بيت من لحم1
أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟1
على ورق سيلوفان1
أكبر الكبائر1
العصفور والسلك1
الرحلة1
حلاوة الروح1
الخدعة1
سنوبزم1
حمال الكراسي1
Bilinmeyen sayfa
سورة البقرة
هي1
بيت من لحم1
أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟1
على ورق سيلوفان1
أكبر الكبائر1
العصفور والسلك1
الرحلة1
حلاوة الروح1
الخدعة1
Bilinmeyen sayfa
سنوبزم1
حمال الكراسي1
سورة البقرة
هي1
بيت من لحم
بيت من لحم
وقصص أخرى
تأليف
يوسف إدريس
بيت من لحم1
Bilinmeyen sayfa
الخاتم بجوار المصباح.
الصمت يحل فتعمى الآذان.
في الصمت يتسلل الأصبع.
يضع الخاتم. في صمت أيضا
يطفأ المصباح. والظلام يعم.
في الظلام، أيضا تعمى العيون.
الأرملة وبناتها الثلاث.
والبيت حجرة.
والبداية صمت. •••
الأرملة طويلة، بيضاء.
Bilinmeyen sayfa
ممشوقة في الخامسة والثلاثين.
بناتها أيضا طويلات، فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن في السادسة عشرة، وكبراهن في العشرين، قبيحات، ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.
الحجرة - رغم ضيقها - تسعهن في النهار - رغم فقرها الشديد - مرتبة أنيقة، يشيع فيها جو البيت، وتحفل بلمسات الإناث الأربع، في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها الأنفاس حارة، مؤرقة، أحيانا عميقة الشهيق.
الصمت خيم مذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل، انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى، وأبرزها الصمت ... صمت طويل لا يفرغ، إذ كان، في الحقيقة صمت انتظار، فالبنات كبرن، والترقب طال، والعرسان لا يجيئون؛ ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع موجود؛ فلكل فولة كيال، ولكل بنت عدلها، فإذا كان الفقر هناك، فهناك دائما من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك، فهناك دائما الأقبح، والأماني تنال، أحيانا تنال، بطول البال.
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال، والتلاوة لمقرئ، والمقرئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم، وميعادها لا يتغير، عصر الجمعة يجيء، بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع، وحين ينتهي، يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضي. بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد.
دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه، أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت، دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل، دائما هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر، أبدا لا يتطلعن.
يدوم الصمت حتى يحدث شيء، يجيء عصر الجمعة، ولا يجيء المقرئ، فلأي اتفاق مهما طال نهاية، وقد انتهى الاتفاق.
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت، ولكن أيضا الرجل الوحيد الذي كان، ولو في الأسبوع مرة، يدق الباب، بل أشياء أخرى يدركن، فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدا كانت نظيفة، وصندله دائما مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون، وصوته قوي عميق رنان.
والاقتراح يبدأ: لماذا لا يجدد الاتفاق، ومنذ الآن، ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن، الانتظار ليس بالجديد، وقرب المغرب يأتي، ويقرأ، وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ، لماذا لا تتزوج إحدانا رجلا يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب، لم يدخل دنيا، وله شارب أخضر، ولكنه شاب، وبالكلام يجر الكلام، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.
البنات يقترحن، والأم تنظر في وجوههن، لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح، ولكن الوجوه تزور مقترحة، فقط مقترحة، قائلة بغير كلام: أنصوم ونفطر على أعمى؟ هن ما زلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون. مسكينات، لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه. - تزوجيه أنت يا أماه، تزوجيه. - أنا؟ يا عيب الشوم! والناس؟! - يقولون ما يقولون. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال. - أتزوج قبلكن؟ مستحيل. - أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك، تزوجيه، تزوجيه يا أماه.
Bilinmeyen sayfa
وتزوجته. زاد عدد الأنفس واحدة، وزاد الرزق قليلا، ونشأت مشكلة أكبر.
الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما، هذا صحيح، ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب، ولو صدفة؛ فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما، كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبيرات، عارفات، ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار، ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن، ولم يعدن إلا قرب الغروب، مترددات، خجلات، يقدمن رجلا، ويؤخرن رجلا، حتى يزددن قربا، وحينذاك يدهشهن، يربكهن، يجعلهن يسرعن، ضحكات، قهقهات رجل، تتخللها سخسخات امرأة ... أمهن لا بد تضحك، والرجل الذي ما سمعنه إلا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك، بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها، ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة، أنار، ها هو أمامهن، كلمبة الكهرباء، مضيء، ها هي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك. تلك التي كانت مستكنة في قاع المحجر.
الصمت تلاشى واختفى تماما، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء، نكت تترى وأحاديث، وغناء، صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوته عال، أجش بالسعادة، يلعلع.
خيرا فعلت يا أماه، وغدا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طعم الرجال.
نعم يا بنات، غدا يجيء الرجال ويهل العرسان، ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها، ليس الرجال أو العرسان، ولكنه ذلك الشاب، كفيف، فليكن، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان، هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة، ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.
الصمت تلاشى، وكان إلى غير رجعة. ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها، وعلى سنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟! وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء، وهم جميعا معا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات، متباعدات، يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن، يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات.
كان نهارها «غسيل» في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرا، ولكن، لما الليل عليه طال، والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر، يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعدادا لليل قادم. وذات مرة، بعدما شبعا من الليل، وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها، ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؛ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا، ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنا أن تجن، كان ممكنا أن يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى.
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا، وحبست معه أنفاسها، سكتت، بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون، راحت تتسمع، وهمها الأول أن تعرف الفاعلة. إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى. إن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق، ولكنها تتسمع، الأنفاس الثلاثة تتعالى، عميقة، حارة كأنها محمومة، ساخنة، بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها، أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقا واحتباسا. إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة مكتومة، وكومة أخرى، كلها جائعة، كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس، ليس أنفاسا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو أكثر.
غرقت في حلالها الثاني، ونسيت حلالها الأول، بناتها، والصبر أصبح علقما، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر، فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفي: البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبدا ليس مثل الجوع حرام. إنها تعرفه، عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه، وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه.
Bilinmeyen sayfa
جائعات، وهي التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن، هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن ، هي الأم، أنسيت؟!
وألح مهما ألح، تحولت الغصة إلى صمت. الأم صمتت، ومن لحظتها لم يغادرها الصمت.
وعلى الإفطار كانت، كما قدرت تماما، الوسطى صامتة.
وعلى الدوام ظلت صامتة.
والعشاء يجيء، والشاب سعيدا وكفيفا ومستمتعا ينكت، لا يزال، ويغني ويضحك، ولا يشاركه الضحك إلا الصغرى، والكبرى فقط.
ويطول الصبر، ويتحول علقمه إلى مرض، ولا أحد يطل.
وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في أصبعها، وتبدي الإعجاب به، ويدق قلب الأم، وتزداد دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم، لمجرد يوم واحد لا غير، وفي صمت تسحبه من أصبعها، وفي صمت تضعه الكبرى في أصبعها المقابل.
وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق.
والكفيف الشاب يصخب، ويغني، ويضحك، والصغرى فقط تشاركه.
ولكن الصغرى تصبح بالصبر والهم وقلة البخت أكبر، وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم، وفي صمت تنال الدور.
Bilinmeyen sayfa
والخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمى الآذان، وفي الصمت يتسلل الأصبع صاحب الدور، ويضع الخاتم، في صمت أيضا، ويطفئ المصباح، والظلام يعم، وفي الظلام تعمى العيون.
ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا إلا الكفيف الشاب.
فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة، تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا. إنه هو الآخر يريد أن يعرف، عن يقين يعرف، كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد؛ فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى، الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن، وكأنما الأصبع الذي يطبق عليه كل مرة أصبع، إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت، لماذا لا ينطق؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم؟
مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه.
ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وأبى أن يغادره.
بل هو الذي أصبح خائفا أن يحدث المكروه مرة، ويخدش الصمت، ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله، والويل له لو انهار بناء الصمت .
الصمت المختلف الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل.
الصمت الإرادي هذه المرة، لا الفقر، لا القبح، لا الصبر، ولا اليأس سببه .
إنما هو أعمق أنواع الصمت، فهو الصمت المتفق عليه، أقوى أنواع الاتفاق، ذلك الذي يتم بلا أي اتفاق. •••
Bilinmeyen sayfa
الأرملة وبناتها الثلاث.
والبيت حجرة.
والصمت الجديد.
والمقرئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين؛ إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك؛ شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر، وما دام محروما منه فسيظل محروما من اليقين؛ إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج.
أم على الأعمى حرج؟
أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟1
في البدء كانت النكتة.
وفي النهاية ربما أيضا تكون!
والنكتة في النكتة أنها ليست نكتة، ولكنها واقعة حدثت لأهل النكتة، صناعها المهرة، ورواتها العتاة.
النكتة لم تكن أن يستيقظ هذا العدد الكبير من الناس، لأول مرة في تاريخ حي الباطنية، وكر الحشيش والأفيون والسيكونال، ليؤدوا صلاة الفجر، هم الذين يبدأ نومهم بأذان الفجر.
Bilinmeyen sayfa
وليست النكتة أيضا أنهم أدوا الصلاة أنصاف مساطيل، أنصاف يقظى، ينسى الواحد منهم أنه قرأ الفاتحة، فيقرؤها ثانية ويعود ينساها، أو يعود يتذكر فيعود ينوي للصلاة في منتصف الصلاة.
النكتة في الحقيقة حدثت قرب نهاية الصلاة، نكتة لا تزال تنفجر بها صدور «الحشاشين» في الحي، أولئك الذين تعايشوا مع النكت المروية حتى ألفوها، فما كادوا يعثرون على نكتة حقيقية صارخة دارت وقائعها أمام أعينهم حتى تلقفوها كما يتلقفون «الشيشات» الجديدة، وعربات الكارو، والموتوسيكلات والأطفال الجدد، فيظلون يدندشونها، وبمزاج يزخرفونها ويتقنون روايتها ويتفننون في اختراع التفاصيل التي لم تحدث حتى أصبحت أهم وأعز جزء من فولكلور الحي وتاريخه وقصصه، توارت بجانبها في الحقيقة ملاحم بطولة ليس أقلها ملحمة «حنتيتة» ونسائه الأربع أمام الضابط والمخبرين في واقعة زقاق التعبان.
النكتة أنهم صلوا الركعة الأولى في أمان الله، وكذلك الثانية ، ولم يعد باقيا على انتهاء ركعتي الفجر إلا السجدة الأخيرة، ثم قراءة التحيات والتشهد والتسليم، أما السجود فقد سجدوا، قال الإمام الشيخ: الله أكبر، ثم سجد، وسجدوا جميعا وراءه. عشرة صفوف طويلة ملأت الجامع الصغير، أناس ساجدون في خشوع وإن كان سجودا غير مريح، فمعظمهم كان لم يقرب الصلاة من مدة، ومفاصلهم وعضلاتهم تصلبت حتى لم تعد تقوى على أوضاع الصلاة، ورددوا «سبحان الله» ثلاثا، ولكنهم حين لم يسمعوا «الله أكبر» من الإمام إيذانا بنهاية السجدة بدأ الوسواس يوسوس للكثيرين أنهم أخطئوا العدد، ومن جديد، وعلى مهل، قالوها، وأيضا لم تأت التكبيرة المنتظرة، وأقلية هذه المرة هي التي عاودها الوسواس! وأقلية أيضا هي التي بدأت تستنيم للوضع وتريح رءوسها المتعبة الدائرة، لا تزال، بما فيها من إرهاق وكيوف، أما الأغلبية فقد بدأ شيء من الاستغراب القليل يخالجها، استغراب كان ينهيه إحساسهم أن حالا سينطق الإمام التكبيرة ويعتدل وينتهي الوضع، وكلما أمعنت اللحظة في مضيها دون أن تأتي التكبيرة، كلما بدأت نقطة الاستغراب تتسع وبالتدريج تتحول إلى دهيشة ثم دهشة حقيقية، ثم ذهول، حين تأكد للجميع حتى للأقلية الموسوسة والمستنيمة أن السجدة طالت حقيقة، وأنها ليست بطئا من الإمام أو دعاء خاصا اختار لقوله وضع السجود، كما تأكد للجميع أنهم ليسوا أمام شيء عابر إنما هم بالتأكيد يواجهون حدثا، لا بد أن شيئا قد حدث ومنع الشيخ من إتمام السجدة، هنا تحركت الدهشة الحقيقية وتوزعت ألف احتمال واحتمال راحت تجوب الأدمغة المنحنية، لا تجرؤ على الاعتدال. رائحة غادية. متماثلة متناقضة. أمرض؟ أمات؟ أأغمى عليه؟ أتكون حشيشة أغراه بها شيطان منهم وبدأت «تكبس» على يافوخه؟
وأيضا، ورغم هذا كانوا متوقعين في كل لحظة تالية أن يرتفع صوته بالتكبيرة، طاردا الهواجس، معيدا الثقة بأن كل شيء طبيعي ولا غبار عليه - إلى عقولهم التي بدأت تسرح وتمرح وتنطلق إلى ما شاءت من خيال .
ولكن وقتا مضى، بالضبط لم يستطع أحد تحديده، وإنما حسب رواياتهم يتراوح بين الدقيقتين ونصف الساعة، إذا تجاوزنا عن مغالاة البعض وقولهم إنه استمر حتى سمعوا أذان الظهر من الجامع الأزهر، ناهيك عن المهولاتية الذين يصرون على أنهم، للآن، لا يزالون ساجدين.
ولكن المؤكد أن وقتا مضى بحيث أصبح مؤكدا حتى لأكثرهم غيابا عن الوعي أن الشيخ ليس أبدا على ما يرام، وأن التكبيرة بالتأكيد لم تصدر عنه وتنهي سجودهم الذي جعل الشخير يتصاعد من حلقين على الأقل من الحلوق التي تراخت، وبدأ لعابها يسيل.
وهنا فقط بدأ يتجسد أمامهم إشكال حقيقي يواجهه كل منهم منفردا ولأول مرة في حياته، ماذا بالضبط عليه أن يفعل؟ وما هو حكم الدين في موقف كهذا؟ وهل إذا رفع أحدهم رأسه تفسد صلاته وربما صلاة الجماعة بأسرها ويحمل هو وحده ذلك الوزر كله؟ وهل يحتمل أحدهم أن يكون هو دونا عن الساجدين جميعا المتسبب في إفساد الصلاة؟ العودة الحديثة لله وبيته وحظيرة الدين جعلتهم مرة أخرى يرون الله ماثلا بجناته وجحيمه ووعده ووعيده أمام عيونهم. هم كالتلاميذ يعودون ومن تلقاء أنفسهم إلى المدرسة بعد طول «بلطجة» و«تزويغ». الرهبة من الخطأ أو من الإقدام عليه مسألة لا يمكن أن يحتملها تائب حديث التوبة مثلهم، أو يفكر فيها.
ولكن الوقت يمتد. الوقت الحقيقي يمتد، ووقت كل منهم الخاص الممدود بطبيعته يمتد ويتضاعف، وتصبح الدقيقة فيه بعام، يمتد الوقت حتى لتبدأ أفكار شيطانية خبيثة تخطر لبعضهم أكثرها شرا بالتأكيد فكرة أن يضحك، ليس فقط على الوضع الذي هم فيه وإنما على ما يمكن أن يحدث لو كان الشيخ الإمام قد وافته سنة من النوم مثلا، أو الأدهى لو كان مات! وأنهم سيبقون هكذا ساجدين، ربما إلى اليوم التالي، وربما إلى يوم الدين، دون أن يكتشف أحد من أهل الحي ما حدث؛ فالجامع عندهم مكان غير مطروق، مجرد المرور عليه يوقظ الضمير.
ولكن كل الأفكار الشيطانية هزمت، فلم يضحك أحد، وحتى لم يطل تفكيره في الوضع كوضع مضحك كي لا يخونه صدره العائم بطبعه ويفلت منه الضحك.
ولم يعد هناك شك لدى آخر المتفائلين فيهم أنهم أصبحوا في مأزق حقيقي، حين بدأ ضوء الشروق يتسلل وينافس ضوء الكهرباء القليل، وهم قد بدءوا الصلاة والظلام كامل، الآن بالاستطاعة القسم أن السجدة طالت طولا غير طبيعي، وأن السعلات التي بدأت تتكاثر وتتحشرج بها الصدور المحنية لم تكن كلها سعالا، أكثرها كان علامة تململ، وتململ لا حل له؛ فمعرفة ما حدث تستلزم رفع الرأس والاستطلاع، ورفعها نقض للصلاة، فلينتظر إلى أن يفعلها غيره ليكون البادي، ويكون ذنبه هو ذنب التابع، وفرق كبير بين ذنب الفاعل الأول، وذنب التابع.
Bilinmeyen sayfa
استمر السجود إذن حتى انتصر كحقيقة على كل ما اجتاح الرءوس من احتمالات أو مخاوف أو ضحكات.
ولأن لا نكتة هنا، والضحك الحقيقي لم يبدأ بعد، فلنتركهم هكذا، ساجدين، كل منهم لا يريد أن يكون البادي بالمعصية، لنتركهم ساجدين!
إذ هكذا بالضبط تركتهم أنا.
أنا الشيخ عبد العال إمام مسجد الشبكشي في الباطنية.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! •••
أنا قطعا سبحان فالق الإصباح، النوم في صوتي، فعيوني لا تتفتح إلا حين الوصول إلى «استغاثات» الفجر، أنا، أنا صاعد سلم المئذنة الأفعواني المظلم، أنا، مشفقا على صدري وصوتي من الندى، أنا عيناي تقتحمهما البرودة وتغلقهما العادة والإحساس بأداء الواجب وإني إنما أؤذن في مالطة، وإن الأتقياء في الحي قليلون، والأتقياء تماما يفضلون جامع الأزهر القريب، وإجهاد الصوت لا فائدة منه؛ فماذا يفعل صوتي وسط غابة المآذن المحيطة المزودة بحناجر ميكروفونية يغرق بينها صوتي مهما ارتفع، أنا ... أنا ... أؤذن لنفسي، ويكفيني أن الله يسمعني ويعرف أني أؤذن الفرض كما أمر ويغفر لسكان الحي النائم منهم واليقظان؛ فنائمهم بمعصية، ويقظانهم لمعصية، والحظ وحده أو لعلها الحكمة هي التي دبرت تعييني في جامع أقامه صاحبه وقفا من قديم الأزل، تركي كان هو، بالسياط سلب وضرب، واعتقد أنه بالجامع وبضريحه المقام بجوار القبلة يجني ثمار الدعوات، ستحمله صلوات الناس جيلا بعد جيل لتقربه من الجنة. حتى رحلة الجنة تقطعها على أكتاف الآخرين يا ... تركي؟!
أنا الخريج الحديث من الأزهر، من صغري أحببت الله، وبإرادتي ربطت وجودي بدينه، أكاد أبسم إشفاقا ممن يتصورون أني دخلته لأصبح فقيها ومقرئا ما دام قد وهبني الله هذا الصوت، أعرف أنه جميل وأني كي أداريه لا أكشف للناس عن جماله، ولكن ما لهذا اخترت الأزهر، وما لهذا حفظت القرآن صغيرا، ومن ابتدائي مدارس حولت إلى ابتدائي أزهر، السبب أعمق، السبب إلهي، السبب موقفي من كون ليس فيه ما يستحق الحياة سواه.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!
أكان لا بد.
كم بدا النور باهرا، وسط تمام الظلام، مصباح واحد في حجرة السطوح الواحدة، هذا صحيح، ولكنه يكاد يضيء الباطنية كلها، قابعة كمعسكر مزدحم نفق قاطنوه أو رحلوا، البيوت مريضة تتساند، أحشاؤها صغيرة بارزة محشوة كرحم القطط بآدميين، رعيتي ومسئوليتي، بالأدق فشلي، بالرغبة المستعرة في إيقاظ الله في نفوس تريد أن تنسى فكرة وجوده.
Bilinmeyen sayfa
قاتلت، بعد أسبوع ظفرت بأول بارقة، انتعش الأمل، استمت، تخلوا عن الوعود الكاذبة والصهينة وبدأ الضيق، إلحاح آخر، حمر العيون وبالوعيد جاءوا، اسمع، خميرة عكننة مش عايزين، وحسابنا في الآخرة نحن عارفين، والحساب يجمع، بأدبك أهلا وسهلا، تدوشنا تاني أنت واللي يصح لك، وبالسليقة عرفت أنهم صادقون، في أعماقهم أيضا صادقون، يرغبون الله حقا وفي أعماقهم مؤمنون، ولكن الحياة، حياتهم، لا تحتمل الله الكامل، إما أن يقبلهم هكذا، وهكذا يعبدونه وإما فلا، لهم دينهم حقا، الصلاة فيه ركعتا جمعة كل أسبوع، والنهار صيام في رمضان، هذا صحيح، ولكن المهم أن من الفطار إلى السحور حشيش، وأيمان بالله ما هو حرام، اديني آية نزلت تحرمه، الزكاة معظم أغنيائهم يخرجونها فعلا، بل إن أحدهم كان عينيا كما أمر الدين، ومن «بضاعته» كان يزكي، والحج تاج على رءوس كبار المعلمين وعلى الأقل يتيح القسم ساعة الصفقات بشباك الرسول. كسبت منهم بالكاد خمسة وخسرت الثقة بأني خير مبشر ومبين، ثم أدركت أن الخطأ خطئي، وأني قبل أن أهديهم لا بد أعرفهم، أحياهم لأغيرهم، أصبح منهم ليصبحوا منى. إن لهم لغة أخرى وقيما أخرى ومفاتيح خاصة بغيرها تبقي دائما خارج السور والصدور، ومن العزلة هبطت، إلى القهاوي أجلس، إلى الداعين أزور، لا أدير الوجه لما يحملون أو يدخنون أو يفعلون، بقلبي معهم أرى وأسمع وأقترب.
أكان لا بد يا «لي لي»، أكان لا بد؟!
أم أنه لا بد هي أو غيرها لا بد، لم أكن قد عرفت أن العفة مغرية إلى هذا الحد، ولا طرأ بعقلي أني رغم حب الله شاب في الخامسة والعشرين، أنا متبتل، سعيد حتى بالحي الذي كان قاطنوه القدامى من طوائف «الباطنية» قد اعتزلوا بالحي دنياهم، ربما نفس عزلة سكانه الحاليين، في «قعداتهم» نفس التأمل، الفرق أنهم يتأملون ما يضحك، بينما الباطنيون الأول كانوا يتأملون ما يحب، وما يقود إلى ينبوع الحب، الله.
لم أفطن إلا بعد أن تعددت الظواهر، وإلا بعد أن لاحت علامات رغم كل حسن النية، لا تقبل الشك، قرأت لهم مرة فأعجبهم صوتي واستعادوني، وأحسست فجأة أني دخلت قلوبهم، وأن المغلوقين يفتحون الأبواب، ولم يعودوا يريدون مني إلا الصوت والتلاوة، رفضوا الواعظ والمبشر والإمام، ولم يعد أمامي إلا صوتي يجذبهم لما أريد. الله المجرد صعب، ولتكن البداية على هدى آية من آياته.
السميعة بقربي دائما رجال، ولم أكن أعرف أن أعداد النساء خلفهم أكبر! وأني ما أن أبدأ أقرأ حتى يشيع الخبر في الحي كالومضة، وكالومضة يتزاحمن، ومن صدورهن تتصاعد مع وقفاتي الآهات. متاعب بدأت، في كل أوبة للمسجد لا بد من حرمة منتظرة، ولا بد من سؤال، أو حجة سؤال، عيني أبدا ما ارتفعت، أسعد باقتناعهن، وأستبشر، الصلاة بين النساء بدأت، وهن اللاتي بدأن يحببن للرجال الصلاة، سؤال زلزل كياني مرة، من شابة كان. الأقدام التي تسمرت عيني عليها كانت بالقطع شابة، المشكلة تبوح بها في تردد، ثم بلا خجل تنطق. الزوج كف من شهور عن معاشرتها! ولا فائدة؛ فإدمانه السبب، وإدمانه ميئوس، ومحاولاتها فشلت، وتخاف الفتنة، ماذا تفعل؟
بل الأكثر، لم تعد هناك أسئلة، كلها أصبحت اعترافات، ماذا أفعل وقد راودني الصبي عن نفسي حين أرسله المعلم بالخضار وغلبني الشيطان؟ ماذا أفعل وقد حلمت بك يا مولانا؟
ماذا أفعل وأخي يأتي عميان من سهراته، ومهما فعلت لا يسكت حتى أذعن، وكل ليلة أذعن، وأريد أن أتوب؟ أتقبل من مثلي التوبة؟ على يديك أتوب، وتمسك بيدي إمساكة لا توبة فيها ولا رادع.
الشيطان.
هؤلاء أناس انفرد بهم الشيطان طويلا وكثيرا.
ولم يعودوا يعرفون طريقا آخر إلا طريق الضلال.
Bilinmeyen sayfa
الشيطان.
حولي وفي كل مكان، في همسة الحرمة، في النظرة تصوب إلي من خلفي لاسعة كسيخ الحديد قادمة لتوها من جهنم، فلأر الشيطان وجها لوجه، ولا أعود أغض البصر، أصبحت بعينين واسعتين أحدق، وبما أصبه من خلالهما أنفي من نفسي الخجل والعفة وبهما قد أصبحت مركز إغراء، بعيني أنهر ومن خلالهما أصعق السائلة، بنظرة تتفجر بإيمان كثيف يضيق به القلب.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! - أنا اسمي «لي لي» ما سمعتش عني؟
صوبت عيني، ارتدت نظرتي بصدام مع نظرة أقوى.
بالطبع سمعت عنها. إنها نصف إشاعات وأحاديث واستنكارات واستحسانات واتهامات وبراءات أهل الحي. «لي لي» أعجوبتهم بنصفها الإنجليزي ونصفها المصري، بشعرها الأحمر الطويل الكثيف وعيونها العسلية المصرية، «لي لي» ثمرة الزواج الذي دام أسبوعا بين أمها وبين عسكري إنجليزي اسمه «جوني» قضى مع «بديعة» الأم ليلة، ولم يفعل كشبابنا «الحدقين» ويكتفي بما أصاب من متعة ويفر، العبيط طلب منها في الصباح الزواج، وتم، وبعد أسبوع سافر، وبعدها لم يعد! مات في الحرب، وتكفل هذا الأسبوع الواحد بضمان معاش شهري لم تكن تحلم به «بديعة» ظلت تصرفه من السفارة البريطانية بشيك يأتي من لندن رأسا لمدى خمسة وعشرين عاما، معاش هو الذي أجرى في يدها النقود وأغراها أن تكون «بنكا» يمول صغار تجار المخدرات في حيها، وفي الحي نشأت ليلى كما سمتها أمها، و«لي لي» كما نادتها جدتها لأبيها وجدها حين حضرا من إنجلترا بعد الحرب خصيصا ليريا حفيدتهما، وكم من مبالغ عرضوها لتتنازل أم «لي لي» عن «لي لي»، وكم استعبطوها وشتموها، وكم رفضت، وبابنتها كروحها تمسكت، وعلمتها، ورغم الرجال الطالعين النازلين من عند أمها الجالسة معظم الوقت على عتبة الشقة وأحيانا على عتبة باب الشارع، كاشفة كل ما خفي من جسدها، لا يهمها من حي هي فيه صاحبة مال، وصبيانها رجال، وعلاقاتها علنا وعلى رءوس المارة والجيران، و«لي لي» ستعلمها، ولآخر المدى، وستجعل منها ست الستات.
والخواجاية مغرية، فإذا كانت الخواجاية مصرية كان الإغراء أكبر، تعلمت «لي لي» أو لم تتعلم. وتعلمت ولم تتعلم، طموحة كانت، من صغرها وهي تحس أنها أرقى ولا بد أن تكون الأرقى، وحتى وهي تعب المشروبات الرخيصة في الكباريهات منضمة إلى الفرق الأجنبية، وتقضي الوقت تتردد على مكاتب ريجسيري الدرجة الثانية كانت تؤمن تماما أنها يوما ما ستصبح ست الستات، وسيسجد لها العالم، وتكون أشهر وأمتع امرأة فيه. - ربنا يفتح عليك، وينور لك طريقك. - طب ما تنورهولي أنت، ينوبك ثواب! - النور لا بد من الداخل، من القلب، نورك في إيدك.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!
أكان لا بد؟! - عايزاك تعلمني الصلاة. - عندي كتاب خذيه. - أنا عايزة درس خصوصي! - أستغفر الله العظيم، روحي الله يغفر لك ويسهل لك.
انقطع المعاش، وجفت النقود، وكبرت المعلمة، ومرضت، ولم يعد هناك إلا ما تكسبه «لي لي» من قروش.
أكثر من مرة حاولت تفاديها فكانت تقتحمني. عيونها شرارة كهرباء تخترق الهواء، قافزة من قطبها المصري إلى قطبها السكسوني. جمالها طاغ على الحي محرم. بالقوة حاولوا، بالنقود، بالزحف على البطون، «لي لي» لا تقرب إلا الأجانب، لم تكن تقول، ولكنه السر، سرها الدفين. في النهاية كعهدهم أمام كل مستعص قبلوها كما هي، احترموا أنها ليست لأحد، وما دامت كذلك فهي للكل، يحمونها، ويوصلونها، أخت الجميع المحرمة المرغوبة. •••
Bilinmeyen sayfa
النور.
نافذة من نور ساطع.
عيني لا تحتمل.
النور قريب.
بيني وبينه فقط الشارع.
مجرد عرض الشارع غير العريض.
دائرة المئذنة في مستوى النافذة، فركت عيني أتطلع.
نظرة واحدة جذبتني كالعاصفة العاتية من قاع الغفوة إلى قمة اليقظة، لا شيء كان ينبهني إلا استغاثتي الأولى، انتباهي هذه المرة انتباه آخر، انتباه مرعوب، أنا أمام شيء مروع.
الغرفة بها سرير خشبي مرتفع، ماذا غيره هناك، لا أعرف. على السرير ترقد امرأة بيضاء، شاهقة البياض، ممدودة بطولها، وقد أحنت ساقا، ولا شيء عليها سوى قميص نوم لا يكاد يكفي لإخفاء نصفها الأعلى.
أول مرة في حياتي أرى، فجأة، هذا الكم الهائل من جسد امرأة، أفقت لأجد نفسي في منتصف السلم هاربا، هابطا، ألهث، ومن أقصى الرعب اندفعت إلى أقصى الغضب.
Bilinmeyen sayfa
أنا في شرك.
أنا الذي جاء يطرد من هنا الشيطان وتضاءلت طموحاته حتى أصبحت مجرد أن يبعد فقط عن نفسه الشيطان، وعن أوكاره وتنكراته، أجد نفسي هذا الفجر في الشرك، تماما في الشرك؟! أنا الذي أردت هزيمته في الناس أجري خوفا من أن يهزمني في نفسي.
ولكن عذري يا شيطان أنك كنت تعرف أين كنت أنا، ولم أكن أعلم أنا من أنت، ولا أين، وكم نقشوا على قلوبنا الأخطاء عنك حتى ارتسمت في أذهاننا دائما رجلا بشعا، ولم يفكروا أن يقرنوك بالجمال مرة، مع أنك لا يحلو لك التربص إلا محاطا بالجمال، وإلا على هيئة ست، وإلا في أكثر الأماكن نعومة وإمتاعا وفي أحلى البسمات، بل أحيانا في النكتة، في أروعها تنصب الشباك.
عدت.
ما رأيته محوته من ذاكرتي كأن لم يكن؛ في عقلي أطفأت نور النافذة، وألغيت الحجرة والشارع والبيت، بل الحي كله ألغيته، فلتكن حربا إذن ولتندحر.
يا رب.
استنكرت أن أكون قائلها، ما هكذا تعودتها وتعودتني. بعد التسابيح الخاشعة فجأة أطلقها، حادة، مدببة، لا نهاية لطولها، تقطع في ومضة كل ما بين الأرض والسماء، لتصل إليه في الملأ الأعلى ... من أعماقي تخرج وإلى السماء تصعد، مستحيلة من شيء أرضي إلى كائن سماوي، أطلقها قوية لتحمل كل ضعف البشر، كل عجزهم ومحدوديتهم تستغيث بالقادر اللامحدود.
هذه المرة خرجت همسا، لهاثا، مكبلة بالعجز، لا لتصل إلى السماء وإنما لتتهاوى من فوق المئذنة وعلى الأرض تموت.
خائف أنا، أنا خائف، لا من الشيطان خائف، من نفسي أخاف؟ من نفسي، أجل؛ كم مرة ضبطتها من شكوى المحرومات أو الفاسقات تصغي بانتباه واندماج أكثر مما يجب! كم مرة ضبطت داخل نظرتي شعاعا من حب استطلاع مرة ومن تلمظ الجائع الصائم الراغب في الطعام مرة!
يا رب.
Bilinmeyen sayfa
أعني، نعم أنا أعرف، أحببتك نقيا كالماء الصافي، وحيدا، كأنك خلقتني وحدي، أعرف أني كان لا بد أن أمتحن، أعرف أني لو نجحت فسأعرف أني أخيرا بالقبول جدير، وسأجعله يا ربي امتحانا صعبا.
لن أهرب.
سأضاعف الإغراء.
سأنظر.
وسأعاود النظر.
سأرتكب الذنب الأصغر، ليتعاظم انتصاري على الذنب الأكبر.
نظرت.
هي «لي لي» بالتمام، هي الشيطان كاملا غير منقوص؛ فالإغراء فيها كامل غير منقوص، نائمة هي، تتقلب، جسدها فائر، يغلي، وعلى الفراش وفي دفعات يتدفق! هذا صدرها، هذا شعرها يسيح وعلى موجات يغطي الصدر، والبطن، وينحسر، وتتقلب!
يا رب.
مستغيثا صرخت، ليست استغاثة أرض لملأ أعلى، ولا ناطقة بلسان ضعف البشر، هي استغاثتي أنا، كنت قد بدأت أغرق، أواصل النظر لا عن رغبة في المجابهة وتصعيب الامتحان، وإنما عن عجز أن أكف عن النظر، قتل الإنسان، ما أكفره!
Bilinmeyen sayfa
ما أكفرني حين تصورت أني وحدي أقهر الشيطان، وحدك أنت لا شيء، وحدك أنت أضعف من دابة، وبالناس وبالله وبما فيك منه أنت الأقوى.
يا رب.
راجية ملتمسة دامعة أطلقتها.
الشيطان استولى على بصري، وعلى جسد «لي لي» سمره، وبكل قواه يجذب، ومن بصري يريد أن يخلع روحي من جذورها، أحس حقيقة بالجذور تتخلخل.
لم أكن أعرف أني بهذا الضعف.
يا رب.
يا سميعي ولا مجيب سواك، يا مدرك عجزي وأنت القوة، يا مانح العبد الإرادة، يا أنت الذي تعلم ما بي، رحماك، يا رب!
يا رب!
إن كان بصري قد ضاع فلا زلت أمتلك الصوت والحنجرة، بغير أن أسمع نفسي أستغيث وأترجى، أنا انتهيت، فقط ألهج، بكل قواي أعتصر العمر كله وأطلقه مخلصا صادقا، أرعبتني المفاجأة، وأذهلني ما اكتشفته في اللحظة الحاسمة من تفاهة ما كنت أسميه قوتي، بإيمان أصبح وجها لوجه في قبضة الشيطان، بإدراك أن هذه معركة العمر بها أوجد أو بها أمحى، انطلقت بصوتي أقاتل، الصوت سلاحي والصوت أنا والصوت كل ما تبقى في من ذاتي والصوت أملي الذي لا أمل سواه، أن أعود أنا.
ولم يعد أذانا ما أقوله، لم يعد الكلام المنغم المحفوظ، كنت أستغيث حقيقة وأعرف أن لا مغيث لي سواه، ومنه وحده ولما أعانيه أطلب الغوث.
Bilinmeyen sayfa
يا رب.
هل يرضيك أن نسقط؟ هل يرضيك أن نأثم؟ هل يرضيك أن يلبسنا الشيطان ويسود؟ أغثني يا إلهي، أدركني، ساعدني، أنا في الهاوية، من ينتشلني سواك؟!
أكان لا بد يا «لي لي» أن تظلي تتقلبين حتى ينحسر القميص إلى أعلى ويتبدى جسدك تحت وهج الضوء الساطع أبيض يكاد من بياضه يضيء، عاريا تماما، ملتويا في الفراش، ناشرا أطرافه، قابضها، أي جحيم كان في داخلك، لا يطفئه عري ولا فجر ولا برودة الدنيا كلها؟!
وكل هذا في النور الساطع.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! •••
لم يبدأ الناس يستيقظون لأن صوته العالي أقلق منامهم، فلا أحد يذكر أنه تنبه من نومه المخدر ضجرا من الأذان المرتفع الذي أيقظه من أحلى منامة، الحقيقة كان الواحد منهم يستيقظ على شعور أن ثمة شيئا جميلا رائعا يحدث حوله ولا بد من اليقظة للتمتع به، كان الصوت قد استحال إلى عطر نفاذ أليف امتلأ به جو الحجرة وراح يتسرب إلى أنفه النائم، وبرقة زائدة يتسلل إلى خياشيمه، تسللا ممتعا يستيقظ من شدة متعته، دافئا ملتاعا عميقا، حنونا، يسري كالموسيقى الهفهافة المعطرة، يبدأ النائم يعتقد أنه حلم ولكنه بعد حين يدرك أنه لا يحلم وأنه استيقظ، ومع ذلك لا يزال ينتشي بالصوت الذي يأتيه حقيقة، لا شك فيها.
يا رب.
كم مرة قيلت، كم مرة تلونت وتنوعت وطالت، ورقت، كم من المعاني قيلت فيها وبها، كم استعطفت، كم استجدت، كم غضبت، كم امتعضت، كم تدللت، كم دمعت وابتسمت، كم جاءت وكأنها آخر الأنفاس، وكم جاءت وكأنها أول علامة حياة، كم صدرت عن طفل وعن رجل، وعن خاطئ وعن مستغفر، وعن تائب وعن مؤمل، وعن يائس وعن معلق بين اليأس والأمل.
كلمة، ولكنها أيقظت الحي كله، حتى من لم تفلح في إيقاظه أيقظه من استيقظ، في أسرتهم وفي أماكن نومهم راحوا يستمعون، ثم وكأنما أصبح للكلمة قوة جذب، استخرجتهم من رقدتهم وغادروا بيوتهم بشعور غريب، يشيع في صدورهم لأول مرة، شعور طازج محير لم يألفوه أبدا، شعور وكأنهم أصبحوا قرباء جدا من الله وأن الله غير غاضب وأنه رحيم أليف، شعور يملؤهم على الفور بالسعادة؛ إذ في أعقابه يحسون أنهم، وكأنما اكتشفوها للتو، يحبون الله وأن الله يحبهم وأنه جد قريب، لم يبق بينهم وبينه سوى خطوة.
وفي الجامع تلاقت الوجوه، غارقة لا تزال بماء الإفاقة والوضوء، ولأنهم لم يعتادوا التلاقي في زمن كهذا ومكان كهذا فقد أحسوا أنهم وكأنما يتعارفون حالا، واليوم فقط يبدءون، صامتين مذهولين بالنشوة جلسوا يمتصون بآذانهم رحيق الأذان، يستعذبونه، يختزنونه في أنفسهم كما يختزن غذاء الروح ليوم تجوع فيه الروح.
Bilinmeyen sayfa
وتحول الجامع إلى مظاهرة، وغادروا المبنى إلى الخارج ليصيروا إلى المئذنة والشيخ عبد العال أقرب، الكلمة تنطلق منه فتكاد بما تحتويه تنير حجب الظلام، يتطلعون، يتأكدون أن من يؤذن حقيقة من البشر وأنه بالتأكيد نفس الشيخ عبد العال، فالحق أن ما يسمعونه كان صوتا لا يمت إلى البشر ولا إلى الأرض وإنما هو قادم مباشرة من السماء.
بل ومن فرط ما سكروا نشوة لم يفطنوا أن الشيخ عبد العال هبط من المئذنة دون أن يؤدي الأذان الشرعي، شاحبا ممصوصا كمن نزف الحياة صوتا ومقاومة هبط، اندفعوا يحيطونه، بإشارة أوقف الاندفاع، من فوره اتجه إلى القبلة، ونوى الصلاة.
أجل، نويت للصلاة.
أنا الآن أهل لها. •••
أهل لها؛ فقد انتصرت، بشائر النصر بدأت حين عدت أمتلك بصري، حين استيقظت «لي لي» من نومها على صوتي المدوي المجلجل، وفي الفراش جلست ، مبعثرة جلست، نفس جلسة أمها على العتبة، نحوي سددت البصر، مدهوشة، مذهولة، ثم مستمتعة بدأت ترنو، أعتصر نفسي أنا، أهرب منها وأتلوى، وهي أيضا تتلوى، أتلوى أنا احتراقا وتمزقا وألما، وتتلوى هي جذلا، حتى قامت تنظر من النافذة، وحينذاك تحولت ببصري وأصبح ملكي وعاد لي الوعي، وجدت نفسي حطام بشر، بقايا حياة.
رفعت عيني إلى السماء، ولم أنطق، فقط ملأت بصري بنظرة شكر، أحسست أن شيئا لي قد حدث، لم أعد أنا، كان في خزين إيمان قوي ذهب، قذفت به كله في أتون المعركة.
منتصرا هبطت، مجرحا، قلت الصلاة بلسم الجراح، استقبلت القبلة ونويت. •••
ظل السجود قائما ومستمرا حتى ملأت الشمس الحديثة صحن الجامع، نام البعض، وشخر آخرون وسرح كل منهم في ملكوته وعالمه، والحجة قائمة وموجودة، هم في انتظار تكبير الشيخ، فوجئوا مرة بضحك هائل غريب، خشن، عرفوه للتو، هو معزة الأفيونجي، الذي كثيرا ما تطرده امرأته ويتخذ المسجد منزلا ومقاما، ضحك استمر حتى نفد كل ما لدى صاحبه من مخزونه لسنوات طوال مقبلة، وجاء بعده كلام، كلام فارغ صحيح، ولكنه جاء، شوفوا الناس المساطيل اللي ساجدة وبتصلي من غير إمام. •••
منتصرا هبطت، مجرحا قلت الصلاة بلسم الجراح، استقبلت القبلة ونويت، فتحت عيني، كانت «لي لي» في منتصف القبلة نائمة، عارية، مبعثرة، مفتحة، يتموج شعرها على جسدها وينحسر، عفوك يا إلهي، فلقد أخفيت عنك الحقيقة، الشيطان انتصر؟!
وبينما الجميع ساجدون كالقطيع بعد طول ضلاله، كنت قد تسللت عبر النافذة الملاصقة للقبلة، وفي لمح البصر كنت أدق غرفة الدور الثاني السطوح في البيت المقابل. «لي لي» وقد لفت نفسها بملاءة السرير تفتح، بابتسامة مرعوبة قلت لها وأنا أفك زرار الكاكولة الأعلى: «جئت أعلمك الصلاة.»
Bilinmeyen sayfa
انزلقت الملاءة عنها فضمتها بقوة وهي تستدير توليني الظهر وتقول: أنا اشتريت الأسطوانة الإنجليزي اللي بتعلم الصلاة، لقيتني أفهمها أكتر، متأسفة.
وأطفأت النور. •••
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!
على ورق سيلوفان1
من العربة هبطت، فاتنة هبطت، نعنش روحها الغزل الصادر من عابر سبيل مسرع، دخلت الحديقة، بتؤدة عبرتها، السلالم راحت تصعدها، سلمة، وسكتة، وسلمة، في آخر سلمة، اضطربت، خائفة، اضطربت.
ماذا لو عرف؟ ماذا لو كان طول الوقت يعرف؟
ولكن كيف يعرف، مستحيل أن يعرف، الهرم بعيد، و«الركن» الذي كانا فيه لا يقصده أحد في الصباح، سائحتان فقط كانتا هناك، كيف يعرف؟
أمام كشك الاستعلامات الزجاجي وقفت، الموظف العجوز مشغول بمحادثة تليفونية، حدق ناحيتها مرة ولم يرفع عينه، كانت تزيح عدسة النظارة السميكة وتتحسسها مربعا مربعا، كل مساهمته في الحديث أصبحت: أيوه. آه. أيوه. آه. فرغ صبرها وسألت. وضع السماعة في الحال وانتبه، موجود؟ أيوه موجود. دقيقة واحدة نسأل، دقيقة، سرحت.
الأبيض مستشر كأنه وباء يبيض له كل شيء، الوجوه معظمها أيضا شاحب أبيض، المرة الأولى التي جاءته هنا لا تكاد تذكرها، من سنين طويلة، عشر سنوات ربما.
هذه ثاني مرة، ولولا ميعاد اليوم ما جاءت، المضحك أن الاقتراح كان اقتراحه، سهل لها المهمة تماما، مساكين هؤلاء الرجال ونواياهم الحسنة، أيستحق؟ بالطبع يستحق، ليس هناك رجل لا يستحق، حتى المحبون منهم زائغو العيون كذابون حتى وهم يحبون.
Bilinmeyen sayfa