آه ... مرة أخرى! ... ولكنه تلقاها بنفس الحلم، بدا وكأن استياءه لعجزه عن التوفيق قد غطى استياءه من تهور الرجل الغاضب، فلم يهتم بالرصاص المنطلق عليه اهتمامه بتبرير إخفاقه ... راح يعزي نفسه بأن الطلاق بيده هو وحده، إذا شاء منحه وإذا شاء منعه، محمد عفت يعلم ذلك حق العلم؛ لذلك جاء يستوهبه إياه باسم الصداقة التي لا شفيع له غيرها، فإذا قال لا فلا راد لكلمته، وسترجع الفتاة إلى ابنه طوعا أو كرها ... ولكن تمسي الصداقة القديمة في خبر كان، أما إذا قال نعم فسيقع الطلاق، ولكن تصان الصداقة ويعترف له بالجميل، وليس من العسير أن يتذرع بكل أولئك في المستقبل لوصل ما انقطع، وإذن فالطلاق وإن يكن هزيمة إلا أنه هزيمة مؤقتة تتضمن تسامحا ونبلا غير منكورين، وقد تنقلب فوزا بعد حين. وما إن اطمأن إلى سلامة موقفه ولو بعض الشيء، حتى شعر بالرغبة في معاتبته على ما فرط في حقه ... فقال بلهجة ذات معنى: لن يكون الطلاق إلا بموافقتي ... أليس كذلك؟ ... بيد أنني لن أنبذ رجاءك ما دمت مصرا عليه، إكراما لك، إكراما للصداقة التي لم ترع لها حقا في مخاطبتي.
فتنهد محمد عفت ... إما ارتياحا للنهاية المنشودة أو احتجاجا على عتاب صديقه أو للاثنين معا، ثم قال بلهجة قاطعة خلت من حدة الغضب لأول مرة: قلت ألف مرة إن صداقتنا في حرز! ... إنك لم تسئ إلي قط، على العكس من ذلك فإنك تكرمني بتحقيق رجائي وإن كرهته.
فردد السيد قوله محزونا: نعم ... وإن كرهته.
ثار حنقه حالما غاب الرجل عن ناظريه. انفجر الغيظ المكبوت، فالتهم نفسه ومحمد عفت وياسين، ياسين خاصة، ثم تساءل: ترى هل يمكن أن تبقى الصداقة في حرز حقا فلا يصيبها رشاش الحوادث المتوقعة؟ ... آه، لم يكن ليضن بنفيس في سبيل صون حياته عن مثل هذه الهزة القاسية ... لكنه العناد التركي، لكنه الشيطان، بل لكنه ياسين، أجل ياسين دون غيره ... قال له بغضب وازدراء: كدرت صفو ود لم تكن الأيام لتكدره ولو اجتمعت له.
ثم قال له بعد أن أعاد على مسمعيه حديث محمد عفت : خيبت أملي فيك فحسبي الله ونعم الوكيل، ربيتك وأدبتك ورعيتك ... ثم انجلى تعبي كله عن ماذا؟ ... سكير صعلوك تسول له نفسه الاعتداء على أحقر الخادمات في بيت الزوجية، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما كنت أتصور أن يخرج من حضانتي ابن على هذه الصورة، فالأمر لله من قبل ومن بعد، ما عسى أن أصنع بك؟ ... لو كنت قاصرا لكسرت دماغك، ولكن لتكسرنها الأيام، ها أنت تنال جزاءك الحق، فتتبرأ منك الأسرة الكريمة وتبيعك بأبخس الأثمان!
لعله وجد نحوه بعض الرثاء، بيد أن سخطه غلب، ثم استحال شعوره كله ازدراء، لم يعد يملأ عينيه رغم فتوته وجماله وضخامته، يوحل في القذارة كما قال محمد عفت قاتله الله، ويعجز عن كبح جماح امرأة، ما أصغره، سرعان ما لحقت به الهزيمة التي لم ينج هو نفسه من هوانها من جراء طيشه. ما أحقره، ليسكر ويعربد وليعشق تحت شرط أن يظل السيد المطاع، أما أن ينهزم على تلك الصورة المخزية فما أحقره، لم يشابه أباه كما قال أيضا محمد عفت قاتله الله، إني أفعل ما أشاء ولكني أظل السيد أحمد وكفى، حكمة رائعة تلك التي ألهمتني أن أنشئ الأولاد على مثال فريد للاستقامة والطهارة، فإنه لمما يشق أن ينهجوا نهجي ويحظوا في نفس الوقت بالكرامة والاستقرار، ولكن وا أسفاه ضاع جهدي هباء مع ابن هنية! - وهل وافقت يا أبي؟
تردد صوت ياسين كالحشرجة ... فأجابه بخشونة قائلا: نعم، إبقاء على صداقة قديمة، ولأنه أوفق حل في الوقت الحاضر على الأقل.
جعلت يد ياسين تنقبض وتنبسط في حركة آلية عصبية، كأنما كانت تشفط الدم من وجهه حتى انقلب شديد الشحوب، شعر بهوان لم يشعر بمثله إلا فيما كابد من سلوك أمه، حموه يطالب بالطلاق! ... أو بمعنى آخر زينب تطالب بالطلاق، أو على الأقل توافق عليه! ... أيهما الرجل وأيتهما المرأة؟! ليس عجيبا أن ينبذ الإنسان حذاء أما أن ينبذ حذاء صاحبه! كيف رضي أبوه له بهذا الخزي الذي لم يسمع بمثله من قبل؟! ... حدج أباه بنظرة حادة وإن عكست ما يعتلج في صدره من أنات الاستغاثة، ثم قال بلهجة حرص الحرص كله على أن ينقيها من أي أثر للاحتجاج أو الاعتراض، كأنما يريد بها أن يذكره بما عسى أن يكون أنسب: ثمة طريقة لمعالجة الزوج الناشز.
شعر السيد بشعور ابنه فأدركه التأثر؛ ولذلك لم يبخل عليه ببعض ما يدور في نفسه ... فقال له: أعلم ذلك ... ولكني اخترت أن نكون من الكرماء. محمد عفت عقل تركي حجري، ولكن قلبه من ذهب، هذه الخطوة ليست الأخيرة، ليست النهاية، لم أغفل مصلحتك وإن كنت لا تستأهل خيرا، دعني أتصرف كما أشاء.
كما تشاء! ... من ذا يرد لك مشيئة؟! تزوجني وتطلقني ... تحييني وتميتني، لست هنا، خديجة عائشة فهمي ياسين ... الكل واحد، الكل لا شيء، أنت كل شيء ... كلا ... لكل شيء حد، لم أعد طفلا، رجلا مثلك سواء بسواء، أنا الذي أقرر مصيري، أطلق أو أودعها بيت الطاعة، تراب حذائي بمحمد عفت وزينب وصداقتكما. - ما لك لا تتكلم؟
Bilinmeyen sayfa