وقفت ثلاث سيارات تطوع بتقديمها بعض الأصدقاء أمام بيت السيد أحمد في انتظار العروس وحاشيتها لحملهن إلى بيت آل شوكت بالسكرية، كان الوقت أصيلا، وقد انحسرت أشعة شمس الصيف المائلة عن الطريق، واستقرت على البيوت المواجهة لبيت العروس. ولم تكن ثمة مظاهر تدل على عرس، اللهم إلا الورود التي ازينت بها أولى السيارات الثلاث، فلفتت أنظار أصحاب الدكاكين القريبة وكثير من المارة، ومن قبل ذلك اليوم تمت الخطبة ووردت الهدايا، ونقل الجهاز وعقد القران، فلم تنطلق من البيت زغرودة أو تعلق ببابه زينة، أو تشي بما يدور داخله علامة من علامات الأفراح المألوفة التي تفاخر الأسر بإعلانها في أمثال هذه المناسبات ، وتتعلل بسوانحها لتفصح عن مكنون حنينها للمسرة بالغناء والرقص والزغاريد، تم كل شيء في صمت وهدوء فلم يدر به إلا الأقارب والأصدقاء وخاصة الجيران، وأبى السيد أن يتزحزح عن تزمته، أو أن يسمح لأحد من آل بيته بأن يتزحزح عنه ولو ساعة واحدة، وفي ظل هذا الجو الصامت غادرت العروس والمدعوات البيت رغم احتجاج أم حنفي على الخرجة الصامتة، فمرقت عائشة إلى السيارة في سرعة خاطفة كأنما تخاف أن يشتعل فستان العرس أو قناعه الحرير الأبيض الموشى بالفل والياسمين تحت نظرات المتطلعين، وتبعتها خديجة ومريم وبعض الفتيات، واستقلت الأم وبعض النسوة من الأهل والجارات السيارتين الأخريين، على حين اتخذ كمال مجلسه إلى جانب سائق سيارة العروس. ورغبت الأم في أن يمضي الركب إلى السكرية عن طريق الحسين لتلقي نظرة جديدة على مقامه الذي كلفها الشوق إليه قبل ذلك غاليا، ولتستوهب صاحب المقام البركة لعروسها الحسناء، فاخترقت السيارات الطرق التي قطعتها هي ذلك اليوم مع كمال، ثم مالت إلى الغورية عند المنعطف الذي كادت تلقى فيه حتفها، حتى وقفت بهن عند بوابة المتولي أمام مدخل السكرية الذي يضيق عن دخول السيارات، وترجلن جميعا ودخلن العطفة فطالعتهن معالم الزينات، وهرع إليهن غلمان الحارة هاتفين، وتعالت الزغاريد من بيت آل شوكت، أول بيت إلى يمين الداخل - حيث ازدحمت نوافذه برءوس المطلات المزغردات، ووقف عند مدخله العريس خليل شوكت وشقيقه إبراهيم شوكت وياسين وفهمي، وتقدم خليل مبتسما من العروس، ومنحها ساعده فارتبكت ولم تبد حراكا حتى بادرت مريم إلى يدها فشبكتها بساعده، ثم سار بها إلى الداخل مارا بحذاء الفناء المزدحم والورد والملبس ينهال على أقدامها، وعلى أقدام من تبعنها من حاشية العروس، حتى واراهن باب الحريم، ومع أن قران عائشة بخليل تم قبل ذلك اليوم بشهر أو أكثر، إلا أن منظر اشتباكهما وسيرهما معا لاقى من ياسين وفهمي - والأخير خاصة - دهشة مقرونة بالحياء، وشعورا بالإنكار أشبه، كأن جو أسرتهما لا يهضم حتى طقوس حفلات الزفاف المشروعة، وبدا هذا الأثر بصورة أوضح عند كمال الذي جعل يجذب أمه من يدها في انزعاج وهو يشير إلى العروسين اللذين يتقدمان الجميع على السلم، كأنه يستعديها على دفع شر فظيع، وخطر للشابين أن يسترقا النظر إلى وجه أبيهما ليريا أي أثر تركه ذاك المنظر الفريد، فشملا المكان بنظرة سريعة ولكنهما لم يقفا له على أثر، لم يوجد عند المدخل، ولا فيما يلي هذا من فناء البيت الذي اصطفت به الأرائك والمقاعد وأقيمت في صدره منصة الغناء. والواقع أن السيد خلا إلى نفر من خاصة أصدقائه بمنظرة الفناء، فلم يفارقها مذ حل بالبيت مصمما على ألا يفارقها حتى ختام الليلة مبتعدا بنفسه عن «الجمهور» الصاخب خارجها، لم يكن أشد إحراجا لنفسه من الظهور بين آله في ليلة زفاف؛ إذ لا يرضى أن ينشر فوقهم رقابته في يوم خالص السرور، ولا يطيق من ناحية أخرى أن يشهد عن كثب انطلاقهم مع دواعي الفرح، وفضلا عن هذا وذاك لم يكن أكره لديه من أن يرى - بينهم - على غير ما عهدوا من وقار صارم، ولو كان الأمر بيده لتم الزفاف في صمت شامل ولكن حرم المرحوم شوكت وقفت من اقتراحه في هذا الشأن موقف معارض لا تلين صلابته، وأبت إلا أن تحييها ليلة حافلة، فاتفقت على إحيائها مع العالمة جليلة والمغني صابر، وبدا كمال لفرط ابتهاجه بما أتيح له من حرية وسرور كأنه عريس الليلة، وكان أحد أفراد قلائل أبيح لهم التنقل كيفما شاءوا بين الحريم في الداخل وبين مجلس الطرب في فناء الدار، لبث طويلا مع أمه بين النساء منقلا طرفه بين زيناتهن وحليهن مصغيا إلى دعاباتهن وأحاديثهن التي يستأثر الزواج بخلاصتها، أو منصتا معهن إلى العالمة جليلة التي تصدرت البهو كالمحمل ضخامة وزينة، وراحت تنشد الطقاطيق وتعاقر الشراب جهارا، فاستأنس إلى الجو الضاحك لغرابته وجاذبيته - والأهم من هذا كله - لوجود عائشة على حال من التبرج لم يحلم بها من قبل، وشجعته أمه على البقاء ليظل تحت رعايتها، بيد أنها عدلت عن موقفها بعد حين، واضطرت إلى أن تحثه همسا على الانتقال إلى مجلس أخويه لأمور لم تتوقع حدوثها. من ذلك ما بدا من اهتمامه بعائشة، بفستانها حينا وبزواقها حينا آخر، فخيف منه على هندامها، أو ما بدر منه من ملاحظات صبيانية صريحة نحو بعض السيدات، كما هتف بأمه مرة وهو يشير إلى امرأة من آل العريس قائلا: «انظري يا نينة إلى أنف هذه الست ... أليس أكبر من أنف أبلة خديجة؟» أو ما فاجأ به الجميع وجليلة تغني من الاشتراك مع التخت في ترديد «يمامة حلوة ... ومنين أجيبها» حتى دعته العالمة إلى الجلوس بين أفراد تختها، وبهذا وغيره جذب الأنظار إليه، فأخذت المدعوات في مداعبته، ولكن أمه لم ترتح إلى الضجة التي أثارها، وآثرت على كره منها - إشفاقا على البعض من عبثه وإشفاقا عليه من أعين المعجبات - أن تحمله على مغادرة المكان، انضم إلى مجلس الرجال، وتردد بين الصفوف، ثم وقف بين فهمي وياسين حتى ختم صابر دور «بس ليه تعشق يا جميل»، واستأنف تجواله حتى مر بالمنظرة، فأغراه حب الاستطلاع بالنظر إلى داخلها، فمد رأسه وما يدري إلا وعيناه تلتقيان بعيني والده، فتسمر في مكانه وعجز عن استردادهما، ورآه أحد أصدقاء أبيه - السيد محمد عفت - فناداه فلم يجد بدا من تلبية النداء ليتفادى من إغضاب أبيه، فتدانى من الرجل على كره وخوف، حتى وقف أمامه منتصب القامة مضموم الذراعين إلى جانبيه كأنه عسكري في طابور، وصافحه الرجل قائلا: ما شاء الله ... في أي سنة يا عم؟ - سنة ثالثة رابع. - عال ... عال ... سمعت صابر؟
ومع أنه كان يجيب على أسئلة محمد عفت، إلا أنه راعى من بادئ الأمر أن تكون إجاباته بحيث ترضي أباه ... فلم يدر كيف يجيب على السؤال الأخير، أو أنه تردد قبل أن يعد الإجابة ولكن الرجل بادره متلطفا: ألا تحب الغناء؟
فقال الغلام بتوكيد: كلا.
وبدا من بعض الحاضرين ما يدل على أنهم سيعلقون على هذه الإجابة - آخر ما ينتظر من شخص ينتمي إلى عبد الجواد - مازحين، ولكن السيد حذرهم بعينيه فأمسكوا، أما السيد محمد عفت فعاد يسأله: ألا تحب أن تسمع شيئا؟
فقال كمال وهو يلحظ أباه: القرآن الشريف.
فتعالت أصوات الاستحسان وسمح للغلام بالانصراف، فلم يتأت له أن يسمع ما قيل عنه وراء ظهره حين قهقه السيد الفار قائلا: إن صح هذا فالغلام ابن زنا.
فضحك السيد أحمد عبد الجواد، وقال وهو يشير إلى حيث كان يقف كمال: هل رأيتم أمكر من ابن الكلب يدعي التقوى أمامي! ... رجعت مرة إلى البيت فترامى صوته وهو يغني: «يا طير يا للي على الشجر.»
فقال السيد علي: آه لو رأيته وهو ينصت بين أخويه إلى صابر وشفتاه تتحركان مع الغناء في انسجام تام ولا انسجام أحمد عبد الجواد نفسه.
على حين خاطب محمد عفت السيد أحمد متسائلا: المهم أن تخبرنا هل أعجبك صوته في دور «يا طير يا للي على الشجر»؟
فضحك السيد قائلا وهو يشير إلى نفسه: ذاك الشبل من هذا الأسد.
Bilinmeyen sayfa