وارتجفت ركب محمد وكأنما غشاها زلزال لم يلبث أن اجتاح صوته، فقال بشفة عليا ترتعش: هو مش ح يكون هنا.
فقالت: لا، حداه الليلادي مولد.
وفي نوبة جنون حاد ضمها محمد حتى كاد يحطم ضلوعها، ورفعها ودار بها هي والبلاص فرحا، أكبر وأعظم وأروع فرحة مرت بحياته. •••
وعلى السطح، سطح كبيت الشيخ صديق نفسه، كمعظم البيوت، كله فتحات ومساقط وصوامع وقش أرز وحطب وغرابيل قديمة وأسلحة محاريث صدئة وسحالي. على هذا السطح، كان الميعاد، وبرغم خوفها الشديد ورعبها، ورغم سبها لنفسها وتفكيرها ألف مرة في الإحجام، إلا أن أم جاد وضعت لمحمد سلمها الناقص بضع سلالم المصلوب بحبل، وجلست تنتظر، وألف هاتف يطالبونها بالقيام وسلاسل من حديد تربطها إلى المكان، قوة قاهرة كالزمن والأقدار تجعلها تصم آذانها وعيونها عن كل شيء وهاتف، وتمضي تضع السلم أو تحبك الطرحة البيضاء وتدلك وجهها بقطرات اقترضتها من ماء الورد وتفعل هذا كالمنومة، كالمسوقة إلى قدر محتوم.
والغريب أن محمد لم يستعمل السلم أبدا في صعوده إلى السطح، فالسطح لم يكن عاليا، وبقفزة واحدة كقفزة جن كان قد صعد الحائط الواطي، ولم ير جيدا، فهو لا يجيد الرؤية بالليل، ولا حتى بالنهار، وعيونه لا ترى إلا إذا دعكها، وإذا دعكها احمرت، وإذا احمرت رأى الصومعة صومعتين، وفي الحقيقة لم تكونا صومعتين، إحداهما فقط كانت كذلك، والأخرى كانت أم جاد، وقد رأته ورأت حيرته، ولكنها قبعت في مكانها ساكنة لا تتحرك ولا تفتح فما، وبدلا من أن يبدأ محمد بحثه عنها قبع هو الآخر بجوار الصومعة من ناحيتها الثانية ولو ترك العنان لنفسه لدخلها واختبأ فيها ، فقد كان خائفا جدا، خائفا من الشيخ صديق أن يعود فجأة، ومن الله أن يغضب، ومن الجيران أن تحس أو تعرف، ولكنه رغم ذلك الخوف كان الدق الذي في قلبه دق فرح، فرح غامر دافق، حينما زهق من معرفة سببه قال لنفسه لا بد أنه الحب الذي يتكلمون عنه، فهو لأول مرة في حياته يواعد امرأة في بيتها وتواعده لا عن طمع أو من أجل بضعة كيزان أذرة تشويها، ولكن من أجله هو فقط ومن أجل سواد عيونه، رغم أن سوادها أبيض بما فوقهما من سحابات تمنع الرؤية، وحتى لو كان أعمى كلية وكانت أم جاد مشلولة تماما لالتقيا في تلك الليلة، فكل ما فيه كان مرهفا إلى كل ما فيها مشدودا إليه بقوة لا يمكن أن يوقفها ظلام أو تحول بينه وبينها صوامع أو حطب.
وكان لقاء، هو بنفس الفانلة واللباس وبوجه خشن حافل بالبقع والثقوب، وهي بجسدها القصير الأصفر صفرة لا سبب لها ولا تفسير وبابتسامتها المتدلية إلى ناحية، تدليا لم يلحظه محمد ولم يره فقد كان مشغولا عنه تماما، عقله مع الخوف من عودة الشيخ صديق والله والجيران وجسده مشغول تماما بجسدها، وكلاهما واقف، وكلاهما يرتعش، والدنيا مظلمة ظلاما ليس فيه بارقة أمل.
ومن بعيد جدا، وكأنما من بين النجوم جاءهما صوت الشيخ صديق، وقد بدأ يمسك بحلقة الذكر ويلعلع، وعلى وقع لعلعته المتقطعة التي لا يمكن التمييز بين كلماتها كانت أجساد الذاكرين تتمايل، وتتهدج الأصوات الخارجة من صدور تخفق بالخوف والأمل، بالمعصية والحاجة، بالإرادة والاستحالة، بالصبر الشديد وطول ضيق البال.
وتقريبا، وعلى نفس الوقع بدأ سقف البيت المعرش بأشجار وسدد، يهتز، ويخفق، خفقات، كنبض القلب، كلهث المحموم، بلا معنى وبلا هدف إلا أن تظل تخفق، وتظل الأفرع تزيق وعيدان الحطب وقش الأرز توشوش وتتغامز وتسري بينها الإشاعات الصوتية والهمسات الآثمة، صوت الشيخ صديق المنغم نفس نغمة صوت محمد وتمايل الأجساد وتمايل الأعواد، تهدج أصوات الذاكرين وتهدج أصوات الملتقين، نغمة واحدة، تكاد تشمل الكون كله وعلى وقعها خفق وعلى وقعها مستمر يخفق، أما السحالي فقد توقفت ذلك التوقف الغريب الذي يحدث لها أحيانا، توقف تام وكأنما ترد به على الحركة الكونية الهائلة من حولها وتشاهده وتشهد، إذا لزم الأمر، عليه، لم تتحرك إلا هناك، حين بدأت أصوات الذاكرين تضطرب وبدأ بعضها يرطن بالسريانية، ويصل، ويغيب عن الوجود، والحركة أيضا تغيب عن السقف، وتموت الهمسات والإشاعات في مهدها على أطراف عيدان الحطب. •••
وفقط كانت تلك هي المرة الأولى، ولم تكن أبدا الأخيرة، فقد عرف محمد الطريق إلى بيت الشيخ صديق، وبالذات إلى سطح البيت وكان مستحيلا أن يكف عن التردد عليه، كان كلما سمع الشيخ صديق يؤذن أو يحيي مولدا أو ليلة يترك ما في يده ويتجه إلى البيت وبقفزة واحدة كان يصبح على سطحه، ودائما وهذا هو الأغرب كان يجد الشيخة صابحة هناك بنفس طرحتها البيضاء وكأنها وصوت زوجها على ميعاد.
وفي تلك الأيام بالذات كان الشيخ صديق في أسعد حالاته، فقد كفت زوجته تماما عن مناقشته الحساب وتذكيره بالفأس والأرض، واكتفت بإلقاء نصائحها لابنها جاد الذي بدأ هو يخرج الفأس من مكمنها ويسرح بها للغيط، بل الأكثر من هذا أنه بدأ يلاحظ أن زوجته قد أصبحت شيخة بحق وحقيق كما يناديها الناس، ففي صلاتها إخلاص حقيقي، وفي دعواتها إلى الله أن يغفر لها ما تقدم من ذنوبها وما تأخر تبتهل بصوت خارج من أعماق نفسها، ولم تعد أبدا في حاجة إلى أن يذكرها بالنوافل أو توزيع الحسنات.
Bilinmeyen sayfa