إلا أن ياسين عانى - إلى انزعاجه للحادث - حرجا شديدا؛ لأنه كان المسئول الأول عن الرحلة المشئومة - بهذا وصفت بعد الحادث - فاقترح عليهم أن يستدعوا طبيبا، وغادر الحجرة لتنفيذ اقتراحه دون انتظار لمعرفة رأي الآخرين، وارتعدت الأم لذكر الطبيب كما ارتعدت من قبل لذكر القسم، فرجت فهمي أن يلحق بأخيه، وأن يثنيه عن عزمه مؤكدة له بأنها ستبرأ دون حاجة إلى طبيب، ولكن الشاب رفض الإذعان لرجائها مبينا لها أوجه الفائدة المنوطة بمجيئه، وفي أثناء ذلك تعاونت الفتاتان على نزع الملاءة عنها، وجاءتها أم حنفي بقدح ماء، ثم أحاطوا بها جميعا، وهم يتفحصون بقلق وجهها الذي علاه الشحوب، ويسألونها مرارا وتكرارا عما تجد، وهي تحاول ما استطاعت أن تتظاهر بالهدوء أو تقنع بأن تقول إذا ألح عليها الألم: «ثمة ألم خفيف في كتفي اليمنى»، ثم تستدرك قائلة: «ولكن لم يكن من داع لاستدعاء طبيب.» والحق أنها لم ترتح لاستدعائه أبدا؛ لأنها من ناحية لم تلق طبيبا قط - لا لحصانة صحتها فحسب - ولكن لأنها نجحت دائما في مداواة ما يلم بها من توعك أو انحراف بطبها الخاص، فلم تؤمن بالطب الرسمي، إلى أنه اقترن في ذهنها بالحوادث الخطيرة والخطوب الفادحة، ومن ناحية أخرى فقد شعرت بأن استدعاء الطبيب من شأنه أن يهول الأمر الذي تود له الستر والطي قبل عودة السيد ... ولم تأل أن أفصحت لأبنائها من مخاوفها، ولكنهم لم يهتموا في تلك اللحظة الدقيقة إلا بشيء واحد، هو سلامتها.
ولم يغب ياسين أكثر من ربع ساعة؛ لأن عيادة الطبيب كانت في ميدان بيت القاضي، ثم عاد يتقدم الرجل الذي أدخل إلى الأم حال حضوره، وأخليت الغرفة فلم يبق بها معه إلا ياسين وفهمي، وسأل الطبيب الأم عما تشكو فأشارت إلى كتفها اليمنى، وقالت وهي تزدرد ريقها الذي جف من الخوف: أشعر هنا بألم.
وعلى هدي إشارتها، إلى ما حدثه به ياسين في الطريق عن الحادث جملة، تقدم لفحصها، وطال وقت الفحص في شعور الشابين المنتظرين في الداخل، وشعور المنتظرات وراء الباب مرهفات السمع خافقات القلب، وتحول الطبيب عن المصابة إلى ياسين قائلا: كسر في الترقوة اليمنى، هذا كل ما هنالك.
وأحدثت «لفظة» الكسر ارتياعا في الداخل والخارج، وعجب الجميع لقوله «هذا كل ما هنالك» كأن وراء الكسر شيئا يتسع له احتمالهم، على أنهم وجدوا في ذات التعبير، واللهجة التي ألقى بها ما يغري بالطمأنينة، فتساءل فهمي وهو بين الخوف والأمل: وهل هو شيء خطير؟ - كلا البتة، سأعيد العظم إلى سابق موضعه وأشده، ولكن عليها أن تنام بضع ليال وهي قاعدة مسندة الظهر إلى وسادة؛ لأنه سيتعذر عليها أن تنام على الظهر أو الجنبين، وسوف يجبر الكسر وتعود إلى ما كانت عليه في ظرف أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، لا داعي للخوف مطلقا ... والآن دعوني أعمل.
ومهما يكن من أمر فقد استروحوا نسمة سلام بعد أن جفت منهم الحناجر، وبدا هذا الأثر واضحا بين الجماعة خارج الحجرة فتمتمت خديجة: فلتحل بها بركة سيدنا الحسين الذي ما خرجت إلا لزيارته.
وكأنما تذكر كمال بقولها أمرا هاما أنسيه طويلا، فقال بدهشة: كيف أمكن أن يقع لها هذا الحادث بعد تبركها بزيارة سيدنا الحسين؟
ولكن أم حنفي قالت ببساطة: ومن أدرانا بما كان يحدث لها - والعياذ بالله - لو لم تتبرك بزيارة سيدها وسيدنا؟
ولم تكن عائشة قد أفاقت من أثر الصدمة، فضاق صدرها بالحديث، وهتفت برجاء حار: آه يا ربي متى ينتهي كل شيء كأنه لم يكن!
وعادت خديجة تقول بأسف وحسرة: ما الذي ذهب بها إلى الغورية؟! لو رجعت بعد الزيارة إلى البيت مباشرة لما حدث لها الذي حدث!
فدق قلب كمال خوفا وانزعاجا، وتجسم ذنبه لعينيه جريمة نكراء، ولكنه حاول التملص من الشبهات، فقال بلهجة تنم عن لوم: أرادت أن تتمشى في الطريق وعبثا حاولت أن أثنيها عن إرادتها.
Bilinmeyen sayfa