فحدجته خديجة بنظرة اتهام وهمت بالرد عليه، ولكنها أمسكت إشفاقا وعطفا على وجهه الذي علاه الاصفرار، ثم قالت لنفسها: «حسبنا ما نحن فيه الآن.»
وفتح الباب وغادر الطبيب الحجرة، وهو يقول للشابين اللذين تبعاه: ينبغي أن أعودها يوما بعد يوم حتى يجبر الكسر، وكما قلت لكما لا داعي للخوف مطلقا.
واقتحم الجميع الحجرة فرأوا أمهم قاعدة في الفراش، مسندة الظهر إلى وسادة مكسورة وراءها، ولم يكن ثمة تغيير إلا ارتفاع في كتف الفستان فوق منكبها الأيمن وشى بالرباط الذي تحته، فهرعوا إليها وهتفوا: الحمد لله.
وكم اشتد بها الألم والطبيب يعالج الكسر، فأنت أنينا متواصلا، ولولا ما طبعت عليه من حياء لصرخت عاليا، ولكن زايلها الآن الألم، أو هكذا بدا، وشعرت براحة نسبية وسكينة، بيد أن زوال حدة الألم مكنت لعقلها من استئناف نشاطه، فاستطاعت أن تفكر في الموقف من مختلف نواحيه، وما لبث أن ركبها الخوف، فقالت متسائلة وهي تردد بينهم بصرا زائغا: ما عسى أن أقول لأبيكم إذا رجع؟
اعترض هذا السؤال - ساخرا متحديا - نسمات الطمأنينة التي سكنوا إليها كما تعترض الصخور الناتئة سبيل سفينة آمنة، على أنه لم يجئ مفاجأة لوعيهم، بل لعله اندس في زحمة المشاعر الأليمة التي ورت بها قلوبهم لدى ارتطامها بالخبر، ولكنه ضاع في زحمتها، فتأجل حسابه إلى حين، الآن قد عاد ليحتل الصدارة من نفوسهم، فلم يجدوا مهربا من مواجهته، ورأوا بحق أن أشد عليهم وعلى أمهم من الإصابة التي خرجت منها وشيكة الشفاء. وشعرت الأم - للصمت الذي قوبل به سؤالها - بعزلة المذنب إذا تخلى عنه رفاقه حين انكشاف تهمته، فتمتمت بنبرات شاكية: سيعلم حتما بالحادث، وسيعلم أكثر من هذا بخروجي الذي أدى إليه.
ومع أن أم حنفي لم تكن دون أفراد الأسرة قلقا ولا أقل إدراكا لخطورة الموقف، إلا أنها أرادت أن تقول كلمة طيبة، تلطيفا للجو من ناحية، ولأنها كانت تشعر من ناحية أخرى بأن الواجب يقضي عليها - كخادم الأسرة القديمة الأمينة - بألا تلوذ عند الشدائد بالصمت أن يظن بها عدم اكتراث، فقالت وهي أدرى ببعد قولها عن الواقع: إذا علم سيدي بما وقع لك فلن يسعه إلا أن يتناسى هفوتك حامدا الله على نجاتك.
وقوبل قولها بالإهمال الذي يستحقه عند قوم لا تخفى عليهم من حقيقة الموقف خافية، إلا أن كمال آمن به، وقال متحمسا وكأنه يتم كلام أم حنفي: خصوصا إذا قلنا له إن خروجنا كان لزيارة سيدنا الحسين.
ورددت المرأة عينيها الخابيتين بين ياسين وفهمي وتساءلت: ما عسى أن أقول له؟
فقال ياسين الذي هاضته شدة مسئوليته: أي شيطان أضلني حين نصحت لك بالخروج، كلمة جرت على لساني وليتها ما جرت، ولكن هكذا شاءت الأقدار لترمي بنا في هذا المأزق الأليم، على أنني أقول لك بأننا سنجد ما نقوله، وأيا كان الأمر فلا ينبغي أن تشغلي فكرك بما سيكون. دعي الأمر لله، وحسبك ما قاسيت في يومك من آلام ومخاوف.
تكلم ياسين بحماس وعطف معا، فصب سخطه على نفسه، وعطف على الأم عطف المتألم لحالها، ومع أن كلامه لم يقدم ولم يؤخر، إلا أنه روح عن شعوره الضيق بالحرج، وأفصح به في نفس الوقت عما عساه يدور في عقول بعض - أو كل - من يقفون إلى جانبه، فأغناهم عن الإفصاح عنه بأنفسهم؛ إذ إن التجربة علمته بأنه أحيانا ما يكون السبيل خير السبيل للدفاع عن النفس هو في الهجوم عليها، وأن الاعتراف بالذنب يغري بالصفح بقدر ما يغري الدفاع عنه بالغضب، وكان أخوف ما يخاف أن تنتهز خديجة الفرصة السانحة لتحمله جهارا مسئولية ما أدت إليه مشورته، وتتخذها سبيلا إلى مهاجمته، فسبقها إلى غرضها قاطعا عليها الطريق، ولم يكذب ظنه فالحق أن خديجة كانت على وشك أن تطالبه - بصفته المسئول الأول عما وقع - بأن يجد لهم مخرجا، فلما ألقى خطابه استحيت من مهاجمته خاصة وأنها لا تهاجمه عادة إلا على سبيل النقار لا الكراهة، بذلك تحسن موقفه بعض الشيء ولكن الموقف العام بقي على سوئه، وظل كذلك حتى خرجت خديجة من صمتها قائلة: لماذا لا ندعي أنها سقطت على السلم؟
Bilinmeyen sayfa