ثم ضربة المعلم، حيث يفاجئ العالم بتأميم القناة، أمام تحديات الدول الكبرى، رد الفعل الذي يشل حركة الغير، فيتخبطون وقد بوغتوا ... لازمة سوف تصبح من لوازمه، أو أنها كانت، ولكن الأحداث تبرزها في صورة ساطعة جلية، فهو رجل إذا ما تربصت به قوى لها وزنها، يحجم عن كشف أوراقه بمبادرة، وإنما يتريث عسى أن تنكشف اتجاهات الغير عن منافذ أو مكامن إيجاع وإثخان.
ثم تبرز صلابته، فيلتهب حماس دول العالم الثالث إعجابا، حين يصمد للعدوان الثلاثي عام 1956م، فإذا ما انحسرت جيوش بريطانيا وفرنسا، وثالثتهم إسرائيل، عن أرض مصر رفعت الأعلام في كل مكان، تهلل لانتصارنا المذهل على اثنتين من كبريات الدول الاستعمارية، ردت مدحورة، هضيمة النفس، مستخزية.
وإني لأشعر أني أخذت به في تلك الأيام، كأخذ غيري، فكأنه نبي اصطفته لنا العناية الإلهية، وتتلبس حواسي غشاوات، لا أقبل بأية حال أن يمس شخصه بنقد أو تشكك في التصرفات، بل أكذب نفسي، أكذب عيني إذا ما بدت لي منه، هنا أو هناك، بضع هنات. أضحيت (كما قد يقول توفيق الحكيم) فاقد الوعى أمام المعبود. هو الكل في واحد، تجسدت فيه متركزة أشد التركيز إنجازات مصر جميعا منذ أن كان لمصر تاريخ.
وربما إن كانت هذه نقطة التحول الخطيرة، وإن لم تبن آثارها إلا بعد سنوات من اختمار ... أو قل إنها فترة بذرت فيها بذور، أخذت تنمو وتترعرع وتتفرع، وتمد بأطرافها - جذورا وأغصانا - في تؤدة وإصرار حتى لم يبق في مصر لغيرها مكان.
فإن الشعار الذي رفع حينذاك، فنتسابق إلى الالتفاف من حوله، إيمانا بأن «مصر الثورة» قد ردت قوى الاستعمار العتيد على أعقابها مدحورة، إنما تحول تدريجيا إلى شعور وجداني عميق، بأنه لولا جمال عبد الناصر لما حصل ما حصل، فالانتصار هو انتصاره، وإن مصر ما كانت لتكسب المعركة لولاه، ولولا تلك العناية الإلهية - أو القوى الغيبية - التي اصطفته لنا زعيما ... وإن هذا لصحيح إلى حد كبير، بفضل تلك الصفات، وقل إن يكون لها نظير.
ولكننا تغافلنا جميعا عن أن مصر في حقيقة الأمر لم تكن قد انتصرت، وما كان بوسعها أن تنتصر، إنما عرفت فقط كيف تصمد حتى تتحقق الفرصة للولايات المتحدة، أو فوستر دلاس على الأصح، في أن يفرض على تلك الجيوش الانسحاب من أراضينا، أراد أن يلقن حلفاءه في بريطانيا وفرنسا درس العمر، فلا حركة ولا مبادرة إلا أن ترضى أمريكا فتأذن وإلا فإلى مذلة وخسران.
محاولة اعتراض
وإني لأذكر أن جمعتني ندوة إلى عدد من المهتمين بشئون السياسة الدولية، بعد تلك المعركة بسنوات عشر، فأرى تمسكا عجيبا بتلك النظرية. اختلقناها وكأنها مسلمة مطلقة منزهة من كل نقد، بأن حرب السويس قد وضعت حدا فاصلا، إلى غير رجعة، بين أساليب الاستعمار القديم بتدخلاته العسكرية السافرة وبين الاستعمار الجديد بأساليبه غير المباشرة في إقرار السيطرة.
وكنت أشعر أن التشبث بتلك النظرية إنما نابع من شعور الجميع بأننا إذا قلنا حرب السويس، فإنما نعني جمال عبد الناصر شخصيا، وأن أي تهجم على تلك النظرية إنما هو تهجم على شخص الزعيم!
وحاولت جهدي أن أدفع إلى المناقشة بأمثلة تدحض تلك النظرية من أساس، كالتدخل الأمريكي في لبنان عام 1958م، ثم في سان دومنجو عام 1965م، ربما إن كانت لهما ظروف خاصة، أولها التدخل الثلاثي ضد الثورة الكونغولية في يناير 1965م - قوات مظلية بلجيكية تحملها طائرات أمريكية، أقلعت من قواعد بريطانية - ثم بعد ذلك بشهر واحد، الهجوم الأمريكي على فيتنام الشمالية؛ إذ تضرب بالقاذفات الضخمة في موجات إثر موجات، ومتى هذا! بينما كوسيجن، رئيس الوزراء السوفيتي، في زيارة رسمية لهانوي.
Bilinmeyen sayfa