بل إن مجلة روز اليوسف نفسها ولا شك تعلم ماذا كان مصير محاولة كانت قامت بها، نقدا لأوضاع، فتصبح مدخلا لتقييم تجربة من التجارب، فإني لأذكر اجتماعا لمجلس الوزراء فتتملك الرئيس عبد الناصر سورة من غضب، إزاء الحملة التي قادتها المجلة ضد إدارات المستشفيات الكبرى بعد تأميمها، فتوالى ظهور الرسوم الكاريكاتورية عن «التومرجية» يأكلون طعام المرضى، وغير ذلك من مآس كانت ترتكب في تلك المستشفيات، فيعتبره هجوما سافرا على الاشتراكية، وأنها أمور يجب أن يوضع لها حد فورا، في حين الأمر لم يتعد في نظري، سواء صدر عن سوء نية كما كان يعتقد أم غير ذلك، أن كان هجوما على حالات من استغلال بشع، الحل هو في علاج أسبابها وإلا أدى سوء التطبيق إلى أن يكفر الناس بالاشتراكية، بينما الاشتراكية من تلك الوسائل براء.
فالموضوع إذن تحول إلى رفض بات لأي محاولات تقييم من جانب وسائل الإعلام؛ خوفا من أن يكون هدفها الخفي هو التشهير، فكيف بالله كان يمكننا الانتفاع من تجاربنا والاستدلال على مكامن الأخطاء في التطبيق؟
بالرطل ... ذي بتاع ماركس
ومع ذلك ورغم كل، فقد كانت فرص التقاء جمال عبد الناصر باليسار المصري مهيأة في أعقاب الانفصال السوري؛ إذ يوغر صدره ضد الفئات التي كان يمكن لليمين المستتر اجتذابها، ولكن تشككه المتأصل وقف مانعا ضد أي تعاون مثمر، وخاصة أن اليسار المصري كان لا يتمثل في تيار واحد وإنما تيارات عدة، جميعها، حتى تلك التي كانت مخلصة في وطنيتها (وإنها للغالبية العظمى) لا تدين بتبعية لتنظيمات أجنبية.
لكن العقبة الكأداء كانت لا تزال كامنة في أن اليسار المصري بفئاته جميعا، كان يعنيه الفعل وليس القول، التجربة الحية وليس الكلام المفروض من أعلى، وما كان بوسعه أن يعترف بالميثاق نظرية متكاملة.
وإني لأذكر كيف ثارت ثائرته مرة، في جلسة مع أحد معاونيه الأقربين، تصادف أن كنت حضرت طرفا منها: «بيقولوا إنها مش نظرية! أمال النظرية تبقى إيه! هم عايزين كتاب يتباع بالرطل ذي بتاع ماركس.»
خلاصة القول أن اليسار لم يكن يعترف بالميثاق نظرية متكاملة، وإنما يراه تعبيرا عن مجموعة من مواقف هي ردود فعل، اعتملت في وجدان جمال عبد الناصر تجاه ظروف استغلالية معينة، لصمت إلى بعضها البعض فتتلاحم دون ترابط وثيق.
بينما يراه جمال عبد الناصر وثيقة حرية بكل اعتزاز كإنجاز من إنجازات الفكر قل أن يكون لها نظير.
أما أن يتطور العمل عن طريق تجارب فعلية، فما كانت هناك تجارب يمكن أن يقال إنها خضعت لتقييم، فنتحسس طريقنا إلى أساليب من تطبيق من خلال الموازنة بين خطأ وصواب، وإنما كلها اتجاهات تفرض من أعلى.
تدعى أجهزة الاتحاد الاشتراكي إلى اجتماعات دورية متباعدة لمناقشة سير العمل في الأقاليم جميعا، وتطلع الصحف في اليوم التالي بعناوين ضخمة إن استمرت المناقشات ست أو سبع أو عشر ساعات، فيقرر كذا وكيت وهات يا قرارات!
Bilinmeyen sayfa