فعاد محمد بن مسلمة إلى المدينة وسعد معه، وأعاد عمر سؤاله فلم تثبت له من أمره ريبة، إلا أنه اتقى الفتنة والخطوب منذرة، فعزله وقال لشاكيه: «إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم لهذا الأمر، وقد استعد لكم من استعد، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزل بكم.» وقال لسعد يومئذ مبرئا له من تهمة خصومه: «هكذا الظن بك يا أبا إسحاق، ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا.» ثم أبى أن يفارق الدنيا وفي ذمته شهادة لسعد يعلنها لملأ المسلمين، فلما حضرته الوفاة وسألوه أن يستخلف، أبى أن يخلف أحدا من أهله، وسمى عليا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعدا «لأنهم نفر توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأيهم استخلف فهو الخليفة»، ثم قال: فإن أصابت سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة.
وهذا مثل من أمثلة الوفاء بجميع الحقوق، والرعاية لجميع الذمم من حاكمين ومحكومين، ولا يبعد أن يقع الغبن على بعض الولاة الكفاة من فرط العناية بشكايات الرعية، إلا أن عمر في حزمه وعدله لم يكن يفوته مفرق الصواب بين الأمرين، فغبن وال أو قائد أهون من غبن أمة أو جيش، ومن أقواله في ذلك: «هان شيء أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.»
بل ربما جرى منه حكم العزل على الولاة الكفاة لغير سبب من أسباب الشكاية أو القصاص، وإنما هو سبب من الأسباب التي ترجع إلى سلامة الدولة، أو ما نسميه في العصور الحديثة بالسياسة العليا. وهذه أسباب لا يصح أن يغفل عنها ولاة الأمر في أيام تأسيس الدول وتجربة النظم الحديثة، وأولها عصمة الدولة من فتنة المقتدرين المحبوبين.
فربما كان الوالي المقتدر المحبوب أخطر على الدولة الناشئة في تأسيسها من الوالي العاجز البغيض، إذا لم يتعهده نظر ثاقب وحساب عسير.
فقد تزين له نفسه، أو تزين له رعيته أن يستقل بالأمر وينتحل لذلك ما شاء من المعاذير، فإن فاته الاستقلال ورئيسه قوي مهيب، لم يفته بعد زوال ذلك الرئيس، ولو جاء بعده من يضارعه في القوة والمهابة؛ لأن الفترة بين زوال عهد واستقرار عهد آخر تؤذن بمثل هذا التقلقل، وتفتح الثغرات لمن يريد أن يلج
35
منها بعد طول تربص واستعداد.
ولم يكن عمر بن الخطاب يعرف تاريخ الإسكندر المقدوني وتواريخ العتاة من قياصرة الرومان، ولا كان الغيب قد انكشف له فرأى ما تلاه من الأمثلة في دول المغول والعثمانيين، ودول المسلمين من الشرقيين والغربيين، ولكنه لو استقصى أخبارهم جميعا وعرف فتنة الولاة بعد زوالهم لما ندم لحظة على عزل الذين عزلهم وهو يقول لهم: إنما عزلتكم لكيلا أحمل على الناس فضل عقولكم، أو لكيلا تفتتنوا بالناس كما افتتن الناس بكم. ولكان له سبب آخر وجيه، بالغ في الوجاهة، يدعوه إلى تغليب رغبات الرعية على مكانة الولاة، وهو عصمة الدولة من أولئك الولاة أن يطول بهم العهد، وتتم لهم القدرة، ويحوطهم الحب والولاء، فلا يبقى بينهم وبين الانتقاض
36
إلا الفرصة السانحة، وهي أقرب شيء سنوحا في إبان التأسيس والانتقال.
Bilinmeyen sayfa