المقال الأول
المقال الثاني
المقال الثالث
علاقة اليسار بثورة يوليو بدأت قبل قيام الثورة
لم ينقد عبد الناصر إلا اليساريون
خطة اليمين: ضرب اليساريين بالناصريين
الوطنية جوهر الناصرية ولهذا وقف معها اليسار
فؤاد زكريا يرد على نفسه
كان جمال عبد الناصر كتوما فحكم بالأجهزة السرية
هل ستنتهي ثورة يوليو نهاية ثورة عرابي؟
Bilinmeyen sayfa
الحساب الأخير لعبد الناصر والماركسيين
فؤاد زكريا يستأنف النزاع
الرأي العام يرد على فؤاد زكريا
المقال الأول
المقال الثاني
المقال الثالث
علاقة اليسار بثورة يوليو بدأت قبل قيام الثورة
لم ينقد عبد الناصر إلا اليساريون
خطة اليمين: ضرب اليساريين بالناصريين
الوطنية جوهر الناصرية ولهذا وقف معها اليسار
Bilinmeyen sayfa
فؤاد زكريا يرد على نفسه
كان جمال عبد الناصر كتوما فحكم بالأجهزة السرية
هل ستنتهي ثورة يوليو نهاية ثورة عرابي؟
الحساب الأخير لعبد الناصر والماركسيين
فؤاد زكريا يستأنف النزاع
الرأي العام يرد على فؤاد زكريا
عبد الناصر واليسار المصري
عبد الناصر واليسار المصري
تأليف
فؤاد زكريا
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
بقلم صلاح حافظ
كانت أول جهة قاومت نشر هذا الكتاب هي روز اليوسف، أو بتعبير أدق: مجموعة الكتاب السياسيين في هيئة تحرير المجلة. وكان الحق معهم إلى حد كبير. ولم يكن سهلا على الإطلاق تجاهل وجهة نظرهم.
كان الجو العام جو محاكمة لجمال عبد الناصر، وكتب تظهر هنا وهناك تدينه بطريقة أو بأخرى، وتنفد نسخها من السوق بمجرد أن تظهر.
وكان خصوم عبد الناصر أسرع من استثمر جو «الانفراج الديمقراطي» بعد مايو 1971م فبدءوا بحملة تشهير يشتمون فيها «مراكز القوى» التي سقطت في ذلك اليوم، ولكن بقصد التشهير ضمنا بجمال عبد الناصر وحكمه.
ثم جاءت حرب أكتوبر، وما تلاها من إطلاق شامل لحريات الكلام والتعبير، فكان خصوم عبد الناصر أسرع أيضا إلى استثمار الفرصة، ودون تحفظ هذه المرة. أطلقوا ألسنتهم فيه على اعتبار أنه كان سبب الهزيمة، بينما السادات سبب النصر. وبعد أن كانوا يهاجمونه ضمنا، في حملتهم على مراكز القوى، أصبحوا يهاجمونه شخصا، وعينا، وتاريخا، وإنجازات، وأصبح في قفص الاتهام كل شيء قاله أو فعله.
وتدفقت كتب ومقالات تعفي الاستعمار وإسرائيل من مسئولية تخريب مصر، وتلقيها على عاتق الإصلاح الزراعي، والسد العالي، ومجانية التعليم، ومحاربة الاستعمار، والتطور الصناعي، والتحول الاشتراكي ... إلى آخر هذه «الجرائم» الفادحة!
ثم شيئا فشيئا، تجاوزت الحملة حدود التضليل، ودخلت مرحلة البذاءة وأصبح يشترك فيها قوادون، ويغلب عليها ألفاظ رواد الحانات وبيوت الدعارة، ثم انعقد لواؤها في النهاية للذين احترفوا - في مختلف العهود - كتابة التقارير لأجهزة المباحث. فخيالهم الذي تدرب طويلا على اختلاق التقارير جعلهم أقدر من غيرهم في الاختلاق على عبد الناصر، وأكثر رواجا وجاذبية.
ومثلما تروج الصور الفاضحة، وكتب «الأدب» المكشوف، جاء وقت أصبح يكفي فيه أن تشتم عبد الناصر بأي كلام، على أي ورق لكي تنفد النسخ في ساعات.
في هذا الجو بالذات، تلقت «روز اليوسف» الصفحات الأولى من هذا الكتاب.
Bilinmeyen sayfa
تلقتها في صورة مقال، طويل بعض الشيء، كتبه أستاذ الفلسفة الشهير «فؤاد زكريا» يناقش فيه علاقة جمال عبد الناصر باليسار المصري، ويصدر أحكاما قاسية عليه وعلى اليسار معا.
وكان جوهر المقال - كما كتبه الدكتور فؤاد - يتلخص في أن اليسار المصري قد أخطأ عندما شارك في تأليه جمال عبد الناصر، وتحالف معه دون شروط، ووضع نفسه في خدمته متغاضيا عن أخطائه. وأنه يخطئ الآن حين يستمر في الدفاع عن هذه الأخطاء وتبريرها، تاركا لليمين شرف كشفها ومهاجمتها.
ولكي يثبت الدكتور زكريا قضيته، فإنه قام بدراسة حاول أن يبين فيها أن عبد الناصر قد استخدم اليسار ولم يستخدمه اليسار، وأنه لم يضع سلطته في خدمة الاشتراكية، وإنما وضع الاشتراكية في خدمة سلطته. وأن اليسار أخطأ خطأ العمر حين فهم غير ذلك.
ومع أن موضوع المقال لم يكن محاكمة عبد الناصر، أو تقييم عهده، إلا أنه انطوى - كضرورة فرضها الموضوع - على شيء من المحاكمة وشيء من التقييم.
ومتى؟
في وقت حملة ضارية ضد عبد الناصر، يقودها كذابون ومخبرو مباحث، ويختلقون لحسابها كل ما يخطر بخيالهم المبتذل، ويقبضون ثمنها من ناشرين لا يهمهم إلا الرواج، أو يقبضون مباشرة من أسياد هؤلاء الناشرين.
وكان طبيعيا لهذا أن يعترض الكتاب السياسيون في «روز اليوسف» على نشر بحث الدكتور زكريا في الوقت الذي ورد فيه ... وأن يقرروا بالإجماع تأجيله حتى تنتهي حملة التشهير المبتذلة ضد عبد الناصر، حتى لا يستفيد منه قادة هذه الحملة وقوادوها.
وفعلا، تأجل نشر البحث عدة أسابيع.
ولكن الحملة كانت تزداد عنفا كل يوم ... وتزداد انحطاطا وهبوطا واستهانة بعقول الناس وتخريبا لها.
وهنا قررت «روز اليوسف» - ربما لأول مرة - أن تتجاهل رأي كتابها، وتتصرف عكس نصيحتهم، وتنشر البحث الذي أجمعوا على عدم نشره!
Bilinmeyen sayfa
لماذا؟
بالذات لكي تجهض حملة القوادين ...
كان واضحا أن نقد عبد الناصر، ومراجعة الماضي بكافة تفاصيله، أصبح أهم ما يشغل الناس، وأن السبيل الوحيد إلى منع القوادين من استثمار هذه الحقيقة هي طرح طراز آخر، محترم، من النقد والمراجعة.
وليكن مضمون هذا النقد الآخر خاطئا، أو صائبا، وليكن ظالما أو منصفا ولنكن موافقين عليه أو رافضين له. فالمهم هو أنه يرتفع بمستوى نقد عبد الناصر من لغة المواخير إلى لغة مدرجات الجامعة. وأنه يحول هذا النقد من لعبة في مدينة الملاهي إلى قضية تستثير التفكير الجاد.
وفي التجربة ثبت أن «روز اليوسف» لم تخطئ عندما أقدمت - في 14 أبريل 1975م - على نشر بحث الدكتور زكريا ... برغم معارضة كتابها السياسيين.
فقد ماتت بالسكتة حملة القوادين بمجرد نشر الحلقة الأولى من البحث، وانصرف الرأي العام عن متابعة بضاعتهم المبتذلة، إلى متابعة المناقشة الموضوعية الراقية في «روز اليوسف».
وبعد أن كان الرأي العام يقرأ حملات القوادين ثم ينام، أصبح يقرأ حملة فؤاد زكريا ثم يسهر، ويكتب ردا عليها، أو تأييدا لها، أو اعتراضا على بعضها وموافقة على بعضها الآخر.
وهكذا انتقلت قضية «عبد الناصر» من عالم باعة الفضائح إلى عالم المشتغلين بالسياسة والفكر، وتحولت من مخدر لعقول الناس إلى محرك لها، وحافز لهم على الكتابة والتفكير.
وقبل أن تنشر الحلقة الثالثة والأخيرة من بحث الدكتور زكريا، كانت «روز اليوسف» قد تجمع لديها سيل من رسائل القراء ... يتراوح طول كل منها ما بين صفحة ومائة صفحة. وكل سطر فيها جدير بالاحترام؛ لغة ومعنى، تجربة وفكرة ... بصرف النظر عن مدى الصواب أو الخطأ فيما تقول ...
ولم تكن «روز اليوسف» في حاجة إلى دليل أبلغ من هذا على صواب قرارها بنشر بحث الدكتور؛ فها هو الموضوع الذي كان تجارة قد صار قضية، وها هو الجمهور الذي كان يقرأ نقد عبد الناصر على سبيل الاستمتاع الرخيص أصبح يقرؤه على سبيل الفهم والتفهم، وأصبحت القراءة تحفزه على التفكير والتحليل ... وعلى الكتابة أيضا.
Bilinmeyen sayfa
ولكيلا يعود الرأي العام يستدرج إلى المستوى الهابط القديم، فقد حرصت «روز اليوسف» على أن تتلو بحث الدكتور زكريا ردود عليه. تتمتع بنفس المستوى من الجدية والموضوعية. وكان كتاب السياسة في «روز اليوسف» بالطبع أسبق الجميع.
لكن كتابا من خارج «روز اليوسف» بدءوا يقتحمون الميدان.
وشيئا فشيئا تراكمت الردود، والبحوث والمقالات. ولم تعد «روز اليوسف» قادرة على استيعاب السيل الذي يغمرها كل أسبوع وبدأ الموقف يتطور إلى مأزق لا حل له!
وحتى هذه اللحظة، ما تزال ترد إلى «روز اليوسف» أبحاث تستحق النشر كلها، ولكن صفحات المجلة لا تستطيع بحال أن تستوعبها.
ومن هنا ... نشأت فكرة هذا الكتاب.
ومادته - كما سيرى القارئ - هي بحث الدكتور زكريا، ثم الأبحاث المضادة للكتاب الذين ردوا عليه، ثم عرض لمعظم ما كتب القراء، أو بالتحديد لفقرات مما كتبوا. وقد اخترنا كل فقرة بحيث لا تكرر معنى سجلته فقرة أخرى. وفضلنا ما كتب رجال ونساء لا يحترفون الكتابة، وإنما يكتبون من واقع تجاربهم في مواقع العمل ... حتى نضمن أن يكونوا معبرين حقا عما نعنيه بكلمة «الرأي العام».
ونحن واثقون من أن الكتاب، بصورته هذه، يقدم خدمة خاصة لكل فئة من الفئات القارئة في مصر والعالم العربي.
فهو بالنسبة للقارئ العادي فرصة للاطلاع على الآراء المختلفة حول قضايا ربع القرن الماضي وكلها تمس حياته.
وهو بالنسبة للمهتمين بالسياسة ندوة تناقش أخطر وأهم تجربة ثورية في العالم العربي المعاصر.
وهو بالنسبة للمفكرين، والكتاب، والمؤرخين، مادة خصبة للتحليل ... تتاح لهم دون أن يتكبدوا عبء جمعها بأنفسهم.
Bilinmeyen sayfa
وهو بالنسبة للشباب مجرد بحث يبين لهم كيف يفكر آباؤهم، وكيف يحكمون على أهم إنجاز في جيلهم، ومن خلال هذا المرجع تتهيأ لهم فكرة لا بأس بها عما سيرثون من متاعب ... ومن أمجاد أيضا.
أما بالنسبة لنا في «روز اليوسف»، فالكتاب حل موفق لمأزق وقعنا فيه، وحجة لا بأس بها لإقفال باب الحوار على صفحات المجلة حول هذا الموضوع الذي يتعلق بالماضي ... وتخصيص المساحة التي سيوفرها لقضايا أخرى، تتعلق بالمستقبل!
المقال الأول
هل كان جمال عبد الناصر فوق مستوى الخطأ؟
عن نفسي مع الخجل الشديد
لا توجد طريقة لكتابة المقال، أو مجموعة من المقالات، أسوأ من أن يبدأ الكاتب بالكلام عن نفسه، ولكنني أجد نفسي مضطرا إلى أن أبدأ على هذا النحو؛ لأن الموضوع الذي أعالجه يتسم - في هذه الأيام بوجه خاص - بقدر من الحساسية يجعل كل من يتطرق له مطالبا بأن يثبت براءته من الدوافع الشخصية، ومن شبهة الرجعية، ومن الجبن والانتهازية، قبل أن يكتب فيه كلمة واحدة، فليتحمل القارئ قليلا بعض الأسطر التي سأحدثه فيها عن نفسي، وسوف يجد فيما يلي ذلك من أجزاء المقال ما يقنعه بأن هذه البداية السيئة، كانت شيئا لا مفر منه.
ولأبدأ بمسألة الدوافع الشخصية؛ فكثيرون ممن يكتبون عن الناصرية كتابة نقدية، في أيامنا هذه، لديهم بالفعل دوافع شخصية تسهم أو تمس المحيطين بهم أو مصالح الطبقة التي يريدون استعادة مجدها. أما أنا فلم تكن لدي، أو لدى واحد من أفراد أسرتي المباشرة أو أقربائي البعيدين، أرض انتزعها الإصلاح الزراعي، أو مصنع أو شركة سرى عليها التأميم.
والأمر الذي أستطيع أن أؤكده بصورة قاطعة هو أن العهد الناصري لم يمس أية مصلحة من مصالحي بالضرر، بل إنني - على العكس من ذلك - أحرزت خلاله بالتدريج أي قدر من النجاح أستطيع أن أقول إنني حققته في مجالي المحدود: مجال أستاذ الجامعة والكاتب المفكر.
أما عن شبهة الرجعية، فإنني أصنف نفسي من بين التقدميين، وربما كنت قد تعرضت في وقت من الأوقات لحملات يعرفها كثير من القراء، اتهمت فيها بما هو أشد من ذلك، وعلى أية حال فإنني أعتقد أن اليسار، إذا كان يعني الدعوة إلى التغيير والتجديد، وإلى إعطاء الأولوية للمشروعات التي تخدم مصالح الفئات العريضة من المجتمع، بدلا من تلك التي تخدم فئات محدودة، ومحظوظة في داخله، وإذا كان يعني الدعوة الصريحة القاطعة إلى تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، لا صورية، يحس بها الإنسان المطحون ويلمس أثرها في حياته المباشرة، وإذا كان يعني صون الكرامة الإنسانية وحمايتها من الذل والفقر والظلم الاجتماعي والسياسي؛ إذا كان اليسار يعني ذلك كله، فإنني أعد نفسي يساريا بلا أدنى تردد، وأعتقد أنني كنت أدافع عن هذه المعاني على الدوام.
وأما صفة الجبن والانتهازية، فإن أولاهما تتعلق بموقف من الماضي، والثانية تتعلق بموقف من الحاضر والمستقبل.
Bilinmeyen sayfa
فهناك بالفعل نقاد للعهد الناصري كانوا ممن يحرقون له البخور طوال أعوامه الثمانية عشر، وكانوا طول تاريخهم ممن يجيدون تغيير جلدهم بتغير الحاكم، ولم يكن التغيير الذي طرأ على موقفهم من حكم عبد الناصر هو التحول الوحيد في حياتهم، بل إنهم سبق أن مارسوا مثل هذا التحول في أوائل عهد عبد الناصر لصالح عبد الناصر ذاته، وضد أسيادهم السابقين، هذه حقيقة لا شك فيها، ولكني أستطيع أن أقول عن نفسي، بعبارات قاطعة: إنني لست من هؤلاء. أما السؤال التقليدي الذي يثار في هذه الأيام ضد من يوجه انتقادا للعهد الناصري والذي يقول: أين كنت في ذلك العهد ولماذا لم تتكلم أثناءه؟ ففي استطاعتي أن أجيب باطمئنان كامل أنني تكلمت، ونبهت، وانتقدت، وعلى من يود التأكد من ذلك أن يعود إلى قراءة مقالاتي في مجلة الفكر المعاصر وغيرها، وسيجد - فضلا عن ذلك - أن هذه المقالات والكتابات لم تتضمن عبارة تملق واحدة حتى من ذلك النوع الذي اعتاد الكتاب أن يبدءوا به كتاباتهم لكي يضمنوا لانتقاداتهم التالية قدرا من الأمان، وأنا أقول ذلك مطمئنا، وأتحدى من يحاول أن يثبت عكسه.
وأما عن الانتهازية، فتلك شيمة الكثيرين ممن يتصورون أن نقد التجربة الناصرية قد أصبح مطلوبا، وأنه قد يضمن لهم، في الوقت الحاضر أو في المستقبل، مزيدا من الحظوة ويكفل لهم سبيل «الوصول».
وتلك بدورها صفة بعيدة عني كل البعد؛ لسبب بسيط هو أنني راض عن نفسي وعن موقعي كل الرضا، ولو كنت من أصحاب المطالب أو التطلعات لكان لي شأن آخر وطريق آخر، منذ وقت طويل.
وبعد، فإني - أيها القارئ العزيز - أشعر بالخجل الشديد إذ أجد نفسي منساقا إلى مثل هذا الحديث الشخصي عن نفسي، ولكن ما حيلتي وأنا أود أن أكتب عن الناصرية كتابة فيها جانب سلبي، وكل من يكتب سلبيا في هذه الأيام متهم في شخصه، وفي ماضيه وحاضره وأخلاقه ألست معي أنني مضطر إلى كتابة هذه المقدمة، حتى أقنع القراء بموضوعيتي، وأضمن عدم الربط بين القضايا التي سأثيرها وبين أية اعتبارات أو مصالح شخصية؟
والآن، تعال ندخل في الموضوع ...
درس ستالين
بعد عامين أو ثلاثة من موت جوزيف ستالين، بدأت عملية إعادة تقييم واسعة النطاق لعهد ذلك الزعيم الذي حكم الاتحاد السوفيتي قرابة الثلاثين عاما، والذي حياه الكتاب في مختلف أرجاء العالم، وفي مصر أيضا عقب وفاته مباشرة بوصفه بطلا من أبطال السلام، وإنسانا عظيما، ومناضلا صلبا من أجل الاشتراكية. وأخذت تتكشف بالتدريج صورة أخرى لستالين، ظهر فيها حاكما مستبدا زج بالألوف في السجن بلا سبب، وأعدم الكثيرين دون محاكمة حقيقية، واستخدم أبشع الأساليب البوليسية من أجل توطيد مركزه الشخصي في الحكم.
ولقد أثارت عملية إعادة التقييم هذه ضجة كبيرة في أوساط المفكرين والمعلقين السياسيين في مختلف أرجاء العالم، وأحدثت رد فعل قويا لدى الكثيرين؛ فالبعض، ممن يتمسكون بالخط الشيوعي المتطرف، دافعوا بحرارة عن ستالين، مؤكدين أن الإجراءات الاستثنائية التي ربما كان قد لجأ إليها، إنما كانت ترجع إلى أنه كان يبني دولة جديدة، ويؤسس نظاما اشتراكيا لأول مرة في تاريخ العالم، ويواجه في سبيل ذلك قوى عاتية داخل بلاده وخارجها، وكفاه فخرا في نظر هؤلاء المدافعين أنه هو الذي وطد دعائم الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وكان هو المنتصر الحقيقي في الحرب العالمية الثانية التي كانت جبهة غرب أوروبا والشرق الأوسط فيها نزهة عسكرية إذا قيست بأهوال المعارك في الجبهة الشرقية، ونستطيع أن نقول إن موقف الدفاع هذا يمثل خطا لا تزال تأخذ به الصين الشعبية وألبانيا حتى اليوم.
غير أن الخط الذي أخذت به الغالبية الكبرى من المفكرين النظريين الاشتراكيين في مختلف أرجاء العالم، وضمنهم اليساريون المصريون، هو أن نجاح ستالين في دعم النظام الاشتراكي في بلاده، ونقلها من بلد زراعي متخلف إلى بلد صناعي من الطراز الأول، وتحقيق الصمود ثم الانتصار لها في أكبر معارك الحرب العالمية الثانية؛ كل ذلك لا يشفع له فيما ارتكبه داخليا من جرائم، ولا يعفيه من محاسبة الحزب له بعد موته، وهي المحاسبة التي بلغ من قسوتها أن نقل جثمانه من مقبرته، وحذف اسمه من مدينة «ستالينجراد» التي دارت فيها معركة التحول الحاسمة في الحرب الماضية وأغفل ذكره تماما - وكأنه لم يكن - من القواميس ودوائر المعارف التي ألفت منذ ذلك الحين.
وظهر رد فعل آخر على إعادة التقييم هذه لدى بعض المفكرين من ذوي النزعة الليبرالية؛ إذ رأوا فيها نوعا من المحاكمة الغيابية لرجل مات ولم يعد قادرا على الدفاع عن نفسه، وأبدوا استنكارهم - من وجهة النظر الأخلاقية - لأن الذين عقدوا هذه المحاكمة الغيابية هم أنفسهم زملاء ستالين ورفاقه على جرائمه، بل كانوا يؤيدونه فيها بصورة ضمنية ولم يتذكروا أنه كان مذنبا إلا بعد أن مات، غير أن الغالبية العظمى من الكتاب الاشتراكيين، ومن بينهم عدد كبير من اليساريين المصريين والعرب، دافعوا عن محاكمة ستالين بعد موته على أساس أن الاعتبارات الأخلاقية كغدر الزملاء وخيانتهم لزميلهم، والافتقار إلى الوفاء لذكرى زعيم كبير رحل عن هذا العالم، لا ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحكم على أعمال رجل الدولة، وإني لأذكر جيدا ما كتبه كثير من اليساريين في مصر عن ضرورة الاتصاف ب «الموضوعية الثورية» التي تترك جانبا المسائل الأخلاقية وتركز على الوجه الموضوعي لتصرفات الحاكم، مؤكدين بناء على ذلك أن العهد الجديد في الاتحاد السوفيتي كان له كل الحق في محاكمة ستالين بعد موته مباشرة.
Bilinmeyen sayfa
وقد حدث مثل ذلك للزعيم الذي أخذ على عاتقه هذه المحاكمة؛ أعني نيكيتا خروشوف، الذي أعيد تقييم سياسته هو الآخر وكان من نتيجة إدانته أن قضى الجزء الأخير من حياته مهملا، وعندما مات لم يحضر جنازته إلا عدد من أقربائه يعد على الأصابع، وامتنع المسئولون؛ كبارهم وصغارهم، عن حضورها.
تلك وقائع أردت أن أسردها لا لكي أبدي فيها رأيا بالقبول أو بالرفض، بل لكي أبين أن اليسار قد اتخذ في تلك الحالات موقفا يبدو من الوجهة الأخلاقية مفرطا في قسوته، ويبدو بعيدا كل البعد عن صفات المروءة والشهامة والوفاء لذكرى الراحلين، ولكن وجهة نظره هي أن مبادئ الحياة السياسية تختلف عن مبادئ الحياة الشخصية، وأن الاعتبارات الأخلاقية التي تحكم تصرفاتنا الشخصية لا ينبغي أن تكون أساسا للحكم على تصرفات الحكام السياسيين، بل يتعين علينا أن نتوخى «الموضوعية الثورية» في أحكامنا السياسية، ونترك العواطف جانبا حين يكون الأمر متعلقا بمصائر الشعوب.
إنني - بالطبع - لم أكن أهدف، من اختيار الأمثلة السابقة، إلى أن أصدر حكما مسبقا بتشبيه دور جمال عبد الناصر في الثورة المصرية بدور جوزيف ستالين في الثورة السوفيتية، وإنما أردت أن أقارن بين رد فعل اليسار على عملية إعادة التقييم في كلتا الحالتين: ففي حالة ستالين كانت الكتلة الرئيسية من اليسار العالمي، وضمنها اليسار المصري، مؤيدة لمبدأ توجيه الاتهام إلى ذكرى ستالين، على الرغم من إنجازاته الضخمة التي لا يمكن أن يغفلها التاريخ. أما في حالة جمال عبد الناصر فإن اليسار المصري يتخذ موقف الرفض التام لأي نوع من إعادة التقييم، والهجوم الشديد على كل من يتصدى للعهد الناصري بالنقد، وكأن هذا العهد كان فوق مستوى الخطأ.
ومن العجيب حقا أن كثيرا من اليساريين الذين يعتبرون أنفسهم حماة لذكرى العهد الناصري، يلجئون في هجومهم على نقاد ذلك العهد إلى سلاح الأخلاق، ويتحسرون على الشجاعة المفقودة التي جعلت هؤلاء النقاد لا يفتحون أفواههم إلا بعد رحيل الزعيم ، ويترحمون على معاني الوفاء والإخلاص لذكرى الأموات، أقول إن هذه ظاهرة عجيبة، لا لأني غير معترف بقيم الشجاعة والوفاء، بل لأن اليساريين هم أنفسهم أصحاب مبدأ «الموضوعية الثورية»، وهم الذين يؤكدون أن الأخلاق بناء فوقي وأنها ناتج وحصيلة لظروف موضوعية تنتهي إلى بنية المجتمع الأساسية، وبالتالي فإن تقييم السياسات على أسس أخلاقية هو في الواقع نزعة «مثالية» لا يصح أن يكون لها مكان في أية نظرة علمية إلى الظواهر الاجتماعية.
والأمر المؤكد في نظري هو أنه، عندما يكون الأمر متعلقا بمصير أمة مرت بتجربة معينة في الحكم دامت قرابة عشرين عاما، فلا ينبغي أن نمتنع عن التقييم الموضوعي الصارم مراعاة للعواطف و«الشهامة» والنخوة، ولا يجب السكوت عن الخطأ لمجرد أن مرتكبه قد مات، وخاصة إذا كان هذا الخطأ متعلقا بحياة الشعب بأسره، وإني لأتساءل: كيف نستطيع أن نرسم خطوط مسيرتنا في المستقبل إذا لم نستوعب دروس الماضي كاملة، إذا لم نحكم عليها بموضوعية ونزاهة، دون عاطفية كاذبة أو ولاء ساذج؟
حافز المبدأ وحافز المصلحة
الآن لنحاول أن نحلل موقف اليسار المصري من القضية التي تثار في هذه الأيام على نطاق واسع، في العالم العربي عامة، وفي داخل مصر بوجه خاص، وأعني بها قضية تقييم التجربة الناصرية.
إن اليسار - أو على الأقل الفئة البارزة فيه، التي تعبر عن نفسها في وسائل الإعلام - يتخذ موقف الدفاع المطلق عن التجربة الناصرية. ولهذا الدفاع المطلق في تصوري سببان رئيسيان:
أولهما:
أن الأصوات التي ترتفع من اليمين، في هذه الأيام تهدد بالفعل بالقضاء على كل العناصر ذات المسحة الاشتراكية في التجربة السابقة. فلو بحثت عن الأهداف الحقيقية لأصحاب هذه الأصوات، لوجدت أنها إلغاء القطاع العام كلية وعودة القطاع الخاص إلى الاستحواذ على الاقتصاد القومي، وإلغاء التأميمات وإعادة المصانع والبنوك إلى أصحابها القدماء، وربما إلغاء الإصلاح الزراعي ذاته وعودة الملاك الكبار بصورة أو بأخرى. هذه الأهداف لا يعلن عنها، طبعا، بمثل هذه الصراحة ولكنها واضحة كل الوضوح في الخلفية الفكرية لكثير من نقاد التجربة الناصرية . وهكذا يجد اليسار المصري لزاما عليه أن يتخذ الموقف المضاد، موقف الدفاع المطلق عن هذه التجربة؛ لأنه بذلك إنما يدافع أيضا عن عناصر أساسية من عناصر البناء الاشتراكي الذي يسعى إلى إرساء قواعده ويقطع الطريق على دعوات الردة التي تستهدف إعادتنا إلى نمط اقتصادي تمتزج فيه إقطاعية القرون الوسطى برأسمالية القرن التاسع عشر.
Bilinmeyen sayfa
أما العامل الثاني:
فأقل موضوعية من العامل السابق، ولكن من الواجب ألا نغفل عن أهميته في الموقف الذي نحن بصدده؛ ذلك لأن التجربة الناصرية اقتضت، في مراحلها الأخيرة، تعيين بعض البارزين في مناصب رفيعة، وسوف أتناول فيما بعد هذه الظاهرة بالتحليل والتعليل، أما الآن فإني أكتفي بتسجيلها وبالإشارة إلى نتائجها بالنسبة إلى التصرفات التالية لهؤلاء اليساريين؛ فقد ظهر واقع جديد لم يألفه اليسار المصري في أية مرحلة سابقة من مراحله؛ هو وجود «مصالح» لعدد غير قليل من أقطابه، ارتبطت بالتجربة الناصرية وأصبحت تحتم على أصحابها الدفاع عن هذه التجربة دفاعا مستميتا، كما أصبحت تتحكم إلى حد بعيد في تصرفات عدد كبير من مهاجمي هذه التجربة، الذين يريدون أن يحلوا محل اليساريين في تلك المناصب الرفيعة، وأن يسيطروا - ماديا ومعنويا - على الأجهزة التي كان لليساريين فيها مركز رئيسي. وفي اعتقادي أننا لا ينبغي أن نغفل هذا العامل عندما نتأمل موقف الدفاع المطلق أو الهجوم الذي يتخذه اليسار واليمين - وخاصة في قطاع الإعلام - من التجربة الناصرية. فكثير من الأصوات التي نسمعها هي في واقع الأمر أصوات المصالح الخاصة. وعندما تتدخل المصالح لا تعود المبادئ وحدها هي التي تتكلم؛ لأن هناك وضعا يريد أحد الطرفين أن يحافظ عليه، ويريد الطرف الآخر أن ينقض عليه ويقتنصه. وربما لم يكن هذا العامل ظاهرا على المستوى الشعوري لدى كثير من اليساريين (بينما هو لدى خصومهم واضح وواع تماما)، ولكنه على الأقل يشكل خلفية لا شعورية بدونها يصعب تفسير هذه الاستماتة في الدفاع عن تجربة في الحكم كانت بلا شك مشوبة بقدر غير قليل من الأخطاء وكانت أخطاؤها من النوع الذي لا يغتفره الفكر اليساري بالذات ، في الأحوال العادية، بل يشن عليه أقوى هجماته.
جوهر الخطأ الناصري
ولنبدأ من هذه النقطة الأخيرة، أعني الأخطاء التي كان المفروض أن يكون اليساريون أول من ينبهون إليها. هذه الأخطاء في رأيي، تتركز في أسلوب تطبيق الاشتراكية ذاتها.
فقد كان من واجب اليساريين أن يدركوا، قبل غيرهم، أن الأسلوب الذي طبقت به الاشتراكية يسيء إلى الاشتراكية أكثر مما يفيد قضيتها؛ فالتأميم وإنشاء قطاع عام واسع ليس - بالنسبة إلى الاشتراكية - غاية في ذاتها، وإنما هو وسيلة لكي تتم سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، ولكي يرتد عائد هذا الإنتاج في نهاية الأمر إلى الشعب.
وفي التجارب الاشتراكية الناجحة ظهر أثر هذه الإجراءات على الطبقات الشعبية بوضوح في فترة وجيزة. صحيح أن الطبقات العليا، وربما الوسطى أحيانا، يصيبها الضرر، ولكن الغالبية العظمى من الشعب، ممن يكونون طبقاته الكادحة يشعرون على الفور بأثر تطبيق الاشتراكية على حياتهم؛ فقد تتخذ الدولة - مثلا - قرارا بأن يخصص لكل أسرة مسكن من حجرتين، وفي هذه الحالة ستشعر مليون أسرة كانت تعيش في أربع حجرات بالضيق، وتنضم إلى قائمة المعارضين وربما هاجر بعض أفرادها وحاربوا النظام في الخارج، ولكن عشرات الملايين من الأسر كانت تعيش في أكواخ أو على الأرصفة ستشعر بالامتنان، وتحس بأن حياتها قد تغيرت إلى الأحسن، وتدافع عن النظام بكل ما تملك من قوة، وقد تقرر الدولة للفرد حذاء واحدا كل عامين، فيحس من اعتاد تنويع ملابسه بالسخط، ولكن ملايين الحفاة سيفرحون.
وعلى العكس من ذلك، فإن التجربة الاشتراكية الناصرية لم تضع الطبقات الشعبية نصب عينيها دائما [فيما] كانت تتخذه من إجراءات، بل كانت في بعض الأحيان تصدر قرارات يعجب المرء حقا لصدورها في عهد اشتراكي، كرفع سعر الأرز والكيروسين، وهما مادتان أساسيتان للكادحين الفقراء، في الوقت الذي تحتفظ فيه لكبار الموظفين ورجال الدولة بكل الامتيازات التي وصلت أحيانا إلى حد الترف والبذخ المقزز. ويكفي أن الجنيهات المعدودة التي كانت تشكل دخل العامل أو الفلاح أو الموظف الصغير كانت تظل ثابتة أو تنقص، في الوقت الذي ظلت فيه قوتها الشرائية تضعف عاما بعد عام. وبقدر ما أعلم فإن التجارب الاشتراكية الناجحة تسعى إلى زيادة القوة الشرائية لأجور العمال، عن طريق إجراء تخفيضات متوالية لأسعار المواد الأساسية - وهو أمر لم يحدث عندنا في حالة واحدة.
أما الفوارق بين الطبقات، فمن المؤكد أنها لم تزل على الإطلاق في تجربة الاشتراكية الناصرية. وإذا كانت هذه التجربة قد بدأت بمجتمع النصف في المائة، فأخشى أن أقول إنها قد انتهت بمجتمع الخمسة في المائة! أعني أنها وسعت نطاق الطبقة العليا إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه، دون أن تقرب منها الطبقة الدنيا، بحيث كانت النتيجة العملية هي زيادة عدد الأسياد.
وعلى الرغم من أنني أخشى أن أتهم بالسطحية، فإنني سأضرب مثلا مفرطا في البساطة للتدليل على وجهة نظري؛ فلقد ألغت الثورة الألقاب بمجرد قيامها، ومع ذلك لا تزال الألقاب تستخدم في المحادثات اليومية حتى اليوم، لا لأنها عادة يصعب التخلص منها فحسب، بل لأن مبررات وجود الألقاب ما زالت قائمة. ولا يكفي لإزالة هذا الوضع أن تلغى الألقاب بقرار حكومي ولذلك استمرت متداولة على الألسن؛ لأن بلادنا بالفعل ما زالت مليئة «بالبكوات» حتى لو لم يكونوا رسميا من حملة اللقب ويكفي أن تقارن بين رئيس إحدى المؤسسات والعامل البسيط فيها، ليس فقط من حيث دخله أو نمط معيشته، بل أيضا من حيث نظرته إلى نفسه ومدى إحساسه بكرامته كعضو في المجتمع، لكي تدرك بوضوح أن الفوارق بين الطبقات ما زالت على ما كانت عليه.
إنني أدرك جيدا نوع الاعتراضات التي ستوجه إلي، وهي أنني لا أنظر إلى الصورة الكلية، بل أكتفي بالجزئيات. والصورة الكلية، في نظر أصحاب هذا الاعتراض، هي نزع مصادر الثروة والإنتاج من أيدي الإقطاعيين والرأسماليين والأفراد، وإقامة قاعدة صناعية قوية يمكن أن تكون نواة لتحول اشتراكي حقيقي في المستقبل. وأنا لا أنكر أن هذه الصورة الكلية صحيحة، ولكني لا أستطيع أن أعترف بنتيجتها ما لم يتحقق هذا التحول، بمعاييره المعروفة، أو تكون بوادره على الأقل قد بدأت في الظهور.
Bilinmeyen sayfa
وطالما أن هذا التحول لم يتحقق، فلن يكون في وسع أحد أن يرد على النقد الذي كان يتردد من آن لآخر وهو أن الدولة في بعض النظم تسيطر على المرافق الإنتاجية لخدمة جهازها الخاص، وللتخلص من الخطورة التي يشكلها وجود المال وأدوات الإنتاج في أيدي طبقة منافسة.
وربما بدا للبعض أن هذا النقد الأخير له مبرراته القوية في حالة التجربة الناصرية بالذات؛ إذ قد لا يكون من المصادفات أن تبدأ إجراءات التأميم في أواخر أيام الوحدة مع سوريا، حتى بدأت الطبقة المسيطرة على المال في الإقليم الشمالي تناوئ الوحدة بوضوح وتعززت هذه الإجراءات في مصر حين تبين - بعد الانفصال - أن هذه الطبقة تشكل خطرا حقيقيا، وأنها تستطيع أن تهدد النظام القائم بما لديها من قوة اقتصادية.
كذلك سيكون من الصعب الرد على النقد الذي تردد على ألسنة الكثيرين، والذي قيل فيه إن هذه السيطرة على مرافق الإنتاج يمكن - في أحوال معينة - أن تنقلب إلى إجراء في غير مصلحة الشعب، إذا كانت السياسة العامة للدولة التي تحدث فيها هذه السيطرة سياسة مغامرات وشراء للأعوان والأنصار في الداخل والخارج. وكلها أمور تحتاج إلى أموال لن تتوافر إذا كان الإنتاج في أيدي أفراد.
ولعل الأمر الذي يدهشني حقا سكوت اليساريين عليه، في التجربة الناصرية، هو الانعدام التام للرقابة الشعبية على المال العام؛ فقد تدفقت أموال كثيرة، ابتداء من القصور الملكية المصادرة حتى أموال المجهود الحربي، مرورا بالحراسات وغيرها في مسارب ليست كلها معروفة، وظهرت حالات عديدة من الثراء غير المشروع لدى أفراد لم يكن إيرادهم أو دخلهم يسمح لهم بأن يكونوا من الأثرياء. والأهم من ذلك أن الوظائف العامة ذاتها أصبحت، خلال فترة طويلة من هذه التجربة، فرصة للحصول على مغانم، لا لأداء خدمات عامة ومن المؤكد أن أجهزة كثيرة كانت تعرف تفاصيل حالات استغلال النفوذ التي كان معدلها يزداد عاما بعد عام، ولكنها كانت تصمت أو تتستر عليها، ولا تستغل ما تعرفه من معلومات إلا في الحالات التي تريد فيها أن تفضح شيئا.
وبوصفي مواطنا عاديا يحس بالقلق على مصير بلاده، وبالحزن على أوضاع الملايين من فقراء شعبه، فإني لا أستطيع أن أتصور تجربة اشتراكية يكاد يكون استغلال النفوذ هو القاعدة فيها، والنزاهة هي الشذوذ ولقد كانت تلك بالفعل هي النتيجة المنطقية لانعدام الرقابة الشعبية على المال العام، ولأن معظم المستغلين كانوا يستندون إلى مراكز القوى، بأجيالها المختلفة، ومن ثم كانوا في كثير من الأحيان يرتكبون آثامهم بطريقة شبه علنية، اعتمادا على متانة «المسند» الذي يرتكزون عليه. وفي شعب فقير مطحون، كالشعب المصري، يصبح مثل هذا الاستغلال جريمة كان ينبغي أن يشنق مرتكبها علنا في أوسع الميادين، ومع ذلك فإن التستر كان هو القاعدة، وما زالوا يشاركون فيه إلى اليوم بدفاعهم المطلق عن التجربة الناصرية.
المقال الثاني
دفاع اليسار ... والرد عليه
كان العذر الذي يقدم لهذا التسيب في الداخل، ولهذا التراخي في تطبيق المعايير الاشتراكية الصحيحة على الحياة الاقتصادية للبلاد؛ عذرا مزدوجا: فقد كانت مصر تمر بمرحلة تريد فيها أن تثبت وجودها خارجيا، وأن تؤدي رسالتها على المستوى العربي والأفريقي ومستوى بلاد العالم الثالث بوجه عام. ومن جهة أخرى كان من الضروري بناء جيش قوي لدعم هذه السياسة الخارجية، ولتأكيد هيبة مصر في العالم والوقوف في وجه المؤامرات المناوئة، التي كانت إسرائيل هي الأداة المختارة لتنفيذها، وبالفعل أثبتت مصر وجودها، خلال فترة التجربة الناصرية، على نحو لا يستطيع أحد أن ينكره، وتمت إنجازات على الصعيد الخارجي جعلت للتجربة الناصرية سمعة عالمية وسط بلاد العالم الثالث.
وإذا كان هناك من مأخذ على هذه الإنجازات، فربما كان المأخذ الوحيد هو نجاحها الزائد ذاته؛ ذلك لأن هذا النجاح كان يغري بمزيد من الاهتمام بالسياسة الخارجية على حساب الأوضاع الداخلية للشعب.
وحين أقول «على حساب»، فأنا أستخدم هذه الكلمة بمعنيين:
Bilinmeyen sayfa
المعنى الأول:
معنى تجاهل هذه الأوضاع الداخلية وإبداء اهتمام ضئيل بها، ما دام النجاح الخارجي يحجب سوء الأوضاع في الداخل ويمتص أي سخط يمكن أن يترتب عليه.
المعنى الثاني:
الأقرب إلى المعنى الحرفي ، هو الإنفاق المتزايد على العمليات الخارجية من أموال كان الشعب في الداخل أحوج ما يكون إليها.
وأنا لا أنكر أن الحدود الفاصلة بين «السياسة الخارجية» و«السياسة الداخلية» مرنة ومطاطة إلى أبعد حد بحيث لا يكون من الصواب إيجاد فاصل قاطع بينهما، ولكن هذه الحقيقة هي ذاتها التي تدفعني إلى توجيه هذا المأخذ: فالسياسة الخارجية الناجحة لا بد أن ترتكز على جبهة داخلية قوية، وعلى قاعدة شعبية مؤمنة بها، وقادرة على الاضطلاع بأعبائها؛ لأنها حققت - على الأقل - حدا أدنى من طمأنينة العيش، ولكن المؤسف أن عدم التناسب بين الاهتمام الخارجي والاهتمام الداخلي بلغ حدا جعل هذه السياسة الخارجية الناجحة مفروضة «من أعلى» وليست مخططة ومرسومة بوصفها الحصيلة النهائية لموقف المجتمع ككل من مشكلات العالم الخارجي، ولو كانت الجبهة الداخلية التي تستند إليها تلك السياسة الخارجية - التي كانت وجهتها العامة سليمة بالفعل - أقوى مما هي عليه، لتغلبت تلك السياسة بسهولة على كثير من العقبات التي تراكمت عليها، وخاصة في النصف الأخير من فترة التجربة الناصرية.
أما بناء الجيش القوي، الذي كان واحدا من أهم الأهداف الستة لثورة 1952م فكان أمرا لا مفر منه إزاء التحدي الصهيوني الذي أثبت بعد عام 1956م أنه لم يلتهم فلسطين فحسب، بل أصبح يهدد كل بلد عربي ذي نزعة استقلالية داخل أرضه. ومن المؤسف حقا أن الأموال التي أنفقت في سبيل هذا الهدف، والجهود التي بذلها عسكريون مخلصون يفخر بها تاريخنا القومي، قد ضاعت هباء بسبب التفكك الذي أصاب القيادات العسكرية في ذلك الحين، والذي جعلها تبدد عرق الشعب المصري وماله الذي كان يعتصره من قوته الضروري، وتتركها تحت رحمة العدو كل عشر سنوات.
والواقع أنه في وسع الكاتب أن يتحدث في هذا الموضوع بمزيد من الرؤية الواضحة بعد حرب أكتوبر، التي كانت أول امتحان حقيقي لجيشنا وهو امتحان أثار نجاحه فيه دهشة العالم أجمع. ففي ضوء إنجازات هذه الحرب الأخيرة نستطيع أن ندرك فداحة الخسارة التي لحقت بوطننا وبجيشنا، في الحربين السابقتين؛ نتيجة لتفسخ القيادات واهتمامها بكل شيء ما عدا مهمتها الأصلية. والشيء الذي يدعو إلى الأسى هو أن هذا التفسخ كان معروفا للأجهزة التي كانت تحصي على المواطنين العاديين حركاتهم وسكناتهم، ومع ذلك لم يحاول أحد تدارك الأمر ووضع الجيش في أيد أمينة، جادة، تعلم أن رسالتها الحقيقية هي الحرب والدفاع عن الوطن، لا الإغراق في الملذات والدخول في مناورات ومؤامرات شخصية.
ولم تكن النتائج المترتبة على انحلال القيادات العسكرية متعلقة بأوضاع الجيش ذاته فحسب، بل لقد انعكست هذه النتائج بوضوح على السياسة الخارجية والداخلية معا.
ففي مجال السياسة الخارجية، كان إخفاق السند العسكري الذي لا غناء لهذه السياسة عنه مؤديا إلى انتكاسات أضاعت كثيرا من المكاسب التي تراكمت على مر السنين، وأوضح دليل على ذلك هزيمة يونيو 1967م وما أدت إليه من فقدان للهيبة وللمكانة الدولية، ومن ارتداد بالأهداف القومية إلى مستويات أدنى بكثير مما كانت تسعى إليه طوال السنوات السابقة.
وفي مجال السياسة الداخلية كانت كل هزيمة عسكرية تعني تبخر عصارة شقاء الإنسان المصري طوال سنوات عدة، وإلحاق هزيمة مماثلة بآمال هذا الإنسان في حياة أفضل، وقد كانت أحوال القيادات العسكرية خلال الفترة الناصرية ذات تأثير كبير في نجاح التجربة الاشتراكية أو إخفاقها، وكان من واجب اليساريين أن يتأملوا بإمعان ما في هذه الأحوال والأوضاع من سلبيات واضحة، انعكست آثارها على التجربة الاشتراكية إلى الحد الذي أدى إلى تشويهها ومسخ معالمها.
Bilinmeyen sayfa
القمع والرضا به
على أن سلبيات التجربة الناصرية في الاشتراكية لا تقتصر على الأمور المادية - كالاقتصاد والجيش - فحسب، بل إن السلبيات المعنوية أخطر وأهم؛ ذلك لأن الاشتراكية الحقة إنما هي إعلاء لشأن الإنسان قبل كل شيء، وعمل دءوب من أجل تحريره من كافة ألوان الاضطهاد والاستغلال، المعنوي منه والمادي. وهي تتعهد أسمى ملكات الإنسان بالرعاية، فتشجعه على التفكير المستقل، وعلى استخدام عقله في معالجة مشكلاته، وتحيي فيه الشعور بآدميته وآدمية الآخرين معه.
والشيء الذي لا أستطيع أن أستسيغه في أية تجربة تصف نفسها بالاشتراكية، هو أن تمتهن الإنسان وتعمل على إذلاله ، وأنا لا أعني بذلك تجربتنا السابقة بالذات، بل إن حكمي ينسحب على أية تجربة أخرى تتخذ تدابير تؤدي في نهاية الأمر إلى سحق الإنسان. صحيح أن الثورة قد تجد نفسها مضطرة إلى قمع أفراد في طبقة معينة يعملون على مناوأتها، ولكن هذا القمع يتم في نهاية الأمر لصالح القيم الإنسانية التي تراعى في حالة الطبقات الكادحة مراعاة كاملة. أما أية ثورة تقمع الجميع لحساب الطبقة الحاكمة وحدها، فليطلق عليها أصحابها وأنصارها ما يشاءون من الأسماء ما عدا الاشتراكية.
والحق أن التجربة الناصرية قد تضمنت من عناصر القمع ما يتجاوز بكثير نطاق التدابير المشروعة التي تحمي بها الثورة نفسها من أقلية معادية لصالح المجموع. فالإنسان المصري قد خرج من هذه التجربة مختلفا، في جوهره الباطن، اختلافا جذريا عما كان عند بدايتها؛ لقد كان في البدء يشعر بأنه يستطيع أن يتكلم، وأن يناقش وأن يعترض، وبأن البلد بلده، وله فيها رأي مسموع، صحيح أن كثيرا من الأحزاب - وخاصة أحزاب الأقلية - كانت تتصرف على نحو يجعل من هذا الشعور أمرا خاليا من أي مضمون، ومن أية نتيجة عملية ولكن الشعور ذاته ظل موجودا، وكان يعبر عن نفسه حالما تتاح له الفرصة بانتخاب حزب الوفد - الذي كان بالفعل أكثر الأحزاب شعبية - بأغلبية كبيرة. وصحيح أيضا أن هيكل البناء الاجتماعي والاقتصادي كان من شأنه أن يسلب هذا الشعور كل قيمة له، إذ كانت ثروة البلاد في يد فئة ضئيلة من الإقطاعيين والتجار والرأسماليين الذين يتحكمون على طريقتهم الخاصة، في أرزاق الملايين. ومع ذلك فإن الإنسان المصري كان في أحلك الأوقات يشعر بأن الاضطهاد لا بد أن تكون له نهاية، ويقف في وجه مضطهديه إلى الحد الذي يرغمهم، في بعض الأحيان، على التراجع، كان هناك على الأقل، الشعور بالأمل، وبأن مكافحة الظلم يمكن أن تأتي بنتيجة، ولو على المدى الطويل، وبأن من يقمع الحريات ليس من حقه أن يقمعها ولا بد أن يعرف ذلك.
ولكن هذا الإحساس أخذ يختفي منذ اللحظات الأولى للتجربة الناصرية، ورسمت سياسة لا بد أنها كانت منظمة ومخططة من أجل القضاء على هذه المعاني في نفوس الناس، وبأن إجراءات القمع لا ينبغي أن تقاوم ولا حتى بالكلام، وحوكم أشخاص، في السنوات الأولى، وعوقبوا سنوات طويلة من الأشغال الشاقة لأنهم رددوا إشاعات، أي عارضوا واعترضوا، في أحاديثهم الخاصة، وتسلل الرعب إلى النفوس بالتدريج، ومع الرعب ظهرت السلبية، والنفاق، والتحدث بلغتين، والجهر بعكس ما يؤمن به الإنسان. وفقد الإنسان المصري قدرته على الرفض والاعتراض، والاحتجاج، ومن فقدان هذه القدرة فقد ملكة التفكير العقلي المتزن، والحكم على الأمور حكما صائبا: إذ كان القمع مصحوبا بحملة دعاية منظمة، قائمة على أسس علمية مدروسة تستهدف في نهاية الأمر ألا يكون هناك إلا رأي واحد وألا يسمع الناس إلا وجهة نظر واحدة، تظل تردد مرة تلو المرة إلى أن يصدقها كل من كان يقاومها ولم يكن مقتنعا بها في مبدأ الأمر.
هذا التخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله، هو في رأيي أكبر سلبيات التجربة الناصرية، وحتى لو كان الهدف الذي تحذقه عملية التخويف، وإسكات الأصوات، وتعطيل ملكات التفكير النقدي، هدفا وطنيا مائة في المائة فإني أعد التجربة التي تلجأ إلى هذا الأسلوب أشد ضررا على الإنسان من تلك التي تترك له قدرا من الأمل، ومجالا للاعتراض، وهي في الوقت نفسه تستغله وتنهبه، إن الأمرين بالتأكيد شر، ولكن ضرر التجربة الأولى أفدح.
ذلك لأن الإنسان هو، في نهاية الأمر هدف كل تجربة في الحكم، وبقدر ما تأخذ هذه التجربة بيد الإنسان لتعيد إليه الشعور بكرامته، وبأن كلمته مسموعة، وبأن له دورا يؤديه في وطنه، وبأن الحاكمين يستجيبون لرغباته ولا يفرضون عليه رغباتهم، تكون تجربة الحكم ناجحة ولقد كانت التجربة الناصرية تؤكد، على الدوام، أن هذا عين ما تقوم به، ولكن النتيجة الحقيقية لهذه التجربة أتت على عكس ما كانت تنادي به دعايتها ويؤكده إعلامها. كانت النتيجة الحقيقية هي إحساس الإنسان المصري العادي بأن هناك من يفكر له، وبأنه ليس في حاجة إلى التفكير، وبأنه حتى لو فكر فلن يجديه ذلك شيئا؛ لأن الأمور ستسير دائما كما يريد أصحاب السلطة، وكانت النتيجة الحقيقية هي اعتياد الإنسان المصري الانكماش والسلبية، والوقوف موقف المتفرج غير المكترث، وحتى المكترثين منا، والمعجبين بنتائج التجربة، كانوا يصفقون بطريقة سلبية: أعني أنهم كانوا يصفقون إعجابا وانبهارا بقرارات مفاجئة تصدر من أعلى ولا يؤخذ رأيهم فيها. والفرق هائل بين هذا النوع من التصفيق وذلك الذي يهلل فيه الناس؛ لأن القرارات التي طالما نادوا بها، وشاركوا في صنعها وفي الدعوة إليها بإيجابية وفعالية، قد صدرت أخيرا.
الخطأ، والخطأ المقصود
لقد أصبح الإنسان المصري، من فرط خوفه وانكماشه، يقبل أوضاعا ما كان ليقبلها من قبل. أصبح يقبل باستسلام فكرة وجود قانونين، قانون للمحكومين وقانون للحاكمين، وصحيح أن، من حيث الأمر الواقع، كانت مصر طوال الجزء الأكبر من تاريخها تعاني من عدم تطبيق قوانين المحكومين على الحاكمين، ولكن كان الشعور بالسخط - يعبر عن رفض مكتوم لازدواجية القانون، لكن أخطر الظواهر في التجربة الناصرية هي أن الناس أصبحوا بالتدريج يقبلون هذه الازدواجية بوصفها أمرا طبيعيا، ولا يدهشون لها، ولا يعلقون عليها، وكأنها جزء من طبيعة الأشياء هذا هو ما أعنيه بالتخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله. فالمشكلة لم تكن انتشار مظالم أو استثناءات، بل كانت في اعتياد الإنسان عليها إلى حد أنه أصبح يراها شيئا طبيعيا؛ بحيث تبلد الإحساس بالظلم، وتحول الاستثناء إلى قاعدة لا بد من قبولها باستسلام.
ولكي يدرك القارئ ما أعنيه، أود أن أضرب له مثلا بسيطا: ففي أواخر عهد ما قبل ثورة 1952م، انشق مكرم عبيد على حزب الوفد المصري وأراد أن يبرر انشقاقه ويكشف فضائح الوفد فألف الكتاب الأسود الذي عدد فيه حالات استغلال النفوذ والاستثناءات في مختلف فترات تولي الوفد الوزارة. ولو ألقى المرء نظرة واحدة على هذا الكتاب، في ضوء التطورات التي حدثت بعد ذلك، لاستبدت به الدهشة وعجب كيف تستخدم وقائع بسيطة كهذه في التشنيع على أكبر حزب في البلاد: إذ تجد فيها حالة الموظف رقي درجتين بصورة استثنائية في مدى عام أو عامين، وتجد فيها حالات استغلال نفوذ في بناء مرافق خدمات خاصة وخدمات عامة في الوقت ذاته، في حدود لا تتجاوز بضعة ألوف من الجنيهات، ولكن الأمر الذي يلفت النظر حقا هو أن هذه الوقائع ظلت محور أحاديث الصحف ومناقشات الناس فترة طويلة. وأنا لا أضرب هذا المثل لكي أدافع عن مكرم عبيد أو أهاجمه (وإن كنت أفضل لو أنه لم يختم جهاده الطويل بمثل هذا الكتاب)، ولكن ما يهمني في الأمر هو إحساس الناس بأن الاستثناء شيء مستنكر، وبأنه يستحق التنديد والتشنيع حتى لو لم يكن من الممكن القضاء عليه بصورة مباشرة.
Bilinmeyen sayfa
قارن هذه الحالات المخففة التي كانت أقصى ما استطاع مكرم عبيد أن يجمعه (والتي بالغ في بعضها دون شك)، بما حدث بعد ذلك من استثناءات ومن استغلال نفوذ، وستجد في ضوء هذه المقارنة أن الكتاب الأسود قد أصبح ناصع البياض.
ولكن الأخطر من حالات الانحراف ذاتها، هو رد فعل الناس إزاءها: فبقدر ما استنكروها، وهي قليلة ومخففة، ومتعلقة بأشخاص في قمة الحكم، أصبحوا بعد ذلك يقبلونها بوصفها شيئا عاديا، ومألوفا على الرغم من تكاثرها وتكاثفها الشديد، وعلى الرغم من أن كثيرا من مرتكبيها كانوا نكرات بلا وزن، هذا الإحساس المتبلد، الذي لم يعد يستنكر الظلم، أو يسعى إلى محاربته، هو أخطر آفة تصيب الأمة، وهو الخطر الحقيقي في مستقبلها.
ولكي تبرر التجربة الناصرية أمثال هذه الانحرافات التي لم يكن هناك مفر من أن تتسرب أنباؤها من آن لآخر، أطلقت شعار «من لا يعمل لا يخطئ» وكان المقصود من الشعار أن هناك عملا وجهدا وبناء متصلا، وأن من الطبيعي وسط هذا العمل المستمر أن تحدث أخطاء، وأننا كنا نستطيع أن نتجنب الخطأ بألا نعمل ولا نبذل جهدا، ولكن من الأفضل، بطبيعة الحال، أن يعمل المرء ويخطئ بدلا من ألا يعمل ولا يخطئ وبقدر ما كان الشعار براقا، وانخدع به الكثيرون، فإني أعده واحدا من أخطر الشعارات التي أضرت بحياتنا وقيمنا ومعاييرنا الأخلاقية.
ذلك لأن الشعار يرتكب مغالطة كبرى في كلمة «الخطأ» إذ إن نوع الخطأ الذي يمكن أن يجعل لهذا الشعار معنى مقبولا بالمقاييس الخلقية السليمة، هو ذلك الخطأ غير المقصود، الذي يرتكبه المرء رغما عنه من فرط ما يبذله من جهد، أما الخطأ الذي كان هذا الشعار يهدف إلى تبريره والدفاع عنه، فكان خطأ مقصودا ومتعمدا، ارتكب بروية وتفكير وعن سبق إصرار وترصد، يرمي إلى إكساب مرتكبه مغانم لا يستحقها، من قوت شعب فقير مطحون.
مثل هذا الخطأ ليس من النوع الذي لا بد أن يقع فيه المرء في زحام العمل، بل إن من يخلص حقيقة في عمله هو أبعد الناس عن ارتكابه. إنه بالاختصار، ليس خطأ، بل جريمة وسرقة. ومن يعمل من أجل بلاده يستحيل أن يرتكب أمثال هذه الموبقات. ويكفي، لكي ندلل عن خطورة هذا الشعار، أن نترجمه إلى معناه الحقيقي، فيصبح «من لا يعمل لا يسرق»، «من لا يعمل لا يأكل قوت الشعب» والحق أن مجرد التفكير في إطلاق هذا الشعار هو في ذاته عمل يدل على استعداد كامل للانحراف، ومن عجائب الدنيا أن يطلق شعار كهذا في عهد اشتراكي، وأن يبتلعه اليساريون ويسكتوا عنه.
الوجه السلبي والوجه الإيجابي
إن للنظم التقدمية مؤشرات معروفة تدل - دون حاجة إلى مجهود - على أنها حققت أهدافها أو سارت في طريق تحقيقها بجدية ومن هذه المؤشرات القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة. وأخشى أن أقول إننا لو طبقنا هذه المعايير على التجربة الناصرية لكان من الصعب أن ندرجها ضمن النظم التقدمية. فالأمية قد ظلت نسبتها على ما هي عليه، مع أن البلاد الاشتراكية - بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة - اتخذت من محو الأمية هدفا من أوائل أهدافها، وتمكنت فعلا من تحقيقه دون جهد كبير. وإنا جميعا لنعلم، ويعلم اليساريون بوجه خاص، أن اقتراحات كثيرة قد قدمت في هذا الصدد، تستهدف الإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في محو الأمية، مع مراعاة ظروفنا المحلية. وأن الكثيرين قد رددوا إلى حد الإملال أن القضاء على هذه الوصمة واجب مقدس على الدولة، وعلى التنظيم السياسي بوجه خاص غير أن الاتحاد الاشتراكي ظل خارج الموضوع كله، وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد؛ لأنه كان بطبيعة الحال مشغولا بما هو «أهم».
أما التعليم فإن التوسع الكمي الهائل فيه - وهو عنصر إيجابي بلا شك - قد اقترن بتدهور كيفي رهيب أصبح يشكل بالفعل خطرا على مستقبل هذه الأمة. وأما الانحرافات، فإنا لم نسمع مثلا أن إدمان المخدرات قد توقف، أو تضاءلت نسبته بل على العكس من ذلك ازداد استفحالا برغم تشديد العقوبات. وبقدر ما أعلم فإن قيام نظام اشتراكي حقيقي في أي مجتمع يؤدي إلى اختفاء ظاهرة إدمان المخدرات، أو تناقص معدلها إلى حد ملحوظ؛ لأن الإدمان هروب من واقع قاس وبحث عن الأمان وسط ضباب الأوهام، والمجتمع الاشتراكي يقدم لأفراده واقعا أفضل، ويكفل لهم الأمان وزوال الهموم المرتبطة بوسائل العيش.
ولست أود أن أتحدث عن تدهور الصحة العامة، وعجز الفقير عن أن يجد العلاج ومهزلة الوحدات المجمعة، فتلك كلها أوجاع يعرفها الجميع، وتعاني منها الأغلبية الساحقة.
هذه كلها سلبيات لم يخترعها أحد، ولا يوجد فيها أدنى نصيب للمبالغة، وإنما هي تعبير صريح عن واقع موضوعي ... ولا جدال في أن من حق المدافعين عن التجربة الناصرية أن يؤكدوا أن صورة الواقع الموضوعي لا تكتمل إلا إذا أضيفت إليها الإيجابيات، ولكن مثلما يتهم هؤلاء المدافعون خصومهم بأنهم لا يكشفون إلا عن وجه واحد للصورة؛ هو الوجه السلبي، فإن خصومهم يتهمونهم - عن حق - بأنهم لا يكشفون بدورهم إلا عن الوجه الإيجابي لتلك الصورة، متغافلين تماما عن وجهها السلبي الذي يشكل حقيقة لا جدال فيها.
Bilinmeyen sayfa
المقال الثالث
عبد الناصر لم يتحول تجاه اليسار ... وإنما حول اليسار تجاهه!
من حق اليسار، قبل أن نفسر موقفه من التجربة الناصرية أن نرد على سؤاله المشروع: لماذا التركيز على سلبيات هذه التجربة في هذه الأيام؟
إن هذه الظاهرة قد لا تكون كلها عن سوء نية، أو عن رغبة في اصطياد الأخطاء؛ ذلك لأن الإيجابيات معروفة، وهي ليست معروفة فحسب، بل ظلت تعاد وتكرر وتردد على مسامعنا حتى حفظناها عن ظهر قلب.
وأصبحت تؤلف نسبة كبيرة مما يتعلمه أبناؤنا في المدارس ويمتحنون فيه آخر العام. وإنه لمن الطبيعي تماما، بعد أن ظلت وسائل الإعلام كلها تردد على مسامعنا وأمام أعيننا الحديث عن هذه الإيجابيات ثمانية عشر عاما، أن يكون رد الفعل بعد ذلك هو التركيز على السلبيات، فتلك ظاهرة إنسانية لا مفر منها. ولو شئنا أن نحدد المسئولية الحقيقية عن الحملة التي تركز على سلبيات التجربة الناصرية في هذه الأيام، دون إيجابياتها؛ لقلنا إن المذنب الأكبر في ذلك هو أجهزة الإعلام في العهد الناصري؛ إذ إن تركيزها على الدعاية للإيجابيات وحدها، والأسلوب المفرط في المبالغة، الذي كانت تلجأ إليه في هذه الدعاية، يتحمل النصيب الأكبر من المسئولية عن رد الفعل الذي يظهر في هذه الأيام.
ومن ناحية أخرى فإن الوعي السياسي الناضج لا يجد غضاضة في التركيز على السلبيات، مهما كانت قيمة الإيجابيات التي تقف إلى جانبها. ولدينا على ذلك مثل واضح في موقف الصحف الأمريكية من نيكسون أيام أزمة ووترجيت: إذ كان نيكسون قد اكتسب قبلها رصيدا إيجابيا، وخاصة في ميدان السياسة الخارجية يضعه في مستوى الرؤساء الأمريكيين القلائل جدا الذين نجحوا في تغير وجه السياسة الأمريكية تغييرا جذريا نحو الأفضل، ولكن ظهور فضيحة ووترجيت جعل الجميع يركزون على الجوانب السلبية في حكمه، ولم يشفع له نجاحه التاريخي في الميدان الخارجي، ولم يحاول هو ذاته أن يلتمس لنفسه عذرا بهذا النجاح؛ ذلك لأن الخطأ يظل خطأ حتى لو أحاط به الصواب من كل جانب.
وقل مثل هذا عن تشرشل حتى أسقطه الشعب البريطاني في الانتخابات عقب الحرب العالمية الثانية التي أحرز فيها تشرشل انتصارا سيذكره له التاريخ، أو عن ديجول الذي سقط في آخر انتخابات دخلها، بعد أن أنقذ بلاده من تخبط الجمهورية الرابعة وسياستها الحمقاء، ووضع السياسة الفرنسية في طريق الاستقرار؛ فضلا عن اعترافهم به بطلا قوميا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وبالاختصار، فقد تكون المسألة راجعة إلى عاطفية مفرطة لدى الشرقيين، أو إلى عدم النضج الذي يجعلهم يخلطون بين العواطف على المستوى الشخصي والأحكام على المستوى السياسي الموضوعي. ولكن أيا كان الأمر فإن من يهتف في كل مرة يقرأ فيها حكما سلبيا على التجربة الناصرية: لماذا لا تذكرون الإيجابيات؟ ليس دائما على صواب. ومن يركز حديثه على السلبيات وحدها ليس دائما على خطأ.
والآن، أعود فأتساءل: ما الذي جعل اليسار يتخذ هذا الموقف، ويدافع دفاعا مطلقا عن تجربة لم تكن في حقيقتها يسارية بالمعنى الصحيح، ولم يكن لها من مقومات الاشتراكية، بالمقاييس العلمية الصحيحة، إلا أقل القليل؟
هذا السؤال يدخل بنا إلى لب الموضوع، ومن خلال إجابتنا عنه يمكن أن توضع قضية اليسار والتجربة الناصرية في موضعها الصحيح.
Bilinmeyen sayfa
والأمر المؤكد أن موقف اليسار، في الوقت الراهن، يمثل رد فعل على الاتجاهات اليمينية التي انتعشت بعد موت عبد الناصر، والتي تصورت أنها تستطيع أن ترث التركة، وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فاليسار، بدفاعه المستميت عن الناصرية، إنما يهدف إلى قطع الطريق على اليمين في اتخاذه هذا الموقف؛ إذ إن هناك خطرا حقيقيا من المد اليميني الزاحف ومن الوسائل الفعالة لإيقاف هذا المد التمسك بما أنجزته التجربة الناصرية.
وأنا أعتقد أن هذا الموقف اليساري، الذي يبدو سليما لأول وهلة، خطأ من أساسه. وليس مرد هذا الخطأ هو أنني مقتنع، بأي معنى من المعاني، بدعاوى اليمين، أو أنني مؤيد لمطالبهم، بل إنني لم أكتب هذه السطور - كما سيرى القارئ بعد قليل - إلا لكي أجرد اليمين من أسلحة يعطيها إياهم اليسار دون أن يشعر، وذلك حين يتخذ موقف الدفاع المطلق من التجربة الناصرية، وحين يربط مصير اليسار بنتيجة تقييمنا لهذه التجربة.
إن اليمين غول بشع يريد أن ينقض على هذا الشعب؛ لكي ينهش لحمه من جديد، ولكن اليسار الذي يتصور نفسه حارسا للشعب، وهو حارس غافل، يساعد اللص المعتدي دون أن يدري، ويقدم إليه - بقصر نظره - ما لم يكن يحلم به من خدمات.
ولذلك أود أن أكون في هذا الصدد واضحا وضوحا تاما؛ فأنا أعد دعوة اليمين الرجعي دعوة عدوانية ينبغي التصدي لها بكل قوة، وأنا أرفض بشدة أية محاولة من جانب اليمين لاستغلال ما أكتب من أجل تأييد قضيته التي أقف فيها ضده دون أي لبس أو غموض، ومن المستحيل أن أقبل استخدام ما أكتب لصالح مدخني السيجار من أصحاب المصانع السابقين، أو لصالح أصدقاء آل صيدناوي وأفرينو. ولو حدث أن استخدم أحد ما أكتب على هذا النحو المشين، فسيكون الخطأ في ذلك مرة أخرى هو خطأ اليسار ذاته، كما سأبين الآن.
ذلك لأن اليسار، بتجاهله لسلبيات التجربة الناصرية وإغماضه عيونه عن نقاط ضعفها التي ظهرت نتائجها أمام الشعب واضحة للعيان، في هزيمة 1967م بصورة سريعة صارخة وفي المصاعب الاقتصادية الرهيبة بصورة تراكمية بطيئة، قد ترك لليمين وحده شرف التنديد بهذه السلبيات، وإعلان نفسه حاميا للقيم التي أهدرتها تلك التجربة.
فاليمينيون، الذين كانوا يستهترون بالحريات والقوانين حين كان حكم البلاد في أيديهم، أصبحوا هم أصحاب أعلى الأصوات في المناداة بالحريات وسيادة القانون.
ولم يكن في وسعهم أن يجرءوا على هذه المغالطة الصفيقة لو لم يكن اليسار قد ترك لهم الميدان ليصولوا فيه ويجولوا، على حين ظل هو متمسكا بالدفاع عن تجربة يتمسك بأنها كانت اشتراكية تقدمية، بينما يثبت الواقع اليومي عكس ذلك.
وحين أتحدث عن الواقع اليومي، فإني لا أعني واقع رجل الأعمال الذي انتزعت منه مصالح أو سلب منه نفوذ، بل أعني الواقع اليومي للإنسان البسيط، صاحب المصلحة الحقيقية في الاشتراكية. هذا الإنسان البسيط هو الذي أحس بعيوب التجربة، وهو الذي أعلن سخطه عليها بشتى الصور المباشرة وغير المباشرة، وهو الذي لا بد أن ينقل هذا السخط إلى كل من يتمسك بالدفاع عنها بلا تمييز، على حين أن من ينبهه إلى سلبياتها يكتسب رضاءه.
ولقد كان سخط الإنسان المصري على التجربة الاشتراكية واضحا جليا - على سبيل المثال - في استقبال نيكسون، كان ذلك استفتاء غير رسمي على التجربة الاشتراكية المزعومة، ولم يكن الذي أعلن رفضه للتجربة هم الذين أضيروا منها فحسب، بل هم أولئك الذين لا يظهر أي مذهب اشتراكي إلا من أجلهم.
وموضع الخطر هنا هو أن الإنسان العادي حين يجد التجربة قد أخفقت، لا يستطيع أن يميز بسهولة بين المبدأ والتطبيق. وهكذا أصبحت طاقة السخط لديه منصبة على مبدأ الاشتراكية ذاته، مع أن ما يشكو منه ليس إلا تطبيقا خاطئا لمبدأ لو طبق بالطريقة السليمة لكان هو ذاته أول المستفيدين منه.
Bilinmeyen sayfa
ولا جدال في أن تمسك اليساريين بصواب التجربة السابقة، وإصرارهم العنيد على أنها كانت «اشتراكية» فعلا، كفيل بأن يفقدهم تلك القواعد الجماهيرية العريضة التي كانت تحوطهم بالعطف والتأييد حين كانوا يدعون إلى اشتراكية حقيقية، أي في تلك الفترات التي لم يكونوا فيها قد ارتبطوا بتجربة محددة في الحكم أصبحوا يدافعون عنها كما لو كانت تجربة تنتمي إلى صميم مبادئهم.
أمنا الغولة
ولنتساءل هنا: هل كانت تلك التجربة مؤيدة لليسار إلى الحد الذي تصوره اليساريون؟ وهل ساعدت بالفعل على خدمة المبادئ التي ظل اليساريون يدعون إليها طوال حياتهم؟
إن هذا السؤال، على الرغم من أهميته القصوى، يثير إشكالات يصعب البت فيها برأي نهائي في المرحلة الراهنة؛ نظرا إلى التعقيد الشديد للموضوع ووجود عناصر كثيرة فيه لن تتكشف إلا بمضي للزمن، ولكن في وسعنا أن نشير إلى بعض التساؤلات التي تطرحها التجربة، والتي تساعد القارئ على استخلاص النتائج المترتبة عليها بنفسه.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه قرارات التأميم، كانت قد مضت على اليساريين سنتان ونصف في المعتقلات، ومن الأمور التي ربما لم يخطر ببالهم التفكير فيها أنهم قضوا بعدها سنتين ونصفا أخريين في نفس المعتقلات أليس لهذه الظاهرة دلالتها؟ ألم يكن من المنطقي، إذا كانت تلك القرارات قد اقتربت مما ينادون منه ولو لمنتصف الطريق، أن يفرج عنهم بعدها؟
أما الإفراج الفعلي فقد حدث بدافع الرغبة في مجاملة طرف رئيسي في التوازن الدولي، على الرغم من نفور اليساريين الشديد من هذا التفسير، وتأكيدهم أن الإفراج كان نتيجة «لظروف موضوعية».
ومن المؤكد أن تفسيرهم هذا أكثر إرضاء لهم؛ لأنه يعطي لتضحياتهم معنى، ولكن من المؤسف أنه غير صحيح؛ إذ لو كان الدافع الحقيقي هو تلك «الظروف الموضوعية»، وحدوث تغير حقيقي في موقف السلطة الحاكمة تجاههم، لما ظلوا في المعتقلات بعد قرارات التأميم مدة تساوي تلك التي قضوها قبل صدورها.
ومما زاد في اضطراب أحكام اليساريين، بعد خروجهم، أن عددا كبيرا من أقطابهم عينوا في مراكز رئيسية في الدولة، وفي ميادين الإعلام والثقافة بوجه خاص، فازداد في نظرهم رجحان كفة التفسير المفضل لديهم، وهو أن سياسة الدولة الرسمية تزداد اقترابا منهم، وحتى عندما كانت تظهر من آن لآخر شواهد قاطعة تدل على بطلانه، كانوا يغمضون أعينهم عنها وكأنها لم تكن.
ولا جدال في أن النقلة المفاجئة من جحيم الواحات إلى رئاسة مجالس الإدارات، كانت عاملا من العوامل التي تساعد - ولو بطريقة لا شعورية - على استخدام منطق التبرير في مثل هذه الحالة، وهم على أية حال كانوا يعلمون جيدا، من تجربتهم السابقة، ما هو البديل المطروح أمامهم.
ولكن هل كان هذا التكريم والتمجيد لليساريين دليلا على تحول حقيقي، في السياسة الرسمية، نحو اليسار؟
Bilinmeyen sayfa
في واقع الأمر، لم تخسر التجربة الناصرية شيئا من هذا التغيير الذي أحدثته فجأة، ومن النقيض إلى النقيض، في معاملتها لليسار.
فهي أولا قد اكتسبت رضاء الاتحاد السوفيتي في وقت كانت فيه أحوج ما تكون إليه، ولكنها في الوقت ذاته لم تتحول تجاه اليسار، بل حولت اليسار تجاهها!
وبلا جدال في أن أيسر الطرق وأسرعها لانتزاع المخالب الثورية من التأثر هي أن نضع بين يديه المال والنفوذ بلا حساب؛ ومن هنا فإني أنظر إلى هذا التكريم لليسار على أنه هو الوجه الآخر لوضعه في المعتقل: فالأمران يؤديان نفس الوظيفة، وهي أن تسلبه الطاقة الثورية وكل ما في الأمر أن أسلوب التكريم أذكى، وأنفع، وأقل جلبا للمشكلات.
ولا ينبغي أن ننسى، بعد هذا كله، أن اليساريين هم الأوسع ثقافة، وهم الأقدر على الإقناع، والأقوى جاذبية في ميدان الصحافة والإعلام، ومن هنا فإن كسبهم إلى صف التجربة الناصرية كان مصدر نفع كبير لها؛ لأنه قدم لها «التنظير » الذي كانت تفتقر إليه، فبين اليساريين تجد أفضل المثقفين وأعمق المحللين وأبرع الكتاب، وكل ذلك كان أمرا لازما وحيويا لتجربة تحتاج إلى الدعاية أشد الاحتياج.
وإذن فلم يكن إغراء اليساريين، في رأيي، تعبيرا عن تحول التجربة الناصرية تجاههم، بل كان في الواقع كسبا خالصا لهذه التجربة، التي ظلت تسير في طريقها الخاص، وتخدم مصلحتها الخاصة حتى اللحظة الأخيرة.
على أن أكثر الأطراف ربحا في هذه العملية كلها كان خصوم الاشتراكية الذين كانوا يتفرجون على اللعبة وقد فركوا أيديهم مسرورين ... فها هو ذا النظام يقدم إليهم خدمة لا يحلمون بها، إذ نجح في ربط الاشتراكيين بعجلته، وجعل سمعته الاشتراكية كلها مرتبطة بتطبيق غير سليم لها، وهكذا تطوعت التجربة الناصرية بإعطاء صورة غير مستحبة للاشتراكية في أعين الجماهير.
ومن هنا أكاد أكون موقنا بأن المعسكر الرأسمالي العالمي كان سعيدا كل السعادة بهذه التجربة التي قدمت إليه خدمة مجانية جليلة، وكان ينتظر الوقت الذي يصبح فيه إخفاقها مدويا؛ لكي يتقدم هو باعتباره البديل المنقذ، وهو واثق من أن الجماهير التي لم تنل شيئا من مكاسب الاشتراكية الحقيقية لن تتردد في تلبية دعوته.
فالتجربة الناصرية، في رأيي، كانت تحمل في داخلها كل العوامل التي تؤدي إلى انتعاش اليمين وإضعاف اليسار وفقدانه للقاعدة الشعبية، على الرغم من أن ظواهر الأمور توحي بعكس ذلك. وليست التطورات التالية على الإطلاق، في رأيي، «ارتدادا» أو «انحرافا» نحو اليمين، بل إن منطق الأحداث كان يحتم أن يكون رد الفعل في اتجاه البديل، وفي صف الطرف الآخر لمجرد كونه شيئا «مختلفا» عما جرب وأثبت فشله.
لقد كان موقف التجربة الناصرية من اليسار، في سنواتها الأخيرة على الأخص، أشبه «بأمنا الغولة» في الحكايات الشعبية: فقد كانت تقتله وهو في أحضانها، ولم يكن القتل يحدث عفوا، ولا من شدة ضغط الأحضان، بل لقد كانت تعرف جيدا ما تفعل: فالقتل بالأحضان كان في ذلك الحين أفضل بكثير من القتل بالمخالب والأنياب.
ولو فهم اليسار معنى ما كان يحدث لعرف أن هذا الاحتضان هو الذي سيؤدي فيما بعد إلى فقدانه قواعده الجماهيرية لفترة طويلة، لا بد أن تدوم حتى الوقت الذي يعرف فيه كيف ينفض عن نفسه غبار التجربة الفاشلة، على حين أنه لو كان قد قتل بالمخالب والأنياب لكان الأمل كبيرا في أن تظل هذه القواعد متعلقة بذاكرة، بوصفه المنقذ والملاذ، حتى يحين الوقت الذي يبعث فيه من جديد.
Bilinmeyen sayfa
وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى ضرورة استشهاد اليسار؛ لكي يحتفظ بقواعد الجماهير، بل إنني أقارن فقط بين طريقتين في محاربة اليسار، إحداهما أشد فعالية وأطول أمدا بكثير من الأخرى. وهي في الوقت ذاته أدهى وأذكى فضلا عما تتيحه من قدرة أعظم على المناورة في الساحة الدولية.
والمهم في الأمر أن النتيجة كانت محتومة، وأن امتصاص التجربة الناصرية لليسار، الذي بدأ في ظاهره، ولوقت ما، نصرا عظيما له، كان ينطوي في ذاته على عنصر «النكسة» التي حدثت فيما بعد للقوى اليسارية، ولم يكن تمسك اليسار خلال هذه النكسة بالتجربة الناصرية وإصراره على «يساريتها» سوى معول آخر ... يهدم به اليسار بناءه الذي شيده على مدى كفاحه الطويل.
لقد كان الذكاء والوعي هو الذي يميز اليسار طوال الفترات السابقة على التجربة الناصرية، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة لهذه الفترة أفقد اليسار وضوح الرؤية، وسلبه قدرته السابقة على النظرة الشاملة إلى الأمور والتحليل المتعمق لها.
ذلك لأن التجربة كانت تتبع أسلوبا جديدا كل الجدة في مواجهة اليسار عن طريق الاحتواء، وفي إفراغه من مضمونه الحقيقي وإحلال مضمون فيه قدر كبير من الزيف محله، مع الاحتفاظ بالعدد الأكبر من شعارات اليسار ومن أقطاب اليسار، بعد نقلهم المفاجئ - على طريقة حمام «الساونا» - من حمام البخار الملتهب إلى حوض الماء المثلج.
ومنذ ذلك الحين لم يعرف اليسار إلا الدوار واختلال التوازن، وكان من الطبيعي أن تشوه صورته أمام الجماهير التي كانت تتعلق به في أوقات ثباته وصلابته.
أما الموقف الراهن لليسار، فليس إلا النتيجة الطبيعية للأخطاء السابقة، وكل ما يبدو على السطح من تحول إنما هو في واقع الأمر تطور منطقي لم يكن هناك مفر من حدوثه، ويصل هذا التطور إلى نقطة مؤسفة حين يترك اليسار لليمين شرف المناداة بالحرية وسيادة القانون ومحاسبة المختلسين والقتلة والسفاحين - وقد عرفت مصر منهم الكثيرين بالفعل خلال السنوات الماضية - على حين أنه يقف مستنكرا لأية دعوة إلى محاكمة أخطاء الماضي، وكأنها ردة وجريمة لا تغتفر.
وبذلك يترك الميدان خاليا لليمين لكي يصول ويجول، ويرفع أسهمه من خلال مناداته بشعارات أصبحت تمثل بالنسبة إلى شعبنا أهدافا لا بد من السعي إلى تحقيقها، مع أن اليمين هو أول من كان يدوس هذه الشعارات بقدميه حين كانت مقاليد الأمور في يديه، وهو أول من سينتهكها لو آلت إليه هذه المقاليد مرة أخرى.
ثم تصل المهزلة إلى قمتها حتى يصبح اليمين هو الذي ينادي بالرفض والتغيير والتجديد، ويقف اليسار مطالبا ب «الستر» وبقاء الأمور على ما هي عليه. وبذلك يتبادل الأدوار مع اليمين تبادلا كاملا: فيصبح اليسار - الداعية التقليدية للتغير والتجديد - هو المحافظ والمتمسك بالوضع الراهن، على حين أن اليمين المحافظ بطبيعته تتاح له الفرصة كاملة؛ لكي يتقمص رداء الدعوة إلى التجديد والتغيير الثوري.
وبذلك تسرق من اليسار كل الشعارات التي قضى تاريخه الطويل كله داعيا إليها، وتصبح هذه الشعارات أداة لتجميل الوجه القبيح لليمين وتشويه صورة اليسار. كل ذلك لأنه يصر على إنكار الواقع الموضوعي الذي أحست به الجماهير في حياتها اليومية، ولم تكن محتاجة من أجل هذا الإحساس إلى نظريات أو تحليلات معقدة. وأعني بهذا الواقع أن التجربة السابقة لم تعط الإنسان المصري البسيط ما تعطيه التجربة الاشتراكية الناجحة للشعب الذي يمارسها، وأنها قد ارتكبت أخطاء موجهة ضد إنسانية هذا الإنسان، تتجاوز بكثير نطاق الخطأ غير المقصود الذي يقع فيه نظام الحكم الثوري في سعيه إلى تغيير الأوضاع بصورة مفاجئة.
وبعد، فإن هذه لا تعدو أن تكون محاولة لتحليل الموقف الراهن لليسار إزاء التجربة الناصرية، وردها إلى جذورها العميقة ولتخطي التفسير الساذج لنكسة اليسار من خلال أوضاع اللحظة الحالية وحدها.
Bilinmeyen sayfa