المقال الأول
المقال الثاني
المقال الثالث
علاقة اليسار بثورة يوليو بدأت قبل قيام الثورة
لم ينقد عبد الناصر إلا اليساريون
خطة اليمين: ضرب اليساريين بالناصريين
الوطنية جوهر الناصرية ولهذا وقف معها اليسار
فؤاد زكريا يرد على نفسه
كان جمال عبد الناصر كتوما فحكم بالأجهزة السرية
هل ستنتهي ثورة يوليو نهاية ثورة عرابي؟
الحساب الأخير لعبد الناصر والماركسيين
فؤاد زكريا يستأنف النزاع
الرأي العام يرد على فؤاد زكريا
المقال الأول
المقال الثاني
المقال الثالث
علاقة اليسار بثورة يوليو بدأت قبل قيام الثورة
لم ينقد عبد الناصر إلا اليساريون
خطة اليمين: ضرب اليساريين بالناصريين
الوطنية جوهر الناصرية ولهذا وقف معها اليسار
فؤاد زكريا يرد على نفسه
كان جمال عبد الناصر كتوما فحكم بالأجهزة السرية
هل ستنتهي ثورة يوليو نهاية ثورة عرابي؟
الحساب الأخير لعبد الناصر والماركسيين
فؤاد زكريا يستأنف النزاع
الرأي العام يرد على فؤاد زكريا
عبد الناصر واليسار المصري
عبد الناصر واليسار المصري
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
بقلم صلاح حافظ
كانت أول جهة قاومت نشر هذا الكتاب هي روز اليوسف، أو بتعبير أدق: مجموعة الكتاب السياسيين في هيئة تحرير المجلة. وكان الحق معهم إلى حد كبير. ولم يكن سهلا على الإطلاق تجاهل وجهة نظرهم.
كان الجو العام جو محاكمة لجمال عبد الناصر، وكتب تظهر هنا وهناك تدينه بطريقة أو بأخرى، وتنفد نسخها من السوق بمجرد أن تظهر.
وكان خصوم عبد الناصر أسرع من استثمر جو «الانفراج الديمقراطي» بعد مايو 1971م فبدءوا بحملة تشهير يشتمون فيها «مراكز القوى» التي سقطت في ذلك اليوم، ولكن بقصد التشهير ضمنا بجمال عبد الناصر وحكمه.
ثم جاءت حرب أكتوبر، وما تلاها من إطلاق شامل لحريات الكلام والتعبير، فكان خصوم عبد الناصر أسرع أيضا إلى استثمار الفرصة، ودون تحفظ هذه المرة. أطلقوا ألسنتهم فيه على اعتبار أنه كان سبب الهزيمة، بينما السادات سبب النصر. وبعد أن كانوا يهاجمونه ضمنا، في حملتهم على مراكز القوى، أصبحوا يهاجمونه شخصا، وعينا، وتاريخا، وإنجازات، وأصبح في قفص الاتهام كل شيء قاله أو فعله.
وتدفقت كتب ومقالات تعفي الاستعمار وإسرائيل من مسئولية تخريب مصر، وتلقيها على عاتق الإصلاح الزراعي، والسد العالي، ومجانية التعليم، ومحاربة الاستعمار، والتطور الصناعي، والتحول الاشتراكي ... إلى آخر هذه «الجرائم» الفادحة!
ثم شيئا فشيئا، تجاوزت الحملة حدود التضليل، ودخلت مرحلة البذاءة وأصبح يشترك فيها قوادون، ويغلب عليها ألفاظ رواد الحانات وبيوت الدعارة، ثم انعقد لواؤها في النهاية للذين احترفوا - في مختلف العهود - كتابة التقارير لأجهزة المباحث. فخيالهم الذي تدرب طويلا على اختلاق التقارير جعلهم أقدر من غيرهم في الاختلاق على عبد الناصر، وأكثر رواجا وجاذبية.
ومثلما تروج الصور الفاضحة، وكتب «الأدب» المكشوف، جاء وقت أصبح يكفي فيه أن تشتم عبد الناصر بأي كلام، على أي ورق لكي تنفد النسخ في ساعات.
في هذا الجو بالذات، تلقت «روز اليوسف» الصفحات الأولى من هذا الكتاب.
تلقتها في صورة مقال، طويل بعض الشيء، كتبه أستاذ الفلسفة الشهير «فؤاد زكريا» يناقش فيه علاقة جمال عبد الناصر باليسار المصري، ويصدر أحكاما قاسية عليه وعلى اليسار معا.
وكان جوهر المقال - كما كتبه الدكتور فؤاد - يتلخص في أن اليسار المصري قد أخطأ عندما شارك في تأليه جمال عبد الناصر، وتحالف معه دون شروط، ووضع نفسه في خدمته متغاضيا عن أخطائه. وأنه يخطئ الآن حين يستمر في الدفاع عن هذه الأخطاء وتبريرها، تاركا لليمين شرف كشفها ومهاجمتها.
ولكي يثبت الدكتور زكريا قضيته، فإنه قام بدراسة حاول أن يبين فيها أن عبد الناصر قد استخدم اليسار ولم يستخدمه اليسار، وأنه لم يضع سلطته في خدمة الاشتراكية، وإنما وضع الاشتراكية في خدمة سلطته. وأن اليسار أخطأ خطأ العمر حين فهم غير ذلك.
ومع أن موضوع المقال لم يكن محاكمة عبد الناصر، أو تقييم عهده، إلا أنه انطوى - كضرورة فرضها الموضوع - على شيء من المحاكمة وشيء من التقييم.
ومتى؟
في وقت حملة ضارية ضد عبد الناصر، يقودها كذابون ومخبرو مباحث، ويختلقون لحسابها كل ما يخطر بخيالهم المبتذل، ويقبضون ثمنها من ناشرين لا يهمهم إلا الرواج، أو يقبضون مباشرة من أسياد هؤلاء الناشرين.
وكان طبيعيا لهذا أن يعترض الكتاب السياسيون في «روز اليوسف» على نشر بحث الدكتور زكريا في الوقت الذي ورد فيه ... وأن يقرروا بالإجماع تأجيله حتى تنتهي حملة التشهير المبتذلة ضد عبد الناصر، حتى لا يستفيد منه قادة هذه الحملة وقوادوها.
وفعلا، تأجل نشر البحث عدة أسابيع.
ولكن الحملة كانت تزداد عنفا كل يوم ... وتزداد انحطاطا وهبوطا واستهانة بعقول الناس وتخريبا لها.
وهنا قررت «روز اليوسف» - ربما لأول مرة - أن تتجاهل رأي كتابها، وتتصرف عكس نصيحتهم، وتنشر البحث الذي أجمعوا على عدم نشره!
لماذا؟
بالذات لكي تجهض حملة القوادين ...
كان واضحا أن نقد عبد الناصر، ومراجعة الماضي بكافة تفاصيله، أصبح أهم ما يشغل الناس، وأن السبيل الوحيد إلى منع القوادين من استثمار هذه الحقيقة هي طرح طراز آخر، محترم، من النقد والمراجعة.
وليكن مضمون هذا النقد الآخر خاطئا، أو صائبا، وليكن ظالما أو منصفا ولنكن موافقين عليه أو رافضين له. فالمهم هو أنه يرتفع بمستوى نقد عبد الناصر من لغة المواخير إلى لغة مدرجات الجامعة. وأنه يحول هذا النقد من لعبة في مدينة الملاهي إلى قضية تستثير التفكير الجاد.
وفي التجربة ثبت أن «روز اليوسف» لم تخطئ عندما أقدمت - في 14 أبريل 1975م - على نشر بحث الدكتور زكريا ... برغم معارضة كتابها السياسيين.
فقد ماتت بالسكتة حملة القوادين بمجرد نشر الحلقة الأولى من البحث، وانصرف الرأي العام عن متابعة بضاعتهم المبتذلة، إلى متابعة المناقشة الموضوعية الراقية في «روز اليوسف».
وبعد أن كان الرأي العام يقرأ حملات القوادين ثم ينام، أصبح يقرأ حملة فؤاد زكريا ثم يسهر، ويكتب ردا عليها، أو تأييدا لها، أو اعتراضا على بعضها وموافقة على بعضها الآخر.
وهكذا انتقلت قضية «عبد الناصر» من عالم باعة الفضائح إلى عالم المشتغلين بالسياسة والفكر، وتحولت من مخدر لعقول الناس إلى محرك لها، وحافز لهم على الكتابة والتفكير.
وقبل أن تنشر الحلقة الثالثة والأخيرة من بحث الدكتور زكريا، كانت «روز اليوسف» قد تجمع لديها سيل من رسائل القراء ... يتراوح طول كل منها ما بين صفحة ومائة صفحة. وكل سطر فيها جدير بالاحترام؛ لغة ومعنى، تجربة وفكرة ... بصرف النظر عن مدى الصواب أو الخطأ فيما تقول ...
ولم تكن «روز اليوسف» في حاجة إلى دليل أبلغ من هذا على صواب قرارها بنشر بحث الدكتور؛ فها هو الموضوع الذي كان تجارة قد صار قضية، وها هو الجمهور الذي كان يقرأ نقد عبد الناصر على سبيل الاستمتاع الرخيص أصبح يقرؤه على سبيل الفهم والتفهم، وأصبحت القراءة تحفزه على التفكير والتحليل ... وعلى الكتابة أيضا.
ولكيلا يعود الرأي العام يستدرج إلى المستوى الهابط القديم، فقد حرصت «روز اليوسف» على أن تتلو بحث الدكتور زكريا ردود عليه. تتمتع بنفس المستوى من الجدية والموضوعية. وكان كتاب السياسة في «روز اليوسف» بالطبع أسبق الجميع.
لكن كتابا من خارج «روز اليوسف» بدءوا يقتحمون الميدان.
وشيئا فشيئا تراكمت الردود، والبحوث والمقالات. ولم تعد «روز اليوسف» قادرة على استيعاب السيل الذي يغمرها كل أسبوع وبدأ الموقف يتطور إلى مأزق لا حل له!
وحتى هذه اللحظة، ما تزال ترد إلى «روز اليوسف» أبحاث تستحق النشر كلها، ولكن صفحات المجلة لا تستطيع بحال أن تستوعبها.
ومن هنا ... نشأت فكرة هذا الكتاب.
ومادته - كما سيرى القارئ - هي بحث الدكتور زكريا، ثم الأبحاث المضادة للكتاب الذين ردوا عليه، ثم عرض لمعظم ما كتب القراء، أو بالتحديد لفقرات مما كتبوا. وقد اخترنا كل فقرة بحيث لا تكرر معنى سجلته فقرة أخرى. وفضلنا ما كتب رجال ونساء لا يحترفون الكتابة، وإنما يكتبون من واقع تجاربهم في مواقع العمل ... حتى نضمن أن يكونوا معبرين حقا عما نعنيه بكلمة «الرأي العام».
ونحن واثقون من أن الكتاب، بصورته هذه، يقدم خدمة خاصة لكل فئة من الفئات القارئة في مصر والعالم العربي.
فهو بالنسبة للقارئ العادي فرصة للاطلاع على الآراء المختلفة حول قضايا ربع القرن الماضي وكلها تمس حياته.
وهو بالنسبة للمهتمين بالسياسة ندوة تناقش أخطر وأهم تجربة ثورية في العالم العربي المعاصر.
وهو بالنسبة للمفكرين، والكتاب، والمؤرخين، مادة خصبة للتحليل ... تتاح لهم دون أن يتكبدوا عبء جمعها بأنفسهم.
وهو بالنسبة للشباب مجرد بحث يبين لهم كيف يفكر آباؤهم، وكيف يحكمون على أهم إنجاز في جيلهم، ومن خلال هذا المرجع تتهيأ لهم فكرة لا بأس بها عما سيرثون من متاعب ... ومن أمجاد أيضا.
أما بالنسبة لنا في «روز اليوسف»، فالكتاب حل موفق لمأزق وقعنا فيه، وحجة لا بأس بها لإقفال باب الحوار على صفحات المجلة حول هذا الموضوع الذي يتعلق بالماضي ... وتخصيص المساحة التي سيوفرها لقضايا أخرى، تتعلق بالمستقبل!
المقال الأول
هل كان جمال عبد الناصر فوق مستوى الخطأ؟
عن نفسي مع الخجل الشديد
لا توجد طريقة لكتابة المقال، أو مجموعة من المقالات، أسوأ من أن يبدأ الكاتب بالكلام عن نفسه، ولكنني أجد نفسي مضطرا إلى أن أبدأ على هذا النحو؛ لأن الموضوع الذي أعالجه يتسم - في هذه الأيام بوجه خاص - بقدر من الحساسية يجعل كل من يتطرق له مطالبا بأن يثبت براءته من الدوافع الشخصية، ومن شبهة الرجعية، ومن الجبن والانتهازية، قبل أن يكتب فيه كلمة واحدة، فليتحمل القارئ قليلا بعض الأسطر التي سأحدثه فيها عن نفسي، وسوف يجد فيما يلي ذلك من أجزاء المقال ما يقنعه بأن هذه البداية السيئة، كانت شيئا لا مفر منه.
ولأبدأ بمسألة الدوافع الشخصية؛ فكثيرون ممن يكتبون عن الناصرية كتابة نقدية، في أيامنا هذه، لديهم بالفعل دوافع شخصية تسهم أو تمس المحيطين بهم أو مصالح الطبقة التي يريدون استعادة مجدها. أما أنا فلم تكن لدي، أو لدى واحد من أفراد أسرتي المباشرة أو أقربائي البعيدين، أرض انتزعها الإصلاح الزراعي، أو مصنع أو شركة سرى عليها التأميم.
والأمر الذي أستطيع أن أؤكده بصورة قاطعة هو أن العهد الناصري لم يمس أية مصلحة من مصالحي بالضرر، بل إنني - على العكس من ذلك - أحرزت خلاله بالتدريج أي قدر من النجاح أستطيع أن أقول إنني حققته في مجالي المحدود: مجال أستاذ الجامعة والكاتب المفكر.
أما عن شبهة الرجعية، فإنني أصنف نفسي من بين التقدميين، وربما كنت قد تعرضت في وقت من الأوقات لحملات يعرفها كثير من القراء، اتهمت فيها بما هو أشد من ذلك، وعلى أية حال فإنني أعتقد أن اليسار، إذا كان يعني الدعوة إلى التغيير والتجديد، وإلى إعطاء الأولوية للمشروعات التي تخدم مصالح الفئات العريضة من المجتمع، بدلا من تلك التي تخدم فئات محدودة، ومحظوظة في داخله، وإذا كان يعني الدعوة الصريحة القاطعة إلى تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، لا صورية، يحس بها الإنسان المطحون ويلمس أثرها في حياته المباشرة، وإذا كان يعني صون الكرامة الإنسانية وحمايتها من الذل والفقر والظلم الاجتماعي والسياسي؛ إذا كان اليسار يعني ذلك كله، فإنني أعد نفسي يساريا بلا أدنى تردد، وأعتقد أنني كنت أدافع عن هذه المعاني على الدوام.
وأما صفة الجبن والانتهازية، فإن أولاهما تتعلق بموقف من الماضي، والثانية تتعلق بموقف من الحاضر والمستقبل.
فهناك بالفعل نقاد للعهد الناصري كانوا ممن يحرقون له البخور طوال أعوامه الثمانية عشر، وكانوا طول تاريخهم ممن يجيدون تغيير جلدهم بتغير الحاكم، ولم يكن التغيير الذي طرأ على موقفهم من حكم عبد الناصر هو التحول الوحيد في حياتهم، بل إنهم سبق أن مارسوا مثل هذا التحول في أوائل عهد عبد الناصر لصالح عبد الناصر ذاته، وضد أسيادهم السابقين، هذه حقيقة لا شك فيها، ولكني أستطيع أن أقول عن نفسي، بعبارات قاطعة: إنني لست من هؤلاء. أما السؤال التقليدي الذي يثار في هذه الأيام ضد من يوجه انتقادا للعهد الناصري والذي يقول: أين كنت في ذلك العهد ولماذا لم تتكلم أثناءه؟ ففي استطاعتي أن أجيب باطمئنان كامل أنني تكلمت، ونبهت، وانتقدت، وعلى من يود التأكد من ذلك أن يعود إلى قراءة مقالاتي في مجلة الفكر المعاصر وغيرها، وسيجد - فضلا عن ذلك - أن هذه المقالات والكتابات لم تتضمن عبارة تملق واحدة حتى من ذلك النوع الذي اعتاد الكتاب أن يبدءوا به كتاباتهم لكي يضمنوا لانتقاداتهم التالية قدرا من الأمان، وأنا أقول ذلك مطمئنا، وأتحدى من يحاول أن يثبت عكسه.
وأما عن الانتهازية، فتلك شيمة الكثيرين ممن يتصورون أن نقد التجربة الناصرية قد أصبح مطلوبا، وأنه قد يضمن لهم، في الوقت الحاضر أو في المستقبل، مزيدا من الحظوة ويكفل لهم سبيل «الوصول».
وتلك بدورها صفة بعيدة عني كل البعد؛ لسبب بسيط هو أنني راض عن نفسي وعن موقعي كل الرضا، ولو كنت من أصحاب المطالب أو التطلعات لكان لي شأن آخر وطريق آخر، منذ وقت طويل.
وبعد، فإني - أيها القارئ العزيز - أشعر بالخجل الشديد إذ أجد نفسي منساقا إلى مثل هذا الحديث الشخصي عن نفسي، ولكن ما حيلتي وأنا أود أن أكتب عن الناصرية كتابة فيها جانب سلبي، وكل من يكتب سلبيا في هذه الأيام متهم في شخصه، وفي ماضيه وحاضره وأخلاقه ألست معي أنني مضطر إلى كتابة هذه المقدمة، حتى أقنع القراء بموضوعيتي، وأضمن عدم الربط بين القضايا التي سأثيرها وبين أية اعتبارات أو مصالح شخصية؟
والآن، تعال ندخل في الموضوع ...
درس ستالين
بعد عامين أو ثلاثة من موت جوزيف ستالين، بدأت عملية إعادة تقييم واسعة النطاق لعهد ذلك الزعيم الذي حكم الاتحاد السوفيتي قرابة الثلاثين عاما، والذي حياه الكتاب في مختلف أرجاء العالم، وفي مصر أيضا عقب وفاته مباشرة بوصفه بطلا من أبطال السلام، وإنسانا عظيما، ومناضلا صلبا من أجل الاشتراكية. وأخذت تتكشف بالتدريج صورة أخرى لستالين، ظهر فيها حاكما مستبدا زج بالألوف في السجن بلا سبب، وأعدم الكثيرين دون محاكمة حقيقية، واستخدم أبشع الأساليب البوليسية من أجل توطيد مركزه الشخصي في الحكم.
ولقد أثارت عملية إعادة التقييم هذه ضجة كبيرة في أوساط المفكرين والمعلقين السياسيين في مختلف أرجاء العالم، وأحدثت رد فعل قويا لدى الكثيرين؛ فالبعض، ممن يتمسكون بالخط الشيوعي المتطرف، دافعوا بحرارة عن ستالين، مؤكدين أن الإجراءات الاستثنائية التي ربما كان قد لجأ إليها، إنما كانت ترجع إلى أنه كان يبني دولة جديدة، ويؤسس نظاما اشتراكيا لأول مرة في تاريخ العالم، ويواجه في سبيل ذلك قوى عاتية داخل بلاده وخارجها، وكفاه فخرا في نظر هؤلاء المدافعين أنه هو الذي وطد دعائم الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وكان هو المنتصر الحقيقي في الحرب العالمية الثانية التي كانت جبهة غرب أوروبا والشرق الأوسط فيها نزهة عسكرية إذا قيست بأهوال المعارك في الجبهة الشرقية، ونستطيع أن نقول إن موقف الدفاع هذا يمثل خطا لا تزال تأخذ به الصين الشعبية وألبانيا حتى اليوم.
غير أن الخط الذي أخذت به الغالبية الكبرى من المفكرين النظريين الاشتراكيين في مختلف أرجاء العالم، وضمنهم اليساريون المصريون، هو أن نجاح ستالين في دعم النظام الاشتراكي في بلاده، ونقلها من بلد زراعي متخلف إلى بلد صناعي من الطراز الأول، وتحقيق الصمود ثم الانتصار لها في أكبر معارك الحرب العالمية الثانية؛ كل ذلك لا يشفع له فيما ارتكبه داخليا من جرائم، ولا يعفيه من محاسبة الحزب له بعد موته، وهي المحاسبة التي بلغ من قسوتها أن نقل جثمانه من مقبرته، وحذف اسمه من مدينة «ستالينجراد» التي دارت فيها معركة التحول الحاسمة في الحرب الماضية وأغفل ذكره تماما - وكأنه لم يكن - من القواميس ودوائر المعارف التي ألفت منذ ذلك الحين.
وظهر رد فعل آخر على إعادة التقييم هذه لدى بعض المفكرين من ذوي النزعة الليبرالية؛ إذ رأوا فيها نوعا من المحاكمة الغيابية لرجل مات ولم يعد قادرا على الدفاع عن نفسه، وأبدوا استنكارهم - من وجهة النظر الأخلاقية - لأن الذين عقدوا هذه المحاكمة الغيابية هم أنفسهم زملاء ستالين ورفاقه على جرائمه، بل كانوا يؤيدونه فيها بصورة ضمنية ولم يتذكروا أنه كان مذنبا إلا بعد أن مات، غير أن الغالبية العظمى من الكتاب الاشتراكيين، ومن بينهم عدد كبير من اليساريين المصريين والعرب، دافعوا عن محاكمة ستالين بعد موته على أساس أن الاعتبارات الأخلاقية كغدر الزملاء وخيانتهم لزميلهم، والافتقار إلى الوفاء لذكرى زعيم كبير رحل عن هذا العالم، لا ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحكم على أعمال رجل الدولة، وإني لأذكر جيدا ما كتبه كثير من اليساريين في مصر عن ضرورة الاتصاف ب «الموضوعية الثورية» التي تترك جانبا المسائل الأخلاقية وتركز على الوجه الموضوعي لتصرفات الحاكم، مؤكدين بناء على ذلك أن العهد الجديد في الاتحاد السوفيتي كان له كل الحق في محاكمة ستالين بعد موته مباشرة.
وقد حدث مثل ذلك للزعيم الذي أخذ على عاتقه هذه المحاكمة؛ أعني نيكيتا خروشوف، الذي أعيد تقييم سياسته هو الآخر وكان من نتيجة إدانته أن قضى الجزء الأخير من حياته مهملا، وعندما مات لم يحضر جنازته إلا عدد من أقربائه يعد على الأصابع، وامتنع المسئولون؛ كبارهم وصغارهم، عن حضورها.
تلك وقائع أردت أن أسردها لا لكي أبدي فيها رأيا بالقبول أو بالرفض، بل لكي أبين أن اليسار قد اتخذ في تلك الحالات موقفا يبدو من الوجهة الأخلاقية مفرطا في قسوته، ويبدو بعيدا كل البعد عن صفات المروءة والشهامة والوفاء لذكرى الراحلين، ولكن وجهة نظره هي أن مبادئ الحياة السياسية تختلف عن مبادئ الحياة الشخصية، وأن الاعتبارات الأخلاقية التي تحكم تصرفاتنا الشخصية لا ينبغي أن تكون أساسا للحكم على تصرفات الحكام السياسيين، بل يتعين علينا أن نتوخى «الموضوعية الثورية» في أحكامنا السياسية، ونترك العواطف جانبا حين يكون الأمر متعلقا بمصائر الشعوب.
إنني - بالطبع - لم أكن أهدف، من اختيار الأمثلة السابقة، إلى أن أصدر حكما مسبقا بتشبيه دور جمال عبد الناصر في الثورة المصرية بدور جوزيف ستالين في الثورة السوفيتية، وإنما أردت أن أقارن بين رد فعل اليسار على عملية إعادة التقييم في كلتا الحالتين: ففي حالة ستالين كانت الكتلة الرئيسية من اليسار العالمي، وضمنها اليسار المصري، مؤيدة لمبدأ توجيه الاتهام إلى ذكرى ستالين، على الرغم من إنجازاته الضخمة التي لا يمكن أن يغفلها التاريخ. أما في حالة جمال عبد الناصر فإن اليسار المصري يتخذ موقف الرفض التام لأي نوع من إعادة التقييم، والهجوم الشديد على كل من يتصدى للعهد الناصري بالنقد، وكأن هذا العهد كان فوق مستوى الخطأ.
ومن العجيب حقا أن كثيرا من اليساريين الذين يعتبرون أنفسهم حماة لذكرى العهد الناصري، يلجئون في هجومهم على نقاد ذلك العهد إلى سلاح الأخلاق، ويتحسرون على الشجاعة المفقودة التي جعلت هؤلاء النقاد لا يفتحون أفواههم إلا بعد رحيل الزعيم ، ويترحمون على معاني الوفاء والإخلاص لذكرى الأموات، أقول إن هذه ظاهرة عجيبة، لا لأني غير معترف بقيم الشجاعة والوفاء، بل لأن اليساريين هم أنفسهم أصحاب مبدأ «الموضوعية الثورية»، وهم الذين يؤكدون أن الأخلاق بناء فوقي وأنها ناتج وحصيلة لظروف موضوعية تنتهي إلى بنية المجتمع الأساسية، وبالتالي فإن تقييم السياسات على أسس أخلاقية هو في الواقع نزعة «مثالية» لا يصح أن يكون لها مكان في أية نظرة علمية إلى الظواهر الاجتماعية.
والأمر المؤكد في نظري هو أنه، عندما يكون الأمر متعلقا بمصير أمة مرت بتجربة معينة في الحكم دامت قرابة عشرين عاما، فلا ينبغي أن نمتنع عن التقييم الموضوعي الصارم مراعاة للعواطف و«الشهامة» والنخوة، ولا يجب السكوت عن الخطأ لمجرد أن مرتكبه قد مات، وخاصة إذا كان هذا الخطأ متعلقا بحياة الشعب بأسره، وإني لأتساءل: كيف نستطيع أن نرسم خطوط مسيرتنا في المستقبل إذا لم نستوعب دروس الماضي كاملة، إذا لم نحكم عليها بموضوعية ونزاهة، دون عاطفية كاذبة أو ولاء ساذج؟
حافز المبدأ وحافز المصلحة
الآن لنحاول أن نحلل موقف اليسار المصري من القضية التي تثار في هذه الأيام على نطاق واسع، في العالم العربي عامة، وفي داخل مصر بوجه خاص، وأعني بها قضية تقييم التجربة الناصرية.
إن اليسار - أو على الأقل الفئة البارزة فيه، التي تعبر عن نفسها في وسائل الإعلام - يتخذ موقف الدفاع المطلق عن التجربة الناصرية. ولهذا الدفاع المطلق في تصوري سببان رئيسيان:
أولهما:
أن الأصوات التي ترتفع من اليمين، في هذه الأيام تهدد بالفعل بالقضاء على كل العناصر ذات المسحة الاشتراكية في التجربة السابقة. فلو بحثت عن الأهداف الحقيقية لأصحاب هذه الأصوات، لوجدت أنها إلغاء القطاع العام كلية وعودة القطاع الخاص إلى الاستحواذ على الاقتصاد القومي، وإلغاء التأميمات وإعادة المصانع والبنوك إلى أصحابها القدماء، وربما إلغاء الإصلاح الزراعي ذاته وعودة الملاك الكبار بصورة أو بأخرى. هذه الأهداف لا يعلن عنها، طبعا، بمثل هذه الصراحة ولكنها واضحة كل الوضوح في الخلفية الفكرية لكثير من نقاد التجربة الناصرية . وهكذا يجد اليسار المصري لزاما عليه أن يتخذ الموقف المضاد، موقف الدفاع المطلق عن هذه التجربة؛ لأنه بذلك إنما يدافع أيضا عن عناصر أساسية من عناصر البناء الاشتراكي الذي يسعى إلى إرساء قواعده ويقطع الطريق على دعوات الردة التي تستهدف إعادتنا إلى نمط اقتصادي تمتزج فيه إقطاعية القرون الوسطى برأسمالية القرن التاسع عشر.
أما العامل الثاني:
فأقل موضوعية من العامل السابق، ولكن من الواجب ألا نغفل عن أهميته في الموقف الذي نحن بصدده؛ ذلك لأن التجربة الناصرية اقتضت، في مراحلها الأخيرة، تعيين بعض البارزين في مناصب رفيعة، وسوف أتناول فيما بعد هذه الظاهرة بالتحليل والتعليل، أما الآن فإني أكتفي بتسجيلها وبالإشارة إلى نتائجها بالنسبة إلى التصرفات التالية لهؤلاء اليساريين؛ فقد ظهر واقع جديد لم يألفه اليسار المصري في أية مرحلة سابقة من مراحله؛ هو وجود «مصالح» لعدد غير قليل من أقطابه، ارتبطت بالتجربة الناصرية وأصبحت تحتم على أصحابها الدفاع عن هذه التجربة دفاعا مستميتا، كما أصبحت تتحكم إلى حد بعيد في تصرفات عدد كبير من مهاجمي هذه التجربة، الذين يريدون أن يحلوا محل اليساريين في تلك المناصب الرفيعة، وأن يسيطروا - ماديا ومعنويا - على الأجهزة التي كان لليساريين فيها مركز رئيسي. وفي اعتقادي أننا لا ينبغي أن نغفل هذا العامل عندما نتأمل موقف الدفاع المطلق أو الهجوم الذي يتخذه اليسار واليمين - وخاصة في قطاع الإعلام - من التجربة الناصرية. فكثير من الأصوات التي نسمعها هي في واقع الأمر أصوات المصالح الخاصة. وعندما تتدخل المصالح لا تعود المبادئ وحدها هي التي تتكلم؛ لأن هناك وضعا يريد أحد الطرفين أن يحافظ عليه، ويريد الطرف الآخر أن ينقض عليه ويقتنصه. وربما لم يكن هذا العامل ظاهرا على المستوى الشعوري لدى كثير من اليساريين (بينما هو لدى خصومهم واضح وواع تماما)، ولكنه على الأقل يشكل خلفية لا شعورية بدونها يصعب تفسير هذه الاستماتة في الدفاع عن تجربة في الحكم كانت بلا شك مشوبة بقدر غير قليل من الأخطاء وكانت أخطاؤها من النوع الذي لا يغتفره الفكر اليساري بالذات ، في الأحوال العادية، بل يشن عليه أقوى هجماته.
جوهر الخطأ الناصري
ولنبدأ من هذه النقطة الأخيرة، أعني الأخطاء التي كان المفروض أن يكون اليساريون أول من ينبهون إليها. هذه الأخطاء في رأيي، تتركز في أسلوب تطبيق الاشتراكية ذاتها.
فقد كان من واجب اليساريين أن يدركوا، قبل غيرهم، أن الأسلوب الذي طبقت به الاشتراكية يسيء إلى الاشتراكية أكثر مما يفيد قضيتها؛ فالتأميم وإنشاء قطاع عام واسع ليس - بالنسبة إلى الاشتراكية - غاية في ذاتها، وإنما هو وسيلة لكي تتم سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، ولكي يرتد عائد هذا الإنتاج في نهاية الأمر إلى الشعب.
وفي التجارب الاشتراكية الناجحة ظهر أثر هذه الإجراءات على الطبقات الشعبية بوضوح في فترة وجيزة. صحيح أن الطبقات العليا، وربما الوسطى أحيانا، يصيبها الضرر، ولكن الغالبية العظمى من الشعب، ممن يكونون طبقاته الكادحة يشعرون على الفور بأثر تطبيق الاشتراكية على حياتهم؛ فقد تتخذ الدولة - مثلا - قرارا بأن يخصص لكل أسرة مسكن من حجرتين، وفي هذه الحالة ستشعر مليون أسرة كانت تعيش في أربع حجرات بالضيق، وتنضم إلى قائمة المعارضين وربما هاجر بعض أفرادها وحاربوا النظام في الخارج، ولكن عشرات الملايين من الأسر كانت تعيش في أكواخ أو على الأرصفة ستشعر بالامتنان، وتحس بأن حياتها قد تغيرت إلى الأحسن، وتدافع عن النظام بكل ما تملك من قوة، وقد تقرر الدولة للفرد حذاء واحدا كل عامين، فيحس من اعتاد تنويع ملابسه بالسخط، ولكن ملايين الحفاة سيفرحون.
وعلى العكس من ذلك، فإن التجربة الاشتراكية الناصرية لم تضع الطبقات الشعبية نصب عينيها دائما [فيما] كانت تتخذه من إجراءات، بل كانت في بعض الأحيان تصدر قرارات يعجب المرء حقا لصدورها في عهد اشتراكي، كرفع سعر الأرز والكيروسين، وهما مادتان أساسيتان للكادحين الفقراء، في الوقت الذي تحتفظ فيه لكبار الموظفين ورجال الدولة بكل الامتيازات التي وصلت أحيانا إلى حد الترف والبذخ المقزز. ويكفي أن الجنيهات المعدودة التي كانت تشكل دخل العامل أو الفلاح أو الموظف الصغير كانت تظل ثابتة أو تنقص، في الوقت الذي ظلت فيه قوتها الشرائية تضعف عاما بعد عام. وبقدر ما أعلم فإن التجارب الاشتراكية الناجحة تسعى إلى زيادة القوة الشرائية لأجور العمال، عن طريق إجراء تخفيضات متوالية لأسعار المواد الأساسية - وهو أمر لم يحدث عندنا في حالة واحدة.
أما الفوارق بين الطبقات، فمن المؤكد أنها لم تزل على الإطلاق في تجربة الاشتراكية الناصرية. وإذا كانت هذه التجربة قد بدأت بمجتمع النصف في المائة، فأخشى أن أقول إنها قد انتهت بمجتمع الخمسة في المائة! أعني أنها وسعت نطاق الطبقة العليا إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه، دون أن تقرب منها الطبقة الدنيا، بحيث كانت النتيجة العملية هي زيادة عدد الأسياد.
وعلى الرغم من أنني أخشى أن أتهم بالسطحية، فإنني سأضرب مثلا مفرطا في البساطة للتدليل على وجهة نظري؛ فلقد ألغت الثورة الألقاب بمجرد قيامها، ومع ذلك لا تزال الألقاب تستخدم في المحادثات اليومية حتى اليوم، لا لأنها عادة يصعب التخلص منها فحسب، بل لأن مبررات وجود الألقاب ما زالت قائمة. ولا يكفي لإزالة هذا الوضع أن تلغى الألقاب بقرار حكومي ولذلك استمرت متداولة على الألسن؛ لأن بلادنا بالفعل ما زالت مليئة «بالبكوات» حتى لو لم يكونوا رسميا من حملة اللقب ويكفي أن تقارن بين رئيس إحدى المؤسسات والعامل البسيط فيها، ليس فقط من حيث دخله أو نمط معيشته، بل أيضا من حيث نظرته إلى نفسه ومدى إحساسه بكرامته كعضو في المجتمع، لكي تدرك بوضوح أن الفوارق بين الطبقات ما زالت على ما كانت عليه.
إنني أدرك جيدا نوع الاعتراضات التي ستوجه إلي، وهي أنني لا أنظر إلى الصورة الكلية، بل أكتفي بالجزئيات. والصورة الكلية، في نظر أصحاب هذا الاعتراض، هي نزع مصادر الثروة والإنتاج من أيدي الإقطاعيين والرأسماليين والأفراد، وإقامة قاعدة صناعية قوية يمكن أن تكون نواة لتحول اشتراكي حقيقي في المستقبل. وأنا لا أنكر أن هذه الصورة الكلية صحيحة، ولكني لا أستطيع أن أعترف بنتيجتها ما لم يتحقق هذا التحول، بمعاييره المعروفة، أو تكون بوادره على الأقل قد بدأت في الظهور.
وطالما أن هذا التحول لم يتحقق، فلن يكون في وسع أحد أن يرد على النقد الذي كان يتردد من آن لآخر وهو أن الدولة في بعض النظم تسيطر على المرافق الإنتاجية لخدمة جهازها الخاص، وللتخلص من الخطورة التي يشكلها وجود المال وأدوات الإنتاج في أيدي طبقة منافسة.
وربما بدا للبعض أن هذا النقد الأخير له مبرراته القوية في حالة التجربة الناصرية بالذات؛ إذ قد لا يكون من المصادفات أن تبدأ إجراءات التأميم في أواخر أيام الوحدة مع سوريا، حتى بدأت الطبقة المسيطرة على المال في الإقليم الشمالي تناوئ الوحدة بوضوح وتعززت هذه الإجراءات في مصر حين تبين - بعد الانفصال - أن هذه الطبقة تشكل خطرا حقيقيا، وأنها تستطيع أن تهدد النظام القائم بما لديها من قوة اقتصادية.
كذلك سيكون من الصعب الرد على النقد الذي تردد على ألسنة الكثيرين، والذي قيل فيه إن هذه السيطرة على مرافق الإنتاج يمكن - في أحوال معينة - أن تنقلب إلى إجراء في غير مصلحة الشعب، إذا كانت السياسة العامة للدولة التي تحدث فيها هذه السيطرة سياسة مغامرات وشراء للأعوان والأنصار في الداخل والخارج. وكلها أمور تحتاج إلى أموال لن تتوافر إذا كان الإنتاج في أيدي أفراد.
ولعل الأمر الذي يدهشني حقا سكوت اليساريين عليه، في التجربة الناصرية، هو الانعدام التام للرقابة الشعبية على المال العام؛ فقد تدفقت أموال كثيرة، ابتداء من القصور الملكية المصادرة حتى أموال المجهود الحربي، مرورا بالحراسات وغيرها في مسارب ليست كلها معروفة، وظهرت حالات عديدة من الثراء غير المشروع لدى أفراد لم يكن إيرادهم أو دخلهم يسمح لهم بأن يكونوا من الأثرياء. والأهم من ذلك أن الوظائف العامة ذاتها أصبحت، خلال فترة طويلة من هذه التجربة، فرصة للحصول على مغانم، لا لأداء خدمات عامة ومن المؤكد أن أجهزة كثيرة كانت تعرف تفاصيل حالات استغلال النفوذ التي كان معدلها يزداد عاما بعد عام، ولكنها كانت تصمت أو تتستر عليها، ولا تستغل ما تعرفه من معلومات إلا في الحالات التي تريد فيها أن تفضح شيئا.
وبوصفي مواطنا عاديا يحس بالقلق على مصير بلاده، وبالحزن على أوضاع الملايين من فقراء شعبه، فإني لا أستطيع أن أتصور تجربة اشتراكية يكاد يكون استغلال النفوذ هو القاعدة فيها، والنزاهة هي الشذوذ ولقد كانت تلك بالفعل هي النتيجة المنطقية لانعدام الرقابة الشعبية على المال العام، ولأن معظم المستغلين كانوا يستندون إلى مراكز القوى، بأجيالها المختلفة، ومن ثم كانوا في كثير من الأحيان يرتكبون آثامهم بطريقة شبه علنية، اعتمادا على متانة «المسند» الذي يرتكزون عليه. وفي شعب فقير مطحون، كالشعب المصري، يصبح مثل هذا الاستغلال جريمة كان ينبغي أن يشنق مرتكبها علنا في أوسع الميادين، ومع ذلك فإن التستر كان هو القاعدة، وما زالوا يشاركون فيه إلى اليوم بدفاعهم المطلق عن التجربة الناصرية.
المقال الثاني
دفاع اليسار ... والرد عليه
كان العذر الذي يقدم لهذا التسيب في الداخل، ولهذا التراخي في تطبيق المعايير الاشتراكية الصحيحة على الحياة الاقتصادية للبلاد؛ عذرا مزدوجا: فقد كانت مصر تمر بمرحلة تريد فيها أن تثبت وجودها خارجيا، وأن تؤدي رسالتها على المستوى العربي والأفريقي ومستوى بلاد العالم الثالث بوجه عام. ومن جهة أخرى كان من الضروري بناء جيش قوي لدعم هذه السياسة الخارجية، ولتأكيد هيبة مصر في العالم والوقوف في وجه المؤامرات المناوئة، التي كانت إسرائيل هي الأداة المختارة لتنفيذها، وبالفعل أثبتت مصر وجودها، خلال فترة التجربة الناصرية، على نحو لا يستطيع أحد أن ينكره، وتمت إنجازات على الصعيد الخارجي جعلت للتجربة الناصرية سمعة عالمية وسط بلاد العالم الثالث.
وإذا كان هناك من مأخذ على هذه الإنجازات، فربما كان المأخذ الوحيد هو نجاحها الزائد ذاته؛ ذلك لأن هذا النجاح كان يغري بمزيد من الاهتمام بالسياسة الخارجية على حساب الأوضاع الداخلية للشعب.
وحين أقول «على حساب»، فأنا أستخدم هذه الكلمة بمعنيين:
المعنى الأول:
معنى تجاهل هذه الأوضاع الداخلية وإبداء اهتمام ضئيل بها، ما دام النجاح الخارجي يحجب سوء الأوضاع في الداخل ويمتص أي سخط يمكن أن يترتب عليه.
المعنى الثاني:
الأقرب إلى المعنى الحرفي ، هو الإنفاق المتزايد على العمليات الخارجية من أموال كان الشعب في الداخل أحوج ما يكون إليها.
وأنا لا أنكر أن الحدود الفاصلة بين «السياسة الخارجية» و«السياسة الداخلية» مرنة ومطاطة إلى أبعد حد بحيث لا يكون من الصواب إيجاد فاصل قاطع بينهما، ولكن هذه الحقيقة هي ذاتها التي تدفعني إلى توجيه هذا المأخذ: فالسياسة الخارجية الناجحة لا بد أن ترتكز على جبهة داخلية قوية، وعلى قاعدة شعبية مؤمنة بها، وقادرة على الاضطلاع بأعبائها؛ لأنها حققت - على الأقل - حدا أدنى من طمأنينة العيش، ولكن المؤسف أن عدم التناسب بين الاهتمام الخارجي والاهتمام الداخلي بلغ حدا جعل هذه السياسة الخارجية الناجحة مفروضة «من أعلى» وليست مخططة ومرسومة بوصفها الحصيلة النهائية لموقف المجتمع ككل من مشكلات العالم الخارجي، ولو كانت الجبهة الداخلية التي تستند إليها تلك السياسة الخارجية - التي كانت وجهتها العامة سليمة بالفعل - أقوى مما هي عليه، لتغلبت تلك السياسة بسهولة على كثير من العقبات التي تراكمت عليها، وخاصة في النصف الأخير من فترة التجربة الناصرية.
أما بناء الجيش القوي، الذي كان واحدا من أهم الأهداف الستة لثورة 1952م فكان أمرا لا مفر منه إزاء التحدي الصهيوني الذي أثبت بعد عام 1956م أنه لم يلتهم فلسطين فحسب، بل أصبح يهدد كل بلد عربي ذي نزعة استقلالية داخل أرضه. ومن المؤسف حقا أن الأموال التي أنفقت في سبيل هذا الهدف، والجهود التي بذلها عسكريون مخلصون يفخر بها تاريخنا القومي، قد ضاعت هباء بسبب التفكك الذي أصاب القيادات العسكرية في ذلك الحين، والذي جعلها تبدد عرق الشعب المصري وماله الذي كان يعتصره من قوته الضروري، وتتركها تحت رحمة العدو كل عشر سنوات.
والواقع أنه في وسع الكاتب أن يتحدث في هذا الموضوع بمزيد من الرؤية الواضحة بعد حرب أكتوبر، التي كانت أول امتحان حقيقي لجيشنا وهو امتحان أثار نجاحه فيه دهشة العالم أجمع. ففي ضوء إنجازات هذه الحرب الأخيرة نستطيع أن ندرك فداحة الخسارة التي لحقت بوطننا وبجيشنا، في الحربين السابقتين؛ نتيجة لتفسخ القيادات واهتمامها بكل شيء ما عدا مهمتها الأصلية. والشيء الذي يدعو إلى الأسى هو أن هذا التفسخ كان معروفا للأجهزة التي كانت تحصي على المواطنين العاديين حركاتهم وسكناتهم، ومع ذلك لم يحاول أحد تدارك الأمر ووضع الجيش في أيد أمينة، جادة، تعلم أن رسالتها الحقيقية هي الحرب والدفاع عن الوطن، لا الإغراق في الملذات والدخول في مناورات ومؤامرات شخصية.
ولم تكن النتائج المترتبة على انحلال القيادات العسكرية متعلقة بأوضاع الجيش ذاته فحسب، بل لقد انعكست هذه النتائج بوضوح على السياسة الخارجية والداخلية معا.
ففي مجال السياسة الخارجية، كان إخفاق السند العسكري الذي لا غناء لهذه السياسة عنه مؤديا إلى انتكاسات أضاعت كثيرا من المكاسب التي تراكمت على مر السنين، وأوضح دليل على ذلك هزيمة يونيو 1967م وما أدت إليه من فقدان للهيبة وللمكانة الدولية، ومن ارتداد بالأهداف القومية إلى مستويات أدنى بكثير مما كانت تسعى إليه طوال السنوات السابقة.
وفي مجال السياسة الداخلية كانت كل هزيمة عسكرية تعني تبخر عصارة شقاء الإنسان المصري طوال سنوات عدة، وإلحاق هزيمة مماثلة بآمال هذا الإنسان في حياة أفضل، وقد كانت أحوال القيادات العسكرية خلال الفترة الناصرية ذات تأثير كبير في نجاح التجربة الاشتراكية أو إخفاقها، وكان من واجب اليساريين أن يتأملوا بإمعان ما في هذه الأحوال والأوضاع من سلبيات واضحة، انعكست آثارها على التجربة الاشتراكية إلى الحد الذي أدى إلى تشويهها ومسخ معالمها.
القمع والرضا به
على أن سلبيات التجربة الناصرية في الاشتراكية لا تقتصر على الأمور المادية - كالاقتصاد والجيش - فحسب، بل إن السلبيات المعنوية أخطر وأهم؛ ذلك لأن الاشتراكية الحقة إنما هي إعلاء لشأن الإنسان قبل كل شيء، وعمل دءوب من أجل تحريره من كافة ألوان الاضطهاد والاستغلال، المعنوي منه والمادي. وهي تتعهد أسمى ملكات الإنسان بالرعاية، فتشجعه على التفكير المستقل، وعلى استخدام عقله في معالجة مشكلاته، وتحيي فيه الشعور بآدميته وآدمية الآخرين معه.
والشيء الذي لا أستطيع أن أستسيغه في أية تجربة تصف نفسها بالاشتراكية، هو أن تمتهن الإنسان وتعمل على إذلاله ، وأنا لا أعني بذلك تجربتنا السابقة بالذات، بل إن حكمي ينسحب على أية تجربة أخرى تتخذ تدابير تؤدي في نهاية الأمر إلى سحق الإنسان. صحيح أن الثورة قد تجد نفسها مضطرة إلى قمع أفراد في طبقة معينة يعملون على مناوأتها، ولكن هذا القمع يتم في نهاية الأمر لصالح القيم الإنسانية التي تراعى في حالة الطبقات الكادحة مراعاة كاملة. أما أية ثورة تقمع الجميع لحساب الطبقة الحاكمة وحدها، فليطلق عليها أصحابها وأنصارها ما يشاءون من الأسماء ما عدا الاشتراكية.
والحق أن التجربة الناصرية قد تضمنت من عناصر القمع ما يتجاوز بكثير نطاق التدابير المشروعة التي تحمي بها الثورة نفسها من أقلية معادية لصالح المجموع. فالإنسان المصري قد خرج من هذه التجربة مختلفا، في جوهره الباطن، اختلافا جذريا عما كان عند بدايتها؛ لقد كان في البدء يشعر بأنه يستطيع أن يتكلم، وأن يناقش وأن يعترض، وبأن البلد بلده، وله فيها رأي مسموع، صحيح أن كثيرا من الأحزاب - وخاصة أحزاب الأقلية - كانت تتصرف على نحو يجعل من هذا الشعور أمرا خاليا من أي مضمون، ومن أية نتيجة عملية ولكن الشعور ذاته ظل موجودا، وكان يعبر عن نفسه حالما تتاح له الفرصة بانتخاب حزب الوفد - الذي كان بالفعل أكثر الأحزاب شعبية - بأغلبية كبيرة. وصحيح أيضا أن هيكل البناء الاجتماعي والاقتصادي كان من شأنه أن يسلب هذا الشعور كل قيمة له، إذ كانت ثروة البلاد في يد فئة ضئيلة من الإقطاعيين والتجار والرأسماليين الذين يتحكمون على طريقتهم الخاصة، في أرزاق الملايين. ومع ذلك فإن الإنسان المصري كان في أحلك الأوقات يشعر بأن الاضطهاد لا بد أن تكون له نهاية، ويقف في وجه مضطهديه إلى الحد الذي يرغمهم، في بعض الأحيان، على التراجع، كان هناك على الأقل، الشعور بالأمل، وبأن مكافحة الظلم يمكن أن تأتي بنتيجة، ولو على المدى الطويل، وبأن من يقمع الحريات ليس من حقه أن يقمعها ولا بد أن يعرف ذلك.
ولكن هذا الإحساس أخذ يختفي منذ اللحظات الأولى للتجربة الناصرية، ورسمت سياسة لا بد أنها كانت منظمة ومخططة من أجل القضاء على هذه المعاني في نفوس الناس، وبأن إجراءات القمع لا ينبغي أن تقاوم ولا حتى بالكلام، وحوكم أشخاص، في السنوات الأولى، وعوقبوا سنوات طويلة من الأشغال الشاقة لأنهم رددوا إشاعات، أي عارضوا واعترضوا، في أحاديثهم الخاصة، وتسلل الرعب إلى النفوس بالتدريج، ومع الرعب ظهرت السلبية، والنفاق، والتحدث بلغتين، والجهر بعكس ما يؤمن به الإنسان. وفقد الإنسان المصري قدرته على الرفض والاعتراض، والاحتجاج، ومن فقدان هذه القدرة فقد ملكة التفكير العقلي المتزن، والحكم على الأمور حكما صائبا: إذ كان القمع مصحوبا بحملة دعاية منظمة، قائمة على أسس علمية مدروسة تستهدف في نهاية الأمر ألا يكون هناك إلا رأي واحد وألا يسمع الناس إلا وجهة نظر واحدة، تظل تردد مرة تلو المرة إلى أن يصدقها كل من كان يقاومها ولم يكن مقتنعا بها في مبدأ الأمر.
هذا التخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله، هو في رأيي أكبر سلبيات التجربة الناصرية، وحتى لو كان الهدف الذي تحذقه عملية التخويف، وإسكات الأصوات، وتعطيل ملكات التفكير النقدي، هدفا وطنيا مائة في المائة فإني أعد التجربة التي تلجأ إلى هذا الأسلوب أشد ضررا على الإنسان من تلك التي تترك له قدرا من الأمل، ومجالا للاعتراض، وهي في الوقت نفسه تستغله وتنهبه، إن الأمرين بالتأكيد شر، ولكن ضرر التجربة الأولى أفدح.
ذلك لأن الإنسان هو، في نهاية الأمر هدف كل تجربة في الحكم، وبقدر ما تأخذ هذه التجربة بيد الإنسان لتعيد إليه الشعور بكرامته، وبأن كلمته مسموعة، وبأن له دورا يؤديه في وطنه، وبأن الحاكمين يستجيبون لرغباته ولا يفرضون عليه رغباتهم، تكون تجربة الحكم ناجحة ولقد كانت التجربة الناصرية تؤكد، على الدوام، أن هذا عين ما تقوم به، ولكن النتيجة الحقيقية لهذه التجربة أتت على عكس ما كانت تنادي به دعايتها ويؤكده إعلامها. كانت النتيجة الحقيقية هي إحساس الإنسان المصري العادي بأن هناك من يفكر له، وبأنه ليس في حاجة إلى التفكير، وبأنه حتى لو فكر فلن يجديه ذلك شيئا؛ لأن الأمور ستسير دائما كما يريد أصحاب السلطة، وكانت النتيجة الحقيقية هي اعتياد الإنسان المصري الانكماش والسلبية، والوقوف موقف المتفرج غير المكترث، وحتى المكترثين منا، والمعجبين بنتائج التجربة، كانوا يصفقون بطريقة سلبية: أعني أنهم كانوا يصفقون إعجابا وانبهارا بقرارات مفاجئة تصدر من أعلى ولا يؤخذ رأيهم فيها. والفرق هائل بين هذا النوع من التصفيق وذلك الذي يهلل فيه الناس؛ لأن القرارات التي طالما نادوا بها، وشاركوا في صنعها وفي الدعوة إليها بإيجابية وفعالية، قد صدرت أخيرا.
الخطأ، والخطأ المقصود
لقد أصبح الإنسان المصري، من فرط خوفه وانكماشه، يقبل أوضاعا ما كان ليقبلها من قبل. أصبح يقبل باستسلام فكرة وجود قانونين، قانون للمحكومين وقانون للحاكمين، وصحيح أن، من حيث الأمر الواقع، كانت مصر طوال الجزء الأكبر من تاريخها تعاني من عدم تطبيق قوانين المحكومين على الحاكمين، ولكن كان الشعور بالسخط - يعبر عن رفض مكتوم لازدواجية القانون، لكن أخطر الظواهر في التجربة الناصرية هي أن الناس أصبحوا بالتدريج يقبلون هذه الازدواجية بوصفها أمرا طبيعيا، ولا يدهشون لها، ولا يعلقون عليها، وكأنها جزء من طبيعة الأشياء هذا هو ما أعنيه بالتخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله. فالمشكلة لم تكن انتشار مظالم أو استثناءات، بل كانت في اعتياد الإنسان عليها إلى حد أنه أصبح يراها شيئا طبيعيا؛ بحيث تبلد الإحساس بالظلم، وتحول الاستثناء إلى قاعدة لا بد من قبولها باستسلام.
ولكي يدرك القارئ ما أعنيه، أود أن أضرب له مثلا بسيطا: ففي أواخر عهد ما قبل ثورة 1952م، انشق مكرم عبيد على حزب الوفد المصري وأراد أن يبرر انشقاقه ويكشف فضائح الوفد فألف الكتاب الأسود الذي عدد فيه حالات استغلال النفوذ والاستثناءات في مختلف فترات تولي الوفد الوزارة. ولو ألقى المرء نظرة واحدة على هذا الكتاب، في ضوء التطورات التي حدثت بعد ذلك، لاستبدت به الدهشة وعجب كيف تستخدم وقائع بسيطة كهذه في التشنيع على أكبر حزب في البلاد: إذ تجد فيها حالة الموظف رقي درجتين بصورة استثنائية في مدى عام أو عامين، وتجد فيها حالات استغلال نفوذ في بناء مرافق خدمات خاصة وخدمات عامة في الوقت ذاته، في حدود لا تتجاوز بضعة ألوف من الجنيهات، ولكن الأمر الذي يلفت النظر حقا هو أن هذه الوقائع ظلت محور أحاديث الصحف ومناقشات الناس فترة طويلة. وأنا لا أضرب هذا المثل لكي أدافع عن مكرم عبيد أو أهاجمه (وإن كنت أفضل لو أنه لم يختم جهاده الطويل بمثل هذا الكتاب)، ولكن ما يهمني في الأمر هو إحساس الناس بأن الاستثناء شيء مستنكر، وبأنه يستحق التنديد والتشنيع حتى لو لم يكن من الممكن القضاء عليه بصورة مباشرة.
قارن هذه الحالات المخففة التي كانت أقصى ما استطاع مكرم عبيد أن يجمعه (والتي بالغ في بعضها دون شك)، بما حدث بعد ذلك من استثناءات ومن استغلال نفوذ، وستجد في ضوء هذه المقارنة أن الكتاب الأسود قد أصبح ناصع البياض.
ولكن الأخطر من حالات الانحراف ذاتها، هو رد فعل الناس إزاءها: فبقدر ما استنكروها، وهي قليلة ومخففة، ومتعلقة بأشخاص في قمة الحكم، أصبحوا بعد ذلك يقبلونها بوصفها شيئا عاديا، ومألوفا على الرغم من تكاثرها وتكاثفها الشديد، وعلى الرغم من أن كثيرا من مرتكبيها كانوا نكرات بلا وزن، هذا الإحساس المتبلد، الذي لم يعد يستنكر الظلم، أو يسعى إلى محاربته، هو أخطر آفة تصيب الأمة، وهو الخطر الحقيقي في مستقبلها.
ولكي تبرر التجربة الناصرية أمثال هذه الانحرافات التي لم يكن هناك مفر من أن تتسرب أنباؤها من آن لآخر، أطلقت شعار «من لا يعمل لا يخطئ» وكان المقصود من الشعار أن هناك عملا وجهدا وبناء متصلا، وأن من الطبيعي وسط هذا العمل المستمر أن تحدث أخطاء، وأننا كنا نستطيع أن نتجنب الخطأ بألا نعمل ولا نبذل جهدا، ولكن من الأفضل، بطبيعة الحال، أن يعمل المرء ويخطئ بدلا من ألا يعمل ولا يخطئ وبقدر ما كان الشعار براقا، وانخدع به الكثيرون، فإني أعده واحدا من أخطر الشعارات التي أضرت بحياتنا وقيمنا ومعاييرنا الأخلاقية.
ذلك لأن الشعار يرتكب مغالطة كبرى في كلمة «الخطأ» إذ إن نوع الخطأ الذي يمكن أن يجعل لهذا الشعار معنى مقبولا بالمقاييس الخلقية السليمة، هو ذلك الخطأ غير المقصود، الذي يرتكبه المرء رغما عنه من فرط ما يبذله من جهد، أما الخطأ الذي كان هذا الشعار يهدف إلى تبريره والدفاع عنه، فكان خطأ مقصودا ومتعمدا، ارتكب بروية وتفكير وعن سبق إصرار وترصد، يرمي إلى إكساب مرتكبه مغانم لا يستحقها، من قوت شعب فقير مطحون.
مثل هذا الخطأ ليس من النوع الذي لا بد أن يقع فيه المرء في زحام العمل، بل إن من يخلص حقيقة في عمله هو أبعد الناس عن ارتكابه. إنه بالاختصار، ليس خطأ، بل جريمة وسرقة. ومن يعمل من أجل بلاده يستحيل أن يرتكب أمثال هذه الموبقات. ويكفي، لكي ندلل عن خطورة هذا الشعار، أن نترجمه إلى معناه الحقيقي، فيصبح «من لا يعمل لا يسرق»، «من لا يعمل لا يأكل قوت الشعب» والحق أن مجرد التفكير في إطلاق هذا الشعار هو في ذاته عمل يدل على استعداد كامل للانحراف، ومن عجائب الدنيا أن يطلق شعار كهذا في عهد اشتراكي، وأن يبتلعه اليساريون ويسكتوا عنه.
الوجه السلبي والوجه الإيجابي
إن للنظم التقدمية مؤشرات معروفة تدل - دون حاجة إلى مجهود - على أنها حققت أهدافها أو سارت في طريق تحقيقها بجدية ومن هذه المؤشرات القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة. وأخشى أن أقول إننا لو طبقنا هذه المعايير على التجربة الناصرية لكان من الصعب أن ندرجها ضمن النظم التقدمية. فالأمية قد ظلت نسبتها على ما هي عليه، مع أن البلاد الاشتراكية - بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة - اتخذت من محو الأمية هدفا من أوائل أهدافها، وتمكنت فعلا من تحقيقه دون جهد كبير. وإنا جميعا لنعلم، ويعلم اليساريون بوجه خاص، أن اقتراحات كثيرة قد قدمت في هذا الصدد، تستهدف الإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في محو الأمية، مع مراعاة ظروفنا المحلية. وأن الكثيرين قد رددوا إلى حد الإملال أن القضاء على هذه الوصمة واجب مقدس على الدولة، وعلى التنظيم السياسي بوجه خاص غير أن الاتحاد الاشتراكي ظل خارج الموضوع كله، وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد؛ لأنه كان بطبيعة الحال مشغولا بما هو «أهم».
أما التعليم فإن التوسع الكمي الهائل فيه - وهو عنصر إيجابي بلا شك - قد اقترن بتدهور كيفي رهيب أصبح يشكل بالفعل خطرا على مستقبل هذه الأمة. وأما الانحرافات، فإنا لم نسمع مثلا أن إدمان المخدرات قد توقف، أو تضاءلت نسبته بل على العكس من ذلك ازداد استفحالا برغم تشديد العقوبات. وبقدر ما أعلم فإن قيام نظام اشتراكي حقيقي في أي مجتمع يؤدي إلى اختفاء ظاهرة إدمان المخدرات، أو تناقص معدلها إلى حد ملحوظ؛ لأن الإدمان هروب من واقع قاس وبحث عن الأمان وسط ضباب الأوهام، والمجتمع الاشتراكي يقدم لأفراده واقعا أفضل، ويكفل لهم الأمان وزوال الهموم المرتبطة بوسائل العيش.
ولست أود أن أتحدث عن تدهور الصحة العامة، وعجز الفقير عن أن يجد العلاج ومهزلة الوحدات المجمعة، فتلك كلها أوجاع يعرفها الجميع، وتعاني منها الأغلبية الساحقة.
هذه كلها سلبيات لم يخترعها أحد، ولا يوجد فيها أدنى نصيب للمبالغة، وإنما هي تعبير صريح عن واقع موضوعي ... ولا جدال في أن من حق المدافعين عن التجربة الناصرية أن يؤكدوا أن صورة الواقع الموضوعي لا تكتمل إلا إذا أضيفت إليها الإيجابيات، ولكن مثلما يتهم هؤلاء المدافعون خصومهم بأنهم لا يكشفون إلا عن وجه واحد للصورة؛ هو الوجه السلبي، فإن خصومهم يتهمونهم - عن حق - بأنهم لا يكشفون بدورهم إلا عن الوجه الإيجابي لتلك الصورة، متغافلين تماما عن وجهها السلبي الذي يشكل حقيقة لا جدال فيها.
المقال الثالث
عبد الناصر لم يتحول تجاه اليسار ... وإنما حول اليسار تجاهه!
من حق اليسار، قبل أن نفسر موقفه من التجربة الناصرية أن نرد على سؤاله المشروع: لماذا التركيز على سلبيات هذه التجربة في هذه الأيام؟
إن هذه الظاهرة قد لا تكون كلها عن سوء نية، أو عن رغبة في اصطياد الأخطاء؛ ذلك لأن الإيجابيات معروفة، وهي ليست معروفة فحسب، بل ظلت تعاد وتكرر وتردد على مسامعنا حتى حفظناها عن ظهر قلب.
وأصبحت تؤلف نسبة كبيرة مما يتعلمه أبناؤنا في المدارس ويمتحنون فيه آخر العام. وإنه لمن الطبيعي تماما، بعد أن ظلت وسائل الإعلام كلها تردد على مسامعنا وأمام أعيننا الحديث عن هذه الإيجابيات ثمانية عشر عاما، أن يكون رد الفعل بعد ذلك هو التركيز على السلبيات، فتلك ظاهرة إنسانية لا مفر منها. ولو شئنا أن نحدد المسئولية الحقيقية عن الحملة التي تركز على سلبيات التجربة الناصرية في هذه الأيام، دون إيجابياتها؛ لقلنا إن المذنب الأكبر في ذلك هو أجهزة الإعلام في العهد الناصري؛ إذ إن تركيزها على الدعاية للإيجابيات وحدها، والأسلوب المفرط في المبالغة، الذي كانت تلجأ إليه في هذه الدعاية، يتحمل النصيب الأكبر من المسئولية عن رد الفعل الذي يظهر في هذه الأيام.
ومن ناحية أخرى فإن الوعي السياسي الناضج لا يجد غضاضة في التركيز على السلبيات، مهما كانت قيمة الإيجابيات التي تقف إلى جانبها. ولدينا على ذلك مثل واضح في موقف الصحف الأمريكية من نيكسون أيام أزمة ووترجيت: إذ كان نيكسون قد اكتسب قبلها رصيدا إيجابيا، وخاصة في ميدان السياسة الخارجية يضعه في مستوى الرؤساء الأمريكيين القلائل جدا الذين نجحوا في تغير وجه السياسة الأمريكية تغييرا جذريا نحو الأفضل، ولكن ظهور فضيحة ووترجيت جعل الجميع يركزون على الجوانب السلبية في حكمه، ولم يشفع له نجاحه التاريخي في الميدان الخارجي، ولم يحاول هو ذاته أن يلتمس لنفسه عذرا بهذا النجاح؛ ذلك لأن الخطأ يظل خطأ حتى لو أحاط به الصواب من كل جانب.
وقل مثل هذا عن تشرشل حتى أسقطه الشعب البريطاني في الانتخابات عقب الحرب العالمية الثانية التي أحرز فيها تشرشل انتصارا سيذكره له التاريخ، أو عن ديجول الذي سقط في آخر انتخابات دخلها، بعد أن أنقذ بلاده من تخبط الجمهورية الرابعة وسياستها الحمقاء، ووضع السياسة الفرنسية في طريق الاستقرار؛ فضلا عن اعترافهم به بطلا قوميا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وبالاختصار، فقد تكون المسألة راجعة إلى عاطفية مفرطة لدى الشرقيين، أو إلى عدم النضج الذي يجعلهم يخلطون بين العواطف على المستوى الشخصي والأحكام على المستوى السياسي الموضوعي. ولكن أيا كان الأمر فإن من يهتف في كل مرة يقرأ فيها حكما سلبيا على التجربة الناصرية: لماذا لا تذكرون الإيجابيات؟ ليس دائما على صواب. ومن يركز حديثه على السلبيات وحدها ليس دائما على خطأ.
والآن، أعود فأتساءل: ما الذي جعل اليسار يتخذ هذا الموقف، ويدافع دفاعا مطلقا عن تجربة لم تكن في حقيقتها يسارية بالمعنى الصحيح، ولم يكن لها من مقومات الاشتراكية، بالمقاييس العلمية الصحيحة، إلا أقل القليل؟
هذا السؤال يدخل بنا إلى لب الموضوع، ومن خلال إجابتنا عنه يمكن أن توضع قضية اليسار والتجربة الناصرية في موضعها الصحيح.
والأمر المؤكد أن موقف اليسار، في الوقت الراهن، يمثل رد فعل على الاتجاهات اليمينية التي انتعشت بعد موت عبد الناصر، والتي تصورت أنها تستطيع أن ترث التركة، وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فاليسار، بدفاعه المستميت عن الناصرية، إنما يهدف إلى قطع الطريق على اليمين في اتخاذه هذا الموقف؛ إذ إن هناك خطرا حقيقيا من المد اليميني الزاحف ومن الوسائل الفعالة لإيقاف هذا المد التمسك بما أنجزته التجربة الناصرية.
وأنا أعتقد أن هذا الموقف اليساري، الذي يبدو سليما لأول وهلة، خطأ من أساسه. وليس مرد هذا الخطأ هو أنني مقتنع، بأي معنى من المعاني، بدعاوى اليمين، أو أنني مؤيد لمطالبهم، بل إنني لم أكتب هذه السطور - كما سيرى القارئ بعد قليل - إلا لكي أجرد اليمين من أسلحة يعطيها إياهم اليسار دون أن يشعر، وذلك حين يتخذ موقف الدفاع المطلق من التجربة الناصرية، وحين يربط مصير اليسار بنتيجة تقييمنا لهذه التجربة.
إن اليمين غول بشع يريد أن ينقض على هذا الشعب؛ لكي ينهش لحمه من جديد، ولكن اليسار الذي يتصور نفسه حارسا للشعب، وهو حارس غافل، يساعد اللص المعتدي دون أن يدري، ويقدم إليه - بقصر نظره - ما لم يكن يحلم به من خدمات.
ولذلك أود أن أكون في هذا الصدد واضحا وضوحا تاما؛ فأنا أعد دعوة اليمين الرجعي دعوة عدوانية ينبغي التصدي لها بكل قوة، وأنا أرفض بشدة أية محاولة من جانب اليمين لاستغلال ما أكتب من أجل تأييد قضيته التي أقف فيها ضده دون أي لبس أو غموض، ومن المستحيل أن أقبل استخدام ما أكتب لصالح مدخني السيجار من أصحاب المصانع السابقين، أو لصالح أصدقاء آل صيدناوي وأفرينو. ولو حدث أن استخدم أحد ما أكتب على هذا النحو المشين، فسيكون الخطأ في ذلك مرة أخرى هو خطأ اليسار ذاته، كما سأبين الآن.
ذلك لأن اليسار، بتجاهله لسلبيات التجربة الناصرية وإغماضه عيونه عن نقاط ضعفها التي ظهرت نتائجها أمام الشعب واضحة للعيان، في هزيمة 1967م بصورة سريعة صارخة وفي المصاعب الاقتصادية الرهيبة بصورة تراكمية بطيئة، قد ترك لليمين وحده شرف التنديد بهذه السلبيات، وإعلان نفسه حاميا للقيم التي أهدرتها تلك التجربة.
فاليمينيون، الذين كانوا يستهترون بالحريات والقوانين حين كان حكم البلاد في أيديهم، أصبحوا هم أصحاب أعلى الأصوات في المناداة بالحريات وسيادة القانون.
ولم يكن في وسعهم أن يجرءوا على هذه المغالطة الصفيقة لو لم يكن اليسار قد ترك لهم الميدان ليصولوا فيه ويجولوا، على حين ظل هو متمسكا بالدفاع عن تجربة يتمسك بأنها كانت اشتراكية تقدمية، بينما يثبت الواقع اليومي عكس ذلك.
وحين أتحدث عن الواقع اليومي، فإني لا أعني واقع رجل الأعمال الذي انتزعت منه مصالح أو سلب منه نفوذ، بل أعني الواقع اليومي للإنسان البسيط، صاحب المصلحة الحقيقية في الاشتراكية. هذا الإنسان البسيط هو الذي أحس بعيوب التجربة، وهو الذي أعلن سخطه عليها بشتى الصور المباشرة وغير المباشرة، وهو الذي لا بد أن ينقل هذا السخط إلى كل من يتمسك بالدفاع عنها بلا تمييز، على حين أن من ينبهه إلى سلبياتها يكتسب رضاءه.
ولقد كان سخط الإنسان المصري على التجربة الاشتراكية واضحا جليا - على سبيل المثال - في استقبال نيكسون، كان ذلك استفتاء غير رسمي على التجربة الاشتراكية المزعومة، ولم يكن الذي أعلن رفضه للتجربة هم الذين أضيروا منها فحسب، بل هم أولئك الذين لا يظهر أي مذهب اشتراكي إلا من أجلهم.
وموضع الخطر هنا هو أن الإنسان العادي حين يجد التجربة قد أخفقت، لا يستطيع أن يميز بسهولة بين المبدأ والتطبيق. وهكذا أصبحت طاقة السخط لديه منصبة على مبدأ الاشتراكية ذاته، مع أن ما يشكو منه ليس إلا تطبيقا خاطئا لمبدأ لو طبق بالطريقة السليمة لكان هو ذاته أول المستفيدين منه.
ولا جدال في أن تمسك اليساريين بصواب التجربة السابقة، وإصرارهم العنيد على أنها كانت «اشتراكية» فعلا، كفيل بأن يفقدهم تلك القواعد الجماهيرية العريضة التي كانت تحوطهم بالعطف والتأييد حين كانوا يدعون إلى اشتراكية حقيقية، أي في تلك الفترات التي لم يكونوا فيها قد ارتبطوا بتجربة محددة في الحكم أصبحوا يدافعون عنها كما لو كانت تجربة تنتمي إلى صميم مبادئهم.
أمنا الغولة
ولنتساءل هنا: هل كانت تلك التجربة مؤيدة لليسار إلى الحد الذي تصوره اليساريون؟ وهل ساعدت بالفعل على خدمة المبادئ التي ظل اليساريون يدعون إليها طوال حياتهم؟
إن هذا السؤال، على الرغم من أهميته القصوى، يثير إشكالات يصعب البت فيها برأي نهائي في المرحلة الراهنة؛ نظرا إلى التعقيد الشديد للموضوع ووجود عناصر كثيرة فيه لن تتكشف إلا بمضي للزمن، ولكن في وسعنا أن نشير إلى بعض التساؤلات التي تطرحها التجربة، والتي تساعد القارئ على استخلاص النتائج المترتبة عليها بنفسه.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه قرارات التأميم، كانت قد مضت على اليساريين سنتان ونصف في المعتقلات، ومن الأمور التي ربما لم يخطر ببالهم التفكير فيها أنهم قضوا بعدها سنتين ونصفا أخريين في نفس المعتقلات أليس لهذه الظاهرة دلالتها؟ ألم يكن من المنطقي، إذا كانت تلك القرارات قد اقتربت مما ينادون منه ولو لمنتصف الطريق، أن يفرج عنهم بعدها؟
أما الإفراج الفعلي فقد حدث بدافع الرغبة في مجاملة طرف رئيسي في التوازن الدولي، على الرغم من نفور اليساريين الشديد من هذا التفسير، وتأكيدهم أن الإفراج كان نتيجة «لظروف موضوعية».
ومن المؤكد أن تفسيرهم هذا أكثر إرضاء لهم؛ لأنه يعطي لتضحياتهم معنى، ولكن من المؤسف أنه غير صحيح؛ إذ لو كان الدافع الحقيقي هو تلك «الظروف الموضوعية»، وحدوث تغير حقيقي في موقف السلطة الحاكمة تجاههم، لما ظلوا في المعتقلات بعد قرارات التأميم مدة تساوي تلك التي قضوها قبل صدورها.
ومما زاد في اضطراب أحكام اليساريين، بعد خروجهم، أن عددا كبيرا من أقطابهم عينوا في مراكز رئيسية في الدولة، وفي ميادين الإعلام والثقافة بوجه خاص، فازداد في نظرهم رجحان كفة التفسير المفضل لديهم، وهو أن سياسة الدولة الرسمية تزداد اقترابا منهم، وحتى عندما كانت تظهر من آن لآخر شواهد قاطعة تدل على بطلانه، كانوا يغمضون أعينهم عنها وكأنها لم تكن.
ولا جدال في أن النقلة المفاجئة من جحيم الواحات إلى رئاسة مجالس الإدارات، كانت عاملا من العوامل التي تساعد - ولو بطريقة لا شعورية - على استخدام منطق التبرير في مثل هذه الحالة، وهم على أية حال كانوا يعلمون جيدا، من تجربتهم السابقة، ما هو البديل المطروح أمامهم.
ولكن هل كان هذا التكريم والتمجيد لليساريين دليلا على تحول حقيقي، في السياسة الرسمية، نحو اليسار؟
في واقع الأمر، لم تخسر التجربة الناصرية شيئا من هذا التغيير الذي أحدثته فجأة، ومن النقيض إلى النقيض، في معاملتها لليسار.
فهي أولا قد اكتسبت رضاء الاتحاد السوفيتي في وقت كانت فيه أحوج ما تكون إليه، ولكنها في الوقت ذاته لم تتحول تجاه اليسار، بل حولت اليسار تجاهها!
وبلا جدال في أن أيسر الطرق وأسرعها لانتزاع المخالب الثورية من التأثر هي أن نضع بين يديه المال والنفوذ بلا حساب؛ ومن هنا فإني أنظر إلى هذا التكريم لليسار على أنه هو الوجه الآخر لوضعه في المعتقل: فالأمران يؤديان نفس الوظيفة، وهي أن تسلبه الطاقة الثورية وكل ما في الأمر أن أسلوب التكريم أذكى، وأنفع، وأقل جلبا للمشكلات.
ولا ينبغي أن ننسى، بعد هذا كله، أن اليساريين هم الأوسع ثقافة، وهم الأقدر على الإقناع، والأقوى جاذبية في ميدان الصحافة والإعلام، ومن هنا فإن كسبهم إلى صف التجربة الناصرية كان مصدر نفع كبير لها؛ لأنه قدم لها «التنظير » الذي كانت تفتقر إليه، فبين اليساريين تجد أفضل المثقفين وأعمق المحللين وأبرع الكتاب، وكل ذلك كان أمرا لازما وحيويا لتجربة تحتاج إلى الدعاية أشد الاحتياج.
وإذن فلم يكن إغراء اليساريين، في رأيي، تعبيرا عن تحول التجربة الناصرية تجاههم، بل كان في الواقع كسبا خالصا لهذه التجربة، التي ظلت تسير في طريقها الخاص، وتخدم مصلحتها الخاصة حتى اللحظة الأخيرة.
على أن أكثر الأطراف ربحا في هذه العملية كلها كان خصوم الاشتراكية الذين كانوا يتفرجون على اللعبة وقد فركوا أيديهم مسرورين ... فها هو ذا النظام يقدم إليهم خدمة لا يحلمون بها، إذ نجح في ربط الاشتراكيين بعجلته، وجعل سمعته الاشتراكية كلها مرتبطة بتطبيق غير سليم لها، وهكذا تطوعت التجربة الناصرية بإعطاء صورة غير مستحبة للاشتراكية في أعين الجماهير.
ومن هنا أكاد أكون موقنا بأن المعسكر الرأسمالي العالمي كان سعيدا كل السعادة بهذه التجربة التي قدمت إليه خدمة مجانية جليلة، وكان ينتظر الوقت الذي يصبح فيه إخفاقها مدويا؛ لكي يتقدم هو باعتباره البديل المنقذ، وهو واثق من أن الجماهير التي لم تنل شيئا من مكاسب الاشتراكية الحقيقية لن تتردد في تلبية دعوته.
فالتجربة الناصرية، في رأيي، كانت تحمل في داخلها كل العوامل التي تؤدي إلى انتعاش اليمين وإضعاف اليسار وفقدانه للقاعدة الشعبية، على الرغم من أن ظواهر الأمور توحي بعكس ذلك. وليست التطورات التالية على الإطلاق، في رأيي، «ارتدادا» أو «انحرافا» نحو اليمين، بل إن منطق الأحداث كان يحتم أن يكون رد الفعل في اتجاه البديل، وفي صف الطرف الآخر لمجرد كونه شيئا «مختلفا» عما جرب وأثبت فشله.
لقد كان موقف التجربة الناصرية من اليسار، في سنواتها الأخيرة على الأخص، أشبه «بأمنا الغولة» في الحكايات الشعبية: فقد كانت تقتله وهو في أحضانها، ولم يكن القتل يحدث عفوا، ولا من شدة ضغط الأحضان، بل لقد كانت تعرف جيدا ما تفعل: فالقتل بالأحضان كان في ذلك الحين أفضل بكثير من القتل بالمخالب والأنياب.
ولو فهم اليسار معنى ما كان يحدث لعرف أن هذا الاحتضان هو الذي سيؤدي فيما بعد إلى فقدانه قواعده الجماهيرية لفترة طويلة، لا بد أن تدوم حتى الوقت الذي يعرف فيه كيف ينفض عن نفسه غبار التجربة الفاشلة، على حين أنه لو كان قد قتل بالمخالب والأنياب لكان الأمل كبيرا في أن تظل هذه القواعد متعلقة بذاكرة، بوصفه المنقذ والملاذ، حتى يحين الوقت الذي يبعث فيه من جديد.
وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى ضرورة استشهاد اليسار؛ لكي يحتفظ بقواعد الجماهير، بل إنني أقارن فقط بين طريقتين في محاربة اليسار، إحداهما أشد فعالية وأطول أمدا بكثير من الأخرى. وهي في الوقت ذاته أدهى وأذكى فضلا عما تتيحه من قدرة أعظم على المناورة في الساحة الدولية.
والمهم في الأمر أن النتيجة كانت محتومة، وأن امتصاص التجربة الناصرية لليسار، الذي بدأ في ظاهره، ولوقت ما، نصرا عظيما له، كان ينطوي في ذاته على عنصر «النكسة» التي حدثت فيما بعد للقوى اليسارية، ولم يكن تمسك اليسار خلال هذه النكسة بالتجربة الناصرية وإصراره على «يساريتها» سوى معول آخر ... يهدم به اليسار بناءه الذي شيده على مدى كفاحه الطويل.
لقد كان الذكاء والوعي هو الذي يميز اليسار طوال الفترات السابقة على التجربة الناصرية، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة لهذه الفترة أفقد اليسار وضوح الرؤية، وسلبه قدرته السابقة على النظرة الشاملة إلى الأمور والتحليل المتعمق لها.
ذلك لأن التجربة كانت تتبع أسلوبا جديدا كل الجدة في مواجهة اليسار عن طريق الاحتواء، وفي إفراغه من مضمونه الحقيقي وإحلال مضمون فيه قدر كبير من الزيف محله، مع الاحتفاظ بالعدد الأكبر من شعارات اليسار ومن أقطاب اليسار، بعد نقلهم المفاجئ - على طريقة حمام «الساونا» - من حمام البخار الملتهب إلى حوض الماء المثلج.
ومنذ ذلك الحين لم يعرف اليسار إلا الدوار واختلال التوازن، وكان من الطبيعي أن تشوه صورته أمام الجماهير التي كانت تتعلق به في أوقات ثباته وصلابته.
أما الموقف الراهن لليسار، فليس إلا النتيجة الطبيعية للأخطاء السابقة، وكل ما يبدو على السطح من تحول إنما هو في واقع الأمر تطور منطقي لم يكن هناك مفر من حدوثه، ويصل هذا التطور إلى نقطة مؤسفة حين يترك اليسار لليمين شرف المناداة بالحرية وسيادة القانون ومحاسبة المختلسين والقتلة والسفاحين - وقد عرفت مصر منهم الكثيرين بالفعل خلال السنوات الماضية - على حين أنه يقف مستنكرا لأية دعوة إلى محاكمة أخطاء الماضي، وكأنها ردة وجريمة لا تغتفر.
وبذلك يترك الميدان خاليا لليمين لكي يصول ويجول، ويرفع أسهمه من خلال مناداته بشعارات أصبحت تمثل بالنسبة إلى شعبنا أهدافا لا بد من السعي إلى تحقيقها، مع أن اليمين هو أول من كان يدوس هذه الشعارات بقدميه حين كانت مقاليد الأمور في يديه، وهو أول من سينتهكها لو آلت إليه هذه المقاليد مرة أخرى.
ثم تصل المهزلة إلى قمتها حتى يصبح اليمين هو الذي ينادي بالرفض والتغيير والتجديد، ويقف اليسار مطالبا ب «الستر» وبقاء الأمور على ما هي عليه. وبذلك يتبادل الأدوار مع اليمين تبادلا كاملا: فيصبح اليسار - الداعية التقليدية للتغير والتجديد - هو المحافظ والمتمسك بالوضع الراهن، على حين أن اليمين المحافظ بطبيعته تتاح له الفرصة كاملة؛ لكي يتقمص رداء الدعوة إلى التجديد والتغيير الثوري.
وبذلك تسرق من اليسار كل الشعارات التي قضى تاريخه الطويل كله داعيا إليها، وتصبح هذه الشعارات أداة لتجميل الوجه القبيح لليمين وتشويه صورة اليسار. كل ذلك لأنه يصر على إنكار الواقع الموضوعي الذي أحست به الجماهير في حياتها اليومية، ولم تكن محتاجة من أجل هذا الإحساس إلى نظريات أو تحليلات معقدة. وأعني بهذا الواقع أن التجربة السابقة لم تعط الإنسان المصري البسيط ما تعطيه التجربة الاشتراكية الناجحة للشعب الذي يمارسها، وأنها قد ارتكبت أخطاء موجهة ضد إنسانية هذا الإنسان، تتجاوز بكثير نطاق الخطأ غير المقصود الذي يقع فيه نظام الحكم الثوري في سعيه إلى تغيير الأوضاع بصورة مفاجئة.
وبعد، فإن هذه لا تعدو أن تكون محاولة لتحليل الموقف الراهن لليسار إزاء التجربة الناصرية، وردها إلى جذورها العميقة ولتخطي التفسير الساذج لنكسة اليسار من خلال أوضاع اللحظة الحالية وحدها.
وهذه المحاولة تشير، في رأيي ، إلى طريق الخلاص الحقيقي لليسار، في نفس الوقت الذي تكشف فيه عن أخطائه الماضية والحاضرة.
وكل ما آمله هو أن ينظر إليها اليسار بهذا المعنى، حتى لو اختلف ما صاحبها في الرأي حول طبيعة التحليل الذي يقدمه.
وإذا كنا قد ألفنا تشويه الفكر وإقحام عوامل غير موضوعية في كل رأي يخالف ما نعتنقه، فإني أرجو ألا تطبق تلك اللعبة على هذه المحاولة، حتى لا نعود مرة أخرى إلى المهاترة، بينما تظل القضية الرئيسية سائرة في طريق التضليل والتخبط.
إن هذا، على أية حال، تحذير مخلص، وأرجو ألا يكون قد أتى بعد فوات الأوان!
علاقة اليسار بثورة يوليو بدأت قبل قيام الثورة
بقلم فتحي خليل
حين وصلت في مقال الدكتور فؤاد زكريا، إلى قوله: أنا أرفض بشدة أية محاولة من جانب اليمين لاستغلال ما أكتب من أجل تأييد قضيته التي أقف فيها ضده دون أي لبس أو غموض ومن المستحيل أن أقبل استخدام ما أكتب لصالح مدخني السيجار من أصحاب المصانع السابقين، أو لصالح أصدقاء آل صيدناوي وأفرينو ... ولو حدث أن استخدم أحد ما أكتب على هذا النحو المشين ...
حين وصلت إلى هذه السطور توقعت لوهلة أن الدكتور سيهدد برفع قضية على من يقترف هذا الإثم، ولكن المفاجأة التي صدمتني أن الدكتور حول مدفعيته من اليمين نحو اليسار حين قال: فسيكون الخطأ في ذلك مرة أخرى هو خطأ اليسار!
لم يهدد الدكتور برفع قضية على اليمين بل أحال الجريمة إلى دوسيه اليسار بغير تردد، وتلك في الحقيقة هي قضيته.
بالمنهج الذي اتبعه صديقي وزميل دراستي الدكتور فؤاد زكريا، فأينما تول وجهك في أفق السياسة المصرية المعاصرة فثم أخطاء اليسار.
ما هي خلاصة الدراسة التي رحبنا بنشرها في روز اليوسف احتراما لحرية الرأي؟
هي بكلمات د. فؤاد «محاولة تشير إلى طريق الخلاص لليسار، في نفس الوقت الذي تكشف فيه عن أخطائه الماضية والحاضرة ... وتحذير مخلص إلى اليسار بأن ينفض عن نفسه غبار تجربة فاشلة هي الناصرية.»
قبل الدخول في تناول دراسة د . فؤاد بالتعليق أحب أن أوجز علاقة اليسار بثورة 23 يوليو لأضع صاحب الدراسة والقارئ في دائرة ضوء ضرورية لكي تنتقل المناقشة إلى ساحة أكثر صلابة.
لم يعد سرا أن علاقة اليسار بثورة 23 يوليو سبقت قيامها. وبالتحديد فإن تنظيما ماركسيا واسع النفوذ هو «الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني» كان على علاقة عضوية وفكرية بتنظيم الضباط الأحرار منذ النشأة حتى الاستيلاء على السلطة. ولقد كان أول بيان سياسي يؤيد الثورة في ساعاتها الأولى هو بيان من هذا التنظيم إلى الشعب ومنشور إلى أعضائه بالدعوة إلى تأييد الثورة كل في مجاله. وإذا كان هذا التنظيم قد تعرض لنكسة قصيرة في موقفه عن تفهم طبيعة الثورة فقد نجح على الدوام في كسب فصائل اليسار، الرافضة لثورة 23 يوليو، إلى موقفه بدرجات متفاوتة، حين كانت تخرج بالتطرف إلى حدود مناوأة الثورة باعتبارها انقلابا عسكريا أو فاشيا أو سلطة تمثل الرأسمالية الكبيرة أو الاحتكار المصري.
ثورة 23 يوليو إذن ليست ظاهرة سياسية بعيدة عن اليسار مقطوعة الصلة به تتعامل معه بالقمع أو الاحتضان القاتل. هذا الفصل غير قائم ولم يكن قائما، وهذه مسألة جوهرية لا اليمين يحسب حسابها في هجمته على ثورة 23 يوليو، ولا الدكتور فؤاد زكريا في دراسته حسب حسابها، ولعل الخطأ الأكبر، سواء بالنسبة لعبد الناصر أو لليسار كان في غياب هذه الحقيقة عن أحدهما أو كليهما خلال مجرى الثورة في فترات تقصر أو تطول. وفي اللحظة الراهنة فإن الخطر الأكبر أيضا سواء بالنسبة لليسار أو القوى الوطنية التي تدين بمبادئ الناصرية - في السلطة أو خارجها - هو غياب هذه الحقيقة: إن بين ثورة 23 يوليو واليسار المصري علاقة عضوية وفكرية وكفاحية.
وذلك بالتحديد هو الباب الذي نفذت منه كافة سلبيات ثورة 23 يوليو، أقصد غياب حقيقة العلاقة العضوية والفكرية والكفاحية عن واحد من الطرفين أو عنهما معا.
من هذا الباب كان يدخل التطرف العدائي من جانب بعض فصائل اليسار.
ومن هذا الباب كان يدخل انزلاق سلطة 23 يوليو إلى كمائن الرجعية أحيانا، والعزلة عن الجماهير أحيانا، والتراخي أمام انحرافات الطبقة الجديدة في مؤسسات الدولة والحياة العامة.
أردت بهذا الشرح لطبيعة العلاقة بين ثورة 23 يوليو واليسار أن أوضح للدكتور فؤاد ابتداء، كيف يستحيل على اليسار المصري أن ينفذ نصيحته بأن ينفض يده من تجربة فاشلة، كما يسمي ثورة 23 يوليو، فليس من المعقول أن ينفض تيار سياسي يده من تجربة مهد لها بقيادته لحركة شعبية عنيفة هزت أركان النظام القديم، وامتدت في مطلع عام 1946م حتى مطلع عام 1952م، ثم يساهم في قيامها وإعداد أداتها بالفكر والمطبعة السرية والمنشور السياسي، وبإنجاز الدور العنيف ليلة استيلائها على السلطة، بالسيطرة على قيادة القوات المسلحة، ثم كان أول من أيدها علنا، وتعارك مع فصائلها الأخرى - عن اعتقاد بأنه يصحح مسارها - عراكا كلفه السجن والاستشهاد فيه أحيانا، وكلفه عمر جيل بأسره من أبنائه بوجه عام.
إن بصمات اليسار المصري موجودة - شاء هذا الطرف أو ذاك من فصائل الثورة أم أبى - على البرنامج السياسي للضباط الأحرار قبل تولي السلطة، موجودة على المبادئ الخمسة، موجودة على قوانين الإصلاح الزراعي، موجودة على مبادئ باندونج، موجودة على تأميمات المعاقل الكبرى للرأسمالية المصرية، موجودة على الميثاق وبيان 30 مارس، موجودة على حملات النقد للتطبيق الاشتراكي، موجودة على حملة تهريب الأرض حين ضبط الإقطاع متلبسا بطعن قوانين الإصلاح الزراعي من الخلف، موجودة على حملات الأقلام اليسارية لكشف السوق السوداء وكافة وسائل الانحراف بالمسار الشعبي للثورة، موجودة على المحاولات الجادة الوحيدة للتصدي لمراكز القوى، وبتضحيات لا أشك في أن الدكتور فؤاد يلم ببعضها.
وإذا التزمنا بالمسار العام لحركة اليسار المصري تجاه عبد الناصر والمتجاوبين معه بالفكر في قمة السلطة، فيمكن تلخيص هذا المسار على الوجه التالي: أن عبد الناصر بدأ من منطلق وطني صرف، أو عن طريق التجربة والخطأ تبنى أفكارا اشتراكية «غير علمية» أي أنه يسير قدما بفكره ونشاطه في اتجاه تقدمي، وأنه في كل مرحلة يحدد في وثيقة سياسية مدى تقدمه بأفكاره الأولى، وأن لهذا المنهج - التجربة والخطأ - إيجابياته وسلبياته، ولقد حاول اليسار بشكل عام وباستثناء فترات الصدام العنيف، أن يضع ثقله لكي ترجح كفة الإيجابيات على كفة السلبيات مع الاهتمام بالتصدي لقوى اليمين سواء في هجومها السافر أو تسللها المستور أو التفافها على حركة التقدم في الثورة.
في حدود هذا الإطار يمكن أن يحاسب اليسار على مدى نجاحه أو فشله، على تنازلاته أو ضماناته، وكذلك على موقفه الراهن من تقييم التجربة كلها سلبا وإيجابا.
يطالبنا الدكتور فؤاد زكريا بأن ننزع من يد اليمين راية الحكم على التجربة بالفشل، بل يطالبنا بأن ننتزع من اليمين «هذا الشرف» شرف التنديد بفشل ما يسميه بالتجربة الناصرية.
لماذا؟
لأنه كصديق لنا حريص على أن نكسب المواطن المصري إلى صفنا قبل أن يخطفه اليمين.
إن الساحة المصرية أمامه تتلخص في حلبة صراع بين غول بشع هو اليمين، يريد أن يعتصر المواطن المصري كما كان يفعل قبل الثورة، وبين يسار قصير النظر يعطف الدكتور عليه وينصحه نصيحة تضمن له كسب المواطن المصري؛ لأن الدكتور على يقين من أن اليسار يريد بالمواطن خيرا. ويرى الدكتور أن الغلبة في هذه الحلبة ستكون لمن يبادر بإهالة أكبر قدر من التراب على تجربة ثورة 23 يوليو.
وهو يعلم اليسار ويلقنه بأسلوب أستاذ الفلسفة ماذا يقول، ليس أكثر ولا أقل مما يقوله اليمين: إن الثورة لم تكن ثورة، ولكن نكسة على الإنسان المصري من جميع الوجوه، طبقة حاكمة جديدة أكثر عددا من سابقتها في الحكم، مناظر اشتراكية ليست من الاشتراكية في شيء، انحرافات لا تقاس بها انحرافات مجتمع ما قبل الثورة، جبهة داخلية مفككة وجيش متفسخ، وتحت هذا الثقل الهائل يقف الإنسان المصري البسيط مخرب النفس والعقل مشلولا بالسلبية مستنكرا تماما كل ما وقع في وطنه عبر عشرين عاما بشهادة رآها الدكتور دامغة كأنها استفتاء شعبي عام، هي الاستقبال الشاذ للرئيس الأمريكي نيكسون.
إن الدكتور فؤاد زكريا يتهم اليسار بأنه ذاب في أحضان «التجربة الناصرية» ويتهم المواطن المصري بأنه مات تحت وطأة التجربة الناصرية وهو يطالب اليسار بأن ينتزع نفسه قبل فوات الأوان من عناقه القاتل للتجربة الناصرية، ليرد الحياة إلى المواطن المصري الذي لفظ أنفاس إنسانيته تحت أقدامها.
والحقيقة أن دائرة الرؤية عند الدكتور فؤاد زكريا - بالنسبة لليسار - قد توقفت عند عدد محدود من شخصيات يسارية اقتصر دورها على الهجوم المطلق على ثورة يوليو في مرحلة، ثم انتقلت إلى الدفاع المطلق عنها وتبرير سلبياتها بعد ذلك.
قد تكون هذه العناصر مرموقة ولكنها أيضا محدودة وأعتقد أن دورها قد انتهى.
أما بالنسبة للمواطن المصري ... فإن حدود رؤية الدكتور له قد توقفت عند نفس الحدود التي يراها اليمين.
اليمين رآها بالوهم وأحلام اليقظة، أما الدكتور فؤاد زكريا فقد رآها بالانسياق. وشخصية المواطن المصري البسيط المعادي لثورة 23 يوليو الكاره لعبد الناصر وتجربته، العاقد الآمال على أمريكا. المخدوع بأبواق اليمين المصري، هي شخصية وهمية تماما.
لقد ظل المواطن المصري البسيط سواء قبل وفاة عبد الناصر أو بعد وفاته ينتقد السلبيات ويتصدى بقدر ما يطيق للانحرافات، ولكنه أبدا لم يرفع شعار «هدم المعبد» على حد تعبير واحد من كتاب اليمين هذه الأيام. إن شخصية المواطن المصري العادي الكاره لمبدأ الاشتراكية نتيجة انحراف التطبيق، هي قضية أنصح الدكتور فؤاد زكريا أن يفحصها بمنهج غير مكتبي، إذا أراد أن يتصدى للسياسة المصرية.
وسوف أضمن للدكتور فؤاد زكريا اكتشاف أن الإنسان المصري لم يعش تجربة الثورة وخرج منها «مرعوبا سلبيا منافقا فاقدا القدرة على الرفض والاعتراض والاحتجاج، فاقدا ملكة التفكير العقلي والحكم الصائب، مخرب العقل والنفس مسلوب الكرامة، متكلا على غيره في الفكر والعمل معتادا على الانكماش والوقوف موقف المتفرج غير المكترث متبلد الإحساس لا يستنكر الظلم ولا يسعى إلى محاربته.» وذلك كما صور هو الإنسان المصري في دراسته.
وقد يسأل الدكتور عن موقف اليسار إذا لم يأخذ بنصيحته، وهي التنافس مع اليمين على شجب تجربة 23 يوليو.
إن موقف اليسار من اليمين ليس التنافس معه على شيء، ولكن رده على أعقابه.
وموقف اليسار من أخطاء التجربة، سواء أكانت أخطاءه أو أخطاء غيره، هو تصحيحها.
وموقف اليسار من منجزات التجربة ليس هو الاكتفاء بأنها «محفوظة ومعروفة» بل حمايتها والتقدم بها؛ لأنها من عمل العمال والفلاحين وأبنائهم في مواقع الإنتاج الفكري والتكنولوجي من المثقفين، وكذلك أبناؤهم في القوات المسلحة.
هي مهام صعبة، ولكن اليسار يضع ثقته في هذا المواطن المصري البسيط الذي تصور د. فؤاد أنه فقد كل شيء، بينما يثق اليسار في أنه يملك كل شيء: الزمن والمقدرة.
وأخيرا لقد بدأ الدكتور فؤاد زكريا دراسته بمقدمة نفى فيها عن نفسه شبهة الدوافع الشخصية وشبهة الرجعية وشبهة الجبن والانتهازية ثم حذر اليمين من أن يحاول الاستفادة بدراسته وعلق جريمة هذا الاحتمال أو التخوف في عنق اليسار وختم دراسته بتحذير إلى اليسار بألا يرد عليه بمهاترة.
اطمئن يا دكتور فؤاد، لن يتهمك اليسار بالرجعية أو الجبن أو الانتهازية أو الانطلاق من دوافع شخصية، وإذا استغل اليمين ما كتبت في لعبته فإن اليسار سيحمل وزر ذلك عن كليكما. كذلك لن تجد من اليسار مهاترة في الرد عليك. ستخرج سليما معافى من هذه المعركة التي أهلت فيها أكوام التراب على كل شيء، فإن أصدقاءك اليساريين يفهمون جيدا حساسية المثقفين!
لم ينقد عبد الناصر إلا اليساريون
بقلم فيليب جلاب
على غير عادة الدكتور فؤاد زكريا، جاءت دراسته حول «جمال عبد الناصر واليسار المصري» مثل بعض عمارات هذه الأيام: تبدو في غاية الدقة والإحكام، ولكن عيبها الخفي في عمودها الفقري!
فأساس دراسة الدكتور فؤاد زكريا أن اليسار المصري يدافع بالحق وبالباطل عن تجربة عبد الناصر والعهد الناصري، ويرفض أي نقد أو تقييم لهذه التجربة، ورغم أن الدكتور فؤاد زكريا، وهو باحث مدقق، لم يقدم أمثلة لإثبات أهم أركان دراسته، إلا أنه واصل شرح أسباب هذا الموقف «الوهمي» ليساريين «وهميين»، حتى نسب إليهم دون حرج وجود دوافع أو «مصالح شخصية» وراء موقفهم هذا.
ونحن لن نناقش الأسس النظرية التي تحول بين اليساري (الجدير بهذه الصفة) وبين اتخاذ موقف سياسي على أساس مصالح شخصية (مما ينفي عنه تماما صفة اليسارية) ولن نتعرض في البداية لعدد اليساريين الذين حصلوا على «مناصب رفيعة» كما يقول إبان «العهد الناصري» فسنرى في النهاية من هم وأية مناصب «رفيعة» احتلوها.
ليس رفضا للتقييم ولكن ... خلاف حوله
لكننا نبدأ بتوضيح مسألتين، لم نكن نتوقع أن تغيبا عن الدكتور فؤاد زكريا:
الأولى:
أنه لم يحدث في حدود علمنا ومتابعتنا لما نشر في الصحف والمجلات ومختلف المطبوعات أن رفض اليساريون نقد وتقييم عبد الناصر وثورة 23 يوليو، أو هاجموا من يتصدى لعبد الناصر والثورة بالنقد والتقييم، وذلك شريطة أن نضع حدا فاصلا واضحا بين الشتائم والبذاءات ومحاولات الارتداد إلى العهد الملكي، وبين أي نقد أو تقييم موضوعي، لعبد الناصر والثورة.
والثانية:
أن أحدا لم يقدم نقدا أو تقييما لتجربة عبد الناصر يمكن أن يكون جديرا بصفة الموضوعية سوى اليسار، بقدر ما أتيح له من «مساحة» أو «فرصة» في صحفنا.
أما أن يكون تقييم اليسار لتجربة عبد الناصر وثورة 23 يوليو مختلفا في كثير أو قليل مع تقييم الدكتور فؤاد زكريا لنفس التجربة (وهو تقدمي ويساري أيضا) فهذه قضية أخرى، لا يصح أن تختلط بمبدأ التقييم ذاته.
واليساريون في النهاية ليسوا حزبا موحد الفكر والموقف، ولا تجمعهم إلا الخطوط النظرية العامة، والتي لم تعد هي أيضا بمنأى عن الخلاف بين تيارات اليسار المتعددة.
أين هو النقد والتقييم لعبد الناصر الذي اتخذ منه اليسار موقف الهجوم والرفض؟ هل هم الذين يقول عنهم الدكتور فؤاد زكريا: «هناك بالفعل نقاد للعهد الناصري كانوا ممن يحرقون له البخور طوال أعوامه الثمانية عشر، وكانوا طول تاريخهم ممن يجيدون تغيير جلدهم بتغير الحاكم ... بل إنهم سبق أن مارسوا مثل هذا التحول في أوائل عهد عبد الناصر لصالح عبد الناصر ذاته وضد أسيادهم السابقين.» أو من يسميهم أيضا: «مدخني السيجار من أصحاب المصانع السابقين أو ... أصدقاء آل صيدناوي وأفرينو»؟ ... حسنا! هل يمكن أن يقبل نقد لعبد الناصر من جانب تلك الفئات؟ وهل يمكن أن يصدر أي نقد أو تقييم موضوعي لثورة أو زعيم ثورة من جانبهم.
وهل إذا رفض اليسار الإسفاف والافتراء على الثورة، وهو إسفاف وافتراء على شعب مصر قبل أن يكون على جمال عبد الناصر ... أصبح رافضا «للنقد »؟
لقد كتب رجل من كبار الرأسماليين، وهو محمد فرغلي «باشا» نقدا وتقييما للقطاع العام في صحيفة الأهرام، ذكر فيه ما له وما عليه من وجهة نظره، بموضوعية وتجرد، فلم يلق ترحيبا إلا من اليسار (في مجلتي روز اليوسف والطليعة).
وإذا كان رجل كفرغلي استطاع أن يسمو على مصالحه الشخصية، ويقدم تقييما موضوعيا، فهل «يدان» اليسار في رأي الدكتور فؤاد زكريا؛ لأنه ارتفع على آلامه الذاتية وما أصابه شخصيا متمسكا بالدفاع عن إيجابيات الثورة في عهد عبد الناصر قبل وبعد وفاته؟!
ثم أين هو النقد والتقييم الذي يرى الدكتور فؤاد زكريا أن اليسار قد رفضه؟ هل «النقد» هو أن يقال إن مصر لم تستقل أو تتحرر إلا بعد وفاة عبد الناصر، وإن إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول الاستعمارية أو العميلة ليست مسئولة عما أصاب شعب مصر من عدوان متكرر، لكن مصر بعد ثورة 23 يوليو وبقيادة عبد الناصر هي المسئولة؟
هل النقد والتقييم لعشرين عاما من تاريخنا هو أن يقال إن مصر كانت أسعد حالا قبل التأميم والتصنيع وإنشاء السد العالي والإصلاح الزراعي؟ وإن الفلاحين والعمال في مصر الملكية عاشوا في نعمة ورضاء لم ينتزعهم منهما إلا عبد الناصر والثورة؟!
هناك فرق كبير بين النقد وبين نفث سموم الأحقاد الطبقية، وفرق كبير بين تقييم مرحلة حاسمة في تاريخنا المعاصر بالدراسة والبحث والأرقام، وبين التعبير عن مطامع شخصية في ثروات قديمة غير مشروعة، أو ثروات جديدة مأمولة بالأصالة عن النفس أو بالوكالة عن الغير.
إن ما يقوله هؤلاء وأولئك هو ما يرفض اليسار أن يقبله كنقد «للعهد الناصري» لأنه كلام معاد لمصر، ولثورة 23 يوليو، ولكل نظام وطني سواء قاده عبد الناصر أو السادات.
اليسار نقد أيضا
أما اليسار - وهو ما فات الدكتور فؤاد زكريا أن يتابعه للأسف - فقدم أكثر التقييمات موضوعية على قدر استطاعته، وفي حدود «الفرص» المتاحة في الصحف كما أشرنا في البداية. وإذا كان من الصعب حصر بعض المقالات الفردية المتباعدة لكتاب اليسار في هذا الشأن، أفليس من التجني على اليسار تجاهل الدراسة التي قدمها يساري ماركسي مصري معروف هو الدكتور «محمد فريد شهدي» تحت عنوان «تأملات في الناصرية».
وإذا كانت الطبعة الأولى من هذه الدراسة قد ظهرت في يوليو 1973م، إلا أن ندوة مجلة «الطليعة» القاهرية حول تقييم تجربة عبد الناصر بين اليسار المصري وتوفيق الحكيم لا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور، وهي من الموضوعات الرئيسية في أعداد المجلة.
هل غابت هذه المحاولات المتواضعة لليسار عن ملاحظة الدكتور فؤاد زكريا؟
لنكن أكثر صراحة ونؤكد أن الدكتور فؤاد زكريا (من واقع دراسته) ليس غافلا عما يقدمه اليسار من تقييم لتجربة عبد الناصر، وعما يقدمه بعض اليمينيين من بذاءات وينفثونه من أحقاد ضد الثورة، وضد إيجابياتها على وجه الخصوص، لكن المشكلة التي أوضحها الدكتور فؤاد زكريا بجلاء، ليست هي رفض اليسار لتقييم عبد الناصر، وإنما هي اختلاف تقييم الدكتور فؤاد زكريا عن تقييم اليسار لعبد الناصر.
ولو كان الدكتور فؤاد واضحا في هذه النقطة منذ البداية لوفر الكثير من الجهد، ولما اضطر إلى اعتساف المنطق وتجريح اليسار واتهامه بالدفاع عن «مصالح شخصية» وهمية، لمجرد أن اليسار يرفض أن يدخل في مزايدة مفتوحة مع اليمين المتطرف؛ لكي يكسب قصب السبق في إهالة التراب على ثورة وطنية، وعلى واحد من أعظم أبطالنا القوميين طوال تاريخنا!
تقدمية أو رجعية
يقول الدكتور فؤاد زكريا دون أي لبس: إن اليسار ظل متمسكا «بالدفاع عن تجربة يتمسك بأنها كانت اشتراكية تقدمية بينما يثبت الواقع اليومي عكس ذلك» ثم يعود ويتساءل: «ما الذي جعل اليسار يتخذ هذا الموقف ويدافع دفاعا عن تجربة لم تكن في حقيقتها يسارية بالمعنى الصحيح، ولم يكن لها من مقومات الاشتراكية بالمقاييس العلمية الصحيحة إلا أقل القليل؟!»
وتساؤلات الدكتور فؤاد محيرة فعلا؛ لأنها لا تتسق مع منطقه السائد في الدراسة كلها.
فإذا كان الواقع اليومي يثبت أن التجربة الناصرية ليست «اشتراكية تقدمية»، بل رأسمالية رجعية ... فأي مبرر في رأيه يدفع اليمين إلى الهجوم الدائب والمستميت ضد هذه التجربة؟ وما معنى قوله إن «الاتجاهات اليمينية انتعشت بعد موت عبد الناصر»، متصورة أنها تستطيع أن «تعيد عقارب الساعة إلى الوراء»؟
كيف يعلن اليمين سخطه على تجربة رأسمالية رجعية، وكيف يحاول اليمين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء إذا لم تكن تجربة عبد الناصر بإيجابياتها وسلبياتها تمثل دفعة إلى الأمام في إطار التطور الوطني والاجتماعي المستقل، وإذا لم يكن عبد الناصر وثورة يوليو قد حركا عقارب الساعة إلى الأمام؟!
لكن لندع منطق المخالفة ولنذكر شيئا عن موقف اليسار من ثورة يوليو وعبد الناصر منذ قيام الثورة إلى وفاة عبد الناصر. لقد أيدت الثورة فور قيامها بعض تيارات اليسار عن اقتناع وعارضتها تيارات أخرى عن اقتناع أيضا.
وبعد سلسلة من الصدام بين الثورة وتيارات اليسار، وبعد أخطاء متبادلة من الجميع بدرجات متفاوتة استقر رأي جميع اليساريين على أن ما حدث في 23 يوليو ليس انقلابا عسكريا ولكنه ثورة وطنية بأسلوب غير تقليدي، لا بد أن يعمل اليساريون مع بقية الفئات الوطنية على تأييدها، دون أن يحرمهم هذا من حقهم الطبيعي في انتقادها من موقع المساندة؛ من أجل التقدم بالثورة الوطنية نحو الأفضل.
ثم إن عشرين عاما من ثورة يوليو وقيادة عبد الناصر لم تكن مرحلة واحدة من حيث تطورها وتجاوبها مع مطامح الفئات الشعبية والمطالب الاجتماعية؛ ولذلك فلم يكن موقف اليسار من الثورة واحدا في كل مراحلها.
فبينما اتسمت الفترة منذ قيام الثورة عام 1952م حتى بدايات سنة 1955م بالتخبط من كل الأطراف، كان تأييد اليسار للثورة واضحا بعد الموقف الحاسم من حلف بغداد وصفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية (أو السوفيتية) وتأميم قناة السويس وتمصير المصالح الأجنبية وغيرها. ورغم الحملة المعروفة من جانب الثورة ضد اليسار عام 1959م والتي انتهت باعتقال المئات، لم يتغير موقف غالبية اليساريين في المعتقلات من تقييمهم لطبيعة الثورة الوطنية، ذلك أن اليساريين، كما يعلم الدكتور فؤاد زكريا، لا يغيرون مواقفهم المبدئية بسبب ما ينالهم من اضطهاد أو حظوة شخصية.
وفي داخل المعتقلات ازداد اليساريون تأييدا للثورة عندما أممت بنك مصر والبنك الأهلي وما تلاه من إجراءات التأميم الكبرى عام 1961م، والتي انتهت بالميثاق كوثيقة تؤكد الرغبة في اتباع الاشتراكية «العلمية» كطريق وحيد للتنمية في مصر لصالح الغالبية العظمى من الشعب.
ولعل أكثر الأمور اعتسافا في دراسة الدكتور زكريا هو محاولته استخدام هذه المسألة بالتحديد لكي يثبت أن الإفراج عن اليساريين بعد عامين ونصف عام من قرارات التأميم «التي ربما لم يخطر ببالهم التفكير فيها» لم يكن بسبب اقتراب قرارات التأميم مما ينادي به اليساريون!
ومرة أخرى لم تكن مسألة الاعتقال أو الإفراج هي الفيصل في موقف اليسار الأساسي من أي نظام ... وإلا فهل ينفي عدم اعتقال الحكومة الإنجليزية لأعضاء الحزب الشيوعي البريطاني صفة الرجعية أو الاستعمار عن مثل تلك الحكومة؟!
أما القول بأن الإفراج عن اليسار تم رغبة في مجاملة طرف رئيسي في التوازن الدولي فهو تفسير يستحق أكثر من مجرد «النفور». فقد تكون الرغبة في مجاملة هذا الطرف عاملا من العوامل، لكن من المستحيل أن يكون العامل الأساسي في هذا الشأن إلا عاملا داخليا. ومن المؤكد كما يعرف الجميع وكما أعلن عبد الناصر أن شيئا لم يتغير في تعهدات الاتحاد السوفيتي العسكرية والاقتصادية والسياسية باعتقال اليساريين، بل إن أبرز الاتفاقيات حول المرحلة الثانية للسد العالي وغيرها تم توقيعها بينما كان اليساريون يقطعون الحجارة في «أبي زعبل» ومرة أخرى لم يكن هذا الموقف، من عبد الناصر أو من الاتحاد السوفيتي، يغير بالسلب أو الإيجاب من اتجاهات اليسار بالنسبة للنظام، إذ إن موقف اليسار يرتكز أساسا على تحليل الظاهرة الكلية دون التوقف عند بعض الجزئيات التي تبدو مثيرة للوهلة الأولى، ثم لا تلبث أن تتبدد أمام أي تحليل أكثر دقة، وشمولا، وواقعية.
والأغرب من هذا هو أن يتوقع الدكتور فؤاد زكريا أن يطالب اليسار بالتأميم وبالإصلاح الزراعي، وبالاتجاه نحو الاشتراكية، وبموقف واضح وحازم من القوى الاستعمارية والصهيونية وبصداقة أو علاقة استراتيجية مع الدول الاشتراكية والمعادية للاستعمار، فإذا فعلت ثورة 23 يوليو وقيادة عبد الناصر نفس الشيء لا يجب في عرف الدكتور فؤاد زكريا أن يظن اليسار (قصير النظر كما يقول) أن الثورة تقترب من اليسار. كلا ففي رأيه أن اليسار هو الذي يقترب من الثورة!
خرافة المناصب
لقد اقترب اليسار من الثورة فعلا ... ما المانع في ذلك؟! واقتربت الثورة من اليسار بهذه الإجراءات! وإلا فهل تخضع التطورات الاقتصادية والاجتماعية الجذرية للمزاج الشخصي؟
إن اليسار لم يؤيد هذه الإجراءات بعد خروجه من المعتقل؛ بسبب «المناصب الرفيعة» التي قدمها عبد الناصر لبعض أقطابه في مجالس الإدارات، الأمر الذي أدى، كما يقول الدكتور، إلى اضطراب في أحكام اليساريين «لأن عددا كبيرا من أقطابهم عينوا في مراكز رئيسية في الدولة وفي ميادين الإعلام والثقافة بوجه خاص.»
قلنا إن تأييد اليسار لهذه الإجراءات لم يرتهن بالخروج من المعتقل ... أما حكاية «المناصب الرفيعة» والرئيسية في الدولة فتثير التساؤل حول مفهوم الدكتور فؤاد «للمنصب الرفيع»!
كان المنصب الرفيع بعد الثورة هو عضوية مجلس قيادة الثورة. وقد استقال العضوان اليساريان في المجلس وهما خالد محيي الدين والمرحوم يوسف صديق؛ بسبب خلاف مع غالبية المجلس وعبد الناصر حول «مفهوم الديمقراطية» بصرف النظر عن المخطئ والمصيب ... وحتى وفاة عبد الناصر لم يصل أكثر اليساريين خبرة وثقافة وتخصصا إلى منصب وزاري واحد، رغم ما نعرفه عن «كفاءة» بعض الذين تولوا منصب الوزارة في ذلك الوقت.
ومن بين مئات الأكفاء وغير الأكفاء من غير اليساريين الذين تولوا رئاسة مجالس الإدارات في مصر لا يمكن أن نجد أكثر من واحد أو اثنين في وقت واحد من بين اليساريين. أما رئاسة مجلس الإدارة فهي في النهاية ليست إغراء لمثقف أو أستاذ جامعي لديه الحد الأدنى من الكفاءة، فما بالك بيساري يفترض ألا تغريه هذه الوظائف ويضطر إزاءها إلى التنازل عن وجهات نظره أو «إغماض عينيه» كما يقول الدكتور.
إن التفسير الوحيد لمثل هذا «الدليل» الذي أفرط الدكتور فؤاد في التمسك به والحديث عنه هو واحد من اثنين: إما أنه يرى أن المكان الوحيد لليساري هو المعتقل، أو أن كفاءة اليساري لا ترقى به إلى مستوى الحد الأدنى من الوظائف المتوسطة، وأن عودة الصحفي إلى عمله تعد من قبيل الرشوة والمجاملة التي لا يستحقها!
ولعل الدكتور فؤاد لا يعرف الكثير عن جداول المرتبات والمكافآت، مما دعاه إلى الاعتقاد بأن الثورة أو عبد الناصر قد وضعا بين أيدي اليسار «المال والنفوذ بلا حساب» لانتزاع المخالب الثورية من الثائر كما قال.
وإذا كانت المخالب الثورية تنتزع بهذه الطريقة ... لماذا إذن يصر اليساريون، كما يقول، على الدفاع عن تقييمهم لثورة 23 يوليو والتجربة الناصرية ما دام عبد الناصر قد مات وضاعت من بين أيديهم هذه المكاسب أو المصالح الخاصة؟
لكن الدكتور فؤاد زكريا على غير طريقة الباحث المدقق، لم يتابع مواقف اليسار من تأييد التجربة الناصرية في حياة عبد الناصر ... لقد كان الموقف الأساسي كما قلنا هو التأييد على أساس الإجراءات العملية والثورية التي قامت بها الثورة، لكن هذا التأييد لم يكن ثابتا وبنفس الدرجة، في كل المراحل ولقد كان اليساريون من خلال وسائل الإعلام، هم الذين انتقدوا محاولات الإبطاء في التنمية وفي التغيير الاجتماعي، ومن أجل ديمقراطية أوسع للجماهير الشعبية ومن أجل ضرب الطبقة الجديدة التي بدأت تطل برأسها من ثنايا التطور الاقتصادي الجديد.
وبعد عام 1967م، ودون تجاهل لظروف المعركة الوطنية لم يكف اليسار عن إثارة كل الأمور الخاصة باقتصاد الحرب والتقشف والتعبئة الشعبية والعسكرية وتصفية الطبقة الجديدة، وكل ما من شأنه سرعة إعداد البلاد للحرب الوطنية الاجتماعية من أجل التحرير والتنمية ... ولعل اليسار هنا لم يقل كل ما كان يجب، وهو ما لا ينكره اليساريون أنفسهم ولكن أحدا لا ينكر أنه بسبب تمسك اليسار بحق النقد، وممارسته له، كان اليساريون ضيوفا دائمين - وعلى دفعات - على المعتقلات والسجون حتى وفاة عبد الناصر، ولست أذكر رقما محددا بدقة، لكن البعض يقدر العدد في ذلك الوقت بأكثر من 120يساريا ونحن نشعر بالأسف إذا كانت هذه الحقائق لا تساعد على إثبات صحة التحليل الذي قدمه الدكتور فؤاد زكريا.
إن مصدر الخلاف الطبيعي بين الدكتور فؤاد زكريا وبين اليسار هو خلاف في التقييم كما ذكرنا، فهو يرى من خلال جزئيات لا تصمد كثيرا أن الرجل البسيط في مصر أضير من الإجراءات الثورية الاقتصادية والاجتماعية ... وهو يناقش التراكمات والمشاكل التي تجمعت في عام 1975م، متجاهلا أن الإجراءات التي اتخذها عبد الناصر رفعت مستوى البسطاء من الناس في الستينيات خاصة، بعد الخطة الخمسية الأولى وقرارات التأميم والإصلاح الزراعي وغيرها ... ومتجاهلا أيضا أن ظروف المعركة والإعداد للحرب والإبطاء في إجراءات التغيير الاجتماعي تبعا لذلك، وإن كان اليسار قد عارض ذلك في حينه في حياة عبد الناصر، قد أدت إلى هذه التراكمات.
إن أحدا لا ينكر كل ما حدث من تجاوزات، ومن تضخم في دور أجهزة القمع، ومن افتقار للتنظيم الديمقراطي لجماهير الشعب، ومن إهمال لدور الشعب في مساندة النظام، ومن الخشية أحيانا من مواجهة تكاليف المعارك بالطريقة المثلى ... لكن هذه كلها لا تغير من وضع عبد الناصر كبطل قومي قاد ثورة قضت على الملكية وقلمت أظافر الرأسمالية والإقطاع، وتحدت أعتى الدول الاستعمارية، وأيقظت الروح القومية على مستوى مصر والوطن العربي كله، وخلقت أمام جماهير شعبنا لأول مرة - وعمليا - أملا محسوسا في العدالة الاجتماعية بعد قرون من الظلم والاستبداد.
ثم إن عبد الناصر نفسه لم يزعم أنه أقام نظاما اشتراكيا لكنه أكد أكثر من مرة أنه يستهدف الوصول إلى الاشتراكية، وأنه يعمل من أجل التحول الاشتراكي أو التطبيق العربي للاشتراكية.
وفي هذه الحدود قاد عبد الناصر تجربة وطنية وثورية واجتماعية تضاف إلى رصيد التقدم المصري والعربي والعالمي بكل إيجابياتها وسلبياتها.
الأبيض والأسود
لقد كان من الممكن دائما أن تكون تجربة عبد الناصر أفضل مما كانت، وكان ذلك دائما هو محور نضال اليسار المساند والناقد للثورة ... ولكن ما حدث كان إنجازا بكل المقاييس. وهذا بالتحديد هو مصدر خلافنا مع الدكتور فؤاد زكريا هو يرى الأسود فقط ونحن نرى الأبيض والأسود معا.
وهو يناقض نفسه بطريقة مثيرة بضرب مثال بقصة «الكتاب الأسود» الذي ألفه مكرم عبيد لكشف بعض حالات استغلال النفوذ أو فضائح الوفد ... فيقول إنه كان يفضل لو أن مكرم عبيد «لم يختم جهاده الطويل بمثل هذا الكتاب» ... الذي لا يرى في حكم الوفد غير الأسود فقط.
أي أن الدكتور يعتبر أن ذكر بعض مثالب أو سلبيات عهد مصطفى النحاس أمر ضار، إزاء الإيجابيات المعروفة لحكم الوفد في ذلك العهد ... أما في حالة زعيم للثورة كعبد الناصر، فالدكتور فؤاد زكريا يرى أن من علامات النضج السياسي التركيز على السلبيات فقط، ما دام قد اتخذ الاحتياطات اللازمة لكيلا يستفيد اليمين مما كتب، بقوله: «وأنا أرفض بشدة أية محاولة من جانب اليمين لاستغلال ما أكتب ... ومن المستحيل أن أقبل ما أكتب لصالح أصدقاء صيدناوي وأفرينو ... إلخ.»
أما إذا استخدم اليمين ما كتب الدكتور فؤاد كما يقول فسيكون الخطأ خطأ اليسار ذاته؟ ولعل مما يؤسف له، وقد لا يطمئنه أيضا، أن اليمين لن يستخدم ما كتب الدكتور فؤاد؛ لسبب بسيط: وهو أن الدكتور فؤاد قد استخدم ما كتب اليمين!
ولعل ذلك واضح في أهم أجزاء الدراسة، وخاصة عندما يقول إن استقبال نيكسون كان «استفتاء غير رسمي على التجربة الاشتراكية المزعومة.»
وبماذا تفسر إذن - يا دكتور - خروج الملايين يوم اعتزال عبد الناصر بعد الهزيمة مباشرة؟ وبماذا تفسر أيضا خروج أعداد أكبر بعد أن عرف نبأ وفاته، وحتى ووري جثمانه التراب؟!
هل هكذا يفسر باحث مثل الدكتور فؤاد زكريا أي حشد مهما بلغت ذروته في استقبال ضيف أجنبي لحكومته؟ وهل نحن في حاجة إلى تفاصيل في هذا الشأن؛ لكي ننقذ شرف وكرامة الشعب المصري من مثل هذا الامتهان؟
لقد ذكر الدكتور فؤاد أن تجربة عبد الناصر أدت إلى تخريب داخلي لنفس الإنسان المصري وعقله، لكن هذا الإنسان «المخرب» هو الذي حقق الانتصار في 6 أكتوبر كما يشهد الدكتور فؤاد في دراسته! هل يعتقد الدكتور أن هناك شكا في أن قيادة الرئيس السادات لمعركة العبور لا تقلل من عمليات الإعداد الجاد للمعركة منذ هزيمة 1967م، كما أعلن الرئيس السادات نفسه، عندما ذكر أنه شارك عبد الناصر بعد 1967م في التركيز الأساسي على إعادة بناء القوات المسلحة وإعدادها للحرب؟
إن الذين يحاربون ويعبرون أو يقتحمون القناة بالحديد والنار لا يخرجون في صفوف ذليلة، ليقدموا أنفسهم وبأنفسهم إلى الرئيس نيكسون استفتاء معاديا لتجربة الثورة المصرية، ولواحد من أعظم أبنائها، الذي عاش ومات من أجل مصر، ومن أجلهم أيا كانت الأخطاء والهزائم.
إن مثل هذا المنهج الذي أراه «جديدا» في كتابات الدكتور فؤاد زكريا يمكن أن يجرد أبطال مصر وقادتها الوطنيين جميعا من أهم منجزاتهم ... وإلا فكيف سنحاسب صلاح الدين وعرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومصطفى النحاس؟!
دار الحديث بين فتحي ونجيب محفوظ حول دراسة د. فؤاد زكريا عن اليسار المصري وعبد الناصر.
بقلب شاب تحدث نجيب محفوظ. لم تكن إجاباته إملاء ولكن في صيغة الأخذ والعطاء واحترام العقل.
ليت أمور ثورتنا سارت على هذا «النهج» ... إذن لسارت الأحداث على خير ما تمنى نجيب محفوظ صباح 23 يوليو 1952م وحين استمع إلى مبادئ الثورة الستة قال: هذه ثورتنا.
أنفي عن الماركسيين تماما شبهة الرشوة.
نجيب محفوظ
تناول حديثنا مسألتين:
تقييم د. فؤاد زكريا لثورة يوليو باعتبارها تجربة فاشلة من وجهة نظره.
اتهام د. زكريا لليسار الماركسي بأنه خضع للرشوة فاتخذ موقف الدفاع عن التجربة.
قال نجيب محفوظ: أحب أن أسجل منذ البداية أن المعاصرين يعتبرون أسوأ المؤرخين؛ لأن اندماجهم في التجربة يحول بينهم وبين الحكم الموضوعي السليم.
يصح لهم أن يعطوا شهادة ... وهذه الشهادة تنفع مستقبلا كوثيقة للمؤرخ.
لذلك أنا لا أستطيع أن أعطي حكما تاريخيا بالمعنى الحقيقي لفترة عشتها وما زلت أعيشها ... ولكنني سأدلي بشهادة.
هي شهادة بكل المعنى؛ فيها الذاتية، وقد يكون فيها التحيز، وكل عيوب الشهادة، رغم توخي الصدق والموضوعية.
إن أي تجربة سياسية يمكن أن نصدر عليها حكما مؤقتا عن بدايتها وخط سيرها وما حصل فيها ... وهناك حكم على نتائجها البعيدة وهو ما لا يتأتى إلا مع الزمن.
مثال ذلك الثورة الفرنسية ... لو حكمنا عليها بعصر الإرهاب وعودة الملكية يمكن القول بأنها تجربة فاشلة.
لو حكمنا عليها بعد ذلك بما أنجزته على طريق الديمقراطية يمكن أن نقول إنها تجربة ناجحة، بل هي ثورة من أنجح الثورات على المستوى المحلي والعالمي .
بهذه النظرة، حين ننظر إلى ثورتنا نجد أننا يمكن أن نحكم عليها - ونحن مضطرون في نهاية من نهاياتها الحاسمة - يونيو 1967م - بأنها تجربة فاشلة، أنزلت بالبلد هزيمة لم يسبق لها مثيل، وقفت بنا على شفا الإفلاس، إلى آخر نتائج الهزيمة.
لكن هناك ما لا يستطيع أحد أن يغفله مما جاءت به الثورة من معالم التغيير، وإن كانت أمورا من شأنها أن تفعل فعلها مع الزمن ويصح أن تتبلور فيما بعد.
مثل تغيير التركيب الطبقي للمجتمع حتى لو أن هناك «طبقة جديدة» نشأت.
ومثل تجربة امتلاك الشعب أو الدولة لوسائل الإنتاج ... رغم الانحرافات.
ومثل الدعوة إلى التضامن العربي ... والدعوة إلى تحرير الشعوب من الاستعمار.
كل هذا بعد 50 سنة يصح أن تكون له نتائج مثل نتائج الثورة الفرنسية ... ليس على المحيط المصري والعربي فحسب، بل على المحيط الآسيوي والأفريقي.
أقدر أن أقول إن التصحيح يتمشى مع هذا المنطق، مثلا لم يقم على إلغاء القطاع العام أو الإصلاح الزراعي، ولكن لتوفير حسن الإدارة والنزاهة.
وكذلك كان لها أسلوب جديد في التضامن العربي أثمر أكثر مما أثمرت السياسة السابقة.
هناك فرق بين المبادئ وتطبيق هذه المبادئ، ويجب أن تضع هذا السؤال إذا أردنا تقييم حقيقة ثورة يوليو:
هل مبادئ العدالة الاجتماعية، ومقاومة الاستعمار والتضامن العربي ... هل هذه المبادئ نتيجتها المحتومة الفقر والطبقة الجديدة والهزيمة؟
طبيعي لا.
إذن ما الذي حول هذه المقدمات إلى هذه النتائج؟
هذا ما يجب أن نعرفه لا لنؤرخه، ولكن لكي نتجنبه.
أحب قبل الدخول على ما يجب عمله وما يجب تجنبه أن أضرب مثلا بالإسلام ...
بعد وفاة النبي لو أن من تولى كان معاوية لما وجد شيء اسمه إسلام.
إذن هنا لا بد من دور الناس.
إن كلمة أبو بكر وكلمة عمر هي التي أوجدت أو ضمنت استمرار الإسلام.
بعد هذا أسأل: ما الذي حول المبادئ العظيمة لثورة يوليو إلى هذا الانهيار؟
أولا:
الدكتاتورية؛ حتى حرماننا من الديمقراطية في أضيق معانيها ... في الهيئة أو النقابة أو حتى الجماعة القليلة العدد.
إن استئثار فكر واحد، واستئثار شخص واحد بالسلطة جعل الصواب والخطأ مثل الأمور الغيبية، خبطة صح مثل تأميم شركة قناة السويس، وخبطة غلط مثل حرب 1967م ... وهكذا.
ثانيا:
نسينا الحكمة المصرية الصحيحة التي تقول «على قد لحافك مد رجليك.»
أنا رجل أومن بالتحرير وبالثورة وبالاشتراكية، ولكن كيف أخدم هذه المبادئ؟
في حدود طاقتي.
في ثورة مثل ثورة اليمن، ماذا أفعل كمصري؟
أعترف بالدولة الجديدة.
أضع في خدمتها جميع وسائلي الإعلامية.
لا أضن عليها بسلاح مما تنتجه مصانعي.
أسمح لمن يريد التطوع بأن يلتحق بصفوف الثورة.
ولسنا دولة عسكرية، ولكن انتصارا لمبادئ ثورتي أخدم بما أقدر عليه، لا بما هو فوق طاقتي.
وكذلك أنا اشتراكي وأريد أن أجعل من العالم العربي مجتمعا اشتراكيا.
هل يكون ذلك بالهجوم على كل سلطة تختلف معي بوسائل مثل المهارات الإعلامية؟
هناك طريقة أفضل، طريقة أحسن.
أن أجعل من مصر نموذجا لمجتمع اشتراكي يشد الشعوب العربية إلى أن تحذو حذو التجربة.
المؤمنون بالاشتراكية يعطون مثلا بالاتحاد السوفيتي؛ فلنتأمل هذا المثل ...
الاتحاد السوفيتي لم ينشر الاشتراكية بقوة جيش، ضربت فيتنام عشرات السنين ولم يتدخل الاتحاد السوفيتي.
ساند، وساعد، ولكن لم يتدخل.
ثالثا:
التناقض في الرؤية أو العقيدة.
في الوقت الذي يدعو فيه عبد الناصر إلى الاشتراكية، يعتقل الاشتراكيين، ويسلم القطاع العام لموظفين!
رابعا:
المسألة الأخلاقية؛ بصراحة كانت مبادئ الثورة أعظم من القائمين على تنفيذها.
مبادئ عظيمة وناس لهم تكوينهم البشرى بما في ذلك التكوين من ضعف.
يزيح الإقطاعي، وهذا مفهوم، ولكن يجلس في قصره هذا هو الخطأ.
لا تتصور كم كنت أنزعج حين أسمع أن هذا القصر هو قصر المسئول فلان.
ماذا يصنع الموظفون الذين تسلموا القطاع العام ... وقد انتفت القدوة؟
والمؤسف حقا أن كل نقاط الضعف هذه كان من الممكن علاجها.
والمأساة أن تتحمل المبادئ العظيمة مسئولية هذه الأخطاء!
وأخيرا.
إن نقدنا لعبد الناصر هو نقد الذين كانوا يتوقعون منه ثلاث خطوات لا خطوة.
وهذا موقف يجب أن يتميز تماما عن موقف أعداء الثورة الذين يهاجمون عبد الناصر ؛ لأنه خطا هذه الخطوة.
بالنسبة لاتهام د. فؤاد زكريا لليسار الماركسي بأنه خضع لرشوة عبد الناصر، فدافع عن التجربة؛ فإنني أنفي عن الماركسيين شبهة الرشوة تماما.
في حدود تجربتي الشخصية، أنا عرفت نوعين من الاشتراكيين.
فريق تعاون مع عبد الناصر على اعتبار أن التجربة - حتى لو اختلفوا على الأهداف البعيدة - هي خطوة إلى الأمام.
كانوا مخلصين تعاونوا عن إخلاص وعقيدة ومن خلال هذا التعاون تولوا مناصب في الدولة وأدوا أمانتها على خير وجه.
وبقيت قلة أرثوذكسية متمسكة بآرائها فلم تتعاون ولم تتوافق.
وأعتقد أنني صورت الفريقين في «المرايا».
كانوا مخلصين فيما يعتقدون.
في نطاق هذه التجربة لا أستطيع أن أعتبر أن من تعاون منهم كان مرتشيا. فوق هذا لقد كانوا أكفاء لهذه المناصب ... كل واحد في مكانه المناسب.
اتخذ موقفه من التجربة أولا، ثم جاء المنصب وليس العكس، وشهدت كثيرين منهم يتركون هذه المناصب عند اختلاف الرأي ولا يحرصون عليها.
الفريق الرافض كان مخلصا، رفض التعاون ولم يحتل منصبا وهو بالطبع أمر لم يكن متاحا.
موقف الاشتراكيين الآن يحتاج إلى وقفة، إن واقعنا يعاني من سلبيات يطحن بها كل مواطن؛ وهي نتيجة حتمية لأخطاء التجربة.
كيف يكون الموقف من هذه السلبيات؟
إما أن ندافع عن المبادئ ولن يتأتى ذلك إلا بكشف النقص فيمن كان مسئولا عن الأمر أيامها.
وإما سنلقي التبعة على المبادئ نفسها بدفاعنا عن المسئول. الواجب على الاشتراكيين أن يتولوا حملة النقد بهذا المفهوم فهم بموقف الدفاع المطلق يتركون هذه المسئولية للجانب الآخر؛ وبذلك يكونون عونا له وهم لا يعلمون.
قلت لنجيب محفوظ: الدفاع المطلق لم يعرفه الماركسيون لا أمس ولا اليوم بقدر طاقتهم، وبتضحيات كانت لهم كلمتهم المستقلة، واليوم أيضا لهم وقفتهم المستقلة، وبتضحيات.
نقف جميعا عند نكسة 1967م.
اعتبرها البعض نهاية الثورة بالهزيمة، بينما صممت أغلبية الشعب الساحقة على أن تقيم عبد الناصر على قدميه، ونهض وأعلن عن أخطاء ولفظ أنفاسه من جهد جهيد كان يبذله لإعادة بناء القوات المسلحة وللوصول إلى تضامن عربي واسع.
هل انتهى نظام سيهانوك بهجمة أمريكا وأعوانها عليه واقتلاعه من الحكم؟ لقد سانده شعبه. ومنذ أيام خرج من الغابات إلى موقعه القديم ... فكيف ننفض أيدينا من التجربة لدى أول هزيمة مهما كان حجمها؟ أما الأخطاء والخطايا، فإن علينا تصحيحها، وتصحيحها لا يتأتى إلا بتحديدها والاعتراف بها، على ألا يشغلنا ذلك عن مهام الثورة الأساسية، التحرير والتقدم الاجتماعي.
قال نجيب محفوظ: إذن يميزوا موقفهم ويعلنوا معارضتهم لسياسة الدفاع المطلق، وإلا فإن الرأي العام معذور إذا خلط الحابل بالنابل.
إذ يجب الفصل بين قضية الاشتراكية وتجربة عبد الناصر بمعنى رفض الصيغة الغريبة التي تقول: إذا كنت مع الاشتراكية ... فأنت ناصري!
نحن اشتراكيون ... ولم نوافق عبد الناصر على أسلوبه في تطبيق الاشتراكية.
فتحي خليل
خطة اليمين: ضرب اليساريين بالناصريين
بقلم أحمد طه عضو مجلس الشعب
إن الموضوعات التي تطرحها للمناقشة دراسة د. فؤاد زكريا متشعبة ومن الصعب تناولها بالرد في مقال واحد؛ لهذا فسوف أختار لمساهمتي في الحوار نقاطا محددة هي: جوهر الخطأ في تقييم الدكتور فؤاد للناصرية - من المسئول عن تطور اليسار؟ - المشكلة الحقيقية التي تواجه اليمين.
جوهر الخطأ
أين يكمن جوهر الخطأ في تقييم د. زكريا للناصرية؟ لقد تناول التجربة في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، غير أن نقده للجوانب الاقتصادية والاجتماعية جاء بعيدا عن روح المنهج العلمي.
في تقييم التطور الاقتصادي قال د. فؤاد زكريا: «لا أنكر أن هذه الصورة الكلية صحيحة ولكني لا أستطيع أن أعترف بنتيجتها ما لم يتحقق هذا التحول بمعاييره المعروفة.»
هل تكفي هذه الحجة للإخلال بالجوهر المعادي للرأسمالية في التجربة الناصرية، وهل يخل بهذا الجوهر أن تكون السياسة - على حد زعم الدكتور - «مغامرات وشراء للأعوان والأنصار في الداخل والخارج»!
كنت أتصور أن يحدد صاحب الدراسة حجم العلاقة بين رأس المال الخاص ورأس المال العام، وهو ما ذكره عرضا وأحجم عن مناقشته؛ لأنها مربط الفرس.
وفي الجانب الاجتماعي على الرغم من حجم المعاناة اليومية للكادحين، فلا شك أن قدرا ملموسا من التقدم قد تم، لو أتيح للدكتور منذ سنوات أن يقف إلى جوار سور حديقة الأزبكية لكان الحفاء واحدة من الظواهر اللافتة للنظر، ولعله يعرف أن برامج بعض الحكومات قبل الثورة كانت مقاومة الحفاء ... فهل حجم هذه الظاهرة لا زال يثير الانتباه؟
والتعليم، وإن بدا موقفه من الكم كريما، فإنه في نهاية الأمر، لا يعكس إلا رأي القادرين على قدر محدود من التسهيلات، أصبح متاحا الآن للمعدمين.
في النهاية، هل التقدم النسبي الذي تم في مجال الصحة والتأمينات الاجتماعية، والبطالة، وساعات العمل التي أصبحت 42 ساعة، يوم كان المطلب العالمي لأكثر الدول تقدما 40 ساعة ... هل كل هذه ظواهر لا تلفت النظر؟ ولا أريد أن يفهم من هذا أنه ليس لدى الفقراء هموم جدية، ولا تطلعات إنسانية ومشروعة، وأنه ليس هناك نضال لتحقيق هذه الأماني.
حتى لو سلمنا جدلا بصحة كل ما ذكره د. زكريا عن الجوانب السياسية، فإنني أؤكد على الجانب الاقتصادي والاجتماعي أنه هو العامل الحاسم.
إنني أدعو الدكتور إلى موازنة بين تجربتين متشابهتين إلى حد كبير هما التجربة الإندونيسية في ظل سوكارنو والمصرية في ظل عبد الناصر.
من الناحية السياسية، كانت التجربة الإندونيسية أكثر تقدما، جبهة لكل القوى الوطنية تمارس تجربة ديمقراطية متطورة ومتميزة.
ولكن ... من الناحية الاقتصادية والاجتماعية: في إندونيسيا كانت مواقع رأس المال الأجنبي والإقطاع قوية، وفي مصر ضربت تلك المواقع بضراوة.
وعندما تعرضت التجربتان للامتحان، ورغم ضراوة الضربات ضد التجربة المصرية أثبتت الأحداث قدرة التجربة المصرية على الصمود بينما تبخرت التجربة الإندونيسية بالكامل.
إن جوهر خطأ د. زكريا، أنه لم يتنبه إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بما فيه الكفاية؛ بحيث طغى الجانب السياسي على هذا العامل الحاسم وأخفى صورته، ولعل هذا ما دفعه للتساؤل عن سبب عدم الإفراج عن اليساريين عند صدور قرارات التأميم.
إن اليسار في نظر صاحب الدراسة قد استؤنس في ظل عبد الناصر وفقد جاذبيته وسرقت شعاراته.
إن عبد الناصر ليس هو المسئول عن تطور اليسار، صحيح أن هناك تأثيرا متبادلا، لكن هذا الاعتبار الثانوي لا يمكن بكل المقاييس العلمية أن يكون هو الاعتبار الرئيسي في حياة اليسار.
من المسئول عن تطور اليسار
تطور اليسار المصري تم بصورة موضوعية، وبسبب عوامل ذاتية أساسية في داخله، وفي الظروف والتطور العام الذي عاش فيه، وهو لم يبع شعاراته ولم تسرق منه، ذلك أن الشعارات التي رفعها قبل وبعد 52 كانت من الجماهيرية بحيث أجبرت حزب الوفد على التخلي عن بعض مواقفه التقليدية والتاريخية، وفرضت نفسها على مجمل التطور بعد الثورة.
وخطأ اليسار أنه لم يكن مطلوبا أن يتحول إلى بائع «روبابيكيا» يبيع شعاراته القديمة أو يعرضها للسرقة، ولكنه أخطأ في توحيد كلمته على التقدم بأفكار جديدة، وفق علاقات القوى الجديدة ذلك هو جوهر الخطأ وهو نابع من داخل اليسار نفسه.
المشكلة الحقيقية التي تواجه اليمين
إنني أتوجه إلى الدكتور زكريا كمثقف وطني أن ينتبه لحدود اللعبة التي يلعبها اليمين في مصر. إن هناك، كما قلت في خطاب لي بمجلس الشعب، مصرين لا مصر واحدة، مصر البناء الفوقي، ومصر البسطاء بهمومها وتضحياتها وبطولاتها وآمالها، والمشكلة الحقيقة التي تواجه اليمين هي مصر الأخرى هذه التي اتهمها الدكتور ظلما بالاستسلام والخنوع. ومشكلة اليمين أن النضال اليومي منذ الحرب العالمية الثانية كان هو المدرسة الأساسية لتثقيف وتربية الجماهير، خاصة المراتب المتخلفة منها. وذلك في السياسة شرط لثورية الحركة الجماهيرية ولا تركز النظر يا دكتور زكريا على أشكال التثقيف والتربية العلوية، فتلك كما كررت مرتبطة بعالم آخر.
لم يمر منذ تلك الأيام شهر دون حدث يهز أكثر المراتب تخلفا، لكن هذا الواقع لقصور في التطور السياسي، لم يجد تجسيدا حقيقيا له.
الحركة الجماهيرية مناضلة، واعية، من الممكن خداعها في المسائل الثانوية، ولكن في المسائل الرئيسية أصبحت واضحة ومحددة ... وأقصد بالمسائل الرئيسية قضية العداء للاستعمار والتحول الاجتماعي أيا كانت مسمياته.
إن ثورية حركة الجماهير هذه هي مشكلة اليمين.
ولقد أدت بعض الظروف إلى بروز النشاط اليميني الذي يبحث عن شيء معاكس تماما هو فرض طريق التطور الرأسمالي. وحتى اليوم، وإن بدا للبعض أن خطر هذا اليمين داهم ومخيف، فإني أراه بائسا مرتعدا ، بل وعاجزا.
تصور هذا اليمين أن ضرب الناصرية فكريا يتيح له التقدم لضرب كل تجسيد مادي لها. وشهدت مصر حملة مسعورة، وصلت إلى حد أنه من داخل التنظيم السياسي الوحيد وهو الاتحاد الاشتراكي جرت محاولات تستبيح دم الميثاق، تحت يدي وثائقها.
كان الهدف الأساسي ضرب اتجاه اجتماعي.
لكن هذه الحملة فشلت، وأكد الرئيس السادات على الصلة العضوية بين مختلف مراحل الثورة.
وعادت الحملة تغير تكتيكها؛ لتقرر ضرب اليسار باعتباره أكثر تلك القوى الجماهيرية وضوحا ونضالية، وتعزله عن جماهير الناصرية، وفشل ذلك التكتيك مرة أخرى.
وتغير التكتيك للمرة الثالثة ليجرب ضرب اليساريين بالناصريين وهذا الضرب قد تستخدم فيه أطراف من الجانبين. وهذا هو الوجه الضار والمدمر؛ لأنه قد يعرقل قضية توحيد كل القوى الوطنية والديمقراطية.
وأخيرا، فإنني أستعير منهج تبرئة الذات من شبهة المصلحة وهو المنهج الذي استهل به د. زكريا دراسته. لقد بنى براءته على أساس أنه لم يمسه أو يمس عائلته إجراء اجتماعي مثل الإصلاح الزراعي أو غيره. بينما تبرئة الذات من شبهة المصلحة في حالتي أنني قد مسني في ظل عبد الناصر أذى كبير ... في ظله قضيت أحد عشر عاما في السجن، وقضت زوجتي خمسة أعوام، وقضى ابنى في السجن نصف عام، وخلال هذا مات أبي وأمي دون أن تتاح لي فرصة إلقاء نظرة وداع عليهما. وفي ظله قضيت عاما بلا عمل، وبالطبع فإنني لا أتناول ألوان التعذيب، تلك ليست القضية أما مكاني النيابي فجاء نتيجة معركة سياسية ونضالية، لها قصة لعلها أن تكون قد ترامت إلى مسامع د. فؤاد زكريا في حينها.
الوطنية جوهر الناصرية ولهذا وقف معها اليسار
بقلم أديب ديمتري
الخطأ الذي وقع فيه د. فؤاد زكريا حين فتح للمناقشة قضية موقف اليسار من عبد الناصر ... خطأ منهجي في الأساس ... ذلك في تقديري مصدر الخلاف الكبير بينه وبين اليسار في تقييم حكم عبد الناصر ... فليسمح لنا أستاذ الفلسفة الذي نعتز به، أن نرسي أولا قواعد المنهج والمبادئ ذلك أدعى للاتفاق أو الاختلاف «على نور» ... فقليل من الفلسفة قد يصلح المعدة، والرأس أيضا ويحمينا على الأقل من التخبط في متاهات السياسة.
ولنتفق قبل كل شيء على القضية: هل هي محاكمة عبد الناصر كفرد وزعيم بكل أمجاده أو أخطائه، وتقييم تجربة الحكم الناصري، ما لها وما عليها، في الإطار المحدود الذي وقعت فيه - إطار الزمان والمكان؟ أم هي قضية الناصرية كظاهرة تاريخية وتيار وفلسفة؟
فظاهرة الناصرية يعرفها وطننا العربي في العديد من زعاماته وأحزابه ونظمه الوطنية والتقدمية ... وقد يكون نظام عبد الناصر أسبقها وشخصيته أبعدها أثرا ودلالة ... ولكنه لا ينفرد وحده بصفاته وسمات نظامه الأساسية، وكذلك العديد من بلدان العالم الثالث، كما تمثلت في نظم سوكارنو ونكروما وسيهانوك قبل انقلاب لول نول وغيرهم وغيرهم، مع اختلاف في الشخصيات والظروف وموازين القوى الداخلية في بلدانهم.
فهي إذن ظاهرة تتكرر في زماننا وتتعدد بأشكال وصور مختلفة. وهي تخص بلدان العالم الثالث برغم ما بينها من اختلافات ... وعندما تتكرر الظاهرة فلا بد أن يكون لها قانونها - كما لا يخفى على أستاذ الفلسفة - ولها تفسيرها الموضوعي الذي لا يستمد في الأساس من شخصية الزعيم الفرد أو أخلاقياته أو نواياه - وهذا لا يعني في شيء إسقاط شخصية الزعيم أو أساليبه وتصرفاته - بل وضعها في إطارها الصحيح، وفي سياقها التاريخي.
نحن بإزاء ظاهرة تاريخية لا زالت أبعادها وآثارها تنكشف منذ الخمسينيات، ويتطلب تقييمها مناهج التحليل التاريخي والاجتماعي ومعايير الموضوعية التي تتخطى أساليب التحليل النفسي وأخطاء الأفراد والأحكام الأخلاقية على الزعامات ونظم الحكم. والخطأ الذي يقع فيه د. فؤاد زكريا منهجي في المحل الأول حينما يبني تقييمه للنظام الناصري انطلاقا من شخصية الزعيم ونواياه وأساليبه وأخلاقياته وحدها ... كما يبني حكمه على التجربة في إطار زماني ومكاني ضيق ومحدود، ولا تتسع رؤيته لتشمل الزعيم ونظامه في إطار الحركة العالمية المعاصرة؛ حركة الثورة والثورة المضادة في زماننا.
النظم الوطنية في الميزان
جوهر الخطأ الناصري في رأي د. فؤاد زكريا يتركز في أسلوب تطبيق الاشتراكية، فقد أقام عبد الناصر اشتراكية سمحت لغير العمال والفلاحين بامتصاص معظم ثمارها ، وتركت مال الشعب تنهبه الطفيلية والتسيب ... وكان نجاح السياسة الخارجية على حساب الأوضاع الداخلية للشعب، وكان القمع سمة بارزة للحكم.
أما النظم التقدمية فلها في تقديره مؤشرات معروفة تدل عليها: القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة إلخ؛ لذلك كان من الصعب أن ندرج التجربة الناصرية ضمن النظم التقدمية فسلبيات النظام لا تخطئها عين.
هذا مجمل تقييم الدكتور للنظام الناصري: سلبياته غلبت إيجابياته وتطبيقاته الاشتراكية خذلت مبادئه:
وهنا لنا أن نتساءل: من أين إذن جاء عداء الاستعمار الشديد لمثل هذا النظام؟ وإذا كان الزيف طابعه فلماذا يأتي العدوان تلو العدوان لإزاحته؟ وكيف نفسر سلسلة المؤامرات التي لم تكف للإطاحة به؟ ولماذا تتصاعد هجمات اليمين المسعورة اليوم لتصفيته من الداخل ... وتصفية آثاره.
شيء من هذا لا نعثر له على جواب، وإنما تقدم السلبيات كالألغاز بلا تفسير، إلا إذا فهمت انطلاقا من شخصية الزعيم وفساد نظامه، كما لا نجد من يرشدنا في بحر النظم الوطنية التقدمية التي يموج بها عالمنا الثالث، لنحكم لها أو عليها إلا إذا أخذنا بحساب المكاسب والخسائر وقوائم الإيجابيات والسلبيات.
أما الجواب فيكمن في الحقيقة لا في شخصية الزعامات في الحل الأول ... دونما تقليل لدور الشخصيات والزعامات التاريخية ولا في هذه القوائم والحسابات، بل في طبيعة هذه النظم من حيث تركيبها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ووضعها ودورها في حركة الثورة الوطنية والعالمية في مرحلتها الراهنة.
هذه النظم جميعا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لا تقاس بمعايير الاشتراكية مهما رفعت من شعاراتها، أو تطلعت إلى آفاتها. بل هي تنتمي بالفعل وبلسان زعمائها أنفسهم، ومنهم عبد الناصر إلى حركة التحرير الوطني، والتي تلتحم بالثورة الاشتراكية العالمية، وتشكل جزءا من قواها.
وبطبيعة هذه النظم الوطنية والمعادية للإمبريالية والطبقات الإقطاعية والرأسمالية العميلة الضالعة معها، فهي تعبر عن مصالح الطبقات والفئات الوطنية وهذا ما يشكل جوهر تقدميتها ويساريتها رغم كل شيء.
ولأن هذه النظم في بلدان مختلفة بدرجات متفاوتة؛ فالقيادة فيها عادة للبورجوازية الوطنية بأقسامها وأجنحتها المختلفة تبعا لنموها وتطورها، والأيديولوجية الغالبة والفكر الرائج للبورجوازية الصغيرة بجاذبيته الشديدة، وفيه تختلط شعارات الوطنية والتقدمية والعصرية، بضيق الأفق وقصر النظر، كما تختلط الاشتراكية بالمحافظة بل وبالسلفية أحيانا، وتتوه الحقائق في ضباب كثيف من الخيالات والشعارات.
هذه النظم بتركيبها هذا تحدت الإمبريالية وخاضت ضدها أعظم معاركها ... ومنها تستمد أمجادها ورصيدها أو إيجابياتها ... كما دعمت استقلالها بإجراءات إصلاحية راديكالية متقدمة: إصلاح زراعي، وتأميمات واسعة واستعادة للثروة القومية وبرامج للتنمية والتصنيع.
هذه الثروة المنتزعة من الاستعمار ومن الطبقات الرجعية القديمة، كان من المفروض، في ظل أوضاع ديموقراطية وتحالف وطني حقيقي، أن تعود ثمارها للشعب العامل في المحل الأول ... ولكنها عادة تنتزع لتتكدس في يد طبقات وفئات وشرائح اجتماعية جديدة ... تدعم مصالحها ومراكزها المستحدثة بالانفراد والتسلط وعزل الشعب العامل وحرمانه من جني الثمرات؛ وهي لذلك تهدر شروط الوحدة الضرورية بين القوى الوطنية والتقدمية لتستبدلها باليفط وشعارات التحالف. وبأجهزة القهر والقمع في نفس الوقت، وتظهر بؤر الفساد مثل البثور على الوجه وتنبت السلبيات في سرعة العشب الشيطاني ... ويشتد الصراع والقلق ... وتحت البرك الآسنة تعاود الروح الطبقات القديمة الرجعية والعميلة وتشتد عزيمتها على النشاط والحركة.
هذه الحقائق الدامغة والتي تدين اليمين، أو أصحاب المصالح الضيقة القديمة والجديدة تغلب، ويشتد نقيق الضفادع، وترتفع أعلام الحرية المزيفة؛ لتخفي مواقع الفساد الحقيقية ومنبع كل السلبيات.
محكمة الآلهة
ولأن النظم بطبيعة تركيبها وتعدد الطبقات المشاركة فيها حمالة أوجه، تختلط فيها الأمجاد بالدنايا، الفضيلة بالرذيلة، والخير بالشر؛ فإن المرء عندما يتصدى لتقييمها وتحديد موقف منها، بحاجة إلى أن يتسلح بمزيد من الموضوعية والبعد عن المعايير الذاتية.
والذاتية في المنطق والفلسفة، وفي معايير الحكم والتقييم - كما يعرف جيدا أستاذ الفلسفة - لا تعني أبدا مجرد الأغراض الذاتية - وهو بالفعل بريء منها، فلا هو بالإقطاعي ولا أضير من الحكم الناصري حتى يحمل عليه لهدف ذاتي.
ولكن الغضب وهو انفعال مشروع ضد المثالب والعيوب، إذا أخفي عنا العلل والأسباب الموضوعية والقوى الاجتماعية الكامنة وراء هذه المثالب والعيوب، تحول إلى موقف ذاتي ... وقد يقودنا إلى عكس ما نريد تماما.
وقد يستهوينا أيضا هذا الميزان الخادع في الحكم على النظم والسياسات، ميزان الحسنات والسيئات، الإيجابيات والسلبيات. وقد يبدو ميزان عدل وإنصاف، بينما هو في حقيقته معيار أخلاقي فردي وذاتي، قد يصلح للحكم على تصرفات الأفراد، ولكنه لا يجوز على النظم السياسية والاجتماعية، والتي تحكمها قوانين غير قوانين الأفراد. فقد تسقط نظم تحت وطأة أخطائها وسيئاتها كما سقطت نظم نكروما وسوكارنو وسيهانوك وغيرهم، ومع ذلك تظل هذه النظم تحتفظ بوجهها الوطني والتقدمي الأساسي برغم الأخطاء والسلبيات، ويمثل الانقضاض عليها وتقويضها نكسة وردة إلى الوراء.
وما بالنا نتخيل النظم كما لو عبرت بروحها إلى ما وراء الأفق، في الفلك المقدس لتمثل أمام محكمة الآلهة - تضع حسناتها في كفة وسيئاتها في الأخرى لتقرر مصيرها في الأبدية!
هذا الميزان لا يقوم بديلا عن قوانين الاجتماع والعمران وقد بدأنا نضع أيدينا عليها منذ ابن خلدون.
ولا تؤخذ النظم أيضا بمجرد النتائج العملية، ولا تقاس بما حققت أو عجزت عن تحقيقه وهو المعيار البراجماتي العملي الذي يستخدمه د. فؤاد زكريا في إدانته للحكم الناصري. صحيح أن النظام الناصري لم ينجح في محو الأمية أو إزالة الفقر إلى هذه القائمة من أنواع الفشل ... بل إن هزيمة 67 كانت هي بذاتها تجسيدا لكل الفشل والخيبة والثمرة الطبيعية لسلسلة من الحماقات والأخطاء. ومع ذلك فإن الوجه الأساسي للنظام وطبيعته لا تتحدد بمجرد مصادر النجاح أو الفشل ودرس التاريخ أيضا يعلمنا أن هذا المعيار خاطئ، ودون أن ننخرط في مقارنات بين عبد الناصر ونابليون ومحمد علي، فالظروف تختلف تماما. والشخصيات تختلف ومع ذلك فنهاية نابليون في سانت هيلانه لا تمحو البصمات التي تركها على التاريخ الأوربي الحديث وزلزاله الذي أطاح بالنظم الإقطاعية الأوربية. ونهاية محمد علي وسيئاته لا تلغي أنه منشئ مصر الحديثة.
هذه الأساليب في تقييم نظم الحكم والسياسات تفتقد الموضوعية وتسقط في الذاتية ؛ لأنها تقف عند حدود المظاهر والأعراض، أو ما نسميه بالسلبيات ولا تتعمق الجذور الاجتماعية والعلل. ولا تغوص إلى المنابع ومصادر الداء. واليمين الرجعي يحرص كل الحرص على أن يقف بنا عند السطح، وأخوف ما يخافه أن ينكشف الغطاء عن الأسباب الاجتماعية العميقة للسلبيات والأخطاء؛ لأنها تدينه وتفضح دوره في الفساد والإفساد، كما تقطع عليه الطريق وعلى أهدافه المشبوهة.
أما المعيار الموضوعي الصحيح في الحكم على النظم والسياسات، فهو يستمد في عصرنا من واقع حركة الثورة، ومن قوانين هذه الحركة، وهي حركة موجهة في الأساس إلى تصفية الإمبريالية ونظامها الرأسمالي العالمي، وفتح الطريق إلى الاشتراكية، ومن ثم يتحدد الوجه الأساسي لأي نظام أو سياسة في الحكم من موقفه من الإمبريالية وتتحدد سمته الأساسية الوطنية والتقدمية بمعايير الوطنية في عصرنا بوجهيها الخارجي والداخلي. فهي ليست بالوطنية الساذجة أو التحلي بالمشاعر الوطنية الساذجة أو التحلي بالمشاعر الوطنية الرومانتيكية، بل انتهاج سياسة نشطة في مواجهة الإمبريالية، قوامها التلاحم الضروري مع قوى الثورة الوطنية وقوى الثورة الاشتراكية العالية، وفي الداخل دعم الاستقلال السياسي والاقتصادي وتحقق التقدم الاجتماعي.
فإذا تحدد المعيار، تحدد الوجه السياسي للنظام، وتحدد الموقف منه، أما معالجة قضايا التاريخ والاجتماع بمنطق الأخلاق وقواعد السلوك الفردي وحساب الآخرة! فلا يخدم سوى فرسان اليمين الرجعي من أدعياء الطهارة ومنتجي الخطب المنبرية والمواعظ والشعارات الزائفة بديلا عن موقف الوطنية الحقيقية.
ولا يعني هذا التغاضي عن السلبيات أو السكوت عليها، بل تحديد موقف أساسي سليم، والانطلاق منه لمجابهة كافة تحديات الداخل والخارج.
ولأن هذه النظم الوطنية التقدمية تعادي الإمبريالية فهي تستحق المساندة والتأييد، ولكن دون أدنى شبهة من ذيلية أو تبعية.
لأن المواجهة الفعالة للقوى الإمبريالية في الخارج وحلفائها من اليمين الرجعي والعميل في الداخل يتطلب جبهة وتحالفا واسعا أساسه الحرية والاختيار، وجوهره الديمقراطية فلا بد من الوقوف بحزم ضد كل أشكال التسلط والقمع والاستغلال، وتتحقق الوحدة الوطنية من خلال الجدل الحر والصراع غير العدائي ولا بديل.
مخالب القطط
ولا شك أن حملة اليمين المسعورة ضد عبد الناصر والناصرية تحاول أن تقفز على ظهر الجواد الرابح. وهي تنطلق من مقدمات كثير منها حق، ولكنه الحق الذي يراد به باطل. أما التصدي لهذه الحملة ودحرها فلا يأتي بالتقاء بها عند منتصف الطريق، أو الخضوع لابتزازها وإرهابها، بل بفضح أساليبها، وتعميق الوعي بالحركة الاجتماعية في الماضي والحاضر والمستقبل وضبط الشراع في بحار النظم والتيارات والفلسفات في عالم اليوم، هذا إذا أردنا ألا نتحول إلى مخالب فقط.
لنأخذ الحكمة من شعوبنا.
أما شعوبنا فقد أثبتت أنها تملك من الحكمة أضعاف ما يمتلك الفلاسفة والحكماء، ذلك هو الدرس العظيم لهبة 9 و10 يونيو سنة 1967م. لقد استطاع شعبنا في لحظة عبقرية وحاسمة أن يستخرج المدلول الحقيقي للنظام من بين حطامه في المعركة. احتفظ برأسه عالية وتوازنه برغم الضربة الصاعقة، واندفع لتثبيت إنجازات الماضي، وتحرك لا عن غفلة أو جهل، بل بوعي عميق؛ ليفوت على الإمبريالية والصهيونية أهدافها، ويحبط كل مخططاتها، ثم مضى في طريقه بصبر وأناة يعالج السلبيات ويتصدى للأخطاء متطلعا إلى التحرر والتقدم والديمقراطية.
فؤاد زكريا يرد على نفسه
بقلم أبو سيف يوسف •
عبد الناصر خرب نفس الإنسان المصري من الداخل. •
عبد الناصر ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار. •
الناصرية أساءت إلى الاشتراكية أكثر مما أفادتها. •
مجرد المناداة بالشعارات الاشتراكية في حد ذاته تقدم هائل. •
نظام عبد الناصر أسكت الشعب وعطل ملكات التفكير فيه وجرده من مجرد الأمل في التفكير. •
إنجازات يوليو ديمقراطية أساسا وبعضها كبير وجذري.
في ثلاثة مقالات كتبها د. فؤاد زكريا عن «جمال عبد الناصر واليسار المصري» ركز الدكتور مدفعيته الثقيلة على التجربة الناصرية، وعلى اليسار المصري في آن واحد.
ولندع الآن هجومه على اليسار، ولنحاول أن نتعرف على تقييمه «للتجربة الناصرية» (لاحظ أنه يتفادى تعبير «ثورة يوليو») وخلاصة رأيه في التجربة هو:
أن أسلوبها في تطبيق الاشتراكية أساء إلى الاشتراكية أكثر مما أفادها.
وأن للتجربة بعض إنجازات في الداخل والخارج، ولكن التجربة - في النهاية - لا يمكن إدراجها تحت عنوان التجارب التقدمية؛ لأن للتحول الاشتراكي معايير وبوادر معروفة لم تتحقق.
إن أشد سلبيات التجربة بتخريب نفس الإنسان المصري من الداخل عن طريق القمع من ناحية، وعن طريق أجهزة الإعلام من ناحية أخرى ، وأن كل هذا أسكت الشعب، وعطل ملكات التفكير فيه، وجرده حتى من مجرد الشعور بالأمل في تغيير الحال.
وإنه ترتيبا على ما تقدم، إذا جاز أن نوازن بين ما حدث من عمليات قمع للشعب قبل 1952م أو ما حدث له خلال التجربة الناصرية، لأمكن القول بأن ضرر العهد الناصري أفدح من ضرر العهد الملكي الإقطاعي الذي تمكن فيه الإنسان من أن يحتفظ - على الأقل - بشعور بالأمل وبأن مقاومة الظلم يمكن أن تأتي بنتيجة.
ولما كان الدكتور قد قدم لمقالاته بفصل في «مناقب الدكتور» أوضح فيه - وهو محرج بلا شك - أنه يساري وأنه لا يمكن اتهامه بالجبن أو الانتهازية فإننا سنطالبه باسم هذا كله أن ينقد نفسه نقدا ذاتيا فيه من القسوة والأمانة وفيه من الصراحة والإدانة ما يزكي الصفات التي نسبها إلى نفسه.
ذلك أن د. فؤاد زكريا عام 1975م نسي أن د. فؤاد زكريا لعام 1970م كتب عن الناصرية عندما كان رئيسا لتحرير مجلة الفكر المعاصر.
ففي العدد 68 - أكتوبر 1970م - من مجلة «الفكر المعاصر» نقرأ في صدر العدد كلمة غير موقعة ونفهم أنها كلمة المجلة التي يرأس تحريرها د. فؤاد زكريا، ونفهم من أسلوبها أيضا أن كاتبها هو د. زكريا نفسه.
جاء في الكلمة رثاء لعبد الناصر نقرأ فيه: «كان الكل في واحد، والواحد في الكل.» «الدموع التي انهمرت قديما من عيني الأم الطيبة إلى بحر من الأيدي الملهوفة والنفوس المفجوعة والحناجر الصارخة.» «النعش الذي سجن فيه الأخ والأب والراعي تحول إلى راية ترفرف على المركب وتدعوه لمواصلة الزحف على الطريق.» «الأطفال والشباب والعجائز المتعبون والصابرون اندفعوا للتعبير عما استقر في ضمائرهم: هذا رجل حمل همنا وعاش ... لم يصل إلى أغلبنا شيء من خيرات الثورة التي فجرها ... لكن وصل إلينا صوته فأحسسنا صدقه ... لا زلنا نعاني الفقر والجهل والمرض والحرمان ... لكن نعلم أنه لم ينسنا أبدا.»
تعودنا من آلاف السنين على اللقمة المرة والعيشة المرة لكن ما أندر من أعطانا حبه واحترامه. «وإذا كان الرائد قد ودع الركب، فلا بد أن يواصل الركب سيره ويتشبث بأعلامه، وإذا كان القائد قد تركنا ونحن لا نزال نعيش في كابوس الهزيمة، والعدو الشرس الغادر يدنس ترابنا، فقد ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار.»
إلى أن يقول: «اذكروا أيها العاملون أنه عاش ليعمل، ويعمل.» «واذكروا أيها الفلاحون أنه سلمكم الأرض أمانة ... إلخ.»
ونكتفي بهذه الفقرات، ومنها نفهم: (1)
إن الأسلوب الفردي الذي ينقد من أجله التجربة الناصرية عام 1975م، لم يكن من سلبيات التجربة عام 1970م؛ لأن مجلة «الفكر المعاصر» كانت ترى أن عبد الناصر كان «الكل في واحد والواحد في الكل.» (2)
إن الدموع التي انهمرت من أعين الشعب عام 1970م كانت في نظر «الفكر المعاصر» دموع نفوس مفجوعة عارفة بالجميل لرجل أعطاها من حبه واحترامه، وترك لها إرادة الصمود والإصرار على الانتصار، لكن نفوس هذه الجموع لعام 1975م، هي نفوس هذه الجموع لعام 1975م، هي نفوس شعب دمرت معنوياته تدميرا مروعا. (3)
إنه على الرغم من أن غالبية الشعب لم يصل إليها شيء من خيرات الثورة التي فجرها عبد الناصر فإن مجلة «الفكر المعاصر» لعام 1970م، قد دعت الجماهير إلى أن تواصل الركب، وتتشبث بأعلامه التي هي أعلام الثورة، ولكن في عام 1975م أصدر د. زكريا حكما بالإدانة الكاملة على التجربة الناصرية (لاحظ أنه في عام 1970م كان ما فعله عبد الناصر منذ 1952م هو أنه فجر «ثورة») أما في عام 1975م فقد انكمشت هذه الثورة إلى تجربة ناصرية بائسة وفاشلة. (4)
إنه في عام 1970م وكما تشير إلى ذلك «الفكر المعاصر» كنا نعيش مرارة الهزيمة، لكن عبد الناصر ترك للشعب إرادة الصمود مع الانتصار، ولكن في عام 1975م اكتشف د. فؤاد زكريا أن التجربة الناصرية تركت الشعب مجردا حتى من الشعور بالأمل في المقاومة، أي مقاومة، وفي أن تغييرا يمكن أن يحدث.
وربما اعترض د. زكريا بقوله إن الكلام الذي استشهدنا به لم يكن يعبر عن رأيه الشخصي بقدر ما كان يعبر عن رأي «هيئة تحرير» المجلة التي كان يرأس تحريرها، فليكن! ولنأت إلى مقال آخر صريح بقلم د. فؤاد زكريا تحت عنوان كلمة عن المستقبل (الفكر المعاصر - العدد 69 - نوفمبر 1970م).
يبدأ مقال الدكتور بفضح دعايات الأعداء الذين زعموا أن مصر تعاني من الفراغ بعد رحيل القائد، ويرد الدكتور على مزاعم الأعداء بقوله: إن أي مقارنة بين الماضي والحاضر تبين أن ما يميز الحاضر (1970م) هو الامتلاء لا الفراغ.
ودلل الدكتور على ما ذهب إليه بقوله:
إن هذا يتضح، إذا قارنا بين اتجاهات عقولنا قبل 1952م، وبين اتجاهاتها الراهنة.
ثم قال الدكتور بالنص: «فقبل عام 1952م، كان التفكير في العدالة الاجتماعية يتخفى ويتسرب تحت الأرض، وكانت الاشتراكية معنى محرما، تعاقب عليه قوانين الدولة، وكانت الملكية الخاصة - سواء الزراعية منها أو الصناعية - حقا مقدسا لا يمس، مهما بلغ مقدار استغلالها أو وقوفها في وجه النمو المنطلق للمجتمع، وكانت أبواب البلاد مفتوحة على مصراعيها أمام الاستثمارات الأجنبية دون أن يتساءل أحد عن مدى التعارض بين هذه الاستثمارات وبين رغبتنا في تنمية اقتصادنا على نحو مستقل. أما اليوم، فإن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية هي السياسة الرسمية للدولة، والاقتصاد الوطني يعرف كيف يميز بين المساعدة الآتية من الأصدقاء وبين الاستغلال الذي يعوق نموه ... والملكية الخاصة قد تكشفت وظيفتها الاجتماعية، ولم تعد تحاط بهالة القداسة التي كانت تمنع المجتمع من تقليم أظافرها.»
وبعد أن يتحدث الدكتور - في مقاله - عن المعالم الإيجابية في سياسة مصر الخارجية، يخلص من ذلك كله إلى أن: «هذه الوقائع الموضوعية، بناء على هذه الوقائع، تغير تفكيرنا، وأصبحت له أسس ومحاور جديدة. ولما كانت هذه الأسس تستجيب لرغبات شعبية طاغية، فقد أصبح الجميع يتبنون شعاراتها، ويجهرون بالدفاع عنها، ويتقربون إلى الناس عن طريقها.»
هنا، لا نحتاج إلى تعليق مطول على كلام الدكتور زكريا عام 1970م، لكننا نلفت النظر، بوجه خاص، إلى أن الدكتور في محاولته التعرف على الوقائع الموضوعية في المجتمع المصري توصل إلى أن تفكير المصريين قد تغير (طبعا إلى الأفضل)، وأصبح لهذا التفكير أسس ومحاور وأن هذا التغيير تم استجابة لرغبات طاغية، بمعنى أن هذه الرغبات الشعبية استطاعت أن تفرض نفسها على القيادة فتستجيب لها، وأن هذه الرغبات لم تكن (وفقا لرؤية الدكتور في 1975م) مكبوتة أو سلبية أو فاقدة الأمل في إحداث أي تغيير.
ثم نواصل قراءة المقال، والواقع أننا إذ نقرأ فإننا نميل إلى احترام د. فؤاد زكريا؛ لأنه حاول فيه أن يتعمق عددا من الظواهر السلبية التي رآها - في عام 1970م - تطفو على سطح المجتمع وأن يردها إلى أصولها، فلقد لاحظ الدكتور - مثلا - أن هناك ما يهدد أسس الفكر الاشتراكي في مصر، وفسر ذلك بقوله: «إن أفكار الناس لم يكن من الممكن أن تتغير بنفس السرعة التي تغيرت بها الوقائع فقد ظلت كثير من العقول باطنها الجمود وظاهرها الثورية. ومن جهة أخرى فإن المعاني والقيم الجديدة فاجأت عقولا أخرى لم تكن متأهبة لها، ولم تكن قد نضجت إلى الحد الذي يسمح لها باستيعاب الأفكار الجديدة، هذا فضلا عن قلة من الأذهان كانت تتعمد جذب الاشتراكية إلى الوراء، ووضعها قسرا في إطار من الأفكار المختلفة.»
هنا، أيضا لا نحتاج إلى تعليق مسهب على كلام الدكتور عام 1970م ولكننا نقول إن هذا الكلام - في ذلك الوقت - جدير بأستاذ فلسفة ينظر إلى الظاهرة فيحلل حركة تناقضاتها والصراعات في داخلها فينبه إلى ما يهدد الفكر الاشتراكي والتراث الذي خلفه عبد الناصر، وعلى العكس من ذلك يأتي د. فؤاد زكريا عام 1975م، لينظر إلى التجربة الناصرية ككتلة صماء لا تجري في زمان أو مكان، وليس لها علاقة تأثر أو تأثير بالقوى المؤيدة والمضادة، وكانت أخطر سلبياتها الخراب الذي لحق بنفس الإنسان.
لكن الدكتور عام 1970م، يواصل الرد على الدكتور عام 1975م، فيقول: إنه رغم كل محاولات تشويه الاشتراكية على المستوى الفكري، والانحراف بها، فإن الجميع قد أصبحوا ينادون - ولو بأطراف اللسان عند البعض - بالشعارات الاشتراكية.
ويعقب الدكتور على ذلك بقوله: وهذا يعد في ذاته تقدما «هائلا» ثم يشرح الدكتور لماذا هو تقدم هائل: «لأن هذا الإجماع يعكس تعلقا شديدا أو شاملا، من الشعب بالمعاني التي تعبر عنها هذه الشعارات، بحيث يكون التراجع عنها في المستقبل ضربا من المستحيلات، وفي هذا التعلق الشعبي الكامل بمبدأ الاشتراكية واضطرار القلة التي لا تؤمن بها، أو لا تفهمها، إلى صياغة أفكارها في إطار ظاهري من هذا المبدأ ذاته - في هذا ما يؤكد أن الوصف الصحيح لموقفنا الفكري بعد غياب القائد هو «الامتلاء لا الفراغ».»
ونعلق على هذا النص فنقول: بينما كان د. زكريا يرى في عام 1970م أن الشعب كان يبدي تعلقا كاملا بمبدأ الاشتراكية، وأنه كان يتعلق بشعارات الاشتراكية تعلقا شديدا وشاملا يستحيل معه التراجع عنها في المستقبل، إذا بالدكتور في عام 1975م يكتشف «إن الإنسان العادي حين يجد التجربة قد أخفقت، لا يستطيع أن يميز بسهولة بين المبدأ والتطبيق، وهكذا أصبحت طاقة السخط لديه منصبة على مبدأ الاشتراكية ذاته.»
ولنلاحظ هنا أن د. زكريا الذي كان يقول هذا الكلام هو نفسه الذي قال عام 1970م: إن الغالبية العظمى من الشعب لم يصل إليها شيء من خيرات الثورة التي فجرها عبد الناصر، ومع ذلك فقد ظلت - كما قال - تبدي تعلقا شديدا أو شاملا، بمبادئ الاشتراكية وشعاراتها.
ونواصل قراءة المقال، فنراه يشرح نظرية «الامتلاء» الذى خلفه «القائد» بعد رحيله، وما ينطوي عليه من خصوبة وثراء وتنوع فكري، هذا الذي يميز «العصر الذي نجد أنفسنا الآن على أبوابه» لكنه يحذر من أن يمتد هذا التنوع والتعدد إلى الأسس والمبادئ الأولى للطريق الاشتراكي؛ لأن المجتمع الذي يخوض معركة البناء في الداخل، فضلا عن معاركه المصيرية ضد قوى عالمية عاتية، لا يملك أن يستمتع بمثل هذا الترف.
هنا نرى إلى أي حد كان الدكتور في عام 1970م يوغل في تشدده حتى ليرفض - مع تمسكه بحرية التفكير - أن تمتد هذه الحرية إلى مناقشة «الأسس والمبادئ الأولى للطريق الاشتراكي» وقد علل ذلك بقوله:
إن البلاد لا تخوض معارك التنمية فحسب بل معارك المصير الضاربة ضد أعدائها الخارجيين وهم - في المقال - الإمبريالية والصهيونية (ولربما وجدنا من يتحفظ هنا على تشدد الدكتور في وجوب رفض مناقشة «الأسس الأولى للطريق الاشتراكي» لكننا مع ذلك نحترم موقفه؛ لأنه يبدو أنه كان يتحرك في ذلك من منطلق الحفاظ على الوحدة الوطنية).
غير أننا نفاجأ في عام 1975م ومعركة المصير لم تزل قائمة ضد الإمبريالية والصهيونية ومعركة التنمية لم تزل محتدمة، بل تزداد احتداما تحت وطأة اليمين - الذي قال الدكتور إنه يريد للبلد ردة كاملة - نقول إننا نفاجأ بالدكتور وهو يركز النيران على «التجربة» بأشد مما يركزها على اليمين، وكذلك يفعل باليسار المصري ولنا هنا أن نسأله أليس هذا ترفا لا تتحمله البلاد ولا تتحمله الوحدة الوطنية؟
ولكن سنمضي مع الدكتور في مقاله، وسوف نرى أنه عندما يصل إلى الكلام «عن الأسس الأولى للطريق الاشتراكي» يقدم نظرية أو رؤية تناقض رؤيته الحالية تماما.
ففي عام 1970م، كان لا يزال يرى أن غالبية الشعب الساحقة لم تأخذ شيئا من خيرات الثورة التي فجرها عبد الناصر، وفي ذلك الوقت حاول في مقاله أن يشرح ولا نقول يبرر كيف حدث هذا. قال الدكتور: «... إن الفكر في عهد التغيير الاجتماعي السريع، ما بين 1952م، حتى وقتنا الحاضر (1970م) لم يكن هو الذي يصنع الحوادث، بل كانت الحوادث هي التي تصنعه.»
ثم فسر ذلك بقوله: «إن أحدا لن ينكر أن تلاحق الأحداث، في الفترة السابقة، لم يدع لمجتمعنا فرصة كبيرة لتطبيق المبادئ التي اهتدى إليها حديثا، وكانت المؤامرات والمعارك الخارجية هي العامل الأول الذي أدى بنا إلى تكريس القدر الأكبر من جهدنا من أجل طرح المبادئ نفسها، ووضع أسس التغيير الذي تستلزمه، أما إخراج هذه المبادئ إلى حيز التنفيذ فلم يكن الوقت يتسع له، ولم تكن الظروف تسمح به.»
ثم يضيف أن: «التحدي الذي يفوق كل ما عداه في هذه المرحلة هو مواجهة مؤامرات دعاة الارتداد والتراجع أولا، ثم الانتقال بالمبادئ الجديدة من مرحلة الدعوة النظرية إلى مرحلة التطبيق العملي.»
هنا تقول لنا رؤية الدكتور في عام 1970م: لا تلوموا النظام إذا كان لم يشرع في تطبيق المبادئ الاشتراكية، واكتفى بإرساء أسسها، فلقد فعل هذا تحت ضغط ضرورات موضوعية: تلاحق الأحداث والمعارك التي فرضها الأعداء على البلاد، ولكن إذا جئنا إلى عام 1975م، فسوف نرى أن الدكتور يحاسب نظام عبد الناصر - حساب الملكين - على التطبيق الاشتراكي الخاطئ والمشوه والمنحرف ... إلخ. فأي الرؤيتين هي الصحيحة؟
عبد الناصر وضع الأسس ولم يطبق؟ أم أن عبد الناصر تورط وقطع شوطا طويلا في تطبيق سليم؟
وعندما يجيبنا الدكتور على هذا السؤال، فإننا نتوقع أن تكون الإجابة - من باب الأمانة على الأقل - نوعا من النقد الذاتي وليس نوعا من التبرير الذي طالما عودنا عليه في بعض كتبه وكتاباته، على أننا نقول له إنه ليس على الإنسان من حرج إذا اختلطت عليه الأمور، فرأى - مثلا - في عام 1970م أسسا للاشتراكية توضع وتثبت، ورأى «امتلاء» و«خصبا» و«ازدهارا» في الفكر ينبغي ترشيدها حتى لا تنقلب فوضى فكرية تهدد الأسس الأولى للطريق الاشتراكي، ثم عاد - في 1975م - ليرى أنه كان وهما ما حسبه حقيقة.
على أية حال، نعود إلى مقاله لنرى إلى أي ختام ينتهي.
فبعد أن يحلل الدكتور اتجاهات وأهداف الأعداء الإمبرياليين والصهيونيين، وبعد أن يوضح أن أغراض العدو الرئيسية من عدوانه الأخير على بلادنا أن يعوق نمونا حضاريا وعلميا واقتصاديا، يحدد المهام الملقاة على عاتق جميع الوطنيين، فيدعوهم إلى حل هذه المعادلة الصعبة. «ألا وهي حشد الجهود من أجل معركة المصير من جهة، وعدم إعطاء العدو فرصته الذهبية التي يحلم فيها بتوقف نمونا من جهة أخرى.»
ومن المؤكد أن هذا الطرح للمهام التي تواجه البلاد لم يزل حتى الآن صحيحا كل الصحة، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الدكتور في مقاله قد أضاف مهمة ثالثة هي حماية الفكر الاشتراكي من محاولات التشوية، فسوف نرى أنه - في عام 1970م - استطاع أن يحدد بموضوعية ثلاثة أنواع من المهام النضالية الرئيسية: (1)
نضال على الجبهة الأيديولوجية (حماية الفكر الاشتراكي إلخ). (2)
نضال على الجبهة الاقتصادية (مواصلة التنمية). (3)
نضال على الجبهة السياسية (التعبئة لدحر العدوان).
ونحن إذ نهنئه بصدق - على هذه الرؤية السليمة (في ذلك الوقت) نضيف أنه إنما توصل إليها - فقط - عندما طرح مشكلات «ما بعد عبد الناصر» في الإطار العام والأساسي، إطار التناقض الرئيسي بين الحركة الوطنية (من أجل التحرر والتنمية المستقلة) وبين الإمبريالية والصهيونية والرجعية أعداء التحرر والتنمية المستقلة.
نقول هذا، ولا نخفي أنا نختلف اختلافات كبيرة وصغيرة مع كثير من الحيثيات والقضايا التي أوردها د. زكريا في مقالة الذي عرضنا هنا أفكاره الرئيسية، من ذلك مثلا خلافنا معه حول واقعة أنه عندما رحل عبد الناصر كانت الأسس الأولى للاشتراكية قد أرسيت. نعم لقد كان مكسبا كبيرا أن يعلن نظام وطني ثوري عن تبنيه لشعار إقامة مجتمع اشتراكي، لكننا لا نوافق الدكتور على أن الأسس الأولى للاشتراكية كان قد تم إرساؤها غداة رحيل عبد الناصر عام 1970م. فمن الناحية النظرية كان الميثاق خليطا من اليوتوبيا والبرنامج الاستراتيجي، ومن الناحية العملية فإن ما أنجزته ثورة يوليو كان بالأساس إنجازات ديموقراطية (الإصلاح الزراعي مثلا) وبعضها كبير وجذري (المثال هنا: القطاع العام) وفي نفس الوقت فإن هذه الإنجازات كان يمكن - في ظل توافر شروط معينة - أن تكون أدوات حقيقية للتحول نحو الاشتراكية (ولنلاحظ أن عبد الناصر أوضح أكثر من مرة أننا لا زلنا - في مصر - بعيدين عن المجتمع الاشتراكي).
على أية حال فإن اختلافنا مع الدكتور لا يقلل من صحة النتائج التي انتهى إليها في تحديد مهام المرحلة بعد وفاة عبد الناصر، وهذا يدل على أن القوى الوطنية والتقدمية تستطيع أن تتفق على الأهداف والمهام إذا أخذت بعين الاعتبار حركة التناقض الرئيسي بين الطبقات الوطنية والشعبية، وبين الإمبريالية والرجعية. ولا يغير من صحة هذه الحقيقة أن هذه القوى الوطنية والتقدمية يمكن أن تتباين تحليلاتها، وتختلف حيثياتها وفقا لتاريخها وانتمائها الاجتماعي والفكري ... إلخ.
إلا أنه من المؤسف أن يأتي الدكتور (في عام 1975م) ليناقش قضيتين من أخطر القضايا! هما: التجربة الناصرية واليسار المصري بمعزل عن المعركة المحتدمة مع الاستعمار الجديد، ومع الصهيونية والرجعية؛ لهذا كان من الطبيعي أن يطرح الدكتور مهام هي من طبيعة مختلفة غير تلك التي طرحها في عام 1970م، وفي مقدمتها: (1)
إدانة التجربة الناصرية. (2)
إدانة اليسار المصري بزعم أنه يدافع عن هذه التجربة «دفاعا مطلقا».
وسوف لا نحتاج إلى جهد إذا قلنا إن دعايات اليمين الرجعي تدور حول هاتين النقطتين، وهذا - في حد ذاته - لا يدعو إلى الدهشة.
غير أننا نذهل، عندما نجد الدكتور في هجومه على التجربة الناصرية وعلى اليسار المصري يستخدم نفس الحيثيات التي يستخدمها أقصى اليمين:
فقد انتهى من هجومه على التجربة الناصرية إلى أنها - بسلبياتها التي خربت نفس الإنسان - أفدح ضررا من تجربة أخرى عرفتها مصر هي تجربة الحكم الملكي الإقطاعي، ولما كانت الدعايات المكثفة لليمين لا تطرح بديلا ثالثا بين التجربة القديمة وبين التجربة الناصرية، فهنا يمكننا أن نتصور كيف يحمل الدكتور بنفسه الماء إلى طاحونة العدو.
وفيما يتعلق باليسار المصري فهو - بعد أن اتهمه بأنه خليط بين الاشتراكية الصحيحة وبين «التطبيق الاشتراكي المزيف للتجربة الناصرية» هاجمه بكل أسلحة اليمين الرجعي، فراح يوحي - مستخدما عبارات مطاطة وزئبقية - بأن اليسار المصري أخذ رشوة في شكل المناصب الرفيعة التي تولاها عدد من أعضائه أو أقطابه، وأنه سيطر على أجهزة الإعلام في مقابل أن يتولى الدفاع عن التجربة دفاعا مطلقا.
وهي اتهامات لا تختلف كثيرا عن ادعاءات اليمين الرجعي بأن مصر شهدت عشرين عاما من الحكم الشيوعي يجب أن تتخلص منها، ولا تختلف عن الادعاءات التي نشرت في بعض الصحف (وفندتها الطليعة بالوقائع) بأن الصحافة كانت تخضع إلى أربعة شهور مضت لسيطرة شيوعية كاملة.
أما هجوم اليمين على اليسار فهذا أمر مفهوم ورد فعل طبيعي، وهو لم يتوقف لحظة واحدة منذ الأربعينيات عندما طرح اليسار شعارات الاشتراكية العلمية، والشعارات الخاصة بمرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية (ضرب الإقطاع وتصفية سيطرة رأس المال الاحتكاري الأجنبي)، ويعلم اليمين الرجعي من تجربته أن اليسار المصري لم يزل رأس الحربة في النضال ضد كل قوى التخلف في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأما هجوم الدكتور على اليسار المصري، فهو وإن قدم أجل الخدمات النشاط اليمين الرجعي، إلا أنه يدخل بمقياس الحقيقة في باب الافتراء، بقواعد أدب الحديث في باب الأمور غير الصحيحة. وبأسلوب المجاملة في باب الوقائع التي دست على الدكتور فتقبلها بحسن نية.
ولسوف يطول بنا الحديث في قضية اليسار المصري ومواقفه بما لا يسمح به الحيز على هذه الصفحات، ولسوف يكون لنا لقاء طويل، طويل مع الدكتور على صفحات مجلة «الطليعة» حول هذا الموضوع، ولكن الشيء المؤسف - على سبيل المثال لا الحصر: (1)
أنه عندما تحدث عن اليسار المصري لم يحدد أسماء ووقائع وتواريخ. وندعوه إلى أن يفعل. (2)
أنه عندما اتهم اليسار بالسكوت على نهب المال العام ابتداء مما كان في القصور الملكية إلى الحراسات إلى المجهود الحربي لم يعجز فقط عن أن يذكر اسما واحدا أو واقعة واحدة، ولكنه ذهب في التجني إلى محاسبة اليسار على فترة يعلم الدكتور أن اليسار كان فيها مطاردا فضلا عن أنه لم يكن في الحياة العامة.
فمثل هذا الهجوم، وبهذا الأسلوب الهابط، يظل - على الأقل - من المواقف التي تثير أكثر من علامة استفهام.
وإذا كان الدكتور قد نفى عن نفسه - في مقدمة مقالاته الثلاث - صفة الجبن (بدليل أنه - كما قال - لم يسكت، وإنما تكلم ونبه وحذر في مجلة الفكر المعاصر)، فإننا لن نجادله في هذا.
لكن يبقى مع ذلك أمور تحتاج إلى إيضاح؛ منها - مثلا - أن الدكتور تحدث عن القمع الشديد في التجربة الناصرية (وهو القمع الذي أصاب المعارضين)، وإذا كان الدكتور قد أعلن أنه لم يسكت عن سلبيات التجربة، وأنه تصدى في «مجلته» - وبكل الشجاعة - لهذه السلبيات التي فصل الحديث عنها في روز اليوسف، ثم لم يمسه أي ضر أو أذى من أي نوع (بل على العكس من ذلك، فإذا هو يمضي في سلك الترقي في وظيفته الجامعية، ثم هو يتولى في أجهزة الإعلام (الناصري) رئاسة تحرير مجلة من المجلات الثقافية الهامة).
نقول أما والأمر كذلك، أو كان كذلك، فربما وافقنا الدكتور على أن تجربته في مناطحة «التجربة الناصرية» في مجلاتها، وفي عقر دارها، وبكل الشجاعة، ثم النجاة من بطشها ... هذه التجربة هي قصة مثيرة، بل هي تجربة رائدة لمواطن تصدى لقمع الحريات وللانحراف «بالتطبيق الاشتراكي» في مختلف المجالات.
كان جمال عبد الناصر كتوما فحكم بالأجهزة
السرية
بقلم حسين ذو الفقار صبري
عندما ألقي القبض على علي صبري في 15 مايو 1971م، وضع شقيقه حسين ذو الفقار صبري استقالته فورا تحت تصرف الرئيس السادات.
ولكن الرئيس، بدلا من أن يقبل الاستقالة، مد فترة خدمته عامين بعد سن المعاش!
فقد كان حسين ذو الفقار صبري منذ شبابه بطلا من أبطال المقاومة ضد الاحتلال البريطاني. وكان زميل الطيار حسن عزت في محاولة هرب الفريق عزيز المصري جوا أيام الحرب العالمية الثانية.
وفي جميع المناصب التي تولاها حسين ذو الفقار صبري بعد الثورة (مستشارا لرئيس الجمهورية، ووكيلا لوزارة الخارجية، وسفيرا في سويسرا) كانت سمعته دائما نقية، ونزاهته فوق كل شك.
ومن هنا خطورة هذا المقال، الذي كتبه خصيصى لروز اليوسف. •••
يثير الدهشة حقا أن أطراف النزاع حول «التجربة الناصرية» قد تجاهلوا جميعا، وما زالوا يتجاهلون، دور التكوين الشخصي والنفسي لجمال عبد الناصر فيها!
ذلك أن أية «تجربة» في عهد الثورة، سواء تعلقت بشكل المجتمع وأهدافه، أو ضربت باتجاهها إلى مجالات أخرى، قد خضعت خضوعا تاما لمزاج تكوينه الشخصي ... وطبع عليها بصمات واضحة عميقة الأثر.
وما من ميدان جد إليه جمال عبد الناصر باهتماماته - وإني لأحار حين أبحث على ساحة أو خباء لم يجد إليها باهتماماته - إلا ونجده كان قد سوي من جديد؛ فاليسار المصري بعد التجربة الناصرية جد مختلف عن اليسار قبلها، وليس اليمين هو اليمين، وما من شيء على أرض مصر إلا وبه شاهد أن قد كابد تجربة ناصرية، تركته على غير ما كان.
وإن أية دراسة للعلاقات بين تيار ما من تيارات الحياة في مصر وبين تجربته الناصرية؛ لقاصرة عن الارتقاء إلى الموضوعية ما لم يصاحبها تحليل دقيق لشخصية جمال عبد الناصر، فذة متفردة، لا تتفاعل وإنما تنفعل، لا تأخذ فتعطي، وإنما تعتسر!
من زعيم إلى نبي
هو زعيم ما في ذلك من شك رجل تجمعت في كيانه مقومات الزعامة جميعا، شخصية مهيبة، شديدة الاعتزاز، تتميز بجرأة وتصميم، منبثقة عن سعة صبر واستيثاق.
جهز لثورة هدفها الإطاحة بالقديم، خطط لها مع زملائه في سرية بالغة، في بلد يهيم أبناؤه بالتشدق بما يعرفون وما لا يعرفون، تباهيا بأنهم وحدهم العالمون ببواطن الأمور، وتظل رغم ذلك شخصيته خافية على أقرب المقربين، دليلا صادقا على رصانة وفراسة في التقدير، صفات سوف تلازمه فلا يأمن إلا لكل كتوم، هم وحدهم «أهل الثقة» لا يعنيه أن يكونوا أهل خبرة أو علم.
ثورة تحرك بها قبل الميعاد الذي كان قيد لها بأعوام؛ إذ تشعر السلطة القائمة أن شيئا ما يجري تدبيره في الخفاء، فيزمع ويقدم مقامرا، عسى أن تتحقق المفاجأة، صفات أخرى سوف تلازمه فإنها من صميم تكوينه، أن يقامر فيأخذ الغير على غرة، قبل أن تتهيأ له فرصة الاستعداد.
ثم ضربة المعلم، حيث يفاجئ العالم بتأميم القناة، أمام تحديات الدول الكبرى، رد الفعل الذي يشل حركة الغير، فيتخبطون وقد بوغتوا ... لازمة سوف تصبح من لوازمه، أو أنها كانت، ولكن الأحداث تبرزها في صورة ساطعة جلية، فهو رجل إذا ما تربصت به قوى لها وزنها، يحجم عن كشف أوراقه بمبادرة، وإنما يتريث عسى أن تنكشف اتجاهات الغير عن منافذ أو مكامن إيجاع وإثخان.
ثم تبرز صلابته، فيلتهب حماس دول العالم الثالث إعجابا، حين يصمد للعدوان الثلاثي عام 1956م، فإذا ما انحسرت جيوش بريطانيا وفرنسا، وثالثتهم إسرائيل، عن أرض مصر رفعت الأعلام في كل مكان، تهلل لانتصارنا المذهل على اثنتين من كبريات الدول الاستعمارية، ردت مدحورة، هضيمة النفس، مستخزية.
وإني لأشعر أني أخذت به في تلك الأيام، كأخذ غيري، فكأنه نبي اصطفته لنا العناية الإلهية، وتتلبس حواسي غشاوات، لا أقبل بأية حال أن يمس شخصه بنقد أو تشكك في التصرفات، بل أكذب نفسي، أكذب عيني إذا ما بدت لي منه، هنا أو هناك، بضع هنات. أضحيت (كما قد يقول توفيق الحكيم) فاقد الوعى أمام المعبود. هو الكل في واحد، تجسدت فيه متركزة أشد التركيز إنجازات مصر جميعا منذ أن كان لمصر تاريخ.
وربما إن كانت هذه نقطة التحول الخطيرة، وإن لم تبن آثارها إلا بعد سنوات من اختمار ... أو قل إنها فترة بذرت فيها بذور، أخذت تنمو وتترعرع وتتفرع، وتمد بأطرافها - جذورا وأغصانا - في تؤدة وإصرار حتى لم يبق في مصر لغيرها مكان.
فإن الشعار الذي رفع حينذاك، فنتسابق إلى الالتفاف من حوله، إيمانا بأن «مصر الثورة» قد ردت قوى الاستعمار العتيد على أعقابها مدحورة، إنما تحول تدريجيا إلى شعور وجداني عميق، بأنه لولا جمال عبد الناصر لما حصل ما حصل، فالانتصار هو انتصاره، وإن مصر ما كانت لتكسب المعركة لولاه، ولولا تلك العناية الإلهية - أو القوى الغيبية - التي اصطفته لنا زعيما ... وإن هذا لصحيح إلى حد كبير، بفضل تلك الصفات، وقل إن يكون لها نظير.
ولكننا تغافلنا جميعا عن أن مصر في حقيقة الأمر لم تكن قد انتصرت، وما كان بوسعها أن تنتصر، إنما عرفت فقط كيف تصمد حتى تتحقق الفرصة للولايات المتحدة، أو فوستر دلاس على الأصح، في أن يفرض على تلك الجيوش الانسحاب من أراضينا، أراد أن يلقن حلفاءه في بريطانيا وفرنسا درس العمر، فلا حركة ولا مبادرة إلا أن ترضى أمريكا فتأذن وإلا فإلى مذلة وخسران.
محاولة اعتراض
وإني لأذكر أن جمعتني ندوة إلى عدد من المهتمين بشئون السياسة الدولية، بعد تلك المعركة بسنوات عشر، فأرى تمسكا عجيبا بتلك النظرية. اختلقناها وكأنها مسلمة مطلقة منزهة من كل نقد، بأن حرب السويس قد وضعت حدا فاصلا، إلى غير رجعة، بين أساليب الاستعمار القديم بتدخلاته العسكرية السافرة وبين الاستعمار الجديد بأساليبه غير المباشرة في إقرار السيطرة.
وكنت أشعر أن التشبث بتلك النظرية إنما نابع من شعور الجميع بأننا إذا قلنا حرب السويس، فإنما نعني جمال عبد الناصر شخصيا، وأن أي تهجم على تلك النظرية إنما هو تهجم على شخص الزعيم!
وحاولت جهدي أن أدفع إلى المناقشة بأمثلة تدحض تلك النظرية من أساس، كالتدخل الأمريكي في لبنان عام 1958م، ثم في سان دومنجو عام 1965م، ربما إن كانت لهما ظروف خاصة، أولها التدخل الثلاثي ضد الثورة الكونغولية في يناير 1965م - قوات مظلية بلجيكية تحملها طائرات أمريكية، أقلعت من قواعد بريطانية - ثم بعد ذلك بشهر واحد، الهجوم الأمريكي على فيتنام الشمالية؛ إذ تضرب بالقاذفات الضخمة في موجات إثر موجات، ومتى هذا! بينما كوسيجن، رئيس الوزراء السوفيتي، في زيارة رسمية لهانوي.
وقوبلت كلماتي بستار من صمت أول الأمر، ثم بمراوغات أو محاولات تملص، فما كان أحد ليجرؤ حينذاك أن يناقش تلك النظرية موضوعيا وإلا اتهم بأنه ينتقد الزعيم بالذات - وأن الجدران، كل الجدران، كان لها في ذلك الوقت آذان! - فلما رأيت المناقشة تتعثر وأن لا فائدة ترجى من متابعتها، تحججت بأني على ميعاد، وانسحبت.
حكم «الأجهزة السرية»
ولكن التطور الحاسم كان ذلك الذي طرأ على شخصية عبد الناصر نفسه، إيمان مطلق بأن لا خلاص لمصر من الأخطاء المحدثة بها إلا على يديه، بأن لا تقدم للبلاد إلى رخاء أو حتى كفاية إلا أن يخطط لذلك بنفسه، بأن لا مكانة دولية للمنطقة إلا أن تقفو البلاد العربية جميعا نهجه، فينغلق على أجهزة هي أدواته إلى تنفيذ مخططاته، لا يركن إلى غيرها، ولا يطمئن إلا لها.
صفاته الفطرية، بل أكاد أقول الغريزية، والتي مهدت لثورة 1952م، تأيدت. فتصاغ تلك الأجهزة وكلها امتداد عضوي لشخصيته، أعضاؤها هم صفوة «أهل الثقة»، ولكنه لا يأمن لأي منهم تماما، فإن فراسته في تقدير قيم الرجال من حوله، كانت مجبولة على التشكك الدائم؛ خشية تحول مفاجئ، فهم دائما موضع اختبار تلو اختبار، بل وتصنت على بعضهم البعض، ثم إن نجاحه المذهل في تأميم القناة دفع به إلى التوسع في استخدام تلك الأجهزة فتتقصى مواطن الضعف عند الغير، حيثما تكون، ثم حصرها وتبويبها فهي السلاح الماضي يشهر في وجه من تحدثه نفسه بمعارضة أو مناورة.
كلا! بل لا يشهر هذا السلاح بنفسه - وهذا هو السر في تزايد اعتماده على «أهل الثقة» - بل يحرك تلك الأجهزة فتنال ممن يتوسم ضرورة النيل منه، وكأنه لا علم له بما يجري.
وكان الانفصال السوري قد أدى إلى تعاظم عقدة التشكك التي جبل عليها، فالخطر كل الخطر إنما في تلك الفئات من شعب مصر التي ربما ألبت عليه الموقف من داخل، فإذا بأجهزة الدولة المنوط بها أساسا تعقب نشاطات العدو الخارجي (وأعني به إسرائيل في المقام الأول) توجه بجلة جهودها فتتسقط أي كلمة يمكن أن يتفوه بها مواطن، لعلها أن تكون الدليل على أنه يضمر بنظام الحكم شرا.
جميع مراكز القوى التي خلفها لنا كانت تأتمر بأوامره، خاضعة لتوجيهاته، والويل كل الويل لأي من أعضائها لو ألمح إلى الشخصية التي تحرك كل هذا من وراء ستار.
حكم البلاد متوخيا أساليب قريبة كل القرب من تلك التي حققت له نجاحاته السابقة، أساليب الرجل الذي لا يأمن إلا أن يتحرك من خلال أجهزة سرية، بل أجهزة قوامها خلايا سرية، يمسك هو بخيوطها جميعا دون أن تدري عن بعضها البعض إلا أقل القليل.
فلما أن حاولت مراكز القوى تلك أن تعمل لحسابها الخاص بعد وفاته، تهاوت؛ إذ فقدت خيوط التوجيه التي كانت تنسق بينها بإحكام مركزي، كأنها افتقدت السند الذي يكفل لها حماية ومداراة إذا ما جاوزت حدودها.
وإني أسوق هذا الكلام استنادا إلى تجارب شخصية كابدتها بنفسي، ليس هذا مكان الدخول في تفاصيلها، وإنما يكفيني استدلالا أن أشير إلى موضوع اعتقدت أنه مرتبط بصميم عملي كنائب لوزير الخارجية، فقد كان يقال إن صلاح سالم كان المسئول في أيام الثورة الأولى عن إذاعة صوت العرب، ولكن صلاح سالم كان قد ذهب، ومع ذلك فقد كانت تتواتر بين الحين والحين من تلك الإذاعة موجات من سباب مقذع تكال يمينا وشمالا بأسلوب حري أن يخلق لنا مشاكل دبلوماسية نحن في غنى عنها بيننا وبين بعض من دول عربية، وحاولت جهدي أن أتقصى شخصية الذي يقف وراء تلك الإذاعة بتوجيهاته، علني أن أقنع أو أقتنع اتصلت بجميع الجهات، بوزارة الإرشاد بمكاتب رئاسة الجمهورية المختلفة، ولكني لم أحظ منهم جميعا إلا بالتنصل المطلق من مسئولية توجيهها، أو بمراوغات في الإجابات، بل بصمت مطبق في أغلب الأحيان؛ طريق مسدود!
فمن ذا الذي كان يوجهها إذن؟
الميثاق سبب الصدام بين اليسار
ويمضي جمال عبد الناصر في طريقه، فارضا رأيه، إيمانا منه أن الحق لا يأتيه الباطل من أي جهة كان، مخلصا في دعوته إلى عدالة اجتماعية حرم منها الشعب على مر التاريخ، قرأ ما قرأ عن الاشتراكيات جميعا، بينما هو غارق في خضم أحداث ومؤامرات تحاك من حوله، لا يكاد يطمئن إلى أي من تنظيمات، تقدمية كانت أم غير تقدمية، زخرت بها البلاد، ساعيا أبدا إلى خلق قاعدة شعبية تكون له سندا وقاعدة، ولن تكون إلا أن تدين له بولاء مطلق لا مساءلة فيه ولا حتى مجالا لاستفسار.
لم يكن إيمانه بالاشتراكية مناورة تكتيكية، وإنما إيمان راسخ عميق، ولكن أي اشتراكية؟ قراءاته تنبئه بأن التطبيقات متعددة تعدد نظم البلاد التي رفعت شعاراتها، لم يتردد لحظة في أن يسارع ويرفع شعارها هو الآخر، ولكنه يريدها اشتراكية خالصة لمصر، منبثقة من أرضها، متوائمة مع طبيعة شعبها، فيقرأ ما يقرأ، متحسسا الطريق، ويعلق بذهنه ما يعلق ويرفض بشعور ما كان يعتقد بإخلاص أنه ينافي الأحوال والظروف.
يستحثه انفصال سوريا، فلا مفر من القضاء على الموانع والمعوقات، ويخرج علينا الميثاق، هو الجامع لمواقف معينة وردود فعل محددة، استخلصها من قراءاته المتعجلة - فإنه في سباق مع الزمن - ومن تجارب صراعات خاضها ضد توغلات الإقطاع والرأسمالية المستغلة، ومن مرارة الهزيمة أمام الفئات التي تضافرت على تجربته السورية.
رفع الميثاق في صورة من نظرية مستوثقة الأركان، في نظر اليسار المصري، في نظر أي يسار، إنها مجموعة من مواقف لا يمكنها أن ترقى بحال إلى مكانة النظريات.
فالنظرية، أي نظرية، في عرفهم إنما نتاج تحاليل دقيقة لمسارات تاريخ المجتمعات البشرية، الاشتراكيات أنواع ولكنها جميعا مهما اختلفت بينها الملامح التطبيقية، إنما منبثقة من أصول النظرية الماركسية، نظرية عكف عليها صاحبها وزملاء له بعد دراسات متأنية للتاريخ، أفنوا فيها عمرهم، يضيف إليها لينين من واقع تجارب حية في مجتمع انعزل به أو يكاد عن العالم الخارجي.
أما هنا في مصر، فأي تجارب تلك قمنا بها؟ نشاطات الأجهزة الشعبية إنها سلسلة من اجتماعات يتبارى فيها الخطباء تمجيدا للثورة ومآثر الثورة ... حاول مرة أحد أعضاء لجان الاتحاد الاشتراكي بالصعيد أن يشيد بجهود قام بها الطلبة في رفع معنويات الفلاحين؛ أتت السيول على منازلهم فجرفتها من أساس، ويقوم أبناء المنطقة من طلبة، توافق أن عادوا خلال إجازات دراسية، فيخوضون المناطق المنكوبة، جنبا إلى جنب مع الأهالي، ليعينوهم على إعادة البناء فيدب فيهم الحماس بعد أن كان هدهم اليأس، ويحاول عضو لجنة الاتحاد الاشتراكي أن يسترسل فيحلل النتائج التي يمكن الوصول إليها بالاستمرار في خلق مجالات من تعاون مثمر بين الفئات الشعبية، كتلك إذ تضافروا على مواجهة الكارثة، ارتقاء إلى حياة أفضل، وإذا بصوت يزجره من فوق المنبر، صوت طالما سمعته رزين النبرات، نافذا إلى الأعماق، ولكنه يختلج الآن بضيق وانفعال: «أنا باسألك عن العمل السياسي، مش عن شيل الطوب وشغل الفعلة! إيه هو العمل السياسي اللي عملتوه؟»
ونزلت الكلمات كأنها المطرقة، فيتعثر المتحدث، ويلجم عن متابعة الحديث، فقد كان المطلوب هو تقرير عن عدد الندوات التي عقدت، وأساليب التوعية من خطب وشعارات، ومن كان الخطباء المفوهون الذين يرجي من ورائهم التأثير على المشاعر وإلهاب العواطف.
ومثل آخر، ربما بدا تافها ولكنه عميق الدلالة؛ إذ جزعت من هبوط المستوى في المدرسة التي التحق بها ابني الأصغر، رغم ما كنت أعرف عن مديرها من سعة اطلاع وراسخ خبرة، فيعتذر بأن لم يعد في وسعه بذل ما كان يبذل من وقت فيشرف على سير الدراسة: «وماذا أفعل؟ فإن اجتماعات لجنة الاتحاد الاشتراكي لا تترك لي لحظة فأتفقد سير العمل، إنها تنعقد وقت الدراسة.»
بل إن مجلة روز اليوسف نفسها ولا شك تعلم ماذا كان مصير محاولة كانت قامت بها، نقدا لأوضاع، فتصبح مدخلا لتقييم تجربة من التجارب، فإني لأذكر اجتماعا لمجلس الوزراء فتتملك الرئيس عبد الناصر سورة من غضب، إزاء الحملة التي قادتها المجلة ضد إدارات المستشفيات الكبرى بعد تأميمها، فتوالى ظهور الرسوم الكاريكاتورية عن «التومرجية» يأكلون طعام المرضى، وغير ذلك من مآس كانت ترتكب في تلك المستشفيات، فيعتبره هجوما سافرا على الاشتراكية، وأنها أمور يجب أن يوضع لها حد فورا، في حين الأمر لم يتعد في نظري، سواء صدر عن سوء نية كما كان يعتقد أم غير ذلك، أن كان هجوما على حالات من استغلال بشع، الحل هو في علاج أسبابها وإلا أدى سوء التطبيق إلى أن يكفر الناس بالاشتراكية، بينما الاشتراكية من تلك الوسائل براء.
فالموضوع إذن تحول إلى رفض بات لأي محاولات تقييم من جانب وسائل الإعلام؛ خوفا من أن يكون هدفها الخفي هو التشهير، فكيف بالله كان يمكننا الانتفاع من تجاربنا والاستدلال على مكامن الأخطاء في التطبيق؟
بالرطل ... ذي بتاع ماركس
ومع ذلك ورغم كل، فقد كانت فرص التقاء جمال عبد الناصر باليسار المصري مهيأة في أعقاب الانفصال السوري؛ إذ يوغر صدره ضد الفئات التي كان يمكن لليمين المستتر اجتذابها، ولكن تشككه المتأصل وقف مانعا ضد أي تعاون مثمر، وخاصة أن اليسار المصري كان لا يتمثل في تيار واحد وإنما تيارات عدة، جميعها، حتى تلك التي كانت مخلصة في وطنيتها (وإنها للغالبية العظمى) لا تدين بتبعية لتنظيمات أجنبية.
لكن العقبة الكأداء كانت لا تزال كامنة في أن اليسار المصري بفئاته جميعا، كان يعنيه الفعل وليس القول، التجربة الحية وليس الكلام المفروض من أعلى، وما كان بوسعه أن يعترف بالميثاق نظرية متكاملة.
وإني لأذكر كيف ثارت ثائرته مرة، في جلسة مع أحد معاونيه الأقربين، تصادف أن كنت حضرت طرفا منها: «بيقولوا إنها مش نظرية! أمال النظرية تبقى إيه! هم عايزين كتاب يتباع بالرطل ذي بتاع ماركس.»
خلاصة القول أن اليسار لم يكن يعترف بالميثاق نظرية متكاملة، وإنما يراه تعبيرا عن مجموعة من مواقف هي ردود فعل، اعتملت في وجدان جمال عبد الناصر تجاه ظروف استغلالية معينة، لصمت إلى بعضها البعض فتتلاحم دون ترابط وثيق.
بينما يراه جمال عبد الناصر وثيقة حرية بكل اعتزاز كإنجاز من إنجازات الفكر قل أن يكون لها نظير.
أما أن يتطور العمل عن طريق تجارب فعلية، فما كانت هناك تجارب يمكن أن يقال إنها خضعت لتقييم، فنتحسس طريقنا إلى أساليب من تطبيق من خلال الموازنة بين خطأ وصواب، وإنما كلها اتجاهات تفرض من أعلى.
تدعى أجهزة الاتحاد الاشتراكي إلى اجتماعات دورية متباعدة لمناقشة سير العمل في الأقاليم جميعا، وتطلع الصحف في اليوم التالي بعناوين ضخمة إن استمرت المناقشات ست أو سبع أو عشر ساعات، فيقرر كذا وكيت وهات يا قرارات!
وإنما حقيقة الأمر أن المناقشات كانت تدور دون التزام جدي بالموضوعات التي في جدول الأعمال، يفتح الكلام في موضوع معين، ويطلب الكلمة واحد تلو آخر، فيقول ما يعن له أن يقول، لا يعنيه إن كان في صلب ما هو مطلوب مناقشته، ويترك له الحبل على الغارب، والرئيس يتمتع بصبر لا ينفد يتابع ما يقال الساعة تلو الأخرى ولا يمل، فإذا ما بلغ بالمجتمعين الإعياء، تكل العيون، وتهن الأوصال، وتتبلد أسباب التفكير فتخور العزائم، يتدخل آخر الأمر الرئيس فيعلن، دون محاولة إجراء تصويت، أن المناقشات توصلت بنا إلى القرارات التالية يتلوها في أوراق أمامه، هي معدة من قبل إلا من بعض تعديلات طفيفة هنا أو هناك.
وكان هذا يذكرني بما كان يتباهى به من أسلوب اتبعه في مؤتمر باندونج، حين عرضوا لنزاعات شكلية حول صياغة القرارات، فيقول: «كنت انتخبت رئيسا للجلسة، فلما احتدمت المناقشات ورأيت أن لا تلاقي، قلت لهم نحن في رمضان وأنا صائم، فلا يعنيني رفع الجلسة لتناول الغداء، لن أتحرك من مكاني حتى تصلوا إلى اتفاق ...»
ثم يضيف ضاحكا: «تعبوا، جاعوا، لقوا مفيش مفر، الاعتراضات انهارت، اتفقوا آخر الأمر.»
نفس الأسلوب أو يكاد، نجح في أن يصل إلى هدفه وهو جديد على المجتمع الدولي بين فطاحل مثل نهرو وشوان لاي وأونو ... فكيف به وهو الحاكم غير منازع، يطل من فوق المنصة على الرقاب.
فإذا جاء الدكتور فؤاد زكريا وقال إنه لم ينجح اليسار في اجتذاب عبد الناصر، وإنما نجح هو في اجتذاب عناصر من اليسار إلى صفه، فهو ما يتمشى تماما مع ما أعرفه عن شخصية عبد الناصر، أما غير ذلك فإن طبيعة شخصيته لا تهضمه ولا تقبل به تحت أي ظرف كان.
ولكن بقي الاستغلال
إني أعتقد أن أي دراسة لمواقف عبد الناصر، لا يمكن أن ترقى إلى الموضوعية إلا إذا اعتمدت على تحليل دقيق لجوانب شخصيته الفذة، جوانب غنية بمميزات قل أن يكون لها نظير، وأخرى لا تقل أثرا عن تلك أو ضخامة هي النواحي السلبية في تلك الشخصية، لو أننا تجاهلناها فكأننا نتكلم عن معبود «كل في واحد» جل أن يخطئ.
وربما إن كانت دراسة الدكتور فؤاد زكريا، لو أتبعت بغيرها فيتناول عدد من الكتاب مجالات أخرى من جمال عبد الناصر هي الخطوة على الطريق الصحيح، فإنه لن يتأتى لنا تقييم شخصيته أو أي شخصية تاريخية أخرى إلا من خلال دراسات متعددة، جامعة لمختلف نواحي نشاطه والمجالات التي أثر فيها وتأثر بها.
أما أن يقول الأستاذ نجيب محفوظ إننا ننقد جمال عبد الناصر؛ لأنه خطا بنا خطوة إلى الأمام وكنا نتوقع أن يخطو ثلاثا؛ فإنما تهرب من مواجهة الواقع، أو ربما تحرز عفيف، فإن نجيب محفوظ رجل سمح رقيق، إن جمال عبد الناصر قفز بنا قفزة جبارة إلى الأمام، إلا أنه سرد ذلك منجذبا إلى مسارب سنحت له بأعلام هي من صنع خياله، منقادا إلى حافة ذلك الجرف الذي هوى بنا إلى حضيض يوم 5 يونيو 1967م، فتتمزق نفوسنا من داخل وتكاد أن تغيب معالم أو مكاسب تلك القفزة الأولى. أين هي؟ وأين أقدامنا منها؟ فكأنها مجرد ذكرى!
ثم ما هي مكاسب تلك الخطوة الأولى؟ القضاء على الملكية؟ أي نعم! طرد قوات الاحتلال؟ لا شك في هذا، ولكن أين مكاسبنا الاجتماعية؟ هل قضينا على الاستغلال؟ كلا إنما استبدلنا بالإقطاع والرأسمالية طبقات أخرى طفيلية، هي أشد استغلالا في بعض الأحيان! «ارفع رأسك يا أخي ...» من ذا الذي كان يمكنه أن يرفع رأسه فيقول ما يريد أن يقول؟
أكتوبر ليس انتصارنا
ثم تعليق أخير، فقد جاء في سلسلة المقالات التي أثارتها دراسة الدكتور فؤاد زكريا ... القول بأن جمال عبد الناصر ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار.
ويتحتم علي أن أقرر في ضوء ما رأيت أن الذي تركه لنا عبد الناصر، ليس إرادة الصمود، وإنما الامتثال المطلق لإرادته، أراد لنا أن نصمد ففرض علينا إرادة الصمود من أعلى، وويل لمن كانت تحدثه نفسه ألا يمتثل!
وإنه لموقف يستحق منا كل تقدير لذاكره ... فلولا أن فرض علينا إرادة الصمود تلك لما تهيأت الفرصة لقواتنا المسلحة أن تتحول آخر الأمر إلى الهجوم على العدو فتنتصر.
نعم! فإن الانتصار ليس انتصارنا، وإنما انتصار أحرزته قيادتنا السياسية، وقواتنا المسلحة، قواتنا هي التي عانت ما عانت من صمود على الجبهة، من انخراط جدي في تدريبات شاقة مستمرة، فتبث فيها قيادتنا السياسية روح الإصرار على الانتصار.
قواتنا المسلحة وليس نحن!
وإلا فبالله حدثوني ما كان يمكن أن يحدث لو أن خراطيم المياه التي أزالت السدود الترابية، كانت كلها ثقوبا كتلك التي حاولت إطفاء حريق مسرح البالون؟
ما كان يمكن أن يحدث لو أن كميات المؤن والذخائر التي أرسلت إلى الجبهة، تكدست بلا نظام، عرضة للنهب والتلف والحريق، كما يحدث في موانينا البحرية والجوية؟
هل كان يمكن لقواتنا أن تعبر فتقتحم بارليف في تنسيق بارع، لو أن فيهم من لا يعرف واجباته، لو كانوا كالموظفين في مكاتبنا الحكومية، حيث يتفشى التسيب والإهمال بل الاستهتار بمصالح الناس؟
هل كان بوسع قواتنا المسلحة أن تنتهز فرص النجاح، لو أن تحركاتها كانت خاضعة للوائح من روتين، منها ما مضى عليه عشرات السنين؟
أقول هذا الكلام إذ أرى الأقلام في كل مكان «نازلة غزل» عبارات عن العبور إلى الانفتاح والعبور إلى وفرة الإنتاج والعبور إلى العبور، بينما لا انضباط ولا شعور بمسئولية، بل أهم من هذا كله، لا محاسبة على أخطاء!
فهل لنا أن نستفيد من تجارب قواتنا المسلحة؟
إنها بنود قليلة، ولكنها أساسية وفي غاية الأهمية: تحديد المسئوليات بدقة، توفير السلطات القادرة على تحمل مسئوليات التنفيذ، فتحاسب وتحاسب فورا، فإما الردع وإما المكافأة بسخاء!
هل آن لنا أن نفيق إلى حقائق الأمور، فنلحق كشعب بالمستوى الرائع الذي وصلت إليه قواتنا المسلحة؟ فإن أفرادها إنما «منا وعلينا» ولكن الفوارق كامنة بين أسلوب العمل هنا وهناك تلك هي المعركة التي تتحدانا إلى عبور!
هل ستنتهي ثورة يوليو نهاية ثورة عرابي؟
بقلم كمال رفعت
كانت مفاجأة لي، ولغيري، أن نجد الدكتور فؤاد زكريا - في مقالاته عن جمال عبد الناصر واليسار المصري - يهاجم ثورة يوليو من نفس الزاوية التي هوجمت منها جميع ثورات العالم قديمها وحديثها!
ولو أننا أخذنا حقا بمنطق الدكتور لكان علينا أن نقتنع بأن الثورات الأمريكية والفرنسية والروسية والصينية (والجزائرية أيضا) كانت أخطاء حدثت في تاريخ شعوبها.
إن لكل ثورة أخطاءها، وقد يكون منها السماح للعناصر الانتهازية بالتسلق على حساب العناصر الثورية، وعدم الاهتمام الكافي بتربية الكوادر السياسية، وتفشي البيروقراطية في التنظيمات السياسية، وعدم الاعتماد بالقدر الكافي على طاقات الجماهير، وعدم الضرب بشدة على أيدي العناصر المنحرفة أو المخربة. وقد تصل هذه الأخطاء إلى حد أن تأكل الثورة نفسها، ولكنها ليست بالضرورة متعمدة كما يجزم بذلك الدكتور فؤاد زكريا في نقده لشعار «من لا يعمل لا يخطئ» وإصراره على أن الخطأ «الذي كان هذا الشعار يهدف إلى تبريره والدفاع عنه، كان خطأ مقصودا ومتعمدا ارتكب بروية وتفكير وسبق إصرار وترصد يرمي إلى إكساب مرتكبه مغانم لا يستحقها من قوت شعب مطحون.»
سبحان الله! هل هناك امتهان بحقوق الناس، وتحيز واضح ضد ثورة يوليو أكثر من هذا. إن الأرجح هو أن الدكتور كان متأثرا بموضوع شخصي لمسه عن قرب أو سمع به. وهذه هي نفس الطريقة والأسلوب الذي يهاجم به اليمين الرجعي في الوقت الذي كنا نأمل منه أن يكون أكثر موضوعية لا يدين بغير الحقيقة كما يفهمها بمقاييس البحث العلمي المجرد.
إن أكبر خطأ للدكتور هو أنه اكتفى بما تردده حلقات محدودة، معظمها رجعي، في منتدياتها وثرثراتها ولم يحاول أن يتعرف على حقيقة شعور الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين وشباب ومثقفين ثوريين ... وهم الذين قامت الثورة من أجلهم وحققت أكبر إنجازاتها بواسطتهم.
لعل الأستاذ الدكتور لم يسمع بالموقف الوطني الثوري الذي وقفته الجماهير يومي 9، 10 يونيو سنة 1967م حينما رفضت الهزيمة وأصرت على استمرار النضال بقيادة جمال عبد الناصر. ولا بوقفتها الرائعة حينما تصدت لقوى اليمين الرجعي في مناقشات «ورقة أكتوبر» في سبتمبر 1974م أمام لجنة الاستماع بمجلس الشعب التي حاول فيها الانقضاض على مكتسبات الشعب التي حققها بعرقه ودمائه، ولعله أيضا لم يسمع أن بعض عناصر اليمين طالبت أن تذهب البنوك الوطنية إلى الجحيم كي تفسح المجال للبنوك الأجنبية لتحتل مكانها، أو أنها نادت بهدم السد العالي وتصفية القطاع العام الذي يملكه الشعب وبيعه بالمزاد. وإلا فلماذا لم يبين لنا رأيه في هذه المواضيع ويحللها التحليل العلمي الصحيح في بحثه المستفيض، ويحدد لنا موقفه منها بوضوح، كما اجتهد وتوصل في تحليله إلى «أن سخط الإنسان المصري على التجربة الاشتراكية كان واضحا وجليا في استقبال نيكسون وأن ذلك كان استفتاء غير رسمي على التجربة الاشتراكية المزعومة.»
هل صنع اليمين كل هذا
يقول الأستاذ الدكتور: «إن التجربة الناصرية لم تكن في حقيقتها يسارية بالمعنى الصحيح، ولم يكن لها من مقومات الاشتراكية بالمقاييس العلمية الصحيحة إلا أقل القليل.»
وإني أسأله: هل تنتمي إلى اليمين إذن إنجازات «التجربة الناصرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي غيرت خريطة مصر كما لم تتغير في كل تاريخها، والتي تجاهلها في بحثه بدعوى أن الجماهير ملت من كثرة تكرارها»؟
ما هو تقييمه للتخلص من الوجود الاستعماري البريطاني الذي ظل جاثما على صدر الشعب أكثر من سبعين عاما وتحرير الاقتصاد المصري من سيطرة الرأسمالية والاحتكارات العالمية، المتمثلة في الشركات الأجنبية وأهمها شركة قناة السويس - وتصفية قواعد الإمبريالية المتمثلة في البنوك وشركات التأمين الأجنبية - والقضاء على الإقطاع وتوزيع الأرض على المعدمين - ووضع أساس بناء القاعدة الصناعية والعلمية للمجتمع لمواجهة متطلبات المستقبل، وإعطاء دفعة قوية للتنظيمات النقابية والتعاونية وإقرار مجانية التعليم، وإعطاء المرأة حقوقها السياسية والاجتماعية وتدعيم أكبر مؤسسة دينية (الجامع الأزهر) ليكون جامعة إسلامية تجمع بين علوم الدنيا والدين، ومنارة للمعرفة لكافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها - وغير ذلك من إجراءات استهدفت مصالح أوسع الجماهير الشعبية.
إن الدكتور يتجاهل هذا كله، ويزعم «أن التجربة الاشتراكية الناصرية لم تضع الطبقات الشعبية نصب عينيها دائما فيما كانت تتخذه من إجراءات.» وهو يعطي مثلا لذلك «رفع أسعار السكر والكيروسين وهما مادتان أساسيتان للكادحين الفقراء.»
ونحن نذكر أنه تم رفع سعر هاتين المادتين عام 1968م حينما كانت مصر تواجه مرحلة من مراحل نضالها ضد العدو المشترك (الصهيونية والإمبريالية) وهي مرحلة الصمود الاقتصادي التي كان العدو يأمل أن تنهار فيها جبهتنا الداخلية وكان من الضروري اتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية لتدعيم هذه الجبهة. ومع ذلك فإن الزيادة التي تمت لم تتجاوز بضعة مليمات للكيلو الواحد، هذا علاوة على ما اتخذ من إجراءات أخرى كان لها أثر في تدعيم جبهتنا الاقتصادية بحيث اعترف كثير من المراقبين بقوة الاقتصاد المصري عام 1969م رغم الأعباء الكبيرة التي كان يتحملها، لقد كنت أربأ بالدكتور فؤاد زكريا أن يستشهد بهذا المثل لمهاجمة التجربة الناصرية، ولكن إنما الأعمال بالنيات!
ثم هل ينتمي إلى اليمين ما قامت به ثورة يوليو - كما يحلو للأستاذ الدكتور أن يقول - من دور على النطاق القومي، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر في تدعيم الحق العربي، وتصفية كثير من مواقع الاستعمار والإمبريالية في الوطن العربي، وإعلان الثورة الاجتماعية، وتأكيد انتماء مصر إلى الأمة العربية؟ وهل ينتمي إلى اليمين أيضا الدور القيادي لمجموعة دول عدم الانحياز، والمساهمة الفعالة في قيام منظمة الوحدة الإفريقية، وتدعيم حركات التحرير الوطني في العالم الثالث والوقوف بجانب حركات الشعوب المناضلة من أجل الحرية والاستقلال؟
لقد امتنع الدكتور عن إبداء رأيه في كل ذلك، واكتفى بأن يقول: «إن للنظم التقدمية مؤشرات معروفة تدل - دون حاجة إلى مجهود - على أنها حققت أهدافها أو سارت في طريقها بجدية.» وأورد بعض الأمثلة لذلك، تبين قصورا في قطاعات الخدمات على وجه الخصوص، وإنني أحيله إذا أراد أن يزيد معلوماته في هذا الشأن إلى البيانات التي تصدرها الإدارة العامة للتعبئة والإحصاء وغيرها من تقارير الأمم المتحدة والوكالات الدولية للتطور الاقتصادي والاجتماعي في مصر منذ عام 1952م حتى الآن، وأعتقد أن بها كثيرا من المعلومات المفيدة في هذا المجال ... إذا كان مصمما على أنه المؤشر الوحيد لتقدمية الأنظمة أو رجعيتها.
أما إذا كان المؤشر ظاهرة سطحية، كاستمرار استخدام الألقاب في المحادثات اليومية حتى اليوم، فإنني أستأذن في أن أضع في مقابل هذه الظاهرة أشياء تحتاج إلى تفسير، مثل: القوانين العمالية التي أصدرتها الثورة، تمثيل العمال في مجالس إدارات الشركات، والمشاركة في الأرباح، ونظام الحوافز المادية والمعنوية، والدور الفعال للتنظيمات النقابية على مستوى وحدات الإنتاج، وغير ذلك من إجراءات أعطت للعامل كفاية وإحساسا بكرامته كعضو في المجتمع، وأنه لم يعد مجرد سلعة تباع وتشترى كما كان يحدث في الماضي، وقد عبرت الطبقات البورجوازية في مناسبات مختلفة عن ضيقها الشديد بهذه الإجراءات.
أدعياء البطولة
على أن ما ورد في بحث الدكتور زكريا هو ثورته العامة على اليسار المصري لاتخاذه موقف التأييد والدفاع عن التجربة الناصرية أو ثورة يوليو سنة 1952م، وكأنه من المفروض بل من الضروري أن يتخذ اليسار نفس الموقف الذي يتخذه اليمين حيال هذه الثورة، وأن يهيل عليها التراب وأن يصب عليها أقذع أنواع السباب كما يفعل اليمين.
لمصلحة من يطلب الدكتور فؤاد زكريا ذلك؟ هل لمصلحة الشعب المصري بملايينه الكادحة من عمال وفلاحين حطمت الثورة القيود التي كانت تمنع انطلاقهم سياسيا واجتماعيا؟ أم لمصلحة أصدقاء صيدناوي وأفرينو - حسب تعبيره - الذين يطلب من اليسار أن ينافسهم في مهاجمة الناصرية.
إن العجيب حقا هو أنه يتهم اليسار بقصر النظر لاتخاذه موقف الدفاع عن الثورة، وفي نفس الوقت يقول : «إن دعوة اليمين الرجعي دعوة عدوانية ينبغي التصدي لها بكل قوة» أي المنطقين نصدق؟ وإذا لم يكن اليسار هو القوة المؤهلة لكي تتصدى لليمين الرجعي فما هي القوة التي يطلب منها الدكتور زكريا القيام بهذا التصدي؟
الأدهى من ذلك أننا نجده يثير اليسار بقوله: إن قرارات التأميم صدرت واليساريون في السجن، وبعدها ظلوا في السجن أيضا. كأنما القضية المطروحة للمناقشة قضية شخصية ... وليست قضية شعب، وقضية ملايين من هذه الأمة يتطلعون إلى مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وقضية نظام يحقق لهم آمالهم في التحرر عن عبودية واستغلال الماضي.
والأدهى أيضا هو القول بأن اليسار يدافع دفاعا مستميتا عن التجربة الناصرية؛ بسبب تعيين أفراد منه في بعض المناصب الرفيعة. فنحن نعلم أن اليسار (سواء الذي كان في السلطة أو خارجها) كان القوة الوحيدة التي تنقد وتنبه إلى الأخطاء والانحرافات، في حين أن الذين يدعون البطولة اليوم كانوا أول من ارتكبوا الأخطاء والانحرافات، وكانوا يسبحون ويوافقون على كل إجراء مهما كان.
ولقد كان اليسار وسيظل دائما الحارس الأمين على القيم والمبادئ، ولن يكون الحارس الغافل بأي حال من الأحوال ولن يكون الذي تجهض الثورة مبادئه.
وقد كنا نود لو ألقى الدكتور فؤاد زكريا بعض الضوء على ما يعني بكلمة «اليسار» نفسها. قضية أخرى كنت أود أن يلقي عليها الدكتور فؤاد زكريا بعض الضوء؛ هي هل الماركسيون أم أن هناك آخرين يندرجون تحت هذا المفهوم؟ وإذا كان هناك يساريون فما هو موقفهم من التجربة الناصرية؟ وما هو موقف الناصريين أنفسهم، وهم عناصر معروف أنها يسارية، كما أن هناك عناصر اشتراكية لها مفهومها الخاص بالنسبة للتطبيق الاشتراكي. لماذا لم يحددها د. فؤاد زكريا ويحدد مواقفها من التجربة الناصرية؛ حتى لا يتيح فرصة لتفتيت قوى اليسار، وإغراء جزء منهم باتخاذ موقف معاد للتجربة، واتهام الذين يقاومون الفكر اليميني الرجعي بالشيوعية والإلحاد، ثم التحريض على قتلهم وسحلهم كما نادت بذلك بعض أبواق الرجعية والإمبريالية أخيرا، إن الأمانة العلمية كانت تقتضي من الأستاذ الدكتور أن يكون أكثر وضوحا في هذه النقطة بالذات.
من هو الإنسان المصري
يقول الدكتور فؤاد زكريا: إن التجربة الناصرية خربت نفس الإنسان المصري وعقله. وأنا أتفق معه في ذلك، ولكني اختلفت معه فيمن خربت نفوسهم وعقولهم؛ إنهم الطبقة الإقطاعية التي اعتصرت دماء الفلاحين قرونا طويلة، والمستغلون الذين أثروا على حساب الكادحين من العمال والشباب والمثقفين، والعملاء الذين تعاونوا مع أعداء الوطن وباعوا أنفسهم للشيطان، وكانوا ينفثون سمومهم من محطات إذاعات الاستعمار السرية، والخونة الذين كانوا أداة لكل عهد ومطية لكل مستعمر، وأهل الرأي الذين كانوا يرون أن النظام الملكي هو أصلح نظام لحكم مصر، ومؤلفو الأغاني وقصص الجنس والدعارة الذين بارت تجارتهم ببزوغ فجر جديد أصبح فيه النضال والكفاح قيمة إنسانية ومطلبا جماهيريا، لم تفسد التجربة الناصرية نفس وعقل العمال والفلاحين الذين تحررت نفوسهم وعقولهم من عقدة الماضي بأدرانه وأوساخه. ولا الجنود من جيل الثورة الذين حطموا أسطورة إسرائيل، ولا المثقفين والمهنيين الذين عملوا في المصانع ووحدات الإنتاج، ليثبتوا أساس القاعدة الصناعية والعلمية في المجتمع، ولا الشباب الذين فتحت أمامهم آفاق المستقبل وربطتهم بتاريخ النضال الوطني. لم تفسد التجربة الناصرية نفوس وعقول الجماهير العربية الذين انطلقوا يحررون أوطانهم من عهود القرون الوسطى وسيطرة الاستعمار والإمبريالية.
بل إن حركة تحرر الجماهير المصرية كانت لها انعكاساتها على حركات التحرر في العالم الثالث في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكانت التجربة الناصرية من التجارب الرائدة في العالم الثالث. لم ترتبط بشرق أو غرب، لكنها كانت تعبيرا عن الواقع الذي تعيشه البلاد النامية التي رزحت طويلا تحت نير الاستعمار، وكان من أبرز مهامها القضاء على التخلف المادي والتخلف الثقافي. وهي استمدت أصولها من تراث الشعب وتقاليده وواقعه وتاريخه الحضاري، وكان كل فرد مصري أو عربي يفخر بأنه عربي ينتمي إلى «بلاد ناصر» وأصبح للمصري والعربي شخصيته المميزة في أي بلد ينزل فيه.
ما لم يفعل الدكتور
لقد كنا نتوقع من الدكتور فؤاد زكريا - وهو أستاذ يفهم التاريخ - أن يفسر أخطاء الثورة بعوامل من تاريخها وظروفها وظروف المنطقة التي نشبت فيها ... لا بعوامل من طبيعة أشخاص هنا وهناك، وكنا نتوقع - ما دام يفهم التاريخ - أن يرى المراحل التي مرت بها الثورة رؤية تاريخية، ويبين اتساقها من مرحلة إلى أخرى:
من 1952م إلى 1956م هي مرحلة الصراع ضد الاستعمار وتثبيت الاستقلال الوطني وإسقاط تحالف الاستعمار والإقطاع.
من 1957م إلى 1961م محاولة إقناع الرأسمالية المحلية بالمشاركة في عملية التنمية وتحمل دورها الوطني ... وظهور وجه مصر العربي، وانعكاس ذلك على الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
من 1961م إلى 1967م مرحلة الثورة الاجتماعية، وصدور القوانين والإجراءات الاشتراكية في قطاعات الإنتاج والخدمات.
المرحلة من 1967م حتى الآن: مرحلة العدوان الصهيوني الإمبريالي، الذي نشط لهدم مواقع النضال ضد الإمبريالية في الوطن العربي، ومحاولة الحد من الدور الثوري الذي تقوم به مصر على المستوى السياسي والاجتماعي.
ثم كنا نتوقع من الدكتور فؤاد زكريا، بعد أن يرى هذه المراحل، أن يتبين طبيعة المرحلة القادمة الحاسمة في تاريخ أمتنا لعدة أجيال تالية، هي مرحلة ستقرر هل تكون هناك ثورة أو لا ثورة، وهي تحتاج إلى تكاتف القوى الثورية المؤمنة بوطنها وقوميتها، لمواجهة الهجوم الرجعي العاتي الذي يحاول طمس معالم الثورة، ولتثبيت الإنجازات السياسية والاجتماعية التي حققها الشعب خلال صراعه المرير ضد قوى التخلف والاستعمار.
لقد مر الشعب المصري بتجارب كثيرة من قبل، منها الثورة العرابية التي كانت نقطة مضيئة في خضم ظلام دامس كان يلف شعبنا، قدم الشعب كل ما يملك، ولم يبخل عليها بعرقه ودمائه ولكن حينما هزمت عسكريا بواسطة الاستعمار نتيجة خيانة طبقات معينة معروفة أخذ البعض يهيل عليها التراب. بعضهم وصفها بأنها كانت «نقطة سوداء في تاريخ مصر» والبعض أطلق عليها «هوجة عرابي» وكان ذلك إرضاء للسادة الجدد ولطمس معالم تاريخ النضال الشعبي المصري، بل إن الحركة الوطنية المصرية بعد ذلك - والتي كانت لها انتماءات معينة - أخذت تهون من هذه الثورة، ووصلت إلى حد المسخ والتشويه، وهو ما خلق جوا من عدم الثقة في نضال الشعب غذي بأكاذيب لبست ثوب الحقائق. ومع ذلك ظلت الثورة العرابية علامة على طريق نضال الشعب حتى تمكنت ثورة يوليو 1952م من طرد الاستعمار وشق طريق جديد أمام الشعب للكفاح.
ولنا أن نتسأل الآن: هل ستنال ثورة يوليو 52 نفس ما نالته الثورة العرابية على أيدي الرجعيين والعملاء؟
أرجو أن ننتبه لذلك قبل فوات الأوان.
الحساب الأخير لعبد الناصر والماركسيين
بقلم محمد عودة
لا نظن أن هناك يساريا يحمل مسئولية والتزام اليسار، أو يعد نفسه واحدا منه؛ يرى أن هذا هو أنسب الأوقات وأفضلها لبحث قضايا وخلافات وصراعات سويت وانتهت من زمن طويل بين أهم فرق اليسار وفصائله.
ولليسار مثله مثل كل العقائد والمذاهب خلافاته وصراعاته الداخلية، ولكن ما يجمعه - خاصة في أوقات الشدة - أكثر بكثير مما يفرقه ... وليس هناك بين اليساريين أو بين الوطنيين التقدميين من يمكن أن يرى أن هذا هو وقت مراجعة الحسابات وتصفيتها بين اليساريين والانتهاء إلى إدانة كل اليسار وأهم أجنحته.
ذلك أن الاشتراكية وهي قضية ومبرر حياة اليسار جميعه، تتعرض لحملة ظالمة عاتية ... يشنها اليمين وقوى الثورة المضادة ويريد تصفية القدر الذي تحقق منها، وإعادة البديل الوحيد عنها ... وهو الرأسمالية.
وقد بدأت الحملة في البداية بإثارة عيوب التطبيق الاشتراكي، وأن الاشتراكية حقيقة وسليمة، وأن كل العيب في التطبيق، ثم فصلت الأخطاء وكررت وضخمت حتى اختلط الأصل والفرع.
وتدرجت الحملة إلى أن العلة في جوهرها ليست في التطبيق، ولكن في الاشتراكية نفسها، في الاختبار الذي تم، وأننا استوردناها، وفرضناها، وأقحمناها في غير أرضها وعلى غير شعبها، ومن هنا كان الضرر، وكان محتوما أن تتعثر وأن تنحرف، وفي ظل الحرب الدائرة بين التقدم والتخلف لا يغتفر لأحد يضم نفسه إلى قوى اليسار أن يقف ليفتعل خلافا، لا يفيد من إثارته الآن سوى الطرف الآخر المتربص، والمتوحش.
وقد يكون ضروريا والتزاما على كل اليساريين الآن أن يأخذوا مواقعهم، وأن يصححوها، وأن يمارسوا أكبر قدر من النقد الذاتي والنقد المتبادل، ولكن بما يعزز تكاملهم وتكافلهم، ومن أجل البحث عن حماية أفضل واشتراكية أعمق، ومن أجل وضع استراتيجية صحيحة لواقع معقد ولمستقبل لا بد من كسبه.
ولا يمكن أن يكون ضربا من الحكمة، أن يضع «فيلسوف» يساري كل مسوحه ثم يقف فوق منصة ناظرا من أعلى؛ ليعلن بكل الثقة أنه لم تكن هناك اشتراكية ولا اشتراكيون، وأن الناصريين لم يكونوا سوى فاشيين أهدروا روح الإنسان المصري.
ولا يمكن أن يكون حرصا على اليسار وحفاظا على «أصالته» ومستقبله؛ أن يقف الفيلسوف ليقرر تقريرا قاطعا أن الجناح الآخر للاشتراكيين؛ وهم «الماركسيون» قد خانوا قضية الثورة والاشتراكية وتخلوا عنها وأنهم باعوا أنفسهم رخيصة حينما وضعوا أيديهم في أيدي الناصريين، وأنهم خدعوا أنفسهم قبل أن يخدعوا الناس حول الاشتراكية.
وهو يلقي هذه النتائج القاطعة والقاصمة في تجاهل تام لأوليات العلم بالسياسة وبالواقع القومي ... ولبديهيات المواصفات والفروق بين المذاهب والنظم!
حملة «الوعظ» الجديدة
إن ظاهرة جديدة في مصر، هي انتحال مفكرين ليبراليين على أحسن الأحوال لصفة اليسارية «المفرطة» وتقربهم لليسار الماركسي، وتبصيرهم له بأخطائه وخطاياه، وأولها وأخطرها تحالفه مع الناصريين.
وتمتد الظاهرة إلى دوائر كثيرة يمينية وبيروقراطية، لا يفوق حقدها على الاشتراكية «الناصرية» سوى حقدها على الشيوعية «الماركسية» ولكنها أقامت نفسها فجأة ناقدة وناصحة للماركسيين تنبههم على أنهم ارتكبوا أشد الخطأ بالتحالف مع «العهد الناصري» ذات يوم، ويرتكبون خطأ أكبر بالدفاع عنه اليوم ... وأن موقفهم الصحيح هو أن ينضموا إليهم في الهجوم الذي يشنونه لتصفية كل آثار ذلك العهد من أجل الحرية والديموقراطية.
وقد يكون الدكتور زكريا نقيا كالبللور طاهرا كابتسامة الملاك، ولكنه شاء أم أبى يقف مع هؤلاء ويقدم لهم أثمن خدمة ممكنة.
كيف؟
دروس الآخرين
إن اليمين في مصر قوة مهلهلة معلقة بلا جذور ولا مستقبل وهي تعيش يوما بيوم في قلق متصل، وهو قوة مفلسة فكريا وسياسيا، ليس لديها ما تقدمه أو ما تقنع أو تخدع به أحدا، وقد تجاوزت المشاكل والقضايا كل الحلول إلى اليمين، وتجاوز الوعي العام كل مقومات ودعاوى البورجوازيين والإقطاعيين؛ ولهذا يستورد اليمين المصري في هذه الأيام الوسيلة التي أطال بها اليمين في الغرب حياته لبعض الوقت والتي لا يزال يعيش بها هناك وهي التفرقة بين صفوف اليسار، والعمل على استغراقه واستهلاكه في صراعات داخلية تصرفه وتشغله عن الخصم الحقيقي.
وحينما قامت الحركة الاشتراكية الدولية في القرن الماضي في مواجهة الرأسمالية؛ لتحرير كل المستغلين سواء من عمال الغرب أو شعوب الشرق، سخرت الرأسمالية كل الجهود والوسائل لتشتيت صفوفها، ولعبت دورا كبيرا في انشقاقها إلى اشتراكيين «ديموقراطيين» وطنيين وإلى ماركسيين شيوعيين اتهموا بالأممية والدكتاتورية، وخيانة الاشتراكية الحقيقية!
وضوعفت الجهود وبلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انتصار الاشتراكية «الماركسية» في مجموعة كبرى من دول العالم، وبعد انتصار الثورة الوطنية في معظم المستعمرات وتطلع شعوبها إلى ثورة اشتراكية جديدة.
ويحرص الغرب كل الحرص على تصدير هذه الاستراتيجية إلى بلاد العالم الثالث، حيث تبلغ المشكلة الاجتماعية ذروتها، وحيث تتطلع الشعوب إلى الحل الثوري الاشتراكي.
ومن هنا تتعلم قوى الثورة المضادة في العالم الثالث اللعبة بحماس.
وحينما قهر اليساريون في فرنسا خلافاتهم الحقيقية والمصطنعة، وقام ائتلاف وتحالف بين الاشتراكيين والشيوعيين واستطاعوا أن يكسبوا نصف فرنسا في الانتخابات، وكادوا أن يصلوا إلى قمة السلطة، واعتبر هذا أخطر تحد واجهته البورجوازية الفرنسية، وتجمعت إزاءه كل من البورجوازية الأطلنطية المؤمنة بالولايات المتحدة والحلف الغربي، والبورجوازية الديجولية «الوطنية» المؤمنة بفرنسا وأوروبا. ذلك أن قيام فرنسا اشتراكية ديموقراطية في ظل حلف يساري عام هي بداية ثورة فرنسية اشتراكية جديدة. تسري إلى أوروبا، كما حدث في الثورة الفرنسية الأولى!
والآن، ماذا عن مصر؟ وهل يمكن أن تتكرر القصة؟
التحالف ليس بدعة
إن معظم خلافات اليسار في مصر بيزنطية أكاديمية لا أساس لها، وغير ذات موضوع.
لقد وقف أنجلز يؤبن كارل ماركس على قبره يوم وفاته فقال: «إن أعظم اكتشاف اكتشفه كارل ماركس هو أن الإنسان لا بد له أن يأكل ويشرب وينام تحت سقف؛ لكي يفكر ويتفلسف ويتدين.» وهذا هو جوهر الاشتراكية الذي يتفق عليه الناصريون والماركسيون والمؤمنون والماديون أو الذي يجب أن يتفقوا عليه في بلد 99٪ من أهله يحلمون بهذا فقط.
وأشد ما يثير جزع اليمين في مصر هو وحدة قوى اليسار حول هذه القضية، وأن تتمخض عن مزيد من الأفكار والحلول لها.
ولا شيء يثير قلق وفزع اليمين مثل أن يتفق الناصريون بشعبيتهم، الناصريون فكر، وتطبيقات الماركسية في إطارهم القومي، وأن ينضم الماركسيون وينصهروا في المجرى العام للثورة المصرية وفي كل التراث المصري والعربي.
ولهذا يسعى اليمين المصري سعيا محموما للفرقة بينهما.
وبينما يلعنون الناصرية والناصريين على كل المنابر يستديرون ليطبعوا قبلة الموت على وجنات الماركسية، وأملهم هو أن يتعارك الماركسيون معهم في تصفية الناصرية، ثم يستديروا فيما بعد لتصفيتهم، أو لإبقائهم قوة سياسية نظرية معزولة في توازن تحكمه القوى البورجوازية بإحكام!
على أن الخلاف والصراع بين الناصرية وبين الماركسية، الذي تريد قوى اليمين أن تشعله مرة أخرى، لم يكن خرقا لقوانين التاريخ؛ لأن الصراع بين المذاهب والعقائد والأديان وفيما بينها هو تاريخ الحياة الفكرية والروحية للإنسان، وإلى جوار الصراعات المفتعلة هناك صراعات حقيقية تثور لوقت طويل أو قصير، وتنتهي في أحيان كثيرة إلى تفاعلات ومصالحات تثري وتخصب التفكير والتطبيق.
ومهما يكن الصراع الذي ثار ذات يوم بين عبد الناصر والماركسيين، إلا أنه أقل حدة وعنفا من الصراع داخل حزب شيوعي واحد أو حزب اشتراكي واحد.
وقد كان طبيعيا وحتميا مثل أي صراع بين ثوار يختلفون حول الطرق ويتفقون حول الأهداف، أن ينتهي إلى تكامل وتعايش، وحينما حمل أحد أقطاب اليسار الماركسي إلى عبد الناصر قرار الماركسيين بالاندماج في الثورة وحل الحزب الشيوعي المصري قال له عبد الناصر على الفور: «الآن نستطيع أن نبني الحزب الثوري الذي يضمنا جميعا.»
والصراع بين قوى الثورة وفرقها المختلفة يحل عادة حلا متوقفا على ميزان القوى، وعلى قدرة وعمق جذور كل فرقة من اليسار. وإذا كان الماركسيون المصريون قد انتهوا إلى الاندماج الكامل في المجرى العام للثورة المصرية، فإن هذا لم يكن استسلاما، أو استيعابا ولكن كان تقديرا صحيحا لموازين القوى ورؤية حكيمة لطريق المستقبل.
والماركسيون المصريون في صفوف الثورة لم يكونوا ذيلا، ولكن رافدا هاما أضاف إلى قوتها وأصالتها ، وأثر فيها بقدر ما تأثر بها، وسد ثغرة كانت قائمة في الوحدة الوطنية والفكرية لمصر.
وليس هذا على الإطلاق بالشيء الجديد، وإنما سبقته في تاريخ الثورات سوابق.
وقد كان أول نموذج للتعاون بين الوطنيين وبين الماركسيين في الشرق هو ما تم في الصين في بداية الثورة.
كانت الثورة الصينية يومئذ بقيادة الزعيم الوطني «الثوري» صن يات صن، وكان أول زعيم آسيوي أدرك مغزى الثورة الاشتراكية في روسيا بالنسبة لثورة التحرر الوطني الآسيوية، وقرر التحالف معها ضد الاستعمار الغربي الذي كان يستعبد الصين.
وقد كون «صن يات صن» حزب الكومنتانج الوطني، وقرر الشيوعيون الصينيون الذين تألف حزبهم في العشرينيات؛ أن ينضموا إلى ذلك الحزب الوطني كأفراد وأعضاء عاديين، وبغير عضوية مزدوجة؛ أي أن يتخلوا تماما عن عضوية الحزب الشيوعي.
وربما لو عاش «صن يات صن» وقتا أطول، ولم ينتكس تشيانج كاي شيك بقضية الثورة، لاستمر هذا التحالف ولأخذت الصين طريقا آخر نحو نفس الأهداف!
والعلاقة بين الماركسيين وبين الوطنيين تختلف من بلد إلى آخر وفق الواقع والتراث وعلاقات القوى، ولكن تحكمها كلها قوانين ومبادئ ماركسية عامة، تلزم الماركسيين بأن يقفوا وقفة كاملة مع أية ثورة وطنية تقاوم الاستعمار، حتى لو كانت قيادتها وبرامجها «بورجوازية».
وقد قال ستالين في دراسة مشهورة له عام 1920م «إن أمير أفغانستان الإقطاعي الذي يقاوم البريطانيين قوة تقدمية ونؤيدها كماركسيين، والثورة المصرية التي تقودها البورجوازية (ثورة 1919م) ثورة تقدمية نؤيدها كماركسيين، لكن حزب العمال البريطاني الذي يقمع الحركات الوطنية في آسيا وأفريقيا قوة رجعية نقاومها مهما رفعت من لافتات عمالية واشتراكية.»
وقد ينكر الدكتور فؤاد زكريا على عبد الناصر كل فضل أو مزية، ولكن الآسيويين والأفريقيين قبل العرب والمصريين يمجدونه ويكرمونه كأحد أبطال العصر في الحرب ضد الاستعمار.
وكان عليهم أن يتقبلوا قيادته ويسيروا خلفها خلال معاركه، ولم يكن ذلك تبعية أو ذيلية ولكن ماركسية صحيحة!
ولهذا فإن من السذاجة وقصور المعرفة بالثورة وبالماركسية أن يقال إن تصالح الثورة والماركسيين في مصر كان صفقة أو خدعة أملتها ظروف دولية.
ولنسأل أنفسنا، والدكتور زكريا: ما هو الموقف النموذجي الذي كان على الماركسيين أن يأخذوه من زعيم مثل عبد الناصر كانت الغالبية العظمى من الجماهير المصرية والعربية تؤيده كل التأييد، وكان الآسيويون والأفريقيون يرونه بطلا من أبطال التحرير في هذا العصر.
هل يرى الدكتور فؤاد زكريا أنه كان على الماركسيين المصريين أن يعلنوا المقاومة؟
خليط من النقد
لقد كانت المبادئ الماركسية تقضي بأن ينتهي التحالف بين الماركسيين وبين الوطنيين الثوريين «البورجوازيين» بعد أن يتحقق التحرير، حينما يتسلم الوطنيون السلطة ويقيمون دولة برجوازية، وحينئذ تبدأ بالنسبة للماركسيين معركة الاشتراكية والتحرر الاجتماعي ، ولكن عبد الناصر قدم نموذجا في الزعامة الوطنية الثورية أدى إلى تغير في الفكر والاستراتيجية الماركسية في كل العالم الثالث فقد اختار الاشتراكية، وبعد التحرر الوطني رفض الرأسمالية.
وكانت ظاهرة جديدة استغرقت الكثير من البحث والجدل في الحركة الشيوعية العالمية والمعسكر الاشتراكي، وانتهت إلى الخط السياسي الجديد الذي كان عبد الناصر بدايته. وهو يقضي بأنه إذا ما اختار القيادات الوطنية الثورية في البلاد المتحررة التطور نحو الاشتراكية فإن على الماركسيين أن يكملوا المسيرة والتحالف معها وتحت قيادتها، نحو بناء المجتمع الاشتراكي الجديد، ويكون هذا التحالف وفق ظروف وموازين القوى في كل بلد.
وقد كان واجبا على الدكتور قبل أن يدين الماركسيين أن يصحح معرفته بالماركسية بعض الشيء، وأن يبحث بإنصاف هل كانت الناصرية فاشية سحقت مصر والمصريين، أم اشتراكية حررت جماهير مصر المسحوقة؟
كشف حساب عبد الناصر
يقاس نقد الثورة - إذا كان علميا وموضوعيا ونزيها - بإنجاز واحد: هو ما حققته للقضية المصرية. هي قضية واضحة راسخة محورها وجوهرها تحرير مصر، وهذا هو الحلم التاريخي لكل المصريين، والذي ثار وانتفض وناضل وجاهد لأجله الملايين، والذي سجن وعذب ونفي واستشهد في سبيله عشرات الألوف منهم جيلا بعد جيل، أن تسترد مصر استقلالها وسيادتها كاملة، وتأمن ألا يسلبها أحد ثانية.
ولا ينكر أحد - ولا نظن الدكتور ينكر - أن عبد الناصر قد حقق المهمة، وكانت أول مهمة للثورة كان القائد الذي يدرك أبعاد العصر بقدر ما يدرك عناصر قضية مصر، وكان القيادة الجديدة التي تحتاجها البلاد بعدما تهاوت وفشلت كل القيادات السابقة وتجاوزتها الأحداث.
وقد أدركت الثورة أن مصر المستقلة التي تصر على استقلالها وسيادتها كاملة، والتي ترفض أي مساس بهما وأي تبعية للشرق أو الغرب، لا تستطيع أن تعيش وحدها، ولا تستطيع أن تأمن على استقلالها وسط القوى العظمى والأعظم ووسط صراعات وتيارات العصر المتلاطمة، إذا عاشت جزيرة معزولة وسط محيط يلتف حولها من المستعمرات والمحميات ومناطق النفوذ، وإنه لا بد أن يكون هناك مجال حرية حيوي لأبعد مدى يحيط بها، ويؤمن استقلالها .
وكان الالتحام بحركة التحرر الوطني العربية وثورة العرب هو أول الخطوات.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وفي اليوم التالي لنهايتها مباشرة، انفجرت الانتفاضات والثورات العربية وتتابعت من المغرب والمشرق، من الجزائر إلى سوريا ولبنان والعراق، وتداعت الفواصل والموانع التي أقيمت لعزل العرب عن بعضهم البعض، واندلعت شرارات ونذر الوحدة القومية بين شعوب أمة واحدة عربية، تختلف كل الاختلاف عن الوحدة «الرسمية» التي قامت بقيام الجامعة العربية.
وكانت كل الثورات والانتفاضات تبحث كل منها عن الأخرى، وترى فيها امتدادا وسندا متبادلا، وكانت كلها تبحث عن محور أساسي تلتف حوله، وطليعة وقيادة تاريخية تتقدمها، وهنا قدمت ثورة 23 يوليو كل ما كان مفتقدا.
ومنذ نهاية الحرب انتفضت شعوب آسيا وملايينها ضد الاستعمار والإمبراطوريات الأوروبية القديمة، والتي اكتسحها اليابانيون خلال الحرب، ولكن عادوا بعد استسلام اليابان يريدون استئناف استعمارها كأن شيئا لم يحدث، وتتالت الثورات عنيفة عارمة ضد البريطانيين والفرنسيين والهولنديين وامتدت الثورة الآسيوية إلى أفريقيا وإلى أمريكا اللاتينية، وهي القارات الثلاث التي وقعت عليها كل وطأة الاستعمار واستنزافه ... والتي قام بها «عالم ثالث» بين العالم الغربي الاستعماري والعالم الشرقي الاشتراكي.
وبدأت الدول المتحررة والثائرة تبحث عن تكافل جماعي فيما بينها، يواجه الكتلتين ويحمي استقلال من استقلوا، ويقف مع كفاح من لا زالوا يحاربون من أجل حريتهم؛ فالحرية واحدة لا تتجزأ، والاستعمار في أي مكان تهديد للاستقلال في كل مكان.
وهكذا قامت مجموعة باندونج وجبهة الحياد وعدم الانحياز، وكانت مصر أحد أعمدتها الرئيسية، والجسر المتين الذي يربط الآسيويين بالعرب وبالأفريقيين، والقيادة الفتية المتحدية في المنطقة الحاسمة.
وبعد قيام مجموعة باندونج ووضوح أهدافها، وتأكيد قوتها وقدرتها غيرت الكتلة الشرقية الاشتراكية موقفها، ولم يعد هناك اختياران فقط أمام الدول التي تحررت، اعترفت الكتلة الاشتراكية بدولتيها الرئيسيتين (الصين والاتحاد السوفيتي) بالطريق الثالث، وبحق كل دولة لا تنحاز لأي من الكتلتين وبأن هذا هو تأكيد للاستقلال وحق تقرير المصير، ومساهمة وضمانة لتحقيق السلام، بينما أصرت الكتلة الغربية على رفضها للحياد وعدم الانحياز، واعتباره قصور نظر بل سياسة «لا أخلاقية».
وكان دور مصر في تغيير نظرة وسياسة الكتلة الاشتراكية رئيسيا وحاسما، فإن صدق الثورة، وقيادتها أقنع الاشتراكيين أن عدم الانحياز ليس انتهازية وليس مناورة «ركوب سرجين أو اللعب بحبلين»، ولكنه تشبث بالاستقلال، وتمسك بالإرادة، ولكل بلد وشعب طريقه وإبداعه الخاص.
وبعد اعتراف الكتلة الاشتراكية بالحياد وعدم الانحياز أصبح التناقض بينها وبين العالم الثالث ثانويا، واختلافا على التفاصيل والطرق المؤدية إلى نفس الأهداف؛ ولهذا توثقت العلاقة بين المعسكر الاشتراكي وبين هذه الدول، واستطاعت أن تكسر الحصار التكنولوجي والاستراتيجي الذي فرضه الغرب على العالم الثالث حتى لا يتصنع أو يتسلح.
وأقامت مصر وثورتها أوثق علاقة بهذا المعسكر؛ وذلك لشدة وطأة التحديات ولعمق وصدق التحولات والتغيرات التي أرادتها الثورة، واستطاعت مصر بالسند العربي والسند الآسيوي الأفريقي، والسند السوفيتي أن تبني مكانتها الدولية وأن تحقق الأهداف الرئيسية للثورة.
لكن الرجعية نددت ويشتد كل يوم هذا التنديد، بسياسة الثورة الخارجية في تلك الفترة «الناصرية» فهي ترى - كما يرى الدكتور فؤاد زكريا - أنها كانت توسعا ومغامرة تفوق كل طاقات مصر وإمكانياتها.
إن السياسة الخارجية «الناصرية» لم تكن قط مغامرة أو توسعا، ولكن تحقيقا للذاتية والوجود المصري على خريطة العالم بعد غياب طويل، ومصر ليست مجرد حقيقة جغرافية كما كان يقول البريطانيون، ولكنها شعب وحضارة ودولة ذات دور وتاريخ لا مناص أن تقوم به في العصر الحديث، بعد استعادة استقلالها وشخصيتها، تماما كما قامت به في العصر القديم وعلى مدى التاريخ.
والعالم المعاصر متشابك متكامل وليست هناك قضية أو مشكلة منفصلة عن باقي القضايا ... ولا تستطيع دولة ولا يستطيع شعب يريد أن يثبت جدارته وأن يؤكد ذاتيته أن يدير ظهره لصراعات ومتغيرات العالم ويتصور بهذا أنه يحتمي منها، ولا بد للبلد الذي ينشد حماية حقيقية لسيادته أن يواجه العصر وأن يحدد مبادئه، كما يحدد مواقفه ومصالحه، وبذلك لا يتجاوزه التاريخ أو يجرفه.
وقد أصبحت مصر «الناصرية» بسياستها الخارجية وبدورها العربي، ودورها الآسيوي الأفريقي، وعلاقاتها ومحالفاتها مع قوى الثورة والوطنية والاشتراكية في العالم، قوة لا يملك أحد أن يتجاهلها ولا أن يمس حرماتها.
وإذا كانت قد حدثت أخطاء في السياسة الخارجية العربية أو الدولية، فإنها لم تقض علينا ولم تكسرنا، ولكنها عركتنا.
وقد كانت مصر المستقلة تخرج إلى العالم وتمارس السياسة العربية والدولية لأول مرة، وفي عالم معقد غير متكافئ وكان نجاحها باهرا، لا يقاس في شيء بالأخطاء التكتيكية التي حدثت.
قام عبد الناصر بثورة وطنية هدفها الأول هو الاستقلال، وكان يكفيه دورا وفخرا أنه حققه.
ولكنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن القضية الوطنية لا تنفصل عن قضية أخرى لا تقل أهمية وهي القضية الاجتماعية، وأنهما وجهان لقضية واحدة، وأن تحرير مصر من الاستعمار لا بد أن يعني تحررها من جوهر الاستعمار وأساسه وهو الاستغلال.
والاستعمار لا يسود الأرض ولكن يستغل ويستنزف الشعب، والحرية لهذا لا تعني فقط استعادة السيادة، ولكن بناء مجتمع جديد يسترد فيه كل مصري وقعت عليه الوطأة الاستعمارية حقوقه كاملة.
وقد تدرجت القضية الاجتماعية من تصفية الإقطاع ورأس المال الكبير والاحتكاريين حتى تمصير الاقتصاد ورفع كل سيطرة لرأس المال الأجنبي، حتى التأميم وإعلان الاشتراكية ذلك أن تمصير الاقتصاد لا يعني تحريره؛ لأن طبقة جديدة مستغلة سوف تقوم مكان الأجنبي. إنما يجب أن تنتقل الثروة إلى مالكها الشرعي؛ وهو الشعب.
ومنذ إعلان الاشتراكية أصبح تحقيقها هو جوهر كل السياسات الداخلية والخارجية، ولا تقاس مشاق التحرر الوطني في شيء بمصاعب التحمل الاجتماعي، خاصة في مجتمع مثل المجتمع المصري؛ يزخر بالتناقضات ويحمل رواسب استعمارية إقطاعية رأسمالية عمرها آلاف ومئات الأعوام!
كشف حساب الأخطاء
إن العقبات والصدمات محتومة دائما في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة في ظل واقع شديد التعقيد، وأول من يجب أن يميزها ويراها على حقيقتها هو الفيلسوف المفكر «اليساري».
ولكن الدكتور فؤاد زكريا ينفي ذلك تماما، ويؤكد أنه لم تقم أي اشتراكية، وأن ما تم لم يكن غير فاشية أهدرت مصر والمصريين، وكان خليقا بالماركسيين وهم الاشتراكيون الحقيقيون أن يكشفوها ويفضحوها، لا أن يباركوها ويذوبوا في تيارها بكل المآسي والفواجع التي حدثت.
ولم يحجم الدكتور - خلال تجريده للاشتراكية الناصرية من كل صفة أو مزية - عن الواقع في سلسلة من المتناقضات تبلغ حد العبث.
فهو يقر مثلا أننا كنا نعيش قبل الثورة في ظل «إقطاع من القرون الوسطى ورأسمالية من القرن التاسع عشر» ويقر أن الثورة قد أخرجتنا وخلصتنا منهما، وأن هناك «من يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء»، أي بعد أن دفعتها الثورة إلى الأمام، ولا شك أن الخروج من مقبرة القرون الوسطى وفظاعة القرن التاسع عشر كان يكفي الثورة فخرا، ولكن الدكتور يعود ليكرر ويؤكد أن الثورة سحقت المصريين، ولم تفعل سوى أن أضافت شريحة إلى المستغلين والمستبدين!
ولكي يدلل الدكتور على صحة دعواه فهو يقول إننا حتى الآن لا زلنا نستعمل الألقاب ... ولو كانت الثورة اشتراكية حقا، لكانت قد استطاعت أن تمحو الألقاب محوا من ذاكرة الشعب وحياته اليومية ... وهو دليل فريد بالطبع.
فالدكتور لا شك عاش ولا زال يذكر العصر الذي كان المجتمع فيه ملكيا، وكان على قمته ملك يلقب بحضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله، ثم يليه أمراء يلقب بعضهم بحضرة صاحب السمو الملكي ويلقب الآخرون بصاحب السمو الملكي فقط، ثم يتلوهم نبلاء يلقب بعضهم بحضرة صاحب المجد النبيل، ويلقب بعضهم بالنبيل فقط بلا مجد!
ثم يأتي بعدهم باشوات بعضهم لا بد أن يلقب بحضرة صاحب المقام الرفيع، وبعضهم حضرة صاحب السعادة، وبعضهم صاحب السعادة فقط ، وآخرون بحكم مناصبهم صاحب المعالي ... وتنتهي الألقاب بالبكوات وبعضهم من الدرجة الأولى، ويلقب بحضرة صاحب العزة، والآخرون درجة ثانية (صاحب العزة فقط) ثم محيط واسع تحت كل هؤلاء من الأفندية، ويذكر الدكتور أيضا أنه كان هناك مجتمع آخر من الأجانب بألقابهم الخاصة، وتتراوح بين اللورد والسير والكونت والبارون وأحيانا ممن يجمع بين السؤدد والمجد وبين كلا النوعين، وبغير ألقاب، أو بألقاب منتحلة ومصطنعة، كانت هناك فئات فوق فئات وطبقات فوق طبقات، ومن الأعيان والمشايخ أصحاب الوجاهة والفضيلة والحسب والنسب، ثم جيش من النفاية الأوروبية وجيش آخر من النفاية العثمانية، لا هم مصريون ولا عرب ولا خوجات، ويتعالون على القاع الذي يرسف فيه الملايين من المصريين المسحوقين والمجردين من كل شيء.
فإذا لم يبق من هذا المجتمع بعد عشرين عاما من الثورة سوى لقب «بك» يستعمل مجاملة ويموت تدريجيا، أو بعض مخلفات ترى في ألقابها كل حياتها، فهل هذه هي الخطيئة الكبرى التي يستدل منها على فشل الاشتراكية في مصر؟
إن العادات والعبودية تموت موتا بطيئا، أشد بطئا مما يقدر الثوار ... وذلك كما لا بد وقد درس الدكتور في علم الاجتماع!
على أن الدكتور لا يكتفي بهذا، إنما يقدم دليلا قاطعا آخر على فشل الاشتراكية: وهو الاستقبال الذي لقيه نيكسون في مصر.
وهنا يخرج الدكتور بنتيجة واضحة ومبتكرة، وهي أن استقبال نيكسون كان استفتاء شعبيا على رفض الشعب للاشتراكية والثورة «الناصرية» عامة.
ولا ينتهي الدكتور إلى الوجه الآخر للنتيجة، وهو أنه إذا كان الشعب قد صوت باستقبال نيكسون ضد الاشتراكية فلا بد أن يكون قد أعلن ثقته وإيمانه بالرأسمالية والإمبريالية الأمريكية.
وحينئذ لا بد أن نعيد النظر في كل تاريخنا الحديث، القريب والبعيد، ويصبح لا معنى لأن نترك قواتنا المسلحة في مواجهة مع هذه الإمبريالية في رمال الصحراء، ويصبح علينا أن نبحث عن حقيقة الشعب «الآخر» الذي عاش في معركة متصلة مستميتة طوال عشرين عاما - ومنذ الثورة حتى الآن - ضد هذه الإمبريالية والرأسمالية!
إن من المؤسف حقا أن أول من قام بهذه الدعوى، وسبق الدكتور فؤاد زكريا إليها، كاتب مبتذل من كتاب إحدى المجلات الأسبوعية، وقف على أبواب كل الحكام، وأثبت ومجد كل شيء قالوه ... وقد نقله عنه وتبعه رتل من الكتاب الساقطين، وجعلوا منه حجة ثابتة في صحبة اليمين.
وإذا كان الدكتور الفيلسوف قد ارتضى أن ينقل هذه الفرية ويرفعها إلى مصاف الحجج الفكرية على فساد الاشتراكية وفشلها، فإننا نسأله: وفق أي منهج وأي منطق؟ ولا بد أن يقدم لنا الدكتور بجرأته وموضوعيته تحليلا كاملا لظاهرة استقبال نيكسون، وكيف تنتهي إلى هذه النتيجة!
على أن الأجدى من هذا أن نعود إلى موضوعنا.
إن عبد الناصر لم يقل ولا أحد من الناصريين الماركسيين أن الناصرية قد أقامت المجتمع الاشتراكي النموذجي في مصر وقدمت الحلول المثالية لكل المشاكل، أو حققت كل الآمال التي عقدت عليها، ولكن ما يؤيدونه ويؤكدونه هو أن الاشتراكية هي الطريق الصحيح والوحيد، وأن الاشتراكية طريق عسير وكفاح متصل من أجل تعميق الفكر وتصحيح التطبيق المستمر.
وما أيده الناصريون والماركسيون وكل الوطنيين المستفيدين، ولا بد أن يؤيدوه دائما، هو أن الثورة حينما كان عليها أن تختار اختارت الاشتراكية، وأعلنت في ميثاق وطني عام بينها وبين الشعب أن الاشتراكية التي تختارها هي الاشتراكية العلمية، لا اشتراكية شكلية أو مجرد واجهة وشعارات، وإنما اشتراكية تؤمم المواقع الرئيسية للثروة، وتعترف بالصراع الطبقي، وتبدع طريقا خلاقا وسليما لمواجهته.
وقد قامت الاشتراكية المصرية في مجتمع معقد، هو أقدم المجتمعات الطبقية في التاريخ، وكياناته وعلاقاته ورواسبه الطبقية قديمة قدم الصراع الإنساني كله.
وقامت الاشتراكية المصرية في قلب منطقة تستميت الرأسمالية العالية لكي تبقى في فلكها، من أجل البترول والاستراتيجية الكونية، وتفعل أي شيء في سبيل ألا تقوم أو تنجح اشتراكية فيها. وخاصة في أهم دولها.
وقد كانت حرب 67، ذروة محاولات الرأسمالية العالمية لضرب الاشتراكية في مصر، وقد يكون تكرارا مملا أن نعدد ما حققته الاشتراكية: مساحة الأرض التي وزعت والأرض التي استصلحت، وما غيرته في حياة الريف وحياة الفلاح، أو عدد المصانع التي أقيمت وما فعلته في حياة العمال، أو عدد المدارس والمعاهد والكليات وما أثرت به في حياة مصر الثقافية، أو عدد القوات المسلحة التي تكونت وما منحته من ثقة وأمن ... هذه إحصاءات يعرفها الجميع، ولا بد كان الدكتور أول من يجب أن يراجعها قبل أن يعلن بيانه وتقييمه.
لن نكرر إحصاءات معروفة، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر على الثورة أنها ألقت بذور الاشتراكية في مصر، بطول مصر وعرضها، في القرية والمدينة والصحراء، وأعلنت حتمية الطريق الاشتراكي وقدرة الاشتراكية على حل المشاكل وأن لا حل سواها، وتركت لهذه البذور أن تنمو في أخصب وأصلح تربة للاشتراكية.
ولا أحد ينكر أن الاشتراكية قد دكت المجتمع القديم الظالم من أسسه، وبددت الخرافة التي كانت تجعل منه المجتمع الوحيد والأبدي والأزلي، وأكدت في نفوس الملايين أن المجتمع الظالم ليس هو طبيعة الأشياء، وأن من الممكن استبداله بمجتمع كفاية وعدل.
لقد قدمت هذه الاشتراكية «الأمل» حتى إنها لم تكن قد قدمت الفائدة الملموسة كاملة. وعمر الاشتراكية في مصر - على أي حال - لا يزيد عن 14 عاما منذ إعلان القوانين الاشتراكية، وربما كان عمرها الصحيح ست سنوات حتى حرب 67 التي كانت أقسى امتحان لها، والتي وضعت مصر أمام تحد قلب كل الخطط والمشاريع.
ومن حق الدكتور أن ينكر أنه كانت هناك اشتراكية، أو أنها حققت شيئا، ولكن أفضل الاقتصاديين في مصر - وطنيين أو اشتراكيين أو ماركسيين - يعترفون بأن القطاع العام الذي أقامته الاشتراكية هو الذي مكن مصر من الصمود اقتصاديا خلال المحنة الكبيرة.
ويعترف أفضل الاقتصاديين من كل الاتجاهات «الوطنية» أن ما حققته مصر من تنمية في ظل الاشتراكية هو أضخم تنمية حققتها في تاريخها الحديث كله، أي منذ تفتحت على الحضارة المعاصرة أيام محمد علي.
وإذا كان الدكتور زكريا يمجد العبور، ويرى فيه بعث الإنسان المصري الذي سحقته «التجربة الناصرية» فإن العسكريين الذين قادوا هذا العبور والذين يعرفون أسراره بأفضل مما يعرف، أعلنوا أنه لولا القطاع العام الذي أقامته الاشتراكية لما أمكن العبور والانتصار!
ولا شك أن الدكتور فؤاد زكريا لم يزر قط قرية من قرى الإصلاح الزراعي، ولم يشهد ذات يوم اجتماعا في قصر الأمير كمال حسين في نجع حمادي، بين الفلاحين الذين وزعت عليهم أرضه، وبين أعضاء مجلس الشعب ورجال الإصلاح الزراعي، وهو ما لم يحلم به فلاح في يوم من الأيام.
ولا شك أن الدكتور لم يزر قط مجمع الألمونيوم في نجع حمادي أيضا؛ ليرى كيف ينتقل مجتمع من الإقطاع أو ما قبله إلى عصر الصناعة الاشتراكية رأسا، وبالطبع لم يزر السد العالي أو مصنع السكر في إدفو؛ أشد مناطق مصر فقرا فيما مضى.
ولا شك أن الدكتور لم يقرأ ما ينشره طلبته وطلبة الجامعة التي يقوم بالتدريس فيها على جدران كلياتهم، وهم الجيل الذي أنجبته الثورة، والذي يتدفق حيوية وحرارة وإيجابية حتى في سخطه ورفضه وتمرده، إنه بالتأكيد لم تسحقه الثورة كما يؤكد! وحينما كان الدكتور طالبا في الجامعة كانت هناك جامعتان في القاهرة والإسكندرية أما الآن فتنتشر الجامعات والكليات في أرجاء مصر؛ في أسوان وأسيوط والمنيا، وفي طنطا والمنصورة والزقازيق ... والنظام الذي يسحق الشعب ويضع هذا من أهدافه لا يفتح هذا العدد من المدارس والجامعات.
وقد كان واجبا علميا على الدكتور قبل أن يلقي بآرائه القاطعة الجازمة؛ أن يطوف المواقع وأن يرى الحياة على الطبيعة، وأن يمسح التحولات بدقة، وأن يراجع الأرقام والإحصاءات.
وإلا فما هي المراجع التي استنبط منها أن كل ما فعلته الثورة هو إضافة 4,5٪ إلى الطبقات القديمة، وكيف سمح له ضميره العلمي أن يلقي بهذه الحقيقة متحديا عدد العمال وعدد الفلاحين وعدد الطلبة وكل التحولات التي حدثت في المجتمع؟
حكاية الطبقة الجديدة
إن الاتهام الوحيد الذي توجهه الطبقات المخلوعة ضد الاشتراكية في كل مكان هو هذا الاتهام؛ أنها خلعت الطبقات القديمة لتحل محلها طبقة جديدة، أو أنها أضافت شرائح أخرى إليها من الثوار الذين تحولوا إلى بورجوازيين.
وقد وجه نفس الاتهام إلى كل الثورات الاشتراكية في المعسكر الاشتراكي أو في العالم الثالث، بلا استثناء.
إن الطبقة الجديدة حقيقة، ولعنة، وهي تصاحب الاشتراكية دائما، وفي مراحل منها، وهي مشكلة واجهت الاتحاد السوفيتي والصين ويوغوسلافيا، كما تواجه كوبا أو مصر أو غينيا، فاستيلاء الثوار على السلطة يغري بعضهم بسوء استغلالها ... وتعمل الطبقات القديمة بكل ما تستطيع على اجتذاب وإفساد أكبر قدر من الثوار لتثبيت دعائمها ولتمد في أجلها.
ولكن الطبقة الجديدة، ليست «طبقة» بل هي مجرد فئات أو شرائح صغيرة، وهي تنتهي دائما باستمرار الثورة؛ لأن الاشتراكية تنجب دائما القوى التي تصحح أخطاءها وعثراتها. والثورة الدائمة هي المصل المضاد للطبقة الجديدة أو الوسيلة لحصارها وتصفيتها. والاشتراكية لا تتحقق سهلة يسيرة ... دائما هي صراع جدلي يستمر طويلا بين المجتمع القديم والجديد.
وربما يستطيع الدكتور أن يعدد مائة عيب وعيبا للاشتراكية، ويوافقه الجميع عليها ولكنها تبقى جميعا تفاصيل، المهم هو أن الإقطاع قد ضرب، وأن مصر الصناعية قامت، وأن التعليم صار حقا، وحقيقة، وأن جيلا جديدا قد نشأ قادرا على مواصلة الطريق، وتحقيق ما لم يتحقق من الحلم العريض.
وحكاية الديموقراطية
لأنه لم تكن هناك اشتراكية، فلم تكن هناك ديموقراطية والعكس أيضا!
هكذا لخص الدكتور فؤاد زكريا «التجربة الناصرية» ... كل شيء كان زائفا كاذبا.
وقضية الديموقراطية هي أهم قضايا العصر، ولكنها أيضا ذريعة، وباسمها ترتكب الجرائم والخطايا.
فالديموقراطية مثلا هي الشعار الذي ترفعه الرأسمالية والإمبريالية الجديدة في حربها ضد الثورة الوطنية والاجتماعية في العالم الثالث، وضد الاشتراكية في المعسكر الاشتراكي، فهي تزعم أن معركة العصر هي معركة بين الديموقراطية وبين الشمولية، وليست بين الرأسمالية الاستعمارية وبين الحرية والاشتراكية.
والديموقراطية التي تعترف بها وتتخذها نموذجا يحتذى للعالم الثالث هي ديموقراطية فورموزا، في ظل المرحوم تشيانج كاي شيك، أو ديموقراطية فيتنام الجنوبية في ظل «ثيو» أو ديموقراطية كوريا الجنوبية، وأخيرا وليس آخرا ديموقراطية إسرائيل!
ولكن النظم الأخرى - عبد الناصر في مصر أو سيكو توري في غينيا أو سوكارنو في إندونيسيا - هي نظم ديكتاتورية شمولية شيوعية ... لا بد من مقاومتها لأجل الديموقراطية.
إن الديموقراطية في البلاد التي عانت الاستعمار والاستغلال الأجنبي لا بد أن تبدأ أولا بالديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية وتصفية العهد القديم بكل كياناته وعلاقاته.
لا يمكن أن تقوم ديموقراطية في ظل الأمية أو المجاعة أو المرض أو البطالة ... وأغلبية سحقها الاستبداد والاستغلال.
ولم يكن هدم المجتمع القديم ليتم بالحوار والإقناع، بل كان لا بد من العنف والقهر لطبقات قهرت وأذلت الشعب طويلا.
وكان لا مناص - لسوء الحظ - أن يمتد القهر ويتجاوز حدودا في التطبيق، ولكن مهما كانت الأخطاء التي حدثت فإنها لا تبرر اتخاذ اليمين لها ذريعة للتنديد بالثورة.
إن تجاوز «الشرعية» حدث في كل الثورات بلا استثناء، في الشرق والغرب، والثورة ليست حفلة وإنما صراع قوي هائل.
ثم إن اليمين لا حق له في الحديث عن القهر والتعذيب فقد حكم مصر طويلا، وتمخض حكمه عن 99٪ من الشعب في أدنى درجات الإنسانية، وليس هناك قهر أو تعذيب أشد من هذا.
إن تجاوزات القانون والشرعية تعني البحث عن أفضل شكل لديموقراطية اشتراكية، ولا تعني قط إعادة الديموقراطية «الرأسمالية»، وما حدث كان «حالات» واستثناءات ومن الافتراء الاستناد إليها للقول بأن الناصرية قد سحقت الشعب المصري!
وأخيرا لا نظن أننا في حاجة إلى أن نذكر الدكتور الفيلسوف بعشرات من صفحاته التي كتبها أيام عبد الناصر، وهو رئيس لتحرير مجلة الفكر المعاصر، فقد نشرت روز اليوسف بعضها، ويستطيع أن يعود إليها.
أحب أن أضيف فقط، قوله في إحدى هذه الصفحات:
ولا نظن أن الوقيعة بين اليساريين، أو وصم «التجربة الناصرية» اليوم؛ هي أفضل مواجهة لذلك الارتداد.
أطال الله في عمرنا، حتى نقرأ ما سيكتب الدكتور - إن شاء الله - عام 1995م.
فؤاد زكريا يستأنف النزاع
بينما تستعد روز اليوسف لقفل باب المناقشة بين الدكتور فؤاد ومعارضيه حول موضوع «جمال عبد الناصر واليسار»، أبى الدكتور إلا أن يفتح الباب من جديد!
صمم على أن يكتب مقالا يرد به على الكتاب السبعة الذين ردوا عليه: فتحي خليل - أبو سيف يوسف - نجيب محفوظ - أحمد طه - فيليب جلاب - أديب ديمتري - محمد عودة.
هذا هو المقال، وبعده نستأنف الحوار بتعليقات القراء وردودهم على د. فؤاد.
لسنا بصدد محاكمة عبد الناصر!
لم تكن الانتقادات العديدة التي ظهرت في «روز اليوسف» (وفي غيرها)؛ ردا على دراستي عن اليسار والتجربة الناصرية مفاجأة لي، فأنا لم أكن أتوقع من اليسار، وبخاصة فئاته التي خاطبتها مقالاتي، أن يقف مكتوف الأيدي، أو أن يشكرني على ما كتبت، ويعدني - في هدوء ووداعة - بأن يستمع إلى نصائحي؛ ذلك لأن الأمر كان متعلقا بالمسار الذي قطعه اليسار، وخطة العمل التي اختارها لنفسه منذ فترة طويلة وليس لأحد أن يتوقع تراجع اليسار بسهولة عن مساره بعد كل هذه السنوات، وحتى لو كان اليسار قد سكت لما سررت لهذا السكوت؛ لأن معناه هو ألا تثار معركة فكرية في موضوع نحن أحوج ما نكون إلى إثارته، وإلى معرفة مختلف وجهات النظر التي تقال فيه.
ومن ثم فقد كنت سعيدا بالحوار الذي دار، وبالأفكار التي طرحت، ولست أشك لحظة واحدة في أن المواطن المصري الذي تابع هذا الحوار قد خرج منه وقد ازدادت نظرته إلى الموضوع تعمقا، وتكشفت له أبعاد جديدة ربما لم تكن قد طافت بذهنه من قبل.
ولعل من المفيد أن أوجه نظر القارئ في هذا الصدد إلى أمرين:
أولهما:
أن الردود المنشورة كانت في معظمها مخالفة لآرائي، وقد يعطي هذا انطباعا بأن رد الفعل على هذه المقالات كان في أغلب الأحيان سلبيا، ولكن الواقع أن المؤيدين لا يتجشمون في العادة عناء الإمساك بالقلم وكتابة مقال تأييد، بل يكتفون بالتأييد الشفوي أو الصامت، أما المعارض فهو الذي تعطيه معارضته قوة دافعة تحفزه إلى الكتابة، وبقدر ما أستطيع أحكم في نطاقي المحدود فإن اتجاه الردود لا يعبر عن موقف عام إزاء هذه الدراسة، وإن كان يعبر بلا شك عن تيار قوي لم يكن أحد يتوقع منه إلا أن يعارض.
أما الأمر الثاني:
فهو أن بعض أصحاب الردود قد تصور أن المسألة معركة بين خصوم، واستخدم في بعض الأحيان لهجة معادية، كانت تشتد بقدر اقتراب صاحبها من الفئة التي انتقدت موقفها في مقالاتي، ولست أنكر أن هناك ردودا أخرى اتسمت بالتعقل والهدوء والمناقشة الموضوعية، وأخص منها بالذكر رد الأستاذين أحمد طه وأديب ديمتري، ولكن ظهر في بعض الردود الأخرى قدر من العصبية، بل من التشنج، وهو أمر لم يكن له داع، ولا أرى له مبررا سوى أن مقالاتي قد مست وترا حساسا.
مع سبعة ردود
وسوف أبدأ هذه المرحلة الثالثة من الحوار بملاحظات سريعة عن بعض المقالات التي انتقدتني، على أن أرجئ مناقشة المسائل العامة التي أثيرت في هذه المقالات إلى الجزء الثاني من هذه المناقشة.
لعل أهم النقاط التي تركز عليها رد الأستاذ فتحي خليل، هي تأكيده وجود ما أسماه «بالعلاقة العضوية» بين اليسار وبين ثورة 23 يوليو حتى قبل قيامها، وقد أتى للتدليل على ذلك ببعض الشواهد التي هي بالفعل صحيحة من حيث هي تعبير عن حقيقة جزئية، ولكنها ليست صحيحة إذا وضعت في الإطار العام للأحداث.
فمن المؤكد أن بعض الضباط الأحرار كان على اتصال بتنظيمات يسارية، ولكن من المؤكد أيضا أن بعضهم الآخر كان على اتصال بتنظيمات أخرى، بعضها ديني كالإخوان المسلمين، وبعضها حزبي كالحزب الوطني ومصر الفتاة، والقاسم المشترك بين كل هذه التنظيمات التي اتصل بها الضباط الأحرار قبل الثورة هو أنها كانت تنظيمات رافضة، ولذلك بحث الضباط الأحرار عن طريقهم بينها؛ لأنهم كانوا بدورهم رافضين، ولكن بهذا المنطق الذي اعتمد عليه فتحي خليل يستطيع الإخوان المسلمون أو غيرهم أن يؤكدوا وجود «علاقة عضوية» بينهم وبين ثورة 23 يوليو.
ومن جهة أخرى فقد رد الأخ فتحي خليل على نفسه ردا قاطعا حين أكد أن هذه العلاقة العضوية بين الثورة واليسار قد غابت، لا عن اليسار نفسه «في فترات تقصر أو تطول» وبناء على ذلك اعترف فتحي خليل، نصا، بأن سلبيات ثورة 23 يوليو، والتطرف العدائي لليسار، والتصرفات الرجعية والانحرافات والاستغلال، كل هذه قد دخلت - على حد تعبيره - من باب «غياب حقيقة العلاقة العضوية والفكرية والكفاحية عن واحد من الطرفين أو عنهما معا.»
الآن، أود أن أتساءل بإخلاص: ما قيمة هذه «العلاقة العضوية» المزعومة إذا كانت قد غابت عن طرفيها معا «لفترات تقصر أو تطول»؟ إن كل علاقة - بقدر ما أعلم - تتوقف على الطرفين اللذين يدخلان فيها، ولا يعود لها وجود أو معنى إذا غابت عن الطرفين معا، وأقصى ما يئول إليه أمرها عندئذ هو أن تصبح كعلاقة الزواج بين زوجين منفصلين روحيا وجسديا!
أما الأستاذ فيليب جلاب فقد غضب لتفسير خروج اليساريين من المعتقلات في عام 1964م بأنه مجاملة للاتحاد السوفيتي مؤكدا أنه لا بد أن يكون راجعا إلى تطور السياسة الداخلية إلى حد لم يعد يوجد معه مبرر لهذا الاعتقال، وأنا أعلم جيدا أن كل من كان في المعتقل يغضب لهذا التفسير.
لكن لنناقش الأمر بهدوء: إن التطور الحاسم في السياسة الداخلية قد حدث منذ عام 1961م، فإذا كان هذا التطور هو السبب، فلم كان الانتظار ثلاث سنوات شبه كاملة؟ ولماذا «تصادف» حدوث الإفراج قبل زيارة خروشوف مباشرة، وهي الزيارة التي حدثت كتتويج للمساعدة السوفيتية في بناء السد العالي، والتي تعد أول زيارة في عهد الثورة يقوم بها زعيم الاتحاد السوفيتي!
لقد كان من بديهيات السياسة في تلك الفترة مجاملة كل دولة من الدولتين الكبريين، بإبراز شخصيات مصرية وضعت عليها بطاقة اليسار، أو شخصيات أخرى وضعت عليها بطاقة اليمين، وقد تكون البطاقة مزيفة أحيانا، ولكن المهم أن أصحاب هذه البطاقة أو تلك كانوا يصعدون أو يهبطون تبعا لرغبتنا في مجاملة هذه الدولة أو تلك، وإظهار غضبنا من الأخرى.
ولنتأمل واقعة أخرى، ربما كانت أكثر دلالة، وهذه الواقعة لا أسوقها لفيليب جلاب فقط، بل أهديها أيضا للأستاذ محمد عودة؛ تعليقا على الرواية التي نقلها عن رغبة عبد الناصر في بناء حزب ثوري يضم الماركسيين والناصريين بعد حل الحزب الشيوعي المصري. فبعد القرارات «الاشتراكية» بسنتين كاملتين، وقع انقلاب علي صالح السعدي في العراق وذبح من اليساريين - حتى المعتدلين منهم - عشرات الألوف في ليلة واحدة، وفي هذه الليلة كان الإعلام المصري - وعلى رأسه جريدة «الأهرام» نفسها، بكل ما كان يربطها من علاقات خاصة بقمة السلطة - أشبه بغرفة عمليات تتابع تطورات عملية ذبح اليساريين ساعة بساعة، وتصفق لها مهللة، فهل يمكن أن يصدر تصرف كهذا عن جهاز اقترب من اليسار، ولو إلى ربع الطريق؟ وهل يظل من الممكن بعد ذلك أن تفسر الإفراج عن اليساريين بأنه نتيجة طبيعية لتقارب التجربة الناصرية معهم؟
هذه كلها حقائق لم أخترعها، وإذا كانت تؤدي في النهاية إلى تفسير لا يتفق تماما مع تضحيات من دخلوا المعتقلات فإني آسف لذلك أسفا حقيقيا، ولكني لا أستطيع أن أشتري لهم الراحة النفسية على حساب الحقيقة التاريخية.
وقد تصور الأستاذ جلاب أنه اهتدى إلى تناقض صارخ وقعت فيه حين قلت في ملاحظة عابرة وضعتها بين قوسين إنني كنت أفضل لو لم يختتم الأستاذ مكرم عبيد جهاده بتأليف الكتاب الأسود، وأبدى تعجبه من استنكاري للتنديد بسلبيات الوفد، على حين أنني ركزت على سلبيات التجربة الناصرية، وأي قراءة متمهلة لهذا الجزء من مقالي تبين أن القضية التي دافعت عنها عندئذ هي أن الانحرافات والاستثناءات التي عددها مكرم عبيد أقل عددا، وأضيق نطاقا، إلى حد لا يقارن بنظيرتها في التجربة الناصرية، فهل يحق لشخص درس قواعد المنطق - كما فعل الأستاذ جلاب - أن يرى في هذا تناقضا؟
وأخيرا، فقد استخدم الأستاذ جلاب بعض العبارات البلاغية التي لا تصمد أمام أي تفكير نقدي، حين تساءل: إذا كانت التجربة الناصرية قد خربت نفس الإنسان المصري فكيف حقق الإنسان العبور في 6 أكتوبر؟ إنك تعلم ولا شك، يا أخ فيليب، أن هناك من يقولون إن الإنسان المخرب داخليا، هو الذي هزم في 5 يونيو، وأنه لم ينتصر في أكتوبر إلا لأن التخريب بدأ يزول عن نفسه. وقد لا يكون هذا التعليل بدوره صحيحا كل الصحة، وقد يكون الانتصار راجعا إلى أسباب أعمق من هذا بكثير، ولكن المهم أن من السهل الرد على كلامك بأن «الإنسان» في الحالة الأولى لم يكن هو «الإنسان» في الحالة الثانية.
أما مقال أو حوار الأستاذ نجيب محفوظ فقط أثار عنوانه دهشتي؛ إذ كان العنوان هو «نجيب محفوظ يرد على فؤاد زكريا»، على حين أن أي قارئ يدرك فورا أن العنوان المطابق لكلامه هو «نجيب محفوظ» يتفق مع فؤاد زكريا.
لأنه كان بالفعل متفقا معي في الجزء الأكبر مما قال، وعلى أية حال فالذنب في هذا ذنب «كاتب العناوين» في روز اليوسف أما نقطة الخلاف الوحيدة بينه وبيني، فكانت ما يسمى ب «رشوة الشيوعيين في العهد الناصري» وهو موضوع سأناقشه فيما بعد بالتفصيل.
على أن أغرب الردود جميعها كان رد الأستاذ أبو سيف يوسف. ونظرا إلى أن هذا الرد ينتمي كله تقريبا إلى باب المناقشات التفصيلية ولا يكاد يتضمن مبادئ عامة، فسوف أناقشه الآن بشيء من التفصيل ، حتى أعود إليه فيما بعد.
أراد الأستاذ أبو سيف يوسف، الذي اتسمت بعض أجزاء مقاله بعدوانية شديدة لا أدري لها سببا، أن يواجه مقالاتي الأخيرة بكتابات سابقة لي؛ لكي يجعل «فؤاد زكريا يرد على نفسه»، ولا شك أنه بذل جهدا خارقا في قراءة كل ما كتبت في مجلة «الفكر المعاصر» وهو أكثر بكثير من أربعين مقالا ودراسة؛ لكي يجد فيها ما يتناقض مع موقفي الأخير، ومن المؤكد أنه ظل طوال قراءته يشعر بخيبة أمل شديدة؛ لأن مواقفي كانت دائما متسقة مع نفسها، بدليل أنه لم يتوصل في النهاية إلا إلى تقديم مقالين فقط، وعلى هذين المقالين بنى كل آماله في كشف تناقضي المزعوم.
والشيء المؤلم حقا أن هذين المقالين كانا قد ظهرا بعد موت جمال عبد الناصر مباشرة، فهما مقالان كتبا في فترة الرثاء والتأبين، فهل يصح أن يحاسب أحد على ما يقوله في كلمة تأبين؟ ألا يتبع الجميع في مثل هذه الظروف قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم»؟ وهل من الأمانة العلمية، بل والأخلاقية، أن تختار هذه المناسبة بالذات؟ وهل يمكن أن يكتب تاريخ أية تجربة في الحكم، أو يحكم على أي زعيم، من خلال كلمات الرثاء التي تقال بعد الوفاة مباشرة؟ ألا تذكر كلمات الرثاء الرائعة التي قالها عن ستالين في عام 1952م نفس أولئك الذين أدانوه في عام 1956م؟
هذا من حيث المبدأ العام، ولكنني مع هذا كله أستطيع أن أقول بثقة واطمئنان إنني، حتى في هذه الحالة، لم أبتذل فكري، ولم أخالف ما أومن به، رغم أن أحدا لا يملك أن يلومني في تلك الظروف لو كنت قد فعلت.
فقد استشهد الأستاذ أبو سيف بمقالين؛ أحدهما ظهر في عدد أكتوبر 1970م بعنوان «الكل في واحد»، والثاني ظهر في الشهر التالي بعنوان: «كلمة عن المستقبل». ولنترك المقال الأول مؤقتا ونتحدث عن المقال الثاني.
ففي هذا المقال، وبرغم كل الظروف التي أحاطت به، قلت (وأنا أكتفي هنا بالعبارات التي استشهد بها الأستاذ أبو سيف نفسه) أنه رغم كل محاولات تشويه الاشتراكية، فإن الجميع أصبحوا ينادون ولو بأطراف اللسان عند البعض، بالشعارات الاشتراكية، وعبارة «ولو بأطراف اللسان» تعبر بوضوح عن تحفظ شديد، وفيها معنى لا يمكن أن يخفى عن القارئ الذكي، فضلا عن أن استخدام تعبير «الشعارات الاشتراكية» يتمشى تماما مع ما أقوله الآن، في عام 1975م من أننا لم نشهد من الاشتراكية في التجربة الناصرية إلا شعاراتها.
وفي موضع آخر قلت: «أما اليوم فإن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية هي السياسة الرسمية للدولة.» وعبارة السياسة الرسمية تتضمن تفرقة بين ما يعلن على المستوى الرسمي وما يتم على مستوى التطبيق الفعلي، فأنا لم أقل إن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية تحققتا بالفعل، بل قلت إنها أصبحت سياسة رسمية، ومعلنة، وهذا في ذاته يعد تقدما بالقياس إلى ما سبق، ولكن المشكلة الكبرى، والمعضلة التي لم تحلها التجربة الناصرية، هي كيف تتحول السياسة المعلنة رسميا إلى واقع فعلي.
وأعجب ما في الأمر أن الأستاذ أبو سيف يتصور أنني في عام 1970م فقط حذرت من الارتداد عن الأسس والمبادئ الأولى للطريق الاشتراكي، على حين أنني خرجت عن هذا الخط بمهاجمتي للتجربة الناصرية في عام 1975م مع أن كل ما قلته في دراستي الأخيرة لم يصدر - كما قلت في الدراسة نفسها مرارا - إلا بدافع الحرص على المبادئ الاشتراكية الصحيحة، واعتقادا بأن هذه المبادئ لم تكن هي التي تطبق.
إن الأمثلة كثيرة، ويكفيني أن أقول - دون إطالة - إن كل الاقتباسات التي استشهد بها الأستاذ أبو سيف يمكن أن تفسر لصالح وجهة نظري الأخيرة، وخاصة إذا ما فهمت في ضوء الظرف غير العادي الذي كتبت فيه، وإذا أدركنا أن مضي خمس سنوات، بعد عام 1970م، لا بد أن يفتح أمام الذهن آفاقا جديدة، ويلقي على التجربة السابقة مزيدا من الضوء، ومن المؤكد أن الأستاذ أبو سيف قد اعترف ضمنا، دون أن يدري، بما أطلق عليه بسخرية تعبير «مناقب الدكتور فؤاد زكريا» بدليل أنه لم يجد شيئا يستشهد به في كل ما كتبت على مدى أعوام طويلة سوى مقال كان لا بد في اللحظة التي كتبته فيها، أن تكون لهجته مخففة، لا خوفا من شيء بل احتراما لجلال الموت.
وما دام الأستاذ أبو سيف قد فتح الحديث عن «مناقبي»، فلا بد أنه قرأ في عدد أكتوبر 1970م من مجلة «الفكر المعاصر»، (وهو العدد الذي أشار إليه في نقده مرارا) مقالا آخر لي، كتب قبل وفاة جمال عبد الناصر (التي حدثت في آخر لحظة حيث كان العدد كله معدا للنشر، مما حتم تغيير الغلاف وإضافة مقال «الكل في واحد» في اللحظة الأخيرة). فقد كان طبيعيا ألا يشير إلى هذا المقال بكلمة واحدة؛ لأنه يتضمن تكذيبا قاطعا لما يدعيه عني من «تناقض».
في هذا المقال تحدثت عن بعض سلبيات «اشتراكية العالم الثالث» (ولم يكن القارئ عندئذ يجد أية صعوبة في فهم نوع الاشتراكية التي أعنيها)، فاعتبرت سكوتها عن التفكير الغيبي أو تعايشها معه انتهازية أو نفاقا رخيصا من جانب السلطة الحاكمة، فضلا عن أنه يساعد على إبقاء الجماهير في حالة تخلف معنوي لا يرجى معها أي نهوض حقيقي للمجتمع، وفي مثل هذا الجو العقلي المتناقض يستحيل أن تحقق الاشتراكية إمكانياتها وتقدم إلى المجتمع أفضل ما لديها، بل إن مثل هذه الاشتراكية لا بد أن تكون «جوفاء مبتورة»، ولقد كان من الممكن أن تخف أضرار التفكير الغيبي لو كانت تلك الاشتراكية تقدم للناس «مكاسب واضحة»، أما إذا كانت الاشتراكية مترددة خائرة ، وإذا كانت مكاسبها أمرا مشكوكا فيه على الدوام، فعندئذ تستطيع الخرافة أن تطل برأسها في شماتة ثم تحدثت عن عيب آخر لهذا النوع من الاشتراكية هو أنها مفروضة من أعلى، وليست نابعة عن ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، وقلت بالحرف الواحد إننا نجد في هذه الاشتراكية أن «الانحراف في الطبقات الحاكمة أمر مألوف؛ حيث يبدو إغراء السلطة، والافتقار إلى التقاليد الثورية الأصلية عاملا مشجعا على تكوين طبقة جديدة ربما استخدمت الاشتراكية ذاتها أداة لدعم مركزها وصرف أنظار الجماهير عن انحرافاتها.»
هكذا كنت أكتب أثناء حياة جمال عبد الناصر، فكيف كان نقادي يكتبون؟ وهل يعاب علي أن أكتب في العدد التالي مباشرة، وهو المخصص لرثاء جمال عبد الناصر، مقالا أخف لهجة من ذلك الذي كان مفروضا أن يظهر وهو حي؟
ولأنتقل الآن إلى المقال الآخر الذي استشهد به الأستاذ أبو سيف كدليل على تناقضي، وعنوانه «الكل في واحد» فقد استنتج بذكاء شديد أنني لا بد أن أكون كاتبه، إذ قال: «ونفهم من أسلوبه أيضا أن كاتبه هو د. زكريا نفسه.» ثم أخذ يقتبس جملة بعد جملة وهو يردد: «ويقول د. زكريا»، ولكن ما رأي الأستاذ أبو سيف في أن كل من قرأ لي شيئا يعرف أن أسلوبي التقريري المباشر لا يتسم - للأسف - بشيء من شاعرية أسلوب الدكتور مكاوي؟
إنك تعلم أنني كيف أستطيع أن أصنع من هذه السقطة «فضيحة»، وكنت أستطيع أن أكتب في السخرية من استنتاجك ومما بنيته عليه من نتائج، صفحتين على الأقل، تعادلان الصفحتين اللتين شغلتهما من روز اليوسف في هذا الموضوع، ولكني سأكتفي بتقرير الحقيقة وأسكت؛ مراعاة مني لآداب المناقشة، وتمسكا بفضيلة «العفو عند المقدرة».
على أني لا أود أن أترك هذا الموضوع دون أن أوجه عتابا آخر، أشد في هذه المرة، لكاتب العناوين في روز اليوسف، فقد وضع على صدر مقالة الأستاذ أبو سيف، وبالخط العريض، ثلاث عبارات ذكر أنني قلتها في سنة 1970م، وأنها تناقض ما أقوله الآن في سنة 1975م، ومن بين هذه العبارات الثلاث عبارتان لم أكن أنا قائلهما على الإطلاق، الأولى جاءت في كلمة الدكتور عبد الغفار مكاوي، وهي «عبد الناصر ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار»، والثانية مأخوذة من كلام الأستاذ أبو سيف نفسه، وتعبر عن رأيه الخاص، وهي «إنجازات يوليو ديموقراطية أساسا وبعضها كبير جذري» أما العبارة الثالثة والخاصة بالشعارات الاشتراكية، فهي وحدها التي قلتها، وقد شرحت دلالتها من قبل.
وإذا كان الخطأ الذي وقع فيه كاتب العناوين في العبارة الأولى غير مقصود؛ لأنه ساير الأستاذ أبو سيف في اعتقاده أن ما كتبه الدكتور مكاوي منسوب إلي، فإن الخطأ في العبارة الثانية لا بد أن يكون مقصودا، ومن واجب كاتب العناوين أن يعتذر، إن لم يكن لي، فعلى الأقل لقرائه الذين ضللهم.
وأخيرا، فإن الأستاذ محمد عودة قد كتب في نقدي مقالا طويلا بدا لي في معظمه أشبه بمنشورات الدعاية التي كانت توزعها هيئات الإعلام الرسمية في عهد التجربة الناصرية، وقد لفت نظري في هذا المقال أنه سار إلى أبعد مدى في ممارسة أسلوب، هو في نظري، أقرب إلى الإرهاب الفكري، حين خوفني من نقد التجربة الناصرية لأن اليمين يكرر نفس الانتقادات ...
هذا الأسلوب يذكرني بما تلجأ إليه الدعاية الصهيونية حين تخيف كل من ينتقد تصرفات إسرائيل، بأنه يردد ما كان يقوله هتلر عن اليهود، وهو أسلوب نجح فعلا في تخويف نقاد إسرائيل في العالم الغربي حتى اليوم، أما العرب فيردون على هذا الإرهاب بقولهم إن صدور نقد لليهود من طاغية مثل هتلر لا يعني سكوت العالم عن انتقاد إسرائيل، ما دام سجلها حافلا بالجرائم.
لذلك أود أن أقول بهدوء تام للأستاذ عودة، ولكل من استخدم ضدي هذا الأسلوب، إن مثل هذا الإرهاب الفكري لا يخيفني، وإنني لن أرغم نفسي على السكوت عن باطل لمجرد أن اليمين يردده لأغراض أخرى مضادة تماما لأغراضي، وإنني كنت أنبه إلى هذا الباطل قبل أن تهبط على اليمين، في أيامنا هذه، الشجاعة المفاجئة التي جعلته يتشدق به، وإن المنطق السليم يفرق تماما بين النقد ، من حيث مضمونه الفعلي، وبين المصدر الذي يأتي منه هذا النقد.
على أن الأستاذ عودة لا يقف عند هذا الحد، بل يكاد يجعلني جزءا من مؤامرة يمينية هدفها التنكيل باليسار، ويؤكد أن الوقت الذي اخترته لكتابة مقالاتي يخدم في النهاية أهداف اليمين، ولو كان قد فهم مقالاتي جيدا، لأدرك أنه لا شيء يضر بقضية اليمين، في هذه الأيام بالذات، أكثر من أن ينتزع منه ذلك السلاح الذي أعترف آسفا بأن اليمين قد استخدمه ببراعة، وهو استغلال أوجاع الشعب المترتبة على التجربة السابقة من أجل كسب أرض جديدة لنفسه، وليس هناك وقت أنسب من الوقت الحالي لتنبيه اليسار إلى هذه الحقيقة قبل فوات الأوان، وإن كنت أعترف بأن الردود التي قرأتها تجعلني أميل إلى التشاؤم من قدرة اليسار على الخروج عن جموده القديم.
وقرب نهاية مقال الأستاذ عودة، يلمح تلميحا غريبا إلى أن انتقادي للتجربة الناصرية يستهدف إعادة الديموقراطية الرأسمالية، وهو اتهام لا يليق توجيهه لأستاذ كتب ضد الرأسمالية بصراحة في كتاب رسمي ظل مقررا على طلبة الجامعات المصرية كلها، في المادة القومية لمدة سنوات عديدة (وهو كتاب «الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية») وأسهم بذلك في فضح الرأسمالية أمام عقول الشباب المصري الجامعي بأكثر ما أسهم به نقادي مجتمعين.
لقد ساير الأستاذ محمد عودة زميله أبو سيف يوسف في الكلام عن التناقض المزعوم بين ما كتبته في عام 1970م وما كتبته في 1975م، وأخذ أقواله، بكل ما فيها من أخطاء، دون أي تحقيق أو تدقيق، بل إنه أضاف إلى ذلك جملة أخيرة اختلقها اختلاقا، ولم أجد في كل ما كتبت عن هذا الموضوع. فأرجو إذا كان صادقا، أن يحدد لي المقال والصفحة اللذين ظهرت فيهما تلك الجملة المنسوبة إلي، كما أرجو أن يطمئن إلى أنه لو طال العمر به وبي حتى عام 1995م فلن يجد تغييرا في مواقفي الأساسية، وكل أملي هو أن يتمكن من أن يقول عن نفسه شيئا مماثلا.
مشكلات أثارها الحوار
ولا أود أن أكتفي، في مناقشة الردود التي وجهت إلى مقالاتي، بالملاحظات التفصيلية التي طرحتها بل إن من المفيد لصالح هذا الحوار بأكمله، أن أناقش الاتجاهات العامة التي كشفت عنها ردود النقاد، والمشكلات التي أثيرت فيها.
ومن الممكن تصنيف هذه المشكلات إلى فئات ثلاث: الأولى تتعلق بنطاق دراستي السابقة والهدف منها، والثانية بالمنهج الذي اتبعته فيها، والثالثة بمضمون هذه الدراسة.
الثورة ... غير التجربة
ولأبدأ أولا بنطاق الدراسة وهدفها، فقد تصور بعض النقاد أن دراستي منصبة على تقييم حكم عبد الناصر، أو أنني أقوم بمحاكمته، وعلى الرغم من أن جزءا كبيرا من دراستي هو بالفعل تقييم، فإن هذا التقييم لم يكن مقصودا لذاته، بل إن الهدف الحقيقي هو القيام ببحث نقدي للعلاقة بين اليسار والتجربة الناصرية، وقد قمت بهذا البحث، لا من أجل تقديم سرد تاريخي مفصل لهذه العلاقة، بل بهدف تقديم رأي مخلص إلى اليسار، أبين فيه أن النكسة التي تعانيها الاشتراكية في الوقت الراهن لا ترجع إلى ضراوة هجمات اليمين ورغبته في استعادة نفوذه فحسب، بل ترجع أيضا إلى أخطاء سابقة لليسار، هذا هو الهدف الأصلي، وكل ما عدا ذلك وسيلة لتحقيق هذه الغاية.
وقد استخدمت تعبير التجربة الناصرية لأن هدفي لم يكن الحديث عن عبد الناصر شخصيا، وإنما عن تجربة كاملة، أسهم فيها عبد الناصر نفسه، وأسهم فيها جهاز كامل أحاط نفسه به، وصحيح أن بعض أقطاب هذا الجهاز كانوا يتغيرون من آن لآخر - وهو ما أصبح يعرف باسم تغيير مراكز القوى، التي شهدنا منها حتى عام 1970م «أجيالا» ثلاثة على الأقل - ولكن المهم أن السمات المميزة للتجربة ككل كانت هي موضوع اهتمامنا، أيا كان الدور الذي أسهم به عبد الناصر شخصيا أو أسهم به المحيطون به.
وبهذا المعنى يكون هناك فارق واضح بين تعبيري «التجربة الناصرية» و«ثورة 23 يوليو» فالتجربة الناصرية كان لها نطاق محدد، بدأ منذ أحداث ربيع سنة 1954م، وانتهى في 9 يونيو 1967م؛ لأن السنوات الثلاث التي أعقبت ذلك لم تكن سوى رد فعل على هزيمة يونيو، ولم تكن حرية الحركة أو المبادرة مكفولة فيها للتجربة الناصرية، ومن هنا فإن التجربة الناصرية أضيق في نطاقها الزمني من ثورة 23 يوليو، ومن جهة أخرى فإن ثورة 23 يوليو ما زالت قابلة لمزيد من التطورات في الحاضر وفي المستقبل، وهي تطورات قد تختلف في قليل أو كثير عما كان موجودا في فترة التجربة الناصرية؛ ولذلك كله لا يكون هناك معنى لاتهامي بأنني تجنبت ذكر ثورة 23 يوليو بالاسم، أو بأنني كنت أهدف إلى «إهالة التراب على ثورة 23 يوليو».
ستالين مرة أخرى
وقد أثارت المناقشة مشكلات طريفة وهامة تتعلق بالمنهج الذي اتبعته في دراستي، وكان أهم الاعتراضات التي وجهت إلي في هذا الصدد اعتراضين رئيسيين: أولهما أن نظرتي إلى الموضوع كانت جزئية ولم تكن شاملة، والثاني أن رؤيتي كانت «مكتبية» أي نظرية تجريدية أكثر مما ينبغي.
أما عن النقد الأول، القائل إن نظرتي لم تكن كلية أو شاملة، فقد تمثل بوضوح فيما كتبه الأستاذ أديب ديمتري في بداية مقاله، وإن لم تخل منه بعض الردود الأخرى. ولست أدري من أين أتى اعتقاد الناقد بأنني أحاكم عبد الناصر شخصيا، وأبني أحكامي السياسية على أسس أخلاقية، ومن ثم فإنني أقيم لعبد الناصر «محكمة للآلهة» أحسب فيها حسناته الشخصية وسيئاته لكي أحدد إن كان يستحق الجنة أو النار، هذا الكلام لا أساس له على الإطلاق في دراستي التي حذرت فيها مرارا من الخلط بين الاعتبارات الأخلاقية والاعتبارات السياسية، ولم يكن إصراري على استخدام تعبير «التجربة الناصرية» إلا دليلا على رغبتي في تجاوز أسلوب الحكم على شخص فردي بعينه.
وربما كان الخلاف الحقيقي في هذا الصدد راجعا إلى اعتقاد الأستاذ أديب بأن الناصرية لا يصح، من وجهة نظر المنهج العلمي، أن تبحث إلا كظاهرة عامة في بلاد العالم الثالث، ولكن الذي أعلمه هو أن تجارب التحرر الوطني في هذه البلاد لم تكن كلها «ناصرية» أي أن الناصرية كانت جزءا من كل أعم منها وبهذا الوصف فهي تشترك مع حركات التحرر الوطني الأخرى في سمات معينة، وتنفرد بسمات أخرى هي التي تجعلها تجربة قائمة بذاتها. وليس المنهج العلمي السليم هو وحده الذي يبحث في السمات المشتركة بين جميع التجارب، بل إن بحث السمات النوعية المميزة لهذه التجربة بالذات يمكن أن يكون بحثا علميا بمعنى الكلمة، وأخشى أن يكون الأستاذ أديب لا يزال متأثرا بموقف أرسطو الذي يقول إنه «لا علم إلا بما هو عام» في الوقت الذي اعترف فيه العلم الحديث بإمكان قيام دراسة علمية لما هو نوعي متميز.
أما الشق الآخر من هذا النقد، فيقول إن الأخطاء التي نبهت إليها يسيرة إذا قيست بالصورة الكلية لإنجازات التجربة الناصرية، وهو نقد كنت أتوقعه في دراستي السابقة، ورددت عليه مقدما، ولكن لا بأس من أن أضيف الآن مثلا آخر، فيه ذكرى تنفع المؤمنين . فقد حوكم ستالين بعد موته (وأنا آسف إذا كنت قد عدت مرة أخرى إلى الكلام عن ستالين، ولن تكون هذه المرة هي المرة الأخيرة، لا لأنني - أشبه كلا من الحالتين بالأخرى، بل لأن للمثل دلالة بالغة في موضوع دراستنا) وكانت محاكمته لأسباب من هذا النوع الجزئي الذي لا يعجب نقاد مقالاتي. فمع كل إنجازات ستالين الخارجية والداخلية الهائلة، أدانه خلفاؤه من أجل الاستبداد بالرأي، ونشر عبادة الفرد، واضطهاد الخصوم بمحاكمات صورية ... (وربما أضفنا أن القائمة لم تكن تشمل استغلال أعوانه لنفوذهم أو عدوانهم على أموال الشعب) ومع ذلك لم يقل أحد إن خلفاء ستالين قد نصبوا له «محكمة الآلهة» وإن مقياس الحكم عليه كان ينبغي أن يكون أوسع وأشمل.
وأنتقل الآن إلى النقد الثاني الذي وجه إلى منهجي في الدراسة، وهو أنه كان منهجا «مكتبيا» ولقد كان الأساس الأكبر لهذا النقد هو نوع المهنة التي أمارسها؛ إذ أشار الكثيرون، بالغمز تارة وبالتصريح تارة أخرى، إلى أن أستاذ الفلسفة يعالج هذه الموضوعات كما لو كانت مشكلات فلسفية تجريدية. وأعجب ما في الأمر أن معظم نقادي كانوا من دارسي الفلسفة! ولكن هذه، على أية حال حجة لا أكترث بها؛ لأن ما يعنيني هو مضمون الكلام فقط.
والأمر الذي أومن به إيمانا عميقا هو أن عدم انتمائي إلى اليسار «المحترف» (وهو لفظ لا أستخدمه على سبيل السخرية أو التنديد، بل على سبيل التمييز فقط)، يعطيني حرية في التفكير والتحليل قد لا تتوافر لدى الكثيرين ممن تقيدهم «النظريات» أكثر مما ينبغي، فهؤلاء تجدهم يستخدمون في تحليلاتهم مجموعة محدودة من الألفاظ والمصطلحات، يحشرون فيها كل الظواهر حشرا، وكلما طرأ واقع جديد لجئوا إلى ما أسميه بأسلوب تفنيط الكوتشينة: إذ تفنط مجموعة المصطلحات المعروفة والمستخدمة دائما، بطريقة مختلفة، وكأننا بذلك قد فسرنا كل موقف جديد، هؤلاء هم الأكثر تعرضا، «للرؤية المكتبية» من غيرهم، وإنا لنعلم جميعا كيف أن اليسار في مصر وسوريا ولبنان قد أعاد تقييم التجربة الناصرية مرات متعددة، وكان في كل مرة يتصور أن هذا التقييم هو وحده العلمي، وأن من يصدر تقييما مخالفا لا بد أن يكون «مكتبي» الرؤية.
ولأضرب في هذا الصدد مثلا عايشته بنفسي في السنوات الأخيرة: ففي أيام العبور الأولى، وفي الوقت الذي كنا فيه جميعا نحبس أنفاسنا مبهورين من الإعجاز الذي حققه الجندي المصري، سمعت بنفسي يساريين (من حسن الحظ أنهم قلة، ولا يمثلون الجميع)، يفسرون ما حدث في السادس من أكتوبر بأنه محاولة البورجوازية المصرية لتلهية الشعب في مغامرة خارجية بعد أن تراكمت عليها المشاكل وخنقتها المتناقضات! هكذا كانت «تفنيطة الكوتشينة» في ذلك الحين، ومن الجائز أنها «فنطت» فيما بعد - بالنسبة إلى هذه الظاهرة نفسها - بطريقة مختلفة، ولكن المهم أن التقيد المفرط بمقولات نظرية معينة، توصف بأنها وحدها العلمية، هو الذي يؤدي إلى الرؤية المكتبية.
وفي اعتقادي أن الرؤية المكتبية هي التي تعلل استنكار نقادي ودهشتهم مما قلته عن تخريب التجربة الناصرية لنفس الإنسان المصري؛ ذلك لأن هذه حقيقة كان كل مصري يعايشها بنفسه، حين يتكلم في بيته لغة معينة ويتكلم في أي مكان عام لغة أخرى، بل إن اليساريين الذين انتقدوني لو كانوا صرحاء مع أنفسهم لاعترفوا بأنهم كانوا بدورهم يستخدمون هذه اللغة المزدوجة على أوسع نطاق.
ولكن، لم نذهب بعيدا؟ لقد كانت «سنوات الواحات» هي ذاتها دليلا حيا على ما أقول؛ ذلك لأن اليساريين الذين قضوا سنوات الاعتقال الرهيبة في هذا المنفى النائي، إذا تمسكوا بالدفاع عن التجربة الناصرية ضد تهمة تخريب نفس الإنسان المصري، فسيكون عليهم أن يعترفوا بأنهم اعتقلوا؛ لأنهم كانوا يستحقون ذلك، ولما كانوا بالطبع لا يرضون لأنفسهم بهذا الوصف - ولا أنا أرضاه لهم - فلا بد أن يكون ما حدث لهم من تعذيب وتنكيل وصل إلى حد القتل، نموذجا حيا لما أعنيه، وإذا كانوا هم قد تحملوا العذاب بشجاعة وخرج معظمهم من المحنة سالما، فكم من المواطنين الآخرين كان يستطيع أن يتحمل ذلك دون أن تخرب نفسه؟ وكم من الذين ظلوا خارج المعتقلات لم يلجم الخوف لسانهم، ويلوذوا بالسلبية أو النفاق خوفا من أن يلقوا نفس المصير؟
إن نقادي هم أنفسهم تجسيد للفكرة التي أقولها، ومع ذلك فقد استنكروها بشدة، وهذا أمر ليس له من تعليل سوى أن الرؤية المكتبية قد غلبت لديهم على الواقع الذي عاشوه وعاشه غيرهم يوما بيوم؛ ذلك لأن كل شيء كان على ما يرام، وأن الإنسان المصري تحرر و«رفع رأسه» ... إذن فليسقط الواقع، ولتسقط التجربة اليومية!
اليمين وآلام الناس
فإذا انتقلت الآن من مناقشة المسائل المنهجية إلى المضمون نفسه، فإني أود أن أقدم إيضاحا لبعض الأمور التي التبست على نقادي، وأرد في الوقت نفسه على أسئلتهم التي تصوروا أنها محرجة.
فقد استنكر البعض (فتحي خليل وفيليب جلاب) تلك العبارة التي قلت فيها إنه إذا استغل اليمين ما أكتب، فسيكون الخطأ في ذلك خطأ اليسار أيضا، ورأوها عبارة متجنية، أو غير مفهومة، على أن المعنى المقصود، ببساطة، هو أن اليسار إذا حاول اتهامي بأنني أخدم قضية اليمين وأردد شعاراته، وإذا تصور أن أي نقد للتجربة الناصرية لا يمكن أن يصدر إلا من منطلق يميني، فإنه بذلك يعطي اليمين فرصة ذهبية؛ لكي يستغل ما أقول لصالحه. وقد حدث بالفعل ما توقعت، ولمح فتحي خليل إلى أنني أخدم اليمين بطريق غير مباشر، وزادت جرعة الصراحة عند فيليب جلاب، واقتربت من الاتهام بالعمالة لليمين عند أبو سيف يوسف، أما محمد عودة فكان في هذا الاتهام أصرح الجميع.
والأمر الذي لن أمل من تأكيده هو أن هجمة اليمين الضارية في هذه الأيام ليست مبنية على فراغ، بل هي تستغل عيوبا ونقاط ضعف أساسية كانت موجودة بالفعل، ومصدر قوة الهجمة اليمينية هو أنها تضرب على نغمة أوجاع الناس وشكاواهم، ثم تنحرف بالناس - بعد أن تكتسب ثقتهم - في اتجاهها الخاص، ولتحقيق مصالحها الجشعة. أما عن نفسي فقد كنت أشير إلى هذه العيوب صراحة في الوقت الذي كان اليمين فيه لا يزال يحرق البخور للتجربة الناصرية؛ ولذلك فإني لا أشعر إزاء اتهامي بالعمالة لليمين إلا بالازدراء، ولا أقابل هذا الاتهام إلا بالترفع.
وكم كنت أود أن يسير اليسار في طريقه المستقل، ويكشف مدى تباعد هذه التجربة عن الاشتراكية بمعناها الصحيح، وعندئذ كان الطريق سيصبح مسدودا أمام اليمين ولو كان اليسار أبعد نظرا لما واجه هجمة اليمين بالإصرار على إنكار حقائق لم تعد تخفى على أحد، أو بالإقلال من أهمية ظواهر عانى منها الناس أفدح الآلام، بل لكانت طريقة مواجهة هذه الهجمة هي فضح الأغراض الخبيثة التي يسعى إليها اليمين، وبهذا الأسلوب وحده كان اليسار يستطيع أن يضمن احترام الجماهير، التي لم تعد تحتمل تسترا على الجرائم، وكان يستطيع أن يجرد اليمين من أقوى سلاح يستخدمه في مهاجمة اليسار، وفي تضليل الشعب.
ومن ناحية أخرى فإن بعض النقاد رأوا ما قلته عن دلالة استقبال الشعب لنيكسون هو كلام غير مقنع، وإلا فكيف نعلل خروج جموع أكبر بكثير يوم جنازة عبد الناصر، وفى 9، 10 يونيو؟ وردي على ذلك هو أن يوم الجنازة ويوم الهزيمة كانا مقترنين بانفعال شديد، صدمة مفاجئة، أما استقبال نيكسون فقد جاء في أعقاب معركة كانت فيها أسلحة نيكسون تقتل شبابا من كل قرية استقبلته بالترحاب، وليس أقوى من ذلك دليلا على مرارة التجربة السابقة، وتعلق الناس بأمل كاذب.
على أن استقبال نيكسون ليس هو المظهر الوحيد لخيبة أمل الناس في التجربة الاشتراكية. فهناك مظاهر أخرى مثل رد فعل رجل الشارع العادي - وليس فقط أصحاب المصالح - على خروج الخبراء السوفيت، وربما كان المظهر الأكثر دلالة، والذي تعبر عنه أرقام وإحصاءات، هو أن جريدة اليمين أصبحت أوسع الجرائد انتشارا، والتغيير الوحيد الذي طرأ على هذه الجريدة هو أنها أصبحت تعزف باستمرار، وبطريقة مملة، على نغمة الظلم والاضطهاد وسلب أموال الشعب، واختفاء سيادة القانون في أيام التجربة الناصرية.
ولكم أود لو قام واحد أو مجموعة من شباب الباحثين في العلوم الاجتماعية بإجراء دراسة استقصائية على عينات مختلفة من الفئات الشعبية، يستكشف فيها الجوانب المختلفة لمفهوم الاشتراكية لديهم، ويستطلع ردود أفعالهم إزاءها، ولا شك أن دراسة كهذه، إذا أجريت بدقة، ستغنينا عن جدل كثير، وستبين بجلاء إن كانت التجربة السابقة قد نجحت، أو أخفقت في تقريب معنى الاشتراكية إلى أذهان الناس وفي زيادة تمسكهم بها.
إن مشكلة اليسار تنحصر، في رأيي، في أنه يتغاضى عن الأخطاء الجسيمة كما لو كانت الإنجازات تلغيها أو تحجبها ولا يكتفي بذلك، بل يفرض على هذه الأخطاء ستارا من الصمت لمجرد أن اليمين أصبح في هذه الأيام يقول بها. وهنا أجد نفسي مضطرا للعودة مرة أخرى - وأخيرة - إلى مثال ستالين؛ ذلك لأن كل ما أدين بسببه ستالين كان قد تردد على ألسنة اليمين العالمي طوال ما يقرب من ثلاثين عاما قبل إدانته في بلاده، ولكن أحدا لم يقل لخلفاء ستالين الذين أدانوه ما يقوله لي اليساريون المصريون اليوم: إنكم تخدمون اليمين لأنكم ترددون نفس اتهاماته!
أما أنا فلست أعتقد أن تدهور مستوى الخدمات والمرافق، وانتشار الأمية وهبوط مستوى التعليم، وشيوع السرقات والاختلاسات، والاستخفاف بالقانون وإشاعة الرعب والجبن والنفاق؛ لست أعتقد أن هذه أمور هينة، أو أن إنجازا آخر يمكن أن يغفر لأي نظام في الحكم تفريطه فيها.
ولست، أعتقد أن في وسعنا استبعاد هزيمة 5 يونيو ببساطة على أساس أن المهم هو الوقوف في وجه الإمبريالية العالمية، فهذه الهزيمة، التي يمر عليها اليسار المصري مرا سريعا وكأنها مجرد انتكاسة عابرة، ستظل آثارها البعيدة المدى تؤثر فينا حتى أواخر القرن الحالي على الأقل، حتى لو أزلنا على الفور آثارها المباشرة؛ وهي احتلال الأرض. وإذا كان اليسار يصورها بأنها مؤامرة خسيسة من الإمبريالية العالمية للقضاء على تجربة اشتراكية، فإني أضيف إلى ذلك أنه لولا التفسخ والانحلال الداخلي لهذه التجربة ذاتها لما نجحت الإمبريالية في مؤامراتها؛ إذ إن هذه المؤامرات مستمرة ليل نهار، ومع جميع الشعوب، ولكنها تنجح مع البعض ولا تنجح مع البعض الآخر، أما في حالتنا نحن فقد نجحت بامتياز، وإلى مدى لم تكن هي ذاتها تحلم به.
ولهذا السبب أحسست بالدهشة والألم حين قرأت منشور الدعاية الطويل الذي كتبه الأستاذ محمد عودة عن السياسة الخارجية في عهد التجربة الناصرية، والذي جعل فيه السياسة هي المحك الوحيد لنقد الثورة، فقال بالحرف الواحد: «يقاس نقد الثورة - إذا كان علميا وموضوعيا ونزيها - بإنجاز واحد: هو ما حققته للقضية المصرية.» متجاهلا بذلك كل المقاييس الأخرى المتعلقة بحياة الإنسان وأمنه وطمأنينته وحرياته ومأكله وصحته وتعليمه، بل متجاهلا التداخل الوثيق بين هذه العوامل الداخلية وبين أي تحرك يمكن تحقيقه بالنسبة إلى القضية المصرية، والأمر المؤسف هو أن الأستاذ عودة لم يعمل أي حساب لذلك الانهيار الذي طرأ على معياره الوحيد - وهو القضية المصرية - بحيث أعادها نصف قرن إلى الوراء بعد 5 يونيو ووصل ذلك التجاهل إلى ذروته حين قال: «إذا كانت قد حدثت أخطاء في السياسة الخارجية العربية أو الدولية، فإنها لم تقض علينا ولم تكسرنا ولكنها عركتنا.»
أرأيتم إلى أي حد يزيف اليسار الناصري تاريخنا بعد5 يونيو؟
سؤال ورد غطائه
وهنا يأتي أوان الإجابة عن سؤال وجهه إلي، على سبيل الإحراج، عدد كبير من نقادي، وهو: إذا كانت التجربة الناصرية فاشلة في مجال الاشتراكية إلى هذا الحد، فلماذا حاربها اليمين بضراوة؟ ولماذا تآمرت عليها الإمبريالية العالمية؟
أما عن اليمين، فأنا لم أقل في أي وقت أنه انتفع من التجربة الناصرية، بل إنني أعترف بأنه أصيب بأضرار بالغة تفسر هجومه الحالي عليه، ولكن المشكلة هي أن الضربة التي وجهت إلى اليمين لم تكن لحساب الاشتراكية الحقيقية، بل لحساب النظام نفسه، وهذا هو العنصر المميز، والفريد، في التجربة الناصرية.
وأما الإمبريالية العالمية، فإن هجومها على التجربة الناصرية يرجع، في رأيي، إلى اعتبارات التوازن الدقيق بينها وبين المعسكر الاشتراكي العالمي، فقد توسع الوجود السوفيتي في أواخر العهد الناصري إلى الحد الذي قررت معه الإمبريالية العالمية ضرورة توجيه ضربة إليه، وكان هذا الوجود، بالنسبة إلى التجربة الناصرية، إجراء تكتيكيا، أما بالنسبة إلى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة فكان إجراء استراتيجيا أي أن ما كانت التجربة الناصرية تراه سياسة مرحلية تخدم أغراضا مؤقتة، كان في نظر العملاقين الدوليين سياسة بعيدة المدى، تؤثر على التوازن الدقيق الذي يحرص عليه كل طرف إزاء الآخر.
وهكذا كانت المساعدات الأمريكية لإسرائيل ، قبل حرب يونيو وأثناءها وبعدها، موجهة في المقام الأول ضد النفوذ السوفيتي لا ضد التجربة الناصرية من حيث هي نظام داخلي، على أنه كان من النتائج التي ترتبت على هزيمة 5 يونيو، بطبيعة الحال، كشف البناء الهش للاشتراكية المطبقة محليا، وأظهر عيوبها من خلال منظار مكبر، فكان ذلك مكسبا آخر لم تتردد الإمبريالية العالمية، ولا اليمين المحلي، في استغلاله لتشويه سمعة الاشتراكية كمبدأ، لا كتجربة محلية فاشلة فحسب.
لقد استكملت هذه الاشتراكية المحلية معظم المقومات الشكلية لأي تجربة اشتراكية: تصفية الإقطاع ورأس المال المستغل - التمصير ثم التأميم - إقامة قطاع عام قوي واسع النطاق ... كل ما تتطلبه الاشتراكية كان موجودا، فيما عدا شيئا واحدا، هو لب الاشتراكية، وقلبها، وجوهرها، هذا الجوهر الذي افتقده الشعب المصري، وهو الذي لم تفتقده شعوب أخرى تغلغلت الاشتراكية في حياتها وفي وجدانها، فوقفت تدافع عنها حتى آخر قطرة من دمائها.
ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس فقدان هذا «الجوهر» على قدرتنا على الصمود أمام الإمبريالية، وهكذا حدث الانهيار بسرعة، وكانت الإمبريالية هي الرابحة في نهاية الأمر.
والحق أن الكفاح ضد الإمبريالية العالمية ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة تستهدف آخر الأمر غاية عليا، هي النهوض بالإنسان وإتاحة الفرصة أمامه لكي يمارس قدراته وملكاته الإبداعية دون قهر أو ظلم، وكل المكافحين الكبار ضد الإمبريالية كانوا يعرفون هذه الحقيقة، ويرددونها خلال كفاحهم، وهكذا كانت الإمبريالية، في نظرهم، قوة غاشمة تتسلط على الإنسان، وعقبة كبرى في طريق نموه السليم، ولذلك فلا بد من إزاحتها من الطريق، أما أن يكافح نظام ضد الإمبريالية ويسحق الإنسان في داخله، فإنه يكون بذلك قد ناقض نفسه، وحكم على كفاحه بالإخفاق.
تهمة الرشوة
بقيت نقطة أخيرة لا أود أن أتركها دون إيضاح، وهي ما قيل من «رشوة» الماركسيين فقد استخدم فتحي خليل تعبير «الرشوة» في سؤال وجهه إلى نجيب محفوظ، فكان من الطبيعي أن يرد عليه بالنفي القاطع، ولست أختلف مع الإجابة في شيء، بل إن اختلافي كله مع السؤال.
إنني أعترف بأن عدد الماركسيين الذين تولوا مناصب هامة ليس كبيرا، وبأن معظمهم كانوا من أصحاب المواهب والكفاءات؛ ومن ثم لم تكن هذه المناصب أكبر مما يستحقون، ولكن العبرة ليست بعدد من تولوا المناصب من اليساريين، وإنما كان هؤلاء هم «واجهة» اليسار أمام الشعب، ومن ثم فإن ارتباطهم بالتجربة لا بد أن يترتب عليه ارتباط أعم بين اليسار ككل، وبين التجربة الناصرية في نجاحها أو إخفاقها، حتى لو كان هناك قطاع من اليسار قد رفض هذا الارتباط (وهو ما حدث فعلا).
ومن جهة أخرى ليست المسألة هي كون هؤلاء اليساريين يستحقون هذه المناصب أو لا يستحقونها، بل إن لب المشكلة هو أن تولي الثوريين اليساريين لهذه المناصب كان معناه أنهم أصبحوا يسيرون في طريق غير ذلك الذي نذروا أنفسهم له، وأن ارتباطهم بالسلطة وتكوينهم جزءا منها، كان معناه تقديم تنازلات، قد تكون بسيطة في البداية، ولكنها تزداد بالتدريج إلى أن ينتهي الأمر إلى مرحلة التبرير المطلق لكل الأخطاء، ولعلنا جميعا نذكر كيف وصل الأمر ببعضهم إلى استعداد السلطة على زملاء سابقين لهم في الكفاح.
أما لفظ «الرشوة» فهو لفظ سطحي لا يعبر أبدا عن حقيقة ما حدث؛ فالرشوة تقدم إلى من لا يستحقها، ولم يكن اليساريون غير جديرين بما نالوا، ولكن كل ما في الأمر هو أن هذا ليس هو الطريق الذي كرسوا حياتهم له، وعلى حين أن الرشوة عملية بسيطة مباشرة، فإن ما حدث مع هؤلاء اليساريين كان موقفا دراميا شديد التعقيد، عناصره سنوات الاعتقال والتعذيب السابقة، والمنصب الجديد المعروض، والاعتقاد بأن الأهداف التي كانت غاية قصوى للكفاح الطويل قد تحققت وبأنه لم يعد هناك ما يمنع من المشاركة في الحكم، وأكاد أجزم بأن معظم من تعرضوا لهذه التجربة قد مروا، في لحظة أو أخرى، بأزمات نفسية حادة ناجمة عن التوتر بين الواقع والمثل الأعلى المنشود.
وبالاختصار، فقد كان في الكلام عن «الرشوة» تسطيح للمشكلة لا أوافق عليه، ومن ثم فإن نفي تهمة الرشوة لا يتعارض مع موقفي الأساسي في شيء.
كلمة ختامية صريحة أود أن أوجهها إلى اليساريين المصريين الذين أغضبتهم مقالاتي، ولخص فيها جوهر القضية:
إنكم تتمسكون بأن الدفاع عن الاشتراكية ينبغي أن يرتبط بالدفاع عن التجربة الناصرية، وتتصورون أن هذا هو وحده الطريق الكفيل بصد هجمات اليمين.
وأنا أقول إن الاشتراكية لن يكون لها مستقبل في هذا البلد، حتى المدى المنظور، إلا بالفصل بينها وبين التجربة السابقة، وكشف أخطاء هذه التجربة بصراحة، والسير في سياسة جديدة، وطريق جديد، يواجه الشعار الذي يرفعه اليمين، وهو «لنجرب شيئا آخر عن فقر الاشتراكية وذلها»، بشعار مضاد هو: «... ولكن الاشتراكية أفضل كثيرا من كل ما عرفتم».
هذا ما تقولونه، وهذا ما أقوله.
وبيني وبينكم التاريخ.
الرأي العام يرد على فؤاد زكريا
لم يسبق في تاريخ روز اليوسف أن تلقت من قرائها مثل الرسائل التي أمطروها بها ردا على مقالات الدكتور فؤاد زكريا المثيرة: «جمال عبد الناصر واليسار المصري»، لا من حيث عدد الرسائل فقط، ولكن أيضا من حيث طولها، وحرارتها، وذكاؤها، وأحيانا، شتائمها! ولأن هذه الرسائل تمثل، بتنوعها وصدقها وبساطتها، حكم الرأي العام في القضية التي أثارها الدكتور زكريا؛ فقد كان محالا أن نتجاهلها، ولكن كان محالا أيضا أن ننشرها؛ لأنها تحتاج إلى عدة آلاف من صفحات «روز اليوسف» يستغرق نشرها على الأقل عشرة أعوام!
وللخروج من هذا المأزق، فإن روز اليوسف قد قررت أن تكتفي بنشر نماذج وفقرات من الردود التي وصلتها تلخص بها الاتجاه العام لكل ما تلقته من رسائل حول هذه القضية.
وفيما يلي هذه النماذج والفقرات.
كان اليسار ينقد عبد الناصر واليمين يحرق له البخور
إنني كناصري لا أعتقد أن عبد الناصر كان فوق مستوى الخطأ، وهو في نفس الوقت لم يكن دون مستوى الصواب، وأعتقد أن اليسار بوجه عام، والناصريين منهم بوجه خاص لم يوجهوا النقد للتجربة بالرفض المطلق والتعصب الحنبلي في أي وقت من الأوقات، بل إنهم قد وجهوا النقد للتجربة أثناء حياة عبد الناصر وفي عنفوان التجربة منتقدين تجاوزات الأجهزة، والمكتبية في العمل، والبيروقراطية الناشئة، والطبقة الجديدة الطفيلية التي تسلقت إلى موقع السلطة والنفوذ ومارست الاستغلال من خلالها.
وكان اليسار في نقده هذا يهدف إلى إثراء التجربة والتطور بها في خط صاعد نحو أهداف الثورة التي تكفل الحياة الكريمة للشعب، أما ما رفضه اليسار فهو النقد الهدام الذي يصطاد السلبيات والأخطاء ليجعل منها مبررا لهدم كل ما أنجز والنكوص ربع قرن إلى الوراء.
وعندما يصف اليسار هذه الفلول باللاأخلاقية؛ فلأنها في الوقت الذي كان اليسار فيه يمارس النقد البناء في داخل التجربة أيام عبد الناصر، كانت هذه الفلول تحرق له البخور وتلقي قصائد المديح والثناء، في سبيل الحفاظ على مواقعها.
ثم إذا بها تنقلب مرة واحدة بعد موت عبد الناصر؛ لتحمل المعاول وتنهال على التجربة بهدف تدميرها.
واليسار الآن يمارس نقد التجربة بنفس الروح وبواسطة وسائل التعبير المختلفة.
لا عبد الناصر ادعى أن التطبيق الاشتراكي قد تم، وأن الاشتراكية قد تحققت بل إن العملية هي «تحول نحو الاشتراكية»، ولا يتم تذويب الفوارق بين الطبقات إلا بعد بلوغ مرحلة متقدمة في التطبيق، وقول الكاتب إنه لا يستطيع أن يعترف بالتحول الذي أنجز لأنه لم يحقق النتائج النهائية هو قول يفتقر إلى الرؤية المستقبلية.
أما ما أورده الكاتب عن أن الدولة تفرض سيطرتها على وسائل الإنتاج والمال لإبعاد خطر سيطرة الطبقة الغنية عليه، ولإخضاعه لخدمة جهاز الدولة، ثم الحجة التي أوردها بشأن المواجهة مع هذه الطبقات في سوريا عندما بدأت التأميمات هناك أيام الوحدة، فإني أعتقد أن الكاتب قد استنتج تلك الحقيقة بشكل خاطئ، إذ إن المعروف أن الرأسمالية هللت لقرارات التمصير التي أخرجت الشركات الأجنبية؛ لأن ذلك يتفق ومصالحها، بل إن هذه الطبقة تصورت أن الثورة ستسلمها هذه الشركات الأجنبية، وهذا هو سبب ترحيبها بتلك القرارات في حينها ولكنها وقفت ضد الثورة بكل قواها عندما حسمت الثورة موقفها لصالح الطبقات الكادحة، واختارت الاشتراكية طريقا للتنمية ولتحقيق العدالة الاجتماعية وعندما أصبحت القوة الاقتصادية في أيدي هذه الطبقة خطرا على الثورة.
أما عن انعدام الرقابة الشعبية على الأموال العامة والقطاع العام، فلعل هذا هو من أبرز الأخطاء في التجربة، ولعل أحد الاقتراحات الإيجابية التي طرحت أخيرا هو نشر ميزانيات شركات القطاع العام وإخضاعها للرقابة الشعبية.
ولكن القول بأن الثورة قد سيطرت على مرافق الإنتاج لتمويل مغامراتها وشراء الأنصار والأعوان في الداخل والخارج فهو منتهى التحيز؛ إذ إن دعم ثورات التحرر الوطني على امتداد الوطن العربي وأفريقيا وآسيا ليس مغامرات، بل هو دليل على الوعي العميق بوحدة قضية التحرر في الوطن العربي، وفي العالم كله ضد عدو مشترك.
ولعل أكبر دليل على ذلك أن الثورة لم تفرض على أعوانها في الخارج تبعية للنظام السياسي والاجتماعي، بل إنها أقرت منذ بدايتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، وظهر ذلك في قضية السودان، كما أن عبد الناصر رفض أن يستخدم القوة وإراقة الدماء ضد القوى العميلة التي ارتكبت جريمة الانفصال، ولعل هذين الحدثين يدلان على أنه لم يكن يسعى لتمويل مغامرات أو شراء أعوان أو تكوين إمبراطورية من خلال سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج.
كما أن القول إن القاعدة في التجربة الاشتراكية هي استغلال النفوذ وإن الشذوذ هو النزاهة؛ قول موغل في التجني، يغفل دور القطاع العام في الصمود الاقتصادي، والجهد الرائع الذي بذله رجاله في الإعداد لمعركة العبور في السادس من أكتوبر .
صبحي عبد الكريم محمد
طالب حقوق، جامعة القاهرة
لماذا بعد أن مات؟
من المؤسف أنه لم تمض سنوات قليلة على رحيل القائد عبد الناصر حتى تعرض لحملة مسعورة من بعض الكتاب مظهرين سلبياته، تاركين منجزاته العظيمة.
لقد تكلم عبد الناصر عن النكسة قبلهم، وقال: «أنا با تحمل المسئولية كلها، وعن كل شيء، ولكن أيضا مش أنا اللي ح أقدر أغير كل شيء في هذا البلد لوحدي. فيه ناس متصورة أن جمال لما يقول شيء ينفذه في الحال. الناس ما بتعرفش إيه اللي بيجرى في الكواليس ... إذا كانت الانحرافات حصلت في المخابرات، والمفروض هي اللي تقول لي على الانحرافات اللي تحصل في البلد، ما كانش ناقص إلا أعمل مخابرات على المخابرات، واعمل مخابرات على جهاز رقابة المخابرات.»
وبالنسبة لحرب اليمن قال عبد الناصر: «إحنا ذهبنا إلى اليمن لكي ننصر المبادئ، وساعدنا الجنوب لكي نقضي على الاستعمار، والآن هناك نظام حكم وطني في صنعاء بدون قوات مصرية.»
وأنا أسأل فؤاد زكريا: أليس نجاح ثورة اليمن سببا في تحرير الجنوب العربي؟ وأليس تحرير الجنوب العربي سببا في التحكم في مدخل البحر الأحمر في جنوب حرب أكتوبر؟
إن العيب كل العيب أن يكثر الكلام بعد الموت. هل تعرض ديجول للنقد والتجريح من الكتاب في فرنسا مثلما تعرض عبد الناصر من الكتاب في مصر؟
إنني أطلب منكم في روز اليوسف أن تنشروا هذه الكلمات:
إن الذين يظنون أنهم يهاجمون عبد الناصر نفاقا لأنور السادات واهمون، فلم يأت فرعون ليمحو أثر من قبله إلا إذا كان عاجزا.
أحمد بهاء الدين
من يملك الشجاعة لا ينتظر الموت ليمارس شجاعته.
إن في عبد الناصر جوانب كثيرة، كبيرة، موصولة بعقل ذكي ونظرة بعيدة فهو أهل لكل صفة كريمة، ولكل كلمة خير تقال فيه.
أحمد حسن الباقوري
سوف يبقى عبد الناصر يفري قلوب أعدائه.
محمد عودة
لو كانت مصر عندنا عقيدة فهي الإسلام، ولو كانت مؤسسة فهي الأزهر، ولو كانت شخصا فهي جمال عبد الناصر.
طلبة الفلبين
انشروا هذا الكلام ليرد على كل من تراوده نفسه أن ينبح مرة أخرى ضد عبد الناصر سواء كان داخل مصر أو خارج مصر.
أستحلفكم بالله أن تنشروه!
محمد قاسم عبد القادر
القباصي، الأقصر
لا تنشروا هذا الكلام!
لفت انتباهي إصرار الدكتور فؤاد زكريا على تعرية التجربة الناصرية من أي ثوب اشتراكي.
فهو يفسر الخطوات الاشتراكية بأن عبد الناصر قد ضرب الرأسمالية لمجرد شعوره بأنها خطيرة على نظام حكمه، ولم يفسر لنا سيادته لماذا أحس عبد الناصر بهذا الخطر، ما لم تكن الرأسمالية من جانبها قد أحست بأنه خطير عليها؟
ثم إن الدكتور لم يفسر لنا قيام قطاع عام مرتكز على قاعدة صناعية ضخمة، تصلح أساسا لقيام نظام اشتراكي قوي، ولم يذكر الأسباب التي حدت بجمال عبد الناصر أن يتيح لأبناء الشعب المصري فرصة التعليم حتى الجامعة بدون مصاريف، ولم يشر الدكتور إلى المعنى الحقيقي لتوزيع الأرض على الفلاحين؛ أصحابها الحقيقيين.
هذا أولا.
وثانيا: لاحظت اهتمام الدكتور الشديد بتأليب اليسار على التجربة الناصرية، بحجة الخوف من أن يفقد هذا اليسار تأييد الجماهير.
وتناسى سيادته أن هذه الجماهير لم تؤمن بشيء (بعد إيمانها بالله) قدر إيمانها بجمال عبد الناصر وبتجربته وأن هذه الجماهير هي جماهير اليسار، والدنيا كلها يا سيدي تعلم مدى الحب الجارف والمنقطع النظير الذي أعطاه هذا الشعب الوفي لجمال عبد الناصر، نعم قد يكون الشعب المصري عاطفيا ... لكن كيف تأتي هذه العاطفة؟ لماذا مثلا لم يحب الشعب الاستعمار البريطاني، وقد عاش بيننا أكثر من 70 عاما، استخدم خلالها كل وسائل الخديعة والدهاء؟!
إن هذا الشعب - مع عاطفيته - ذكي، وذكي جدا لا يمكن أن يعطي حبا بدون حساب أو بدون ثمن. إن طيبة هذا الشعب الفلاح معروفة حقا لكن دهاء هذا الشعب لا يجهله إلا جاهل.
إن أسلوب الوقيعة بين اليسار وجمال عبد الناصر هدفه الأساسي ضرب اليسار بالخط الأساسي لثورة 23 يوليو، وأرى أن اليسار هو الذي يتحمل الآن مسئولية الحفاظ على أهداف الثورة والسير بها إلى تحقيق أهدافها ... وأثق كل الثقة في أنه لن يقع في هذا الفخ المنصوب له بعناية وذكاء بالغين.
ثالثا: يكفي للتدليل على أن السيد الدكتور يغالط ويفسر الظواهر بغير حقيقيتها؛ أنه يفسر استقبال الرئيس الأمريكي السابق بأنه رفض من الإنسان المصري للاشتراكية، ويتجاهل حقيقة علم الشعب المصري بمدى نفوذ الولايات المتحدة على إسرائيل، وبالتالي على قضية الأرض المحتلة. فلقد أشار العديد من وكالات الأنباء أن طريقة استقبال السيد نيكسون في مصر قد بددت الدعايات الصهيونية في أمريكا بأن العرب يكنون الكراهية للشعب الأمريكي ... ولقد تغير فعلا بعد هذا الاستقبال التأييد الأمريكي «اللامحدود» تجاه إسرائيل، على الرغم من خروج الرئيس نيكسون من البيت الأبيض.
رابعا: أناشد روز اليوسف ألا تتيح لمثل هؤلاء الأساتذة أن يكتبوا على صفحاتها باسم اليسار وباسم المدافعين والخائفين والأوصياء عليه؛ حتى لا يختلط الأمر خصوصا على شباب ما زالوا في بداية الطريق مثلي، فلا أعرف الفرق بين الاشتراكية وبين الأستاذ أحمد أبو الفتح مثلا.
إن عندنا كتابا اشتراكيين أجلاء، يستطيعون نقد التجربة ونقد دور الاشتراكيين، ولكن من خلال حرصهم على تجربتنا الاشتراكية وعلى مسارها العام ومبادئها الأساسية.
نعم في تجربتنا سلبيات، وجل من لا يخطئ. وهناك ثغرات في البناء، ومهمة الاشتراكيين أن يغلقوا هذه الثغرات ليبنوا بعد ذلك فوق الصرح هذا الذي بناه عبد الناصر، والذي قال هو نفسه عنه رحمه الله: «إننا ما زلنا في بداية الطريق نحو بناء مجتمع اشتراكي.» كرر ذلك مرارا وتكرارا هل تذكرون؟
إنني أعرف أن كلماتي هذه لا تستطيع أن تباري أستاذا كبيرا كالدكتور حقا، ولكن الشيء الذي أعتز به وأثق فيه هو أنها صادقة ... لكونها نابعة من قلب شاب مصري أحب مصر - مثل كل شبابها - من قلب لم يلوث بعد، وأرجو ألا يلوث أبدا بإذن الله.
محمد شريف الريس
طالب علوم، جامعة القاهرة
أوهام الكهف
كنت أتمنى ويشاركني الكثير من جيلي الذين تعلموا السياسة في مدرسة «جمال عبد الناصر» ألا يكون الدكتور فؤاد زكريا، وهو الذي حذر جيلا بأكمله من خطورة الوقوع في أخطاء التعميم وأوهام الكهف عند بحث أي قضية، أول من يقع في أخطاء التعميم وأوهام الكهف، فيما كتبه عن «جمال عبد الناصر واليسار المصري».
وسوف أختار تعميمات ثلاثة، اشتملت عليها تصورات الدكتور فؤاد زكريا؛ وهي: (1)
إن اليسار المصري على إطلاقه، اتخذ موقف تبرير أخطاء التجربة والرفض التام لأي نوع من إعادة التقييم، والهجوم الشديد على كل من يتصدى للعهد الناصري بالنقد ... وكأن هذا العهد فوق مستوى الخطأ. (2)
إن التجربة الناصرية ليس لها من سمات الاشتراكية إلا اسمها، وإنها في تقديره قد أساءت إلى الاشتراكية، وعلى اليسار أن ينفض يديه من هذه التجربة الفاشلة، ويتنافس مع اليمين في إهالة التراب عليها، ويمضي الدكتور فيحذر اليسار إذا لم يسمع نصيحته فسوف يفقد شعبيته لا محالة؛ لأنه يدافع عن تجربة فاشلة أعلن الإنسان المصري سخطه عليها في استفتاء غير رسمي هو استقبال الرئيس الأمريكي السابق «نيكسون». (3)
إن الإنسان المصري خرج من هذه التجربة مختلفا في جوهره الباطن، اختلافا جذريا، وإن «الناصرية» قد قامت بعملية تخريب داخلي لعقل الإنسان المصري ووجدانه، بحيث تبلد إحساسه وأصبح يقف موقف اللامبالي، من أحداث وطنه وأمته.
هذه تعميمات ثلاثة، كانت أبرز ما فهمته مما كتب الدكتور فؤاد زكريا في روز اليوسف.
وكنت أتمنى ألا يطلق الدكتور فؤاد زكريا أحكامه، دون أن يستند إلى أدلة علمية من خلال دراسته للواقع المصري، بحيث لا يقع، كما قلت، في خطأ التعميم وأوهام الكهف.
وأقول «أوهام الكهف» ذلك أن أحكام الدكتور زكريا لا تخرج عن أحكام عدد من «المثقفين المصريين» الذين يتناولون الظواهر بصورة سطحية ... ولا يغوصون في أعماقها حتى يروا نور الحق ولو من بعيد.
ولسوف أبدأ بمناقشة التعميم الثالث، وهو الخاص بالتخريب الداخلي لعقل الإنسان المصري ووجدانه. (1)
لو أن هذا الحكم صدر عن رجل بعيد عن حركة جيل ثورة 23 يوليو لهان الأمر ... لكن أن يصدر هذا الحكم من رجل قريب من حركة الشباب المصري، بحكم موقعه في الجامعة، فهذا يدعو إلى الاستغراب والدهشة.
ولعل لا ينسى، إن لم تكن خانته الذاكرة، أن شباب ثورة 23 يوليو بالذات، والعناصر اليسارية منه بوجه خاص التي تربت في أحضان منظمة الشباب الاشتراكي التي كانت وما زالت إحدى التنظيمات التي أقامها العهد الناصري، هي التي قادت المسيرات الطلابية، عقب الهزيمة مباشرة، وطالبت ببداية جديدة للأمور ورفعت شعارات سيادة القانون والحريات، ولعل الدكتور لا ينسى الشعار، الذي توجه به شباب مصر إلى الرئيس أنور السادات وكان وقتئذ رئيس مجلس الشعب «أنور يا سادات ... فين قانون الحريات».
كان اليسار الناصري هو أول من رفع شعارات الحرية، وسيادة القانون، ووضع بداية جادة للأمور، وإسقاط كافة السلبيات التي كان اليسار أول من نبه إليها.
ولم تكن حركة اليسار الناصري هذه نابتة من فراغ ... بل إنها نتيجة التفاعل الفكري الخلاق بين اليسار الناصري واليسار القديم اللذين أتيحت لهما الفرصة أن يلتقيا في منظمة الشباب الاشتراكي عند بداية تكوينها عام 1965م.
ولم يكن اليمين سعيدا بحركة الشباب عام 1968م، بل إنه هاجمها وأدانها سواء فيما كتبته الأقلام الرجعية في تلك الفترة، بل لعل الدكتور فؤاد زكريا يذكر أن مجلس الشعب عقد جلسة عاصفة، هاجم فيها اليمين منظمة الشباب الاشتراكي، باعتبارها هي أساس بلاء الشباب «بجرثومة الاهتمامات العامة».
ولقد كانت حركة الشباب بالإضافة إلى الحركة الجماهيرية هي التي مهدت لصدور بيان 30 مارس 1968م الذي ما زال أحد الوثائق الفكرية الهامة لثورة 23 يوليو 1952م. (2)
انتصار السادس من أكتوبر المجيد، تحقق بإرادة الشباب المصري. صحيح أن القيادة السياسية خططت وكانت موفقة إلى أبعد الحدود في اختيار الزمان المناسب لبدء الهجوم، وحقيقة أن القرار كان من أعظم القرارات التاريخية، التي اتخذتها القيادة السياسية، لكن الذين وضعوا القرار موضع التنفيذ الفعلي هم جيل ثورة 23 يوليو الذي يرى الدكتور فؤاد زكريا أنهم خرجوا من تجربة الناصرية متبلدي الإحساس، مخربة عقولهم ووجدانهم.
والتعميم الثاني هو أن التجربة ليس لها من الاشتراكية إلا اسمها، وأنا هنا أختلف مع الدكتور فؤاد زكريا، وأقول إن التجربة لم تسم نفسها بالاشتراكية، وجمال عبد الناصر نفسه كان دائما يقول: إننا في مرحلة تحول إلى الاشتراكية، وكيف نحكم على تجربة عمرها لم يتعد أربع سنوات! لقد تم الاعتداء الخارجي على التجربة قبل أن تبدأ عامها الخامس، فالتحول إلى الاشتراكية تم في مصر في منتصف عام 1962م، وجاءت الضربة الخارجية في 5 يونيو 1967م ومن هنا، فليس من الصواب أن تقول إن التجربة اكتملت وإن علينا أن نحكم بمقدار ما حققت من نجاح أو فشل.
وبرغم هذا العمر القصير للتجربة، فإن اليسار المصري عموما واليسار الذي نما في مدرسة جمال عبد الناصر قد انتقد التجربة أثناء مسيرتها، في كل وقت أتيحت له فيها حرية الكتابة أو الالتقاء بالقيادة السياسية.
ولقد كان خطأ التجربة الناصرية هو أنها كانت تتم من قمة السلطة؛ فلقد كان جمال عبد الناصر في قمة السلطة يحاول بحسه الثوري أن يحدث تغييرا ثوريا في المجتمع المصري اعتمادا على جهاز الدولة البيروقراطي القديم، وتلك قضية أخرى لا أود التعرض لها الآن، إلا أنه يمكن القول بأنه حتى بجهاز الدولة البيروقراطي القديم استطاعت «الناصرية» أن تجعل الشعب يسيطر على وسائل الإنتاج الأساسية.
ولعل الدكتور فؤاد زكريا لا يختلف معنا إذا قلنا إن سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج الرئيسية هي الشرط الضروري الذي يفتح الطريق على مصراعيه للتخطيط الشامل، والتنمية الاقتصادية والزيادة السريعة في الإنتاج ... (هدف الكفاية).
كذلك كانت هي أيضا الشرط الضروري لتحقيق العدالة الاجتماعية (هدف العدل) ولقد اقترنت الإجراءات التي نقلت الملكية لوسائل الإنتاج الرئيسية بعدد من الإجراءات الأخرى التي كانت تستهدف عدالة التوزيع، أذكر من هذه الإجراءات القرارات الصادرة في 19 يوليو 1961م بتخصيص 25٪ من أرباح المؤسسات والمشروعات والشركات التابعة للقطاع العام للعاملين بها، والذي امتد تطبيقه بعد ذلك إلى الشركات المساهمة وما يماثلها، وتمثيل العاملين في مجالس إدارات الشركات بعضوين وزاد العدد فيما بعد إلى أربعة أعضاء يكون اختيارهم بطريق الانتخاب. هذا فضلا عن تحديد الحد الأقصى للمرتبات بخمسة آلاف جنيه، ورفع فئات الضرائب على شرائح الدخول العالية وتخفيض ساعات العمل إلى 7 ساعات، وإلغاء الفائدة على القروض التي يقدمها بنك التسليف الزراعي للفلاحين، والتوسع في تطبيق التأمينات الاجتماعية ، على نحو يجعلها تغطي كافة المخاطر التي يتعرض لها العاملون.
ومن هنا فإن الدكتور فؤاد زكريا يتفق معنا في أن نزع مصادر الثروة والإنتاج من أيدي الإقطاعيين والرأسماليين والأفراد وإقامة قاعدة صناعية قوية يمكن أن تكون نواة لتحول اشتراكي حقيقي في المستقبل - كما يقول - هو ما يدافع عنه اليسار الآن في مواجهة الزحف اليميني الذي يريد أن يلتهم إنجازات شعب بأكمله لمجرد أن أتيحت له الفرصة في التعبير عن وجهة نظره. (3)
والآن، هل كان اليسار المصري هو الذي برر أخطاء التجربة وامتنع عن إعادة التقييم؟
لم يقف اليسار هذا الموقف، بل إنه هو نفسه اليسار. واليسار الذي نما مع التجربة ذاتها، هو الذي رفع شعارات الحرية وسيادة القانون، وهو الذي طالب ببداية جادة وجديدة لمسيرة ثورة 23 يوليو، واليسار هو نفسه الآن الذي يناقش ما ألم بالتجربة من سلبيات.
كذلك الجماهير العريضة هي التي حمت التجربة الثورية من الانتكاس، وإذا كان الدكتور فؤاد زكريا يتخذ من استقبال نيكسون مؤشرا لاستفتاء جماهيري على تجربة «جمال عبد الناصر» فماذا يقول عن هبة الجماهير المصرية يومي 9، 10 يونيو؟! ألم تكن استفتاء على تجربة جمال عبد الناصر؟!
أيضا أليس وداع الجماهير المصرية لجمال عبد الناصر عند رحيله استفتاء شعبيا على تجربته؟!
بقيت كلمة أخيرة؛ وهي أن أخطر ما نتعرض له الآن هو خطأ التعميم، صحيح أن التجربة شابها الكثير من السلبيات لكن هناك الكثير من الإنجازات التي لا يمكن إخفاؤها وأبرزها على سبيل المثال لا الحصر، بالإضافة إلى القاعدة الصناعية، السد العالي، شبكات الكهرباء، المياه النقية في الريف، كهربة الريف، الاتساع الكمي الهائل في التعليم والكيفي أيضا.
حمدان جعفر (مدير تحرير مجلة «النقل البري»)
اليسار المصري وعبد الناصر، وسكان الأبراج العاجية
تأتي دراسة الدكتور فؤاد زكريا عن اليسار وجمال عبد الناصر في مرحلة هامة من مراحل تطور الحركة الوطنية في مصر، مرحلة تحاول فيها قوى اليمين الرجعي العودة بمصر إلى أحضان الرأسمالية العالمية، وبالمجتمع المصري إلى بناء رأسمالي متخلف ومرتع للاستثمارات الأجنبية، ويقف اليسار بجميع فصائله موقف المدافع عن تقدم مصر اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا، ومن هذا المنطلق فإن أي مصري يرحب بدراسة الدكتور زكريا كمساهمة في هذا الصراع الدائر الآن.
إن دراسة الدكتور زكريا نموذج متكامل لموقف المثقف المصري البرجوازي المتردد من ناحية، والقادر - بما له من بلاغة - على المغالطة من ناحية أخرى، وليس هذا هجوما شخصيا على الكاتب بل تقييما موضوعيا لمساهمته ومحاولته لوضعها في إطارها الصحيح من حركة الفكر الوطني المصري.
أول ما يلفت النظر هو الحكم على ثورة 23 يوليو حكما «ديماجوجيا» لا يستند إلى أسلوب علمي واضح، فاليمين في مصر واضح في تحليله لثورة 23 يوليو باعتبارها في نظره خروجا أو انحرافا عن المسيرة الطبيعية لحركة المجتمع المصري بصورة ما قبل 1952م، أي اقتصاد متخلف تابع للأسواق العالمية، ومجتمع التمايز الطبقي الصارخ وثقافة الصفوة الممتازة، كذلك فإن موقف اليسار المصري واضح تماما، بل قد تحملت، وما زالت، فصائل اليسار الكثير في سبيل توضيح موقفها؛ وهو أن ثورة 23 يوليو بكل منجزاتها وبكل أخطائها تمثل حلقة هامة في تطور الحركة الوطنية في مصر، وهي بلا شك خطوة تقدمية بالنظر إلى مجتمع ما قبل 1952م وهي بلا شك إنجاز يجب الحفاظ عليه وتطويره وتنقيته أمام هجمة اليمين الرجعي في وقتنا الحاضر. إن الفترة من 1952م إلى 1970م تمثل محاولة من عناصر البرجوازية الصغيرة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر لانتشال المجتمع المصري من براثن الاحتلال السياسي والعسكري والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، ومن هنا فإن موقف اليسار من هذه الحركة موقف متسق تماما ليس فيه ذوبان وليس فيه قصر نظر كما توهم الأستاذ زكريا.
وثاني ما يلفت النظر في دراسة الأستاذ زكريا هو مغالطة دمغه لليسار بأنه ترك الحلبة لليمين ليرفع الشعارات ويتبنى القضايا المصيرية، ولست أدري كيف وصل د. زكريا إلى هذا الاستنتاج وهو رجل الفلسفة والمنطق! هل نسي تضحيات اليسار بكل شيء من أجل رأيه ... لقد أعلن اليسار، وما زال، رأيه واضحا من كل انحراف في مسيرة ثورة 23 يوليو، وقد تكبد في سبيل ذلك الكثير من فقدان الحرية إلى فقدان الحياة ذاتها ولم يكن اليسار أبدا من سكان الأبراج العاجية.
وثالثا فقد ابتعد الدكتور زكريا عن العلمية حينما صور علاقة اليسار بثورة 23 يوليو بأنها احتضان قاتل من الثورة لليسار، وهذا رأي يكشف عن عدم معرفة بأبسط مبادئ العمل السياسي، فاليسار قوة وطنية وثورة 23 يوليو تمثل قوة وطنية ذات آفاق تقدمية ولست أرى ما هو التعارض في أن ينضم اليسار إلى هذه الحركة يثريها بالفكر والعمل، ويدفعها إلى مواقع أكثر تقدمية، وإن كان اليسار يدافع عن ثورة يوليو فإنه الآن إنما يفعل ذلك عن إيمان بأن هذه الثورة لم تكن كلها سوءا، بل كانت حلقة تقدمية في تطور الحركة الوطنية في مصر. إن اليسار المصري ليس حركة ثقافية وليس كيانا مستقلا عن المجتمع المصري؛ ولذلك فهو ينخرط في تيار هذا المجتمع ويتفاعل معه، ويحاول التأثير في اتجاهه نحو آفاق أكثر تقدمية ومن هنا فلا يملك اليسار ترف الجلوس على مقاعد وثيرة والنقد خاصة بعد فوات الأوان.
وأخيرا فإن آراء الدكتور فؤاد زكريا هامة ويجب أن تؤخذ مأخذ الجد لا كتوجيه لليسار فيما يجب أن يفعل، فاليسار يدرك تماما مسئوليته التاريخية نحو جماهير الشعب المصري، بل كنموذج لفكر الأبراج العاجية البعيدة عن آلام وآمال ملايين المصريين الذين لا يملكون بلاغة الكلمة، ولكنهم بكل تأكيد يملكون القدرة على تغيير مجرى تاريخ هذا البلد العظيم: مصر.
د. سمير رضوان
مدرس الاقتصاد السياسي، جامعة أكسفورد
وراء موقف اليسار من عبد الناصر هدف كبير
هناك جزئية محددة تناولها الدكتور فؤاد زكريا في مقالاته؛ هي سؤال بدا أمامه محيرا:
لماذا اصطدم اليسار المصري بعبد الناصر في حياته بينما يتصدى للدفاع عنه باستماتة بعد موته؟
أعتقد أن مضمون هذا السؤال هو نقطة تحتسب لليسار المصري ولا تحسب عليه؛ ففي هذا الموقف بالذات ضرب اليساريون المصريون مثالا رائعا للتضحية في سبيل المبدأ، فلا يخفى على أحدكم دفع اليسار المصري من حريته ومن شبابه ومن حياته ثمنا لهذا الموقف.
لقد تصدى اليسار المصري لعبد الناصر في حياته؛ لأنه كان يريد من عبد الناصر المزيد من أجل تحقيق التحول الاشتراكي محذرا من الإبقاء على ذيول الإقطاع والرأسمالية المستغلة، كان اليسار المصري ينتقد عبد الناصر في حياته؛ لأنه كان يريد أن يحقق المأمول منه في تحقيق أمل الملايين الكادحة من هذا الشعب وهو إرساء دعائم الاشتراكية الحقيقية المتكاملة، ولكن عبد الناصر تحت ضغط ظروف يعلمها الجميع دوليا وعربيا ومحليا لم يستطع - مضطرا - إلا أن يخطو خطوات نحو التحول الاشتراكي، ثم مات عبد الناصر ولكن التاريخ سيسجل له - سواء رضي أعداؤه أم أبوا - أنه غير خريطة المجتمع المصري بأسره، وفتح باب الحياة الإنسانية بمعناها الكريم في العمل والثقافة أمام الجماهير الكادحة من هذا الشعب بعد أن كانت هذه الجماهير تحيا حياة أشبه بالموت البطيء، ولقد كان ذلك أعظم إنجاز اشتراكي لعبد الناصر.
ومن هنا تأتي الإجابة على الشق الثاني من السؤال المطروح وأعني به: لماذا يدافع اليسار المصري عن عبد الناصر رغم كل ما لقيه على يديه؟
لقد تصدى اليسار لعبد الناصر وحذره من الإبقاء على ذيول الإقطاع والرأسمالية المستغلة، وحدث ما كان في حسبان اليسار خرج هؤلاء اليوم من جحورهم في محاولة للانقضاض على التجربة بأسرها وعلى منجزات ثورة يوليو لكي يجهزوا عليها مستغلين عددا من سلبياتها أو أخطائها أو «جرائمها» كما يحلو للبعض أن يسمي الأخطاء.
وهنا وللمرة الثانية يتصدى اليسار المصري انطلاقا من المبدأ الأسمى لكي يدافع عن عبد الناصر وتجربته، لا شغفا بها لذاتها، وإنما لأنها التجربة الوحيدة في تاريخ المجتمع المصري ذات الملامح «الاشتراكية الكاملة».
وهكذا يمكن القول إن اليسار المصري ضرب أروع الأمثلة للتصدي للسلطة أيام عبد الناصر - غير عابئ بأي تبعات تقع عليه - من أجل المزيد من الانطلاق نحو تحقيق الاشتراكية وتعميق الثورة الاجتماعية في مصر، وهو اليوم يتصدى لمن يريد الإجهاز على إنجازات عبد الناصر الاشتراكية أملا من اليسار المصري في أن هذه الإنجازات هي اللبنات الأولى في البناء؛ من أجل الوصول إلى الهدف الأعظم وهو الاشتراكية الكاملة والحقيقية.
سهام هاشم
محررة بوكالة أنباء الشرق الأوسط
اليسار حليفا ... واليسار معارضا
من الذين تعرضوا لتقييم التجربة الناصرية، فريق «فقد الوعي» على حد تعبير توفيق الحكيم، فأيدها كل التأييد، ولم يلتفت إلى سلبياتها.
وفريق يناهضها بالكامل دون أن يلتفت إلى إيجابياتها.
من هؤلاء د. زكريا، الذي رفضها جملة وتفصيلا، وفي هذا الرفض المطلق أطلق النار على اليسار، وكانت أدوات بحثه مواقف بعض الكتاب الماركسيين من خلال ما يكتبون في الصحف.
وهذه الأدوات، ناقصة ... لأن الصحف لا يمكن - في ظروف التجربة الناصرية - أن تسمح بأن يكون للماركسيين حق التعبير «الكامل» عن آرائهم.
لليسار رؤيته الخاصة، النابعة من تحليله لمسار ثورة 23 يوليو.
اليسار رآها ثورة تحرر وطني لها بعدها الاجتماعي؛ هي ثورة وطنية ديمقراطية، لها مهام وطنية متمثلة في طرد المستعمر وضرب الإقطاع، وبناء اقتصاد وطني مستقل ومهام ديمقراطية كان ينبغي على الدكتور فؤاد زكريا، ما دام قد تعرض لموقف اليسار، أن تكون مراجعه - كأستاذ جامعي - متكاملة، فيعود إلى بيانات اليسار وصحفه السرية خلال فترة التجربة الناصرية، حتى انتهاء تنظيمه المستقل؛ ليستطيع أن يقف - بدقة علمية - على حقيقة الموقف «المتميز» لليسار.
الصورة التي تعكسها هذه البيانات والصحف السرية، هي صورة اليسار الماركسي المؤيد بالكامل لإنجازات الثورة الوطنية مع محاولة تطويرها من جهة، ومن جهة أخرى رافضا كافة أشكال الدكتاتورية، ملحا على تحقيق الديمقراطية.
كان ذلك «مربط الفرس» في الخلاف بين الماركسيين وقيادة ثورة يوليو 1952م.
إن بداية الخلاف بين التيار الغالب للماركسيين وقيادة الثورة كان الموقف من الديمقراطية، وبالتحديد حين قررت هذه القيادة حل الأحزاب.
والغريب حقا، أن المتباكين على الديمقراطية اليوم، وقفوا في ذلك الوقت إلى جانب ذلك الإجراء غير الديمقراطي ... بل كانوا يدعون إليه.
وفي أزمة مارس 1954م، وهي معركة حول قضية الديمقراطية، قام اليسار الماركسي بتكوين جبهة ضمت الوفد والإخوان والاشتراكيين؛ للدفاع عن الديمقراطية ... ولكن في خضم المعركة انسحب الاشتراكيون، وتخاذل الوفديون، وطعن الإخوان الجبهة في ظهرها، ودخل الماركسيون السجون.
وعند محاكمتهم كانت لهم مواقفهم التي تسجل لهم، وقفوا أمام محكمة الدجوي الشهيرة رافضين المحاكمة قبل أن تسجل احتجاجاتهم على صدور حكم بالإعدام على عبد القادر عودة وزملائه، إدراكا منهم بخطورة مبدأ قمع الأفكار بالإعدام حتى ولو كان ذلك المبدأ لا يتناولهم هم، بل يتناول خصومهم في الفكر.
وإنني أنصح د. فؤاد زكريا أن يعود إلى سجل محاكمات الماركسيين؛ فهي مرجع أساسي للحكم على موقفهم.
إن تصاعد صدام الثورة مع الاستعمار في 1955م هو الذي تدخل لتخفيف التناقض بين الماركسيين والثورة؛ إذ غمر موج الصدام العالي قضية الديمقراطية، ومع ذلك، ورغم قيام عمل وطني مشترك بين الثورة والماركسيين، فقد ظل مطلب الديمقراطية في مقدمة بيانات الماركسيين.
كان شعارهم للجان المقاومة الشعبية هو: السلاح والديمقراطية للشعب.
وكان شعارهم في انتخابات أول مجلس نيابي للثورة 1957م إطلاق الحريات السياسية والإفراج عن «جميع المسجونين السياسيين» بالإضافة إلى برنامجهم الاجتماعي.
بل إن مطلب الديمقراطية كان يتقدم المطالب الاجتماعية في كل برنامج أو بيان للماركسيين بعد الثورة بعكس موقفهم قبل الثورة؛ فقد كان للمطالب الاجتماعية صدارة الأدبيات الماركسية.
وحين طرحت مسألة الوحدة مع سوريا نفسها على مستوى جماهيري، كان موقف اليسار تأييد الوحدة، على أن تكون خطوتها الأولى شكل الاتحاد، وطالبوا بأن تنعكس صورة الحريات السياسية المتقدمة - آنذاك - في سوريا على الوضع في مصر، بينما تنعكس صورة التقدم الاقتصادي المتحرر من النفوذ الأجنبي على الوضع في سوريا.
ومن هذا الخلاف حول قضية الشكل الديمقراطي لدولة الوحدة حدث الصدام الثاني بين اليسار والثورة، وخلال خمس سنوات سوداء قضاها الماركسيون في السجن التزموا نفس الموقف، مساندة كل ما هو تقدمي في الثورة مع التصميم على طرح قضية الديمقراطية باعتبارها «الضمان الوحيد لاستمرار التقدم» وبعد عام 1964م ظل الماركسيون يرفعون علم النضال من أجل الديمقراطية وتصحيح أخطاء العمل التقدمي للثورة.
وظلت الثورة على سياستها حتى في فترة حرية العمل النسبية لليسار، تحافظ على تقليد لها وهو أن يكون في سجونها بعض الماركسيين، وظل هذا الوضع إلى ما بعد وفاة عبد الناصر بفترة.
لمصلحة من تخلط الأوراق إذن ... وتلصق بالماركسيين تهمة إهدار الدفاع عن الديمقراطية، بينما كانت راية الدفاع عنها هي الراية التي سقط تحتها شهداؤهم ... وقضى معظمهم زهرة شبابه في السجون وهم يحملونها بإصرار؟
علي محمد الصباغ
مجلس مدينة طنطا
ملاحظات على حديث نجيب محفوظ
هذه الملاحظات سريعة على بعض ما جاء في حديث الأستاذ نجيب محفوظ ... من إنسان ينتمي بالعقيدة والعمل إلى ثورة يوليو 1952م، ويرتبط بفكرها ارتباطا عضويا.
أولا:
يقول الأستاذ نجيب محفوظ: «حين ننظر إلى ثورتنا نجد أننا يمكن أن نحكم عليها، ونحن مضطرون في نهاية من نهاياتها الحاسمة - يونيو 1967م - بأنها تجربة فاشلة ... أنزلت بالبلد هزيمة لم يسبق لها مثيل ... وقفت بنا على شفا الإفلاس ...»
ولو راجع أستاذنا صفحات التاريخ المصري، لتأكد أن هزيمة 1967م، تعد شيئا لا يذكر بجانب تحطيم الجيش المصري بأكمله في عهد محمد علي أمام تجمع أوروبي متعصب استطاع أن يملي شروطه بتحديد حجم الجيش المصري بحيث لا يخدم سوى أغراض الأمن الداخلي، وتكرر نفس الشيء في عهد الخديوي إسماعيل حيث استدرج الجيش المصري إلى حرب الحبشة ووقفت أوروبا وراء الإمبراطور المسيحي وتم لهم القضاء على الجيش المصري هناك.
بل إن التجمع الأوروبي تحت شعار الصليب ضد صلاح الدين، أعتبره - من وجهة نظري - بداية مخطط غربي ساري المفعول حتى الآن بتحديد حجم قوة مصر العسكرية وحصرها داخل ظروف محلية غير مواتية للانتشار حتى تشغلها عما يدور حولها في العالم وتبعدها عن التأثير في الأحداث.
ولماذا نذهب بعيدا والدولة الصهيونية التي تبنى الغرب مولدها في قلب الأمة العربية كالخنجر المسموم، ما هي إلا عميلة له، تخدم هدفه الأساسي بإجهاض القوة العسكرية العربية في مهدها وحصر انتباهها داخل حدودها بفعل الشعور بالخطر الصهيوني المتزايد.
وهناك عدة حقائق أخرى - في معرض الحديث عن هزيمة يونيو 1967م. (1)
إن هذه المعركة هي أول معركة تخسرها الثورة المصرية على مدى 15 عاما من صراعها ضد مؤامرات الاستعمار والصهيونية في الخارج، والرجعية العميلة والرأسمالية المستغلة في الداخل، لشعور أعداء الثورة بخطرها الداهم على مصالحهم بعد أن شدت تجربة الثورة المصرية انتباه الشعوب المستعمرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأثارت إعجابهم باتجاهاتها الوطنية واعتبروها نموذجا للاقتداء به. (2)
إن هزيمة 1967م هي هزيمة عسكرية بحتة في معركة واحدة، ونتيجة أخطاء عسكرية بحتة، وقع فيها بعض القادة العسكريين عن إهمال أو غرور أو سوء في التقدير. (3)
إن هزيمة 1967م - رغم قسوتها - لم تكسر إرادة الشعب أو إرادة الثورة، وكان الشعب أكبر من الهزيمة فتجاوزها، وخرج يعلن رفضه للهزيمة ويؤكد صموده وثقته الكاملة بقائده الجريح. (4)
إنه من الظلم أن يصور الأستاذ نجيب محفوظ هزيمة 1967م كنهاية لثورة 1952م، فهذه الهزيمة القاسية كانت هي المنطلق الأساسي والحافز الأول لانتصار أكتوبر 1973م كنتيجة منطقية لاستفادة الثورة بالعبرة والتجربة من أخطاء الماضي، وستبقى الثورة رافعة أعلامها مرددة نشيدها، ما بقي شعب مصر الكادح.
ثانيا:
وفي معرض الحديث، يتهم الأستاذ نجيب محفوظ عبد الناصر بالديكتاتورية واستئثاره بالسلطة.
وهنا تحضرني تساؤلات ملحة؛ ما هي مظاهر دكتاتورية عبد الناصر ودلالاتها؟ هل هي في عدم إيجاد عبد الناصر لتنظيم سياسي فعال يملأ الفراغ الذي تركته الأحزاب؟ ولكن، هل يتسنى لأحد أن يبني التنظيم السياسي الفعال بين يوم وليلة؟ ومن أين تأتي فعالية التنظيم السياسي، أليس من تفاعله مع قاعدته الجماهيرية العريضة؟ وكيف يتسنى لتنظيم سياسي وليد أن يتفاعل مع جماهيره العريضة ويرتبط بآمالها ويلتزم بالمحافظة على مصالحها؟ والجواب بالطبع، مع الوقت وبالممارسة الديمقراطية وبتوالد كادرات سياسية جديدة من داخل التنظيم تعي وتؤمن وتلتزم بمبادئه عقيدة وعملا.
لقد ظل عبد الناصر يحبذ ديمقراطية الحكم كأساس وكمبدأ، وثابت في محاضر مجلس قيادة الثورة أن عبد الناصر وخالد محيي الدين قدما استقالتيهما من المجلس عندما أصرت الأغلبية على اختيار ديكتاتورية الحكم، ولم يقبلا العودة إلى المجلس إلا بعد موافقة المجلس على رأيهما باختيار الديمقراطية كأساس للحكم الثوري.
لقد ربط عبد الناصر نفسه بالجماهير - عن إيمان منه بوعيها وحساسيتها - فلم تخذله الجماهير، وأصبح حديث عبد الناصر يتجه مباشرة إلى الشعب، كبديل واقعي عن عدم فعالية التنظيم وضعف ارتباطه بجماهيره وعجزه عن الالتحام بهم.
ومكانة عبد الناصر بين الشعب مقياسها يوما 9 و10 يونيو 1967م ويوم إذاعة خبر وفاته، ويوم تشييع جثمانه إلى مقره الأخير، ولا محل هنا للتقول والتبرير؛ لأنه في هذه الأيام كان عبد الناصر دون حول ولا قوة.
ثالثا:
صور الأستاذ نجيب محفوظ حرب اليمن، على أنها مغامرة من عبد الناصر ضد من يهاجمون نظامه الاشتراكي.
ورغم أن ملف حرب اليمن لم يفتح بعد، إلا أنه يمكن القول بأنها تمت تطبيقا لمبدأ (المساندة الكاملة للثورة العربية) عن إيمان كامل بأن الثورة العربية في كل مكان جزء لا يتجزأ.
وانتصارا لنفس المبدأ، قامت ثورة مصر بإرسال قواتها إلى كل من العراق وسوريا وليبيا، ثم أقرب مثال يوم وفاة العاهل السعودي الملك فيصل، حيث عرض الرئيس السادات على الملك خالد إرسال قوات مصرية إليه للمساعدة تحسبا منه لمظنة وقوع انقلاب عسكري في السعودية.
ومهما كانت التضحيات البشرية والمادية، فإن هذه هي مسئولية مصر وقدرها وواجبها نحو كل دولة عربية مهما بعدت، وتحرص الثورة المصرية بالأصالة كلها على تطبيق هذا المبدأ من واقع مسئوليتها وقدرها.
وليس بخاف على أحد أن انتصار الجمهورية في اليمن الشمالي، عجل بانتصار الجمهورية في اليمن الجنوبي التي أغلقت باب المندب في حرب أكتوبر، وقدمت القواعد للأسطول المصري، وبالطبع هذه إحدى ثمار ثورة اليمن وحرب اليمن.
إن هزيمة في معركة مهما كان حجمها لا يمكن أن يكون نهاية لثورة الشعب.
سمير عبد الفتاح سيد أحمد
الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة
Bilinmeyen sayfa