يقول كالمعتذر من تخلفه عن الثأر: أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله.
فقال صفوان يحرضه: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، ولا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فوقع كلامه من نفس عمير، فأسر إليه بعزمه على الغدر بالنبي، وشحذ سيفه وسمه، ثم انطلق حتى قدم المدينة.
فما نظر إليه متوشحا بالسيف حتى أوجس منه، وهمس لمن معه: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا
9
للقوم يوم بدر. ثم دخل على النبي فأخبره خبره، وعاد إلى عمير، فأخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه
10
بها، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله
Bilinmeyen sayfa
صلى الله عليه وسلم
فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير.»
وجعل رسول الله يسأل عميرا وهو يراوغ، حتى ضاقت به منافذ الإنكار فباح بسره، وأعلن الإسلام والتوبة.
هذه الفراسة وشبيهاتها هي ضرب من استيحاء الغيب، واستنباط الأسرار بالنظر الثاقب. وما من عجب أن تكون هذه الخصلة قرينة من قرائن العبقرية في حاشية من حواشيها؛ إذ ما هي العبقرية في لبابها كائنا ما كان عمل المتصف بها؟ ما هي الحكمة العبقرية؟ ما هو الفن العبقري؟ ما هو دهاء السياسة في الدهاة العبقريين؟ من هو:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا؟
كل أولئك يلتقي في هبة واحدة، هي كشف الخفايا، واستيضاح البواطن، واستخراج المعاني التي تدق عن الألباب، فاتصالها بالفراسة وشبيهاتها أمر لا عجب فيه، ولا انحراف به عن النحو الذي تنتحيه.
والذي يعنينا من الفراسة وشبيهاتها في صدد الكلام عن عمر - رضوان الله عليه - أن نحصي الخصال الأخرى التي هي كالفراسة في هذا الاعتبار، وهي التفاؤل والاعتداد بالرؤيا، والنظر أو الشعور على البعد أو «التلباثي» كما يسميه النفسانيون المعاصرون. ولكل أولئك شواهد شتى مما روي عن عمر في جاهليته وبعد إسلامه، إلى أن أدركته الوفاة.
جاءه رسول من ميدان نهاوند فسأله: ما اسمك؟ قال: قريب. وسأله مرة أخرى: ابن من؟ فقال: ابن ظفر. فتفاءل وقال: ظفر قريب إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
وروى يحيى بن سعيد أن عمر سأل رجلا: ما اسمك؟ قال: جمرة. فسأله: ابن من؟ قال: ابن شهاب. فسأله: ممن؟ قال: من الحرقة. وعاد يسأله: ثم ممن؟ قال: من بني ضرام. وهكذا في أسئلة ثلاثة أو أربعة عن مسكنه وموقعه، والرجل يجيب بما فيه معنى النار ومرادفاتها، حتى استوفاه، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا.
Bilinmeyen sayfa
وقد يكون التأليف ظاهرا في هذه القصة، ولكنها مع تأليفها، لا تخلو من الدلالة على اشتهار عمر باستكناه الألفاظ في معرض التفاؤل أو الإنذار.
أما الرؤيا فآخر ما روي عنه من أخبارها أنه رأى قبيل مقتله كأن ديكا نقره نقرتين، فقال: يسوق الله إلي الشهادة ويقتلني أعجمي؛ فإن الديك في الرؤيا يفسر برجل من العجم.
على أن المكاشفة أو الرؤيا
Vision
كما يسميها النفسانيون المحدثون، إنما تظهر بأجلى وأعجب من هذا كثيرا في قصة سارية المشهورة، وهي مما يلحقه أولئك النفسانيون بهبة التلباثي
Telepathy
أو الشعور البعيد.
كان رضي الله عنه يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة، ونادى: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.
فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته، فسأله علي - رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أوسمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد.
فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام.
Bilinmeyen sayfa