وضرب يدا بيد وراح يقول: النفي إلى مالطة، لم يعد أحد منهم بيننا، نفوا سعدا وأصحابه إلى جزيرة مالطة.
وهتف الجميع في نفس واحد: نفوهم!
أثار «النفي» في نفوسهم ما خامرهم منذ الصبا من ذكريات قديمة أسيفة عن عرابي باشا ونهايته، فتساءلوا وهم لا يملكون قلوبهم من الجزع: أيجري نفس المصير على سعد زغلول وصحبه؟ ... أينقطع حقا ما بينهم وبين الوطن إلى الأبد؟ ... أتموت هذه الآمال الكبار وهي لا تزال في مهد الإزهار؟ ... وشعر السيد بحزن لم يشعر بمثله من قبل، حزن ثقيل غليظ شاع في صدره كما يشيع الغثيان، فعانى تحت وطأته خمودا وهمودا واختناقا، وجعلوا يتبادلون نظرات ساهمة واجمة، ناطقة بغير لسان، صارخة بلا صوت، ثائرة بلا صخب، وفي الريق مرارة واحدة، ثم جاء في أثر الفار صاحب وثان وثالث مرددين نفس النبأ، آملين في أن يجدوا عند الآخرين مسكنا لما يستعر في نفوسهم، فلا يظفرون إلا بالحزن الصامت والوجوم الكئيب والثوران الكظيم. - هل تضيع الآمال اليوم كما ضاعت بالأمس؟
فلم يحر أحد جوابا، ولبث المتسائل يقلب عينيه في الوجوه دون جدوى، لا جواب تأوي إليه النفس من مضطربها، وإن أبت أن تسلم جهارا بما يميتها خوفا، نفي سعد ... هذا حق، ولكن هل يعود سعد ولو بعد حين؟ ... وكيف يعود سعد؟ ... أية قوة تعيده؟ لن يعود سعد، فأين تذهب هذه الآمال العراض؟ لقد انبثقت من الأمل الجديد حياة حارة عميقة يأبى استحواذها عليهم أن يسلمهم لليأس، ولكنهم لا يدرون كيف يعللون النفس ببعثها من جديد. - ولكن أليس ثمة أمل في أن يكون الخبر شائعة كاذبة؟
لم يعر أحد القائل التفاتا في حين لم يحفل هو بهذا التجاهل؛ لأنه لم يقصد بقوله في الحق إلا تلمس مهرب - ولو وهميا - من اليأس الخانق. - أسره الإنجليز ... ومن ذا يغالب الإنجليز! - رجل ولا كل الرجال، بعث لحظة من الحياة باهرة، ومضى. - كالحلم ... وسوف ينسى فلا يبقى منه إلا ما يبقى من حلم عند الضحى.
وهتف هاتف بصوت أبحه الألم: الله موجود.
فهتفوا بصوت واحد: نعم ... وهو أرحم الراحمين.
ذكر اسم الله فكان كالقطب الممغطس، جذب إليه شواردهم وجمع أفكارهم التي شتتها اليأس. وفي مساء ذلك اليوم - ولأول مرة منذ ربع قرن أو يزيد - بدا مجلس الإخوان مجافيا للهو والطرب يغشاه الوجوم، وتتجه أحاديثه جميعا إلى الزعيم المنفي. قهرهم الحزن، وإن يكن وجد بينهم من تنازعه الحزن والرغبة في الشراب مثلا، فقد غلب الأولى على الثانية احتراما للشعور العام ومجاراة للموقف، بيد أنه لما طال بهم مطال الحديث حتى استنفدوا أغراضه لاذوا بما يشبه الصمت، وما لبث أن ركبهم قلق خفي وشى بحكة الإدمان التي تئن في أعماقهم، فبدوا وكأنهم ينتظرون إشارة الجسور الذي يتقدم الصفوف، ولكن السيد محمد عفت قال فجأة: آن لنا أن نعود إلى بيوتنا.
لم يكن يعني ما يقول، ولكن كأنما أراد أن ينذرهم بأنهم إذا تركوا الوقت يمضي كما مضى، فلن يبقى أمامهم إلا أن يعودوا إلى بيوتهم، وكانت المعاشرة الطويلة لقنتهم دقيق التفاهم بالإشارة، فتشجع علي عبد الرحيم بائع الدقيق بهذا الإنذار الخفي، وقال: أنعود إلى البيت دون كأس تخفف من بلوى هذا اليوم!
فأحدث قوله في النفوس ما يحدثه الجراح في أهل المريض إذا خرج عليهم من حجرة الجراحة وهو يقول: «الحمد لله ... نجحت العملية»، إلا أن الذي تنازعه الحزن والرغبة في الشراب قال فيما يشبه الاحتجاج متسترا على ما أثلج صدره من ارتياح: نشرب في مثل هذا اليوم؟!
Bilinmeyen sayfa