وحين وضعت الظروف لورا في طريقي، لورا الأجنبية هي الأخرى، الخالية من أية ارتباطات، البادية الرغبة في، قلت: هذا هو الحل العبقري لمشكلتي. وكل ما كان ينقص هذا الحل أن أبدأ أنا أحس ناحيتها بإعجاب أو حتى برغبات، وعن وعي كنت أفعل هذا، وعن إدراك كامل لما أريده احتضنت ذراعها محاولا أن أحس بها أكثر وأقترب منها أكثر وأكثر. ولست أدري لم ظللت أحس طوال الوقت أن التي تحضنها ذراعي ذراع، مجرد ذراع، لا أستطيع لو أغمضت عيني أن أحدد جنسها أو أعرف إن كانت ذراع فتى أو فتاة، مجرد ذراع.
ولم أيأس، وحاولت أن ألمح رغبتها في عسى أن تفلح في إثارة رغبتي أنا. ولكني عجبت؛ فلم تكن مضطربة ذلك الاضطراب الذي توقعته، ولم أعرف إلا بعد مدة من علاقتي بها أن اضطرابها لا يظهر إلا على هيئة حماس وتهور وحديث لاهث سريع عن مواضيع طرقتها قبلا، عن أمها الرجعية وأبيها القاسي.
ولم أيأس أيضا. مضيت أتصور المكان الذي نحن في الطريق إليه، محاولا أن أجد في اختياره والعثور عليه آثار رغبتها الخفية في، محاولا أن أخمن كيف لفتاة مثلها أن تجد مكانا يصلح لي ولها فقط، ولجلسة طويلة، ترى هل تكون شقة صاحبة لها؟ وأنى لفتاة يبدو أنها تعمل في إحدى الشركات أن تكون لها صديقة تملك شقة بمفردها؟! بل تصورت أنها ذاهبة إلى بيتهم في غيبة أمها وأبيها.
ولم يتح لي أن أطيل في تخميناتي؛ فقد انحرفت إلى شارع جانبي مسدود، وحيت بوابا أسود كان جالسا مع زميل له، واخترقنا مدخلا طويلا خافت الضوء وكأن النور يأتيه من تحت الأرض، وعند باب شقة في الدور الأول توقفت وأخرجت مفتاحا من حقيبتها فتحت به الشقة ودخلت وراءها.
كان المكان مظلما، وما إن دخلت وخطوت أول خطوتين حتى اصطدمت بها، وهمست متألمة معتذرة، وهمست أنا الآخر بكلام. وكان اضطرابي لمكان أدخله أول مرة واصطدامي بها وبحة همستها، كانت هذه كلها كفيلة بأن تدفعني للتفكير فيها كامرأة، ولكني وجدت أن لهفتي على معرفة المكان واكتشافه كانت أكبر من رغبتي في الاصطدام بها مرة أخرى إذا طال الظلام، ويبدو أنها أحست بهذا هي الأخرى؛ فقد أضاءت النور بسرعة وقالت بعصبية قليلة: هو ناد كما ترى.
وفعلا كانت هناك طرابيزة بنج بنج، وبضعة كراسي، وخيمة رحلات مكومة في ركن، وبيك آب، ولم أجد لدي كمية كافية من حب الاستطلاع تدفعني لسؤالها عن كنه ذلك النادي، واكتفيت بأن أخمن أنه لا بد أحد النوادي الكثيرة التي يقيمها موظفو الشركات الأجنبية من الشباب.
وفي ركن من الصالة الكبيرة معد كصالون جلسنا، وما زلت لسبب لا أعرفه أذكر هذه الجلسة بالذات. أنا على «فوتيل» ضخم غارق فيه، وهي على «فوتيل» ضخم آخر بجواري، وأنا واضع ساقا فوق ساق، وهي جالسة متحفزة كالتلميذات، وكلانا يتحدث. وطبعا لا أذكر ما قلنا بالحرف، ولكني أذكر جيدا أننا لم نتحدث بحرف من اللغة العربية أو الدرس. كان حديثنا من ذلك النوع الذي يتبادله الاثنان ليغطيا حديثا صامتا آخر هربا من ذلك الحديث الصامت.
وأحسست بشفقة عليها. جالسة كالتمثال الضخم الجميل، وقد أعدت للقائنا عدته وحلمت به ، وحين أصبحت أمامي ، ها هي ذي رغبتها يضج بها جسدها كله ولكنها تتجمد حين تصل إلى لسانها وملامحها، شفقة تدفع إلى عقلي في أحيان خاطرا مجنونا، لماذا لا أتصرف معها التصرف الطبيعي جدا في حالة كهذه؟ وعلى الرغم من جرأة الخاطر فقد كان يفد إلى عقلي هادئا بسيطا وكأنه يفد إلى عقل إنسان يتفرج على الموقف وليس صاحبه. وبنفس الهدوء والبساطة كنت أستسخفه وأنبذه بلا تفكير أو تردد، وأتكلم بحكمة وروية. لقد فقدت إيماني لحظتها بالحكمة والحكماء؛ ففي نفس الوقت الذي كنت أتصرف فيه كثوري شريف عاقل متزن، يجد في كل ما تحسه لورا مجرد مشكلة ويحاول أن يناقشها ويجد الحلول المناسبة لها، كنت أدرك أن حكمتي وتعقلي سببهما انعدام رغبتي فيها، سببهما أن غرائزي كلها عقيمة تجاهها، وكنت أقول لنفسي: لا بد أن الحكماء العقلاء أناس بلا غرائز، والناس العاديون بشر لهم غرائز، فلا بد أن الحكماء ليسوا بشرا، وحكمتهم لا فائدة منها؛ فالحكمة موجودة منذ أن وجد الإنسان، ومنذ أن وجد وهو لا يتبعها، ومنذ أن وجد والمسافة بينه وبين المثل العليا يصورها له حكماؤه هي هي لم تتغير، وكيف تتغير والذين يطلقون الحكمة أناس بلا غرائز ولا رغبات ولا نزوات؟ أناس ليسوا بشرا، يطلقونها ليتبعها أناس ذوو غرائز ورغبات ونزوات، بشر عاديون.
وكيف يمكن أن يتبع البشر أي نصيحة غير بشرية؟ ألكي يصبح نبيا وملاكا؟ ألكي يصعد إلى السماء؟ وما العمل إذا كان عمله هو البقاء على الأرض واستثمارها وتلطيخ نفسه بترابها وطينها وزرع ورودها؟
ألسنا في حاجة لأنبياء من البشر يحملون بيمينهم حسنات الإنسان وبيسارهم سيئاته؟ أنبياء غير معصومين، حكماء من المخطئين، لا يقف الواحد منهم فوق ربوة عالية ويرسل لنا حكمته العليا السامية، ولكن يحيا معنا ويعرف قوتنا وضعفنا، وله عيوبنا ونقائصنا، ولا يفخر بكماله وسموه بقدر ما يفخر بما فيه من عيوب وبقدرته على معرفتها. ألسنا في حاجة لحكماء جدد يفهموننا، حكماء لا يأخذون منا موقف القاضي بقدر ما يأخذون موقف المحامي الشريف المدافع عن جنسنا بكل أخطائه وعيوبه ومحاسنه؟
Bilinmeyen sayfa