أبوه السيد أحمد عبد الجواد؟! الصارم الجبار الرهيب التقي الورع؟! الذي يقتل من حوله رعبا؟!
كيف يصدق ما سمعت أذناه؟! كيف، كيف؟! ... ألا يكون ثمة تشابه في الأسماء وأن لا علاقة بين أبيه وبين هذا العاشق الدفاف؟! ولكن زنوبة وافقت على أنه صاحب دكان «النحاسين»، وليس في النحاسين من دكان تحمل هذا الاسم إلا دكان أبيه! ... رباه هل ما سمعه حقيقة أو أنه يهذي؟! لشد ما يود أن يطلع على الحقيقة بنفسه، أن يرى بعينيه دون وسيط، رغبة تملكته لحظتئذ فبدا تحقيقها كأخطر شيء في الحياة ولم يستطع لها مقاومة، فابتسم إلى الفتاة وهو يهز رأسه هزة حكيم كأنما يقول: «يا لها من أيام كلها عجائب!» ثم سألها بلهجة من يدفعه حب الاستطلاع وحده: ألا أستطيع أن أراه من حيث لا يراني؟
فقالت معترضة: أمرك عجيب، وما الداعي إلى هذا التجسس؟!
فقال برجاء: منظر يستحق المشاهدة فلا حرمتني منه!
فضحكت باستهانة وقالت: عقل طفل في جسم جمل، أليس كذلك يا جملي؟ ... ولكن لا عاش من خيب لك رجاء ... انزو في الدهليز وسأدخل عليهما بطبق من الفاكهة تاركة الباب مفتوحا حتى أرجع.
وغادرت الحجرة، فتبعها على الأثر بفؤاد خافق وانزوى في ركن من الدهليز المظلم على حين تابعت العوادة سيرها إلى المطبخ، وبعد قليل عادت حاملة طبقا من العنب، فاتجهت إلى الباب الذي ينبعث منه الغناء فنقرت عليه، وانتظرت دقيقة ثم دفعته ودخلت دون أن تغلقه وراءها، هناك بدا مجلس الطرب في صدر الحجرة تتوسطه زبيدة محتضنة العود، وهي تلعب بالأوتار بأناملها وتغني: «يا مسلمين يا أهل الله» وعلى كثب منها جلس «أبوه» دون غيره - وقد اشتد خفقان قلبه لدى رؤيته - متجردا من جبته مشمرا عن ساعديه، راعشا الدف بين يديه، متطلعا إلى العالمة بوجه يقطر بشاشة وبشرا. لم يلبث الباب مفتوحا إلا ريثما رجعت زنوبة، دقيقة أو دقيقتين، ولكنه رأى فيهما منظرا عجبا، حياة غامضة، قصة طويلة عريضة، استيقظ في أعقابها كالذي يستيقظ من نوم طويل عميق على قلقلة زلزال عنيف، رأى في دقيقتين عمرا كاملا ملخصا في صورة، كمن يرى في حلم هنيهة صورة جامعة لأحداث شتى يستغرق وقوعها في عالم الحقيقة أعواما طويلة، رأى أباه حقا، أباه دون غيره من البشر، ولكن لا كما تعود أن يراه، فلم يسبق له أن رآه متجردا من جبته في جلسة مريحة منسابة مع سجيتها، ولا رأى شعره الفاحم ثائر الأطراف، كأنما جاء يعدو حاسر الرأس، ولا رأى ساقه العارية كما لاحت على حافة الديوان تحت ذيل القفطان المنحسر، ولا رأى - إي والله - الدف بين يديه يرعش باعثا شخشخته الراقصة المتقطع بالنقر الرشيق، ولا رأى - ولعله أعجب ما رأى - هذا الوجه الضاحك المتألق الريان بالود والصفاء الذي أذهله كما ذهل كمال من قبل حين رآه يضحك أمام الدكان يوم قصده مدفوعا برغبته في الإفراج عن أمه، رأى هذا كله في دقيقتين، ولما أغلقت زنوبة الباب وعادت إلى حجرتها، لبث بموقفه يستمع إلى الغناء وشخشخة الدف برأس دائر، نفس الصوت الذي استمع إليه حال دخوله البيت، ولكن أي تغير اعتور الأثر الذي ينطبع منه على نفسه، أي معان وصور جديدة ينقلها الآن إلى وجدانه كرنين جرس المدرسة يهش له الطفل إذا سمعه وهو غريب عنها، وينقلب في أذنيه نذيرا لمتاعب جمة إذا سمعه وهو ضمن تلاميذها، ونقرت زنوبة على الحجرة كأنما تدعوه ليلحق بها، فأفاق من غيبوبته ومضى إليها وهو يحاول أن يتمالك نفسه كي لا يبدو أمامها مضطربا أو ذاهلا، فدخل وعلى شفتيه ابتسامة عريضة. - هل أنساك نفسك ما رأيت؟
فقال بلهجة تشي بالرضا والارتياح: منظر نادر، وغناء بديع. - أتحب أن نفعل مثلهما؟ - في ليلتنا الأولى؟! ... كلا ... لا أحب أن أخلط بك شيئا آخر ولو كان الغناء نفسه!
ولئن تكلف بادئ الأمر الحديث ليبدو أمامها - وأمام نفسه على السواء - هادئا طبيعيا، فقد انتهى إلى الانهماك فيه بلا تكلف، ثم إلى استرداد حاله الطبيعية بأسرع مما قدر، كالذي يتصنع هيئة الباكي في مأتم فينخرط في البكاء. على أنه ربما عاودته الدهشة فجأة فيقول لنفسه: «أعجب بها من حال لم تخطر لي على بال من قبل، أنا هنا مع زنوبة وأبي في الحجرة القريبة مع زبيدة، كلانا في بيت واحد!» ولكنه سرعان ما يهز كتفيه، ويستطرد في حديثه مع نفسه «كيف أحمل نفسي مشقة العجب لوقوع شيء باعتباره بعيدا عن التصديق ما دمت ألمسه واقعا! إنه هناك فمن السخف أن أتساءل ذاهلا: هل يمكن تصديق هذا؟ فلأصدق ولا أتعجب ... وماذا عليه من هذا!» ولم يشعر إلى تفكيره بارتياح فحسب، ولكنه فرح فرحة فاقت كل تقدير، لا لأنه كان بحاجة إلى مشجع ليواصل حياته الشهوية، ولكن لأنه - كأكثرية الغارقين في الشهوات المحرمة - يستأنس إلى الشبيه، فكيف إن وجده في شخص أبيه - القدوة التقليدية - الذي طالما أزعجه، بشعور وبلا شعور منه، أن يجد نفسه وإياه على طرفي نقيض تناسى كل شيء إلا فرحته، كأنها أعز ما ظفر به في حياته، وشعر نحو أبيه بحب وإعجاب جديدين - غير الحب والإعجاب اللذين اكتسبهما قديما تحت ستار كثيف من الإجلال والخوف. حب وإعجاب ينبعان من أعماق النفس ويختلطان بجذورها الأولى، بل كأنهما وحب الذات والإعجاب بها شيء واحد، لم يعد الرجل بعيدا عزيز المنال مغلق الأبواب ولكن دانيا قريبا، قطعة من نفسه وقلبه، أبا وابنا، روحا واحدا، ليس الرجل الذي يرعش الدف في الداخل السيد أحمد عبد الجواد ، ولكنه ياسين نفسه، كما يكون وكما يجب أن يكون، وكما ينبغي أن يكون، لا يفرق بينهما إلا اعتبارات ثانوية من العمر والتجربة: «هنيئا لك يا والدي، اليوم اكتشفتك، اليوم عيد ميلادك في نفسي، يا له من يوم ويا لك من أب! لم أكن قبل الليلة إلا يتيما، اشرب واطرب والعب بالدف لعبا، ولا يد عيوشة الدفافة، إني فخور بك، هل تغني أيضا يا ترى؟» - ألا يغني السيد عبد الجواد أحيانا؟ - ألا زال فكرك مشغولا به؟! يا ويل الناس من الناس! ... بل يغني أحيانا يا جملي ... يشترك في الهنك إذا سكر. - وكيف صوته؟ - غليظ جميل كعنقه. «إلى هذا الأصل ترجع الأصوات التي تغني في بيتنا، الجميع يغنون، أسرة عريقة في الطرب، ليتني أسمعك ولو مرة، لا أحفظ لك في ذاكرتي إلا الزعق والنهر، غنوتك الوحيدة المشهورة بيننا «يا ولد - يا ثور - يا بن الكلب» أريد أن أسمع منك «الوداد في الملاح صدف» أو «حبيت يا جميل» كيف تسكر يا أبي؟ كيف تعربد؟ ينبغي أن أعرف لأحتذي مثالك وأحيي تقاليدك، كيف تعشق؟ كيف تعانق؟»
وانتبه إلى زنوبة فرآها أمام المرآة وهي تسوي أهداب شعرها بأناملها، وقد لاح إبطها من فرجة الفستان أملس ناصعا، يتصل منحدره بأصل نهد كقرصة العجين، فسرت في بدنه سكرة الهياج وانقض عليها كأنه فيل ينقض على غزال.
40
Bilinmeyen sayfa