مقدمة
البيضاء
خاتمة
مقدمة
البيضاء
خاتمة
البيضاء
البيضاء
تأليف
يوسف إدريس
Bilinmeyen sayfa
حيرتني هذه القصة.
كتبتها في صيف عام 1955م.
ونشرت بعضها تباعا في جريدة الجمهورية عام 1960م.
وأخيرا قررت نشرها هذا العام، فوإن كان بطلها هو «يحيى» إلا أنها وثيقة حية لفترة خطيرة من فترات الحياة في بلادنا، فترة لا أعتقد أن أحدا تناولها.
إن كانت تقليدية الشكل والطريقة، فالشكل مهما كان لا يتعدى دوره كشكل، والحقيقة تبقى حقيقة رغم أية طريقة تروى بها.
وإني لشديد الاعتزاز بهذا الجزء من عمري وعمر بلادي.
يوسف إدريس
مقدمة
لقد ظلمت هذه القصة (البيضاء) ظلما كبيرا، وللأسف فإن السبب في ظلمها هو أنها كانت فعلا متقدمة على التفكير السائد بين المثقفين اليساريين آنذاك، وبين تفكيرهم عالميا ومحليا اليوم؛ فقد كتبت في عام 56-58 ونشرت بضع طبعات، وها أنا ذا أعيد نشرها في طبعة خاصة لروايات الهلال الآن، الفرق إذن هو أربعة وثلاثون عاما.
اليوم لم تعد البيضاء اكتشافا مبكرا جدا لأحداث ومفهومات أصبحت هي القاعدة، ولكنها إذا وضعت في منظورها الزمني ممكن أن يعود لها بعض الإنصاف.
Bilinmeyen sayfa
هي قصة حب، ليس أي حب، وقصة عصر ليس أي عصر، وقصة سياسة ليست أي سياسة، وقصة أطول عمل أفخر به كتبته، هي درة ثمينة بين إنتاجي أعتز بها.
إني أهدي هذه القصة للماركسيين في العالم العربي اليوم؛ فضربهم باستمرار من قوى الحكم الغاشم حال بيني وبين أن أهتم اهتماما خاصا بنشرها وإذاعتها مخافة أن تكون ضربة أخرى للماركسيين المصلوبين دوما.
وأعتقد أن نشرها الآن ليس أمرا واجبا فقط، ولكن التذكير بأن ثمة أناسا كانوا منذ زمن بعيد يفكرون أسبق من زمنهم قبل خروشوف وقبل البريسترويكا، بالضبط من أيام كان ستالين حيا ويحكم بضراوة، هذا التذكير أصبح الاعتراف به - أخيرا - أمرا واجبا.
وأملي أن يستمتع القارئ بعمل أصبح الآن معتقا كالنبيذ المعتق، أي أصبح أكثر قيمة وأغلى ثمنا؛ فقد دفعت فيه - أنا الكاتب - ثمنا هو أجمل سني عمري، وإلى الآن لم أندم.
يوسف إدريس
البيضاء
1
لماذا نكذب على أنفسنا ؟
إن لكل منا قصة حب دفينة وضعها في أغوار نفسه، وكلما مضى عليها الزمن دفعها أكثر وأكثر إلى أعماقه وكأنما يخاف عليها من الظهور.
وسوف أقول لكم كل شيء عن قصة حبي.
Bilinmeyen sayfa
ماذا أقول لكم؟
يخيل لي أن ما من امرأة قابلت رجلا وما من رجل قابل امرأة إلا وسأل كل منهما نفسه: ترى هل يصلح الآخر لي؟ ما من امرأة وما من رجل، وفي كل مراحل العمر، قبل الزواج وبعده، في عنفوان الصبا وذبول الشيخوخة. سؤال يدور في عقول الآباء في نفس الوقت الذي يدور فيه في عقول الأبناء! عملية بحث دائبة مستمرة عن الطرف الآخر في تلك اللعبة الخطرة التي يسمونها الحب.
لست أبالغ ولا أتجنى؛ إذ في أغلب الأحوال يأتي الجواب رفضا ونفيا، وفي أحيان قليلة يظل يتأرجح بين النفي والإثبات، وفي أحيان نادرة - نادرة جدا - يأتي الجواب أن نعم، هذا هو أو تلك هي من أريد.
أنا أيضا حين قابلت «سانتي» قلت هذا، كان ذلك في مطعم «الباريزيانا» الذي لم يغيره الزمن، وكان سبب اللقاء عاديا جدا في نظري، أزاول مثله كل يوم من أيامي عشرات المرات. كان لي، ولا يزال، صديق اسمه صبحي يعمل مندوب دعاية، أو كما تعودنا أن نسميه «بروبا جاندست» لإحدى شركات الأدوية، وكانت له اتصالات واسعة بالأجانب والمصريين، لا بحكم عمله ولكن لأنه هو شخصيا من ذلك الصنف من الناس الذي لا يحيا ولا يتنفس ولا يتحرك إلا إذا تعرف كل يوم بأناس جدد، وعرف أناسا بأناس. قال لي ذات مرة إن هناك فتاتين: إحداهما يونانية والأخرى فرنسية أو من أصل فرنسي، وإنهما تريدان العمل معنا في المجلة وتقديم أية مساعدة يمكنهما تقديمها. ولا أعرف لماذا لم ألق للأمر اهتماما كبيرا أول ما قال لي، ربما لأني لم آخذ كلامه مأخذا جادا، وربما لأنه كان كلما قابلني حدثني عن أشياء يريد تقديمها للمجلة ولا يقدم شيئا بالمرة، ولكني قابلته بعد هذا مرة أو مرتين، وفي كل مرة يسألني متى يمكن أن يعرفني بالفتاتين، وأدركت حينئذ أن كلامه قد يكون صحيحا على عكس ما تعودنا من كلامه، وربما لو كان قد قال إن الفتاتين «بنات عرب» لما احتفلت بالأمر ذلك الاحتفال؛ إذ لست أدري سر ذلك الضعف الذي نكنه، نحن أولاد العرب، للخواجات، وللنساء منهن بالذات. المهم رحبت بالمهمة وسألته بضعة أسئلة لأتأكد أن ما يقوله حقيقي، ولأحاول أن أكون عنهما فكرة قبل أن ألقاهما، وحددت معه موعدا في «الباريزيانا» يعرفني بالفتاتين فيه، وأظنه كان الثالثة بعد ظهر يوم من أيام الشتاء.
ما زلت أذكر ذلك اليوم كأنه اليوم، كنت أرتدي معطفا رماديا اشتريته - أول معطف في حياتي ارتديته - وكنت مسرعا؛ إذ كان الميعاد قد أزف ومضت بعده دقائق. ومع هذا ورغم نسمات العصر الشتوية والوقت الضيق فقد رحت أسأل نفسي ذلك السؤال: ترى هل تصلح واحدة منهما أو الاثنتان لأحبهما؟ وهل تقع إحداهما في غرامي؟ وهل يكون لي معها قصة؟ وكنت أسأل نفسي تلك الأسئلة مع علمي التام أنها أسئلة لا يصح إلقاؤها أو التفكير فيها؛ فالعمل الذي نقوم به جاد وخطير وليس فيه أي مكان أو فسحة للحب وللغرام. كنا في عنفوان معركة الاستقلال، ومجلتنا تخوض حربا لا هوادة فيها لإعداد الشعب للمعركة، ولا مجال للعاملين فيها للتفكير في غير العمل والكفاح. كل شيء يجري وكأنها الخطة لجيش محكمة، وكل شيء ينفذ وكأننا في خط النار، والمعركة ضد الاستعمار قائمة في كل مكان، في السودان ومصر وسوريا والبلاد العربية وشمال أفريقيا وقبرص وفي كل مكان. ولجماعتنا أنصار وأعضاء في كل قطر من هذه الأقطار، والمجلة تصدر في القاهرة ويتردد صداها في كل عاصمة من عواصم الشرق الأوسط. كنت أعرف هذا كله، ولكني هنا أقول الحقيقة؛ فالحقيقة يصح قولها دائما، بل دائما لا بد من قولها. والحقيقة أننا حين نفكر بيننا وبين أنفسنا لا نفكر فيما يصح وما لا يصح، إننا نفكر فقط فيما نريده، نفكر بكل جرأة، بل أحيانا بوقاحة ولا يهمنا شيء. إننا فقط حين يأتي دور التنفيذ نبصر العقبات الاجتماعية القائمة، وحينئذ نبدأ نتراجع أو نبدأ نلف وندور حول العقبات كوسيلة للتغلب عليها. بيننا وبين أنفسنا لا نعد العقبات الاجتماعية مقدسات، إننا نعدها عقبات فقط، ولعل هذا هو سر تقديسنا لها أمام الناس. وليس معنى أنني كنت أفكر في كل هذا وأنا في طريقي إلى الموعد أني كنت أفاقا أو وغدا، لأني كنت أفكر في مطامحي الخاصة؛ فالواقع أني كنت أفعل هذا بجزء صغير من نفسي، أما أجزاؤها الأخرى الكبرى فكانت مشغولة تماما بالمجلة وبالواجبات وبالعمل الذي كنت أقوم به في منتهى الجد والنشاط، هذا شيء وذلك شيء آخر مختلف، والإنسان يفعل الشيئين، وربما يفعل الشيئين لأنه إنسان.
دخلت المطعم وأنا أبحث بعيني عن صبحي لأطمئن أولا إلى وجوده (فقد كنت لا أزال معتقدا أن كلامه قد لا يصفى على الربع)، وبالتالي لأطمئن على وجود الفتاتين، وأخيرا لآخذ فكرة عن شكلهما من بعيد؛ إذ كان السؤال لا يزال قلقا في جوفي يريد جوابا: ترى هل تصلح إحداهما لي؟
ووجدت صبحي فعلا، ولدهشتي وجدت أنه، حقيقة، صادق هذه المرة؛ فقد كانت تجلس إلى جواره فتاتان، إحداهما ضخمة كبيرة، والأخرى صغيرة بيضاء مشرب بياضها بحمرة، واتجهت إلى المنضدة التي يجلسون عليها وسلمت، وتلعثمت وأنا أفعل هذا وصبحي يقدمني إليهما وكأني خجلت مما كنت تركت لنفسي حرية التفكير فيه. وجلست وطلبت قهوة، وفعلت هذا كله دون أن أجرؤ على رفع عيني أو إلقاء نظرة قريبة على الفتاتين.
وبعد أقل من دقيقة قامت الضخمة مستأذنة تاركة أمر تحديد كل شيء لزميلتها التي كانت جالسة تبتسم باستمرار ولا تتكلم. وجلس معنا صبحي هنيهة ثم لم يلبث هو الآخر أن سلم وانصرف.
وبقيت معها.
وأقول بقيت معها لأنني منذ الوهلة الأولى كنت قد تأكدت أنها هي؛ هي التي أردتها دائما دون أن أعثر عليها، هي التي بحثت عنها في كل فتاة أو امرأة قابلتها ولم أجدها، بالضبط هي بكل ما أحب في النساء فيها، وكيف أقول هذا وأفسره؟ أأقول إن من نظراتي الأولى لها كنت قد قررت أنها لي طال الزمن أو قصر، شاءت الظروف أم لم تشأ، ماذا أقول؟ هل أقول إنني منذ الوهلة الأولى كدت أخمن قصتنا معا، كأن أنوارا كاشفة قد أضاءت كل ما سوف يقبل من أحداث لجزء من الثانية، ثم انطفأت الأنوار؟
Bilinmeyen sayfa
وتحدثنا في العمل، قالت لي إنها هي اليونانية وزميلتها أبوها فرنسي وأمها يونانية، وإنها سمعت عنا من تنظيمها الذي يحارب في قبرص، وتريد أن تفعل شيئا لنصرة القضية التي نحارب من أجلها، والتي هي شخصيا مؤمنة بعدالتها، ولم تجد أنسب من أن تضع نفسها في خدمة مجلتنا. وحيرني حديثها؛ فالواقع أن المجلة لم تكن تشكو من قلة الأيدي العاملة فيها، ثم ماذا تستطيع فتاة يونانية أن تفعل لمجلة تصدر في القاهرة باللغة العربية؟ حيرني حديثها لأنه لم يكن من المعقول أن أقول لها: أنا في غاية الأسف يا سيدتي العزيزة؛ فلا مكان لك في مجلتنا، وعليك أن تذهبي في طريقك ونذهب نحن في طريقنا. ومن غير المعقول أيضا أن أؤكد لها أنها ستعمل معنا لمجرد أنني أصبحت أريد أن تعمل معنا؛ فأنا لم أكن أملك سلطة هذا التأكيد، وإذا أخذت المهمة على عاتقي فقد يضر عملها معنا بصالح المجلة، فأكون بهذا قد ألحقت بمجلتنا خسارة لمجرد نزوة شخصية عنت لي.
حيرني حديثها، وأخيرا قررت أن أحصل منها على ما أستطيع الحصول عليه من معلومات، ثم أناقش الوضع كله مع أحمد شوقي رئيس التحرير. وحتى حديث العمل بحيرته ومشكلته لم يكن له الأهمية الأولى في تلك الجلسة؛ فجزء كبير من اهتمامي كنت أوجهه إليها هي، وكنت أتأملها بطريقة لا تسترعي انتباهها؛ إذ كنت أنظر في وجهها ونحن نتحدث عن ضرورة تنسيق الكفاح بيننا وبين إخواننا اليونانيين، وأرسم على وجهي كل علامات الاهتمام بذلك الحديث والتركيز فيه، وأحتم على ملامحي أن تمثل هذا، ولكني في واقع الأمر أتأملها وأحاول أن أمد عيوني الخاصة إلى نفسها الخاصة؛ لأتأمل تلك التي كنت قد قررت أنها لي.
ومع هذا فلو طلب أحدهم مني بعد مقابلتي لها أن أصفها لما استطعت، فما جدوى الوصف؟ إنه لشيء مضحك أن نقرأ في قصص الحب أن البطل غرق إلى آذانه في حب البطلة لشعرها الأسود المتهدل، أو عيونها العسلية ذات الرموش الطويلة. هراء وتخريفات؛ فنحن لا نفضل إنسانا على آخر لأن ملامح هذا أجمل من ملامح ذاك، أو نحب فتاة لعيونها الجريئة أو لالتفاتاتها الرشيقة. يخيل إلي أننا نحب الإنسان لشيء لا نستطيع تحديده في الإنسان، واسألوا كل من أحب ماذا أحببت في رفيقك؟ ودعوه يجيب، وحققوا له كل ما يقوله في رفيق آخر، فسوف يظل يقول هناك شيء ناقص لو سألناه عن كنهه لما استطاع الإجابة. وفي كل منا شيء لا نستطيع تحديده هو روحه، هو مجموع أجزائه الظاهرة وأجزائه التي لا تظهر، دمه، شخصيته، ظله، شيء نطلق عليه أسماء كثيرة لنحدده فلا تفعل الأسماء أكثر من أن تؤدي بنا إلى مجهولات أخرى في حاجة إلى تحديد، شيء هو المسيطر الأعلى علينا، هو الذي يحدد إرادتنا وماذا نكره وماذا نحب، وهو أيضا الشيء الذي يحب وكأنه أصلنا، وما أجسادنا وأشكالنا وأنوفنا وعيوننا إلا أعراضه وتجسيداته.
حتى بعد تأملي الذي طال لها لم أكن أستطيع وصفها، ويكفي أن أقول إن كل ما فيها أعجبني، طريقتها في الحديث، ابتسامتها، أسنانها الأمامية حين ينفرج عنها فمها الصغير، لونها، وملامحها الصغيرة الدقيقة، عيناها حين تضحكان، إحساسي بأني موجود داخل عينيها وأنها تراني وتتذكر أشياء من أجلي أنا. ذلك هو أهم ما خرجت به من تلك المقابلة الأولى، أحسست أننا انسجمنا وأننا سنصبح سعداء لو عملنا معا، وأننا قد تقاربنا بطريقة أسرع مما تصورنا، ولكن إحساسي هذا كان مجرد إحساس داخلي لم تظهر منه بادرة واحدة، أو ينبئ عن وجوده بتصرف واحد؛ فقد كان سلوكي الاجتماعي إزاءها لم يتعد أبدا حدود المعرفة البسيطة التي حدثت، لا يتعدى حدود زميلين، واحد من مصر والآخر من اليونان التقيا في معركة مشتركة، وأنهما سيلتقيان مرة أخرى، وأنهما لا يكرهان أن يلتقيا مرة أخرى .
وخرجت من المطعم وأنا منتش تلك النشوة التي تفجر السعادة في قلوبنا وتجعلنا نحس بها في كل شيء نراه، في عازف الكمان العجوز المتجول، في ضوضاء الشارع الصاخبة، في الوجوه الخارجة لتوها من ازدحام السينما، في أمس وكل ما دار فيه، وفي الغد بكل ما يأتي به، إنسانة حلوة رقيقة وضعتها الظروف أمامي في وسط المعركة الجافة الجادة التي كنا نخوضها، إنسانة أعجبتني ويبدو أنني أعجبتها، فتاة صغيرة في السن لم تتعد العشرين بالغة الحماس والذكاء واسعة الثقافة، إنسانة ممكن أن أحبها أو أتزوجها أو أتجاوب معها ذلك التجاوب الذي نفتقده كثيرا ونحن إليه دائما، ما الضرر أن أحس بكل هذا بيني وبين نفسي، ما دمت أؤدي دوري على أكمل وجه في المجلة وفي الكفاح وفي الحياة؟
خرجت من المطعم متجدد الحماس، وقضيت بقية النهار راضيا عن نفسي والدنيا وحركة الزمن؛ فقد قضيته سعيدا!
2
وكان مفروضا ألا ألتقي بها إلا تلك المرة القادمة التي أقدمها فيها لأحمد شوقي رئيس التحرير؛ حيث تعمل معه أو حيث يوصلها إلى تنظيم السيدات وحيث تنتهي علاقتها المباشرة بي، ولكني لم أجد أبدا ثمة داع قوي يدعوني للعجلة، فلماذا لا يتم هذا في اللقاء الثالث مثلا؟ ولماذا لا أؤجل حديثي عنها مع شوقي بضعة أيام أراها فيها على انفراد مرة أخرى؟ في لحظة قررت أن أبيح لنفسي تلك الخطيئة البريئة على أن تكون الخطيئة الأخيرة.
وفي الميعاد وجدتها جالسة تنتظرني وتبتسم، وجلست ونادت الجرسون وأصرت على أن تعزمني، وضحكنا طويلا ونحن نتجادل حول الموضوع وأنا أقول إنها ما دامت في بلادنا الشرقية فلا بد أن تخضع لتقاليدنا، فترد هي بقولها إن التقاليد تتطور وبعزومتها لي تبدأ عملية التطور.
وطوال الوقت كنت أيضا لا أزال أحيا في تلك النشوة التي تجعل الإنسان لا يرى إلا ما في الأشياء من جمال، أو تجعله يرى كل الأشياء جميلة، وكل ما يفعله حلال، ولا شيء هناك يستحق أن يؤنبه عليه ضميره.
Bilinmeyen sayfa
ولكني لست أذكر بالضبط متى أو لماذا بدأ ينتابني ذلك الشعور، ولكني وأنا في قمة سعادتي معها بدأت أحس وكأني أفقت لثوان قليلة من حلم، فوجدتها زميلة معركة ووجدت أني أرتكب حماقة، لا لأني كنت أخطئ أو لأن ما أفعله أشياء تتنافى مع الزمالة أو المعركة، ولكن لأن الطريق التي كنت أسمح لنفسي بالسير فيه كان طريقا ممكن أن يؤدي إلى الانحراف والضلال، وإن بدا أوله بريئا ليس فيه ما يخجل، وأظنني وجمت أو كنت أضحك وآبت ضحكتي إلى سكوت مفاجئ؛ فقد نظرت إلي بعينيها الواسعتين السوداوين وفيهما حيرة وقلق وقالت: ما بك؟
قلت: لا شيء.
وأكملت الضحكة.
وحين كنت أغادرها في ذلك اليوم كانت نقط سوداء دقيقة كرءوس الدبابيس تغزو إحساسي الواسع بالنشوة والسعادة. •••
وكان اللقاء الثالث مهما؛ فقد كان اللقاء الذي يجب علينا أن نفترق فيه؛ إذ كنت قد ناقشت موضوعها مع شوقي رئيس التحرير، واقترحت عليه أن باستطاعتنا أن نجعلها تعمل في الترجمة وتشارك في الإشراف على قسم المرأة والطفل، وهز شوقي رأسه بطريقة أدركت معها أنه لا يقيم وزنا كبيرا لاقتراحاتي وإن بدا موافقا عليها كل الموافقة، وأدركت أيضا أنه قد يكون لديه خططه الخاصة للاستفادة بمجهودها ومجهود زميلتها، كل ما قاله لي أن طلب مني أن أحدد لهما موعدا يلتقيان فيه به، وأترك التصرف له.
ولأمر ما لم أكن أعتقد - حتى قبل أن ألقاها - أن لقاءنا هذا سيكون اللقاء الأخير. لماذا؟ لأني كنت متأكدا من هذا، هي التي أكدته لي، لم تؤكد لي بكلامها؛ فكلامنا - كما قلت - لم يكن قد تعدى حدود المعرفة التي تزداد متانتها يوما بعد يوم، ولكنها قطعا لن تتعدى الحدود، معرفة كانت تضطرني لأن أناديها بلقبها وتناديني بلقبي، وأسلم عليها وأمشي بجوارها أو أجلس معها وأنا مؤدب جدا، أعاملها وكأني في حضرة مجتمع كامل يحصي علي حركاتي وسكناتي.
ولكن تلك كانت معاملتنا الظاهرة وحديثنا الظاهر، وأهم من ذلك الحديث وأوقع، أهم من اللسان كان الإحساس، الترمومتر الدقيق الذي لا يخطئ أبدا؛ فقد تقول لك المرأة نعم، وتحس أنها تقول لا، وحينئذ لا تعاملها أنت على أنها تقول نعم. إنك هكذا وبطريقة تلقائية محضة تعاملها بهذا الإحساس الذي يخامرك تجاهها.
كنت قد أحسست أنها تقترب مني مثلما أقترب منها، وأنها معجبة بي مثلما أنا معجب بها، ولم يكن إحساسي يستند على غير أساس، ولكنه أساس لا يمكن قوله أو حكايته أو التعبير عنه، التصرفات والكلمات الكبيرة الواضحة المحددة المعالم هي فقط التي يمكن أن تحكيها أو تقولها، ولكن كيف تستطيع أن تحكي ما يصاحب تلك التصرفات والكلمات، الأشياء الدقيقة التي لا تظهر إلا لتتلاشى، وإذا تلاشت فلا تستطيع مهما حاولت أن تعيدها إلى الوجود بمسميات أو ألفاظ؟ كلمة أشكرك مثلا كلمة محددة تعبر عن تصرف محدد ممكن التعبير عنه وتصوره، ولكن الطريقة التي تقال بها ... لمعة العين التي قالتها ومقدارها ووجهتها. مكان خروجها وهل جاءت من طرف اللسان أم صدرت عن الأعماق، نوع الصوت الذي تقال به ورنينه ومداه، السرعة التي قيلت بها والوقفات التي جاءت أثناء حروفها، وتسبيلة الجفن التي نتبعها أو قد تسبقها أو قد لا تحدث أبدا، تلك الأشياء الدقيقة التي لا تكفي كل الحواس لاستقبالها، وليس الذكاء وحده هو الذي يترقبها ويدركها.
تلك الأشياء كانت قد أكدت لي أنها هي الأخرى لن تقبل أن تنقطع علاقتنا.
ولهذا كان اللقاء الثالث مهما.
Bilinmeyen sayfa
كان مفروضا أن نلتقي في محطة باب اللوق ويقطع كل منا تذكرة مستقلة، ثم نجلس متجاورين في القطار «صدفة»، ونتحدث وكأننا تعرفنا توا ودون أي تدبير.
وحيث لمحتها قادمة في عصر ذلك اليوم أحسست بأن قلبي دق دقة غير عادية، وأن سخونة قصيرة مفاجئة اجتاحتني وكدت أرتجف لما حدث لي، ولكني تحركت إلى شباك التذاكر وفي جسدي نشوة، وأخذت التذكرة وتلكأت حتى رأتني، ثم انتظرت حتى أصبحت على بعد أمتار مني، ثم ركبت القطار، ووجدت أول عربة مزدحمة فغادرتها إلى ثاني عربة وإلى الثالثة والرابعة، عساي أعثر على مقعدين خاليين متجاورين، بلا فائدة. ووقفت في آخر العربة الأخيرة وأدرت وجهي. كانت قادمة! ومرة أخرى وجدت قلبي يدق والسخونة تغمرني وتتركز في باطن يدي، وسمح لنا ازدحام القطار أن نقف متقابلين ونتحادث، وسمح لنا بأكثر مما كنت أطمع فيه؛ فقد ظللت أتأمل وجهها طوال ساعة لم أرفع عيني عنها، وأدركت كم هو جميل! ولكن جماله لم يكن يعني في انجذابي لها شيئا كثيرا أو قليلا؛ فحتى لو كان أقل جمالا لما اهتزت سرعة انجذابي لها، ولكنه حقيقة كان جميلا جدا، ومعظم اليونانيات - على الأقل معظم اليونانيات المقيمات في مصر - لا يتمتعن بجمال وافر، وما عليك إلا أن تستعرض تلميذات المدرسة اليونانية وهن خارجات، معظمهن عاديات أو كالعاديات، ولكنك حتما ستعثر على واحدة من كل مائة أو ألف، واحدة وكأنها احتكرت جمال المائة أو الألف. كان وجهها صغيرا مستطيلا ليس أكبر من وجه أية تلميذة من تلميذات المدارس ولكنه أبدا ليس وجه تلميذات؛ ففيه جمال السيدات، الجمال الناضج الدقيق الطازج. لون وجهها نفسه يحير العقول؛ فالحمرة فيه حين تختلط بالبياض تصنع لونا مختلفا تماما وكأنه لون جديد لا هو الأحمر أو الأبيض، ولا هو الوردي أو القمحي، لون غريب ممكن أن نسميه لون الحياة لو أمكن أن يكون للحياة لون. وجه حي متفاعل، وعينان سوداوان ذكيتان تريان كل شيء ولا تغفلان عن البادرة حتى لو خطرت البادرة في عقل، عينان لا تكتفيان باستقبال المرئيات ولكنهما دائمتا البحث عن كل ما يرى أو يلمح. وشعر أسود، والشعر الأسود نادر في الأوروبيات، ولكنه كان غزيرا فيها، يجعل وجهها أكثر حمرة وبياضا وحياة، ويجعل عينيها أكثر تأثيرا وأعمق نفاذا.
واعذروني إذا توقفت عند وجهها؛ فمن منا إذا تذكر الوجه الذي لوعه وغير مجرى حياته وأذاقه أحلى ألوان السعادة وأمر الألم، من منا إذا تذكر ذلك الوجه لا يتوقف عنده؟ ومن غيرنا أقدر على تذكره ووصفه وتحديد كل دقيقة من دقائقه؟ وجوه من الجائز جدا أن تكون قد تغيرت وتغضنت أو ملأتها التجاعيد، أو حتى انتهت وصارت ترابا، بل وجوه من المؤكد أنها تغيرت وانطمست معالمها القديمة، ولكن خيالنا وذاكرتنا هي المكان الوحيد الذي لا تزال فيه تلك الوجوه ثابتة على حالها محتفظة بكل ما كان لجمالها من جمال ولأصحابها من إشراق، من غيرنا أقدر على أن يتذكر تلك الوجوه؟
وقفنا في القطار متقابلين وتحادثنا، وكنا نتحادث بهمس خافت لا أدري لماذا؟ بل حتى الاحتياطات المبالغ فيها التي اتخذناها لنلتقي لم أكن أعرف لماذا اتخذناها؟
وكان مفروضا أن ينتهي الحديث قبل المعادي مثلا، فأهبط أنا أو تهبط هي لآخذ أو تأخذ القطار العائد، ولكن المعادي جاءت ولم نكن قد تحدثنا في أي شيء جدي. وحتى بعد المعادي لم نتحدث ذلك الحديث الجدي الذي كان لا يتعدى أن أحدد معها موعدها مع شوقي وينتهي كل شيء، هي أيضا كانت تعلم أن لقائي بها لم يكن له هدف آخر سوى تحديد ذلك الموعد، ولكنها هي أيضا التي مضت تتحدث عن نفسها وعن حبها للموسيقى، وعن أمها المريضة بالأورام الليفية، وكيف يجب أن تجرى لها عملية، وصحتها الضعيفة التي لا تحتمل العملية، حديث غريب لإنسان مفروض أنها لآخر مرة.
وقلت لها: أتعلمين أن هذا هو لقاؤنا الأخير، ومن العجيب أني ما زلت لا أعرف اسمك؟
والواقع أني لم أرد أن أسألها ذلك السؤال لمجرد رغبتي في معرفة اسمها؛ فالاسم مهم لتعرف صاحبه، فإذا عرفت صاحبه لم تعد للاسم تلك الدرجة القصوى من الأهمية. كنت أسألها ذلك السؤال وأنا أعلم تماما أن من الممنوع منعا باتا أن تقول اسمها الحقيقي؛ فالمجلة وجماعة تحرير المستعمرات نفسها كانت تطارد وتقاوم في كل مكان، وأجهزة البوليس السياسي في ذلك الوقت معبأة لتعقب أفرادها ومعرفتهم والنفاذ إلى داخل الجماعة لتحطيمها وتخريب عملها، وأن يتبادل كل منا اسمه الحقيقي مع كل من هب ودب خطأ قد يصل إلى مرتبة الجريمة.
ولكن لا أدري أي هاتف حدا بي أن أتخذ ذلك السؤال مقياسا أعرف به مدى قربها مني ومدى حرصها على إرضائي، ومعرفة ذلك المدى كان شيئا مهما؛ فمع أن إحساسي وشعوري الداخلي كان يؤكد لي أنها لن تمانع في لقائي بعد هذه المرة لو طلبت منها أنا ذلك اللقاء، إلا أنني كنت مثل كل الناس لا أثق تماما في مداركي الغريزية تلك ولا أطمئن إليها. وليتنا نثق فيها دائما ونطمئن إليها.
أحببت أن أختبرها وأعرف مدى استعدادها فسألتها، وحين انتهيت من سؤالي وجدتها تبتسم، والابتسامات ليس لها كلها معنى واحد، يخيل إلي أن كل ابتسامة يبتسمها الإنسان في أية لحظة من حياته تختلف دائما عن أية ابتسامة أخرى. وكل ابتسامة لها معنى، وما أكثر المعاني التي أحببتها في ابتسامتها في تلك المرة! كان فيها خليط ناعم جدا من الدلال والتبغدد، وفرحة الأنثى حين تلمح اهتمام الذكر، وثقة المرأة حين تحس أنها عوملت كامرأة، وأخيرا قشرة سطحية من التردد سببها لا بد هو ذلك العرف المتواضع عليه ألا يذكر أحد اسمه الحقيقي لأي إنسان آخر.
ابتسمت تلك الابتسامة الجامعة وقالت: ولكنك تعرف أن هذا ممنوع.
Bilinmeyen sayfa
قلت: أعرف؛ ولهذا أترك الأمر لك، أنت حرة وفي استطاعتك ألا تخبريني.
واتسعت ابتسامتها دون أن تبهت معانيها وقالت: هناك حل وسط.
قلت مبتسما أنا الآخر: وما هو يا سيدتي؟ - لا أخبرك أنا به، تخبرني أنت. - كيف؟ - ألا تستطيع أن تخمنه؟
قلت بفرحة: جدا، لا بد أنه ... انتظري، لا بد أنه لورا.
وبوجه مبتسم وملامح هادئة تحاول إخفاء سرورها حركت رأسها يمينا ويسارا في بطء علامة أني فشلت، وخمنت مرة أخرى وظللت أخمن، كل الأسماء الأجنبية التي أعرفها قلتها، وكلما رأتني أكدح ذهني وأبالغ في تمثيل أني أكدح تزداد ابتسامتها اتساعا وتزداد المعاني التي تحملها وضوحا.
وطال تخميني وأدركت هي أني حائر فعلا وسعيد بحيرتي؛ إذ كنت قد وثقت أنها نجحت في الاختبار، وأن شعوري الداخلي لم يخطئ، وأنها تريدني فعلا أن أعرف اسمها الحقيقي وأن ألقاها، واعترتني قشعريرة فرحة لذيذة، فرحة يقيننا من ثقتنا وفراستنا، خاصة إذا صدقنا في أحب وأهم موضوع يشغلنا. ومضيت أجهد نفسي أكثر وأستعذب ذلك الإجهاد الذي كنت متأكدا أنه لن يطول، وأنها إن عاجلا أم آجلا ستخف لمساعدتي ؛ فالمرأة حين تريدك وتشير إليك من طرف خفي أن تتبعها، وتتوانى أنت وتحتار وترتبك، لا تستطيع أن تصبر طويلا، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن تريك الطريق، ولكنها تفعل هذا من طرف خفي أيضا.
وقالت ردا على عديد الأسماء التي ذكرتها: لا لا، إنه مكون من مقطعين مثل اسمك.
ورنت إجابتها في نفسي رنينا حلوا، هي إذن مهتمة باسمي وتعرف أنه من مقطعين، بل حتى لم أقف مرة لأتأمل اسمي، والمرات القليلة التي فعلت فيها هذا كنت أضيق به وأتمنى لو كان لي غيره، ما أكثر ما تمنيت لو كنت قد سميت باسم جميل جذاب مثل أسماء أبناء كبار الموظفين الذين كانوا معنا في ابتدائي وثانوي، الأسماء الجميلة التي كانت شائعة في ذلك الوقت: مجدي وعفت وفاخر وماجد، بل جاء علي وقت كانت منتهى أحلامي في السعادة فيه أن أملك اسما كاملا موسيقيا مثل «رائف شيرين» مثلا أو «جمال كامل». وكم يضايقني من أبي أنه سماني يحيى على اسم ذلك المرشح الوفدي في الانتخابات التي ولدت أيامها، وكانوا يهتفون له ويقولون: «عاش الدكتور يحيى»، وكان حكيمباشي سابقا في عاصمة المديرية، وسماني أبي باسمه عساي أن أصبح مثله. ولم تنسجم يحيى أبدا مع بقية اسمي، وظللت كلما نودي علي وقال أحدهم «يحيى مصطفى طه» أحس بالخجل وكأن ثلاث طوبات قد خرجت من فم الناطق وجرحت آذان المستمعين.
وربما كانت تلك أول مرة أحس بالسعادة لأن اسمي يحيى، ولأنه مكون من مقطعين: «يح ... يى»، ومن قائلة هذا؟ هي. واسمها هو الآخر مكون من مقطعين. يا لها من قرابة! على الأقل خمسمائة مليون من سكان العالم أسماؤهم مكونة من مقطعين، ومع هذا فلمجرد إحساسي أن اسمينا ينتميان إلى هذا الرقم الهائل جعلني أحس بنشوة، وخيط يصلني بها، أي خيط ولو اشترك معنا في القربى خمسمائة مليون، ولم أكن أنا وحدي المنتشي، كنت أنا وهي في لحظة من تلك اللحظات التي يفنى فيها الإنسان في الآخر، وفي تقاطيعه وفي حديثه وابتساماته ودلاله، في لحظة من اللحظات التي تنسى الدنيا كلها وما فيها، وتنسى من أنت وابن من أنت، وماذا كنت في الماضي وماذا ستصنع للمستقبل، في لحظة من تلك اللحظات التي تخدر فيها جسدك كله بالنشوة ولا يبقى واعيا فيها إلا حواسك التي تستقبل وذلك الجزء الصغير من عقلك الذي يعمل، ونشوان وهو يعمل، يرتب إجابات جميلة وأسئلة أجمل، في اللحظة التي لا يمكنك أن تكذب فيها أو تمكر، والتي لا تفعل فيها إلا أن تتجاوب، تحس ما يريده الطرف الآخر ويحس الطرف الآخر بما تريد، وتجيبه إلى طلبه ويجيبك إلى طلبك، وكل همك أن تطيل ما أمكنك، وأن تجمل كل شيء حولك، وأن تمتص حواسك كل ما يقع أمامها ولها وتختزنه كالكنز النادر في أعماقها، وكأنك تعلم سلفا أن تلك اللحظات لا تدوم، ولا بد أن يأتي وقت يصبح كل ما في استطاعتك أن تفعله فيه أن تقلب أعماق نفسك بين الحين والحين، وتدفئ وحدتك وسنينك والعالم الذي تغير من حولك على لحظات مثلها عشتها يوما ما.
ولم نحس إلا بالكمساري وهو يزاحم الوافدين ويدق على الأرائك ويقول: حلوان.
Bilinmeyen sayfa
وفي اللحظة التالية كنا نضحك، وكنا قد اتخذنا قرارا، أن نظل في العربة لا نغادرها حتى يعود القطار نفسه إلى القاهرة.
وبعد دقائق كانت العربة قد خلت تماما من كل ركابها، ولم يبق سوانا، وجاء عامل التنظيف وتمحك، ولكنه كان بعد قليل يحضر لنا مشروبا مثلجا من البوفيه وعلى فمه ابتسامة الموافقة والترحيب.
وحين أصبحنا وحدنا تماما قلت: بطل حزري.
قلتها بالعامية، فاندهشت وسألت بالإنجليزية: يعني ماذا؟ - يعني انتهت كل مقدرتي على التخمين.
ولكني لم ألبث أن هتفت: أتعلمين شيئا؟ - ماذا؟ - لا بد أن اسمك فينوس.
فقالت وهي تعرف إجابتي سلفا: لماذا؟ - لأن لا بد أن اسمك على اسم جدتك، فقطعا أنت من أحفادها، لا بد أن يكون اسمك فينوس، وإذا لم يكن كذلك فلا بد أن يغيروا اسم فينوس ويطلقون عليها اسمك. - مجاملة، المصريون كلهم يجاملون.
قلت: لا بد أنه أفروديت إذن، ولو أني لا أفضله.
قالت: ولا هذا أيضا. اسمع!
وقالت اسما لم أسمعه، وربما فعلت هذا لتنقذني من حيرتي التي كنت لا أود أن أنقذ منها. وسألتها مرة ومرتين وثلاثا حتى استطعت أن أسمعه منها جيدا وأحفظه، وقلت أخيرا: إكسانتي؟ أو زانتي؟ - إكسانتي، وللسهولة يسمونني سانتي، ألا ترى أنه مكون من مقطعين كاسمك؟
وسألتها إن كان اسمها يعني شيئا باليونانية؛ ففكرت هنيهة وضمت فمها تلك الضمة التي أحبها منها، الضمة التي تذكرك أن لها فما صغيرا دقيقا كنت قد نسيته لفرط دقته وصغره، الضمة التي تبرز شفتيها وتكرز حمرتها وتصنع لهما عشرات التجعيدات الدقيقة المتقاربة المحتقنة ذات المعنى الجسدي الذي ينسيك حتما ما كنت تريد قوله، ويجفف حلقك ويلهب أنفاسك. وقالت: صعب ترجمته، ولكنه شيء يعني الفتاة ذات اللون الأبيض، أو الفتاة الشقراء، أو على وجه الدقة، الفاتحة.
Bilinmeyen sayfa
قلت وأنا أسترد نظراتي: يعني البيضاء؟ - شيء كهذا. - اسم جميل. - وكيف عرفت أنه جميل؟ - لا بد أنه كذلك. - مرة أخرى، الطريقة المصرية للمجاملة.
ضحكت وقلت: تقصدين مجاملة سخيفة.
قالت على الفور: أبدا، مجاملة لذيذة جدا.
قلت: شكرا على الطريقة اليونانية للمجاملة.
وضحكنا وتلفتنا. كان القطار قد غادر حلوان إلى المعادي، غادرها ولم يبق إلا الجبل ومحاجره لنصبح في القاهرة، ودق منبه غريزي في صدري دقات قلق، ولكني تصنعت الهدوء وسكت، وسكتت هي الأخرى ذلك السكوت الذي ينتظر كل طرف فيه أن ينبئ الآخر ويستعد لما يقوله، سكوت أحسست أن كلا منا يجهز فيه كلاما متعمدا يقربه من الآخر.
وقلت لها: إذن، لن نتقابل بعد الآن؟ - أجل، مفروض هذا. - شيء مؤسف. - مؤسف.
ثم برقت عيناها وقالت فجأة كأن وحيا هبط عليها: اسمع. وقالتها بالعربية، و«اسمع» حين ننطقها نحن شيء، وحين نطقتها كانت شيئا آخر، أعذب «اسمع» سمعتها في حياتي. - اسمع، من شهرين كنت قد بدأت أدرس اللغة العربية، وقد انقطعت الدروس الآن، هل ... هل ممكن؟
وقلت أستحثها دون أن أعرف ما هو ذلك الممكن: ممكن جدا ماذا؟ - هل ممكن أن أعتمد عليك في إكمالها؟
وطبعا كانت تعرف أنها تستطيع أن تعتمد علي.
والمشكلة التالية كانت مشكلة عملية محضة، مشكلة المكان؛ فقلت وأنا أحمل كلامي معنى التردد وشكله، الاقتراح الذي لا أحرج كثيرا إذا رفض: هل ممكن أن تأخذي الدروس عندي؟ هل ... هل ممكن؟ - عندك؟ - أجل. - ولكنك مع عائلتك. - أنا أسكن وحدي. - في بنسيون؟ - في شقة.
Bilinmeyen sayfa
وانقطعت حلقة أسئلتها وسكنت قليلا، فسألتها: هل يمكنك؟
وكنت أسألها وقلبي يخفق خوفا من أن ترفض أو تتحجج أو تنتحل أعذارا، ولكن كان شيء ما يؤكد لي أنها لن ترفض، شيء يستحق ثانية تأمل؛ فالإنسان منا ما يكاد يسأل نفسه: ترى هل هذه بغيتي؟ ويراها فعلا بغيته، حتى يبدأ في الاقتراب منها مادا ثقته بنفسه كقرون الاستشعار أمامه، وهي قرون حساسة جدا، إنها لا تمتد أنملة واحدة إلا إذا أحست برضى من الطرف الآخر، وليس للرضى شكل معين، ولا يستطيع الإنسان أن يلمسه متبلورا في شيء محدد، هو ليس حالة تصاحب حركات الطرف الآخر مصاحبة خفيفة.
الطريق دقيق جدا، ذلك الطريق الذي يفصل بين الرجل والمرأة ويصلهما، وكل منهما يسلكه باحتراس شديد. إن الرجل وهو يطلب المرأة كالصبي حين يحاول الإمساك بفراشة، إنه يقترب منها في حذر مبالغ فيه مخافة أن يأتي بحركة غير مقدرة ومحسوبة تجعلها ترف بجناحيها وتطير.
وهكذا كنت وأنا أقترب من سانتي؛ فنحن حين نعثر على بغيتنا يتعاظم خوفنا أن نفقدها، نحن لا نتعلم الحب في المدارس، وكل منا يطلب بغيته وهو جاهل بالطريق إليها، وكل جنس له طبعه وغرائبه، وكل جنس يجهل طبائع الجنس الآخر، وكلنا نفعل هذا بلا خبرة ولا معلم أو مرشد؛ فكل تجربة قائمة بذاتها لا يصلح لها ما يصلح لأخرى.
3
وجاءت سانتي إلى الشقة أول يوم.
ولست أعرف إلى الآن كيف استطاعت الوصول إليها؛ فالطريق إلى بيتي في القسم البولاقي من شارع فؤاد كان صعبا، ولكنها جاءت، وقابلتها بترحاب غامر، وكان مجيئها يعني أن علاقتنا تنمو نموا طبيعيا جدا، وكان هذا يطمئنني تماما كالصبي حين يقترب من الفراشة وهو ضامن أنها باقية على وضعها إلى أن يطبق عليها بأصابعه، ذلك الضمان الذي يجعله ثابت الخطوات ثابت الأعصاب واثقا من نفسه، بحيث تدفعه تلك الثقة إلى نوع من الهدوء لا يجعله يأتي بحركات هيستيرية تطير منه الفراشة.
وتعودت سانتي أن تأتي، وفي كل مرة يزداد اقترابنا، كانت غبطتي لمجيئها تزداد، وغبطتها تزداد أيضا، وبنفس الأهداف، فلا أعرف أنا سر انجذابي نحوها أو هدفه، ولا أعرف أيضا سر موافقتها على هذا، بل وانجذابها هي الأخرى، لم يكن يبدو عليها أنها من ذلك النوع المغامر أو المتساهل! العكس كان صحيحا، كانت تبدو دينامو عمل هائل وطاقة حماس لا تفرغ. ولكنني لا أعرف ما حدث في تلك اللحظة الغريبة التي التقينا فيها أول مرة فأخرجتنا عن مدارينا المفروضين وجعلنا نلتقي بلا عمل، ثم نبدأ نختلق الحجج للالتقاء ولتعدده أبدأ متشحبا أضع هدفا لنفسي وأحيطه بضباب كثير؛ فالخجل جزء من طبيعتنا ونحن لا نستطيع أن نواجه حتى أنفسنا بأهدافنا الحقيقية.
وعلى الرغم من غموضه، فقد كنت أمضي ثابت الخطى في الطريق إليه، وهدفي لم يكن أبدا ذلك الطوفان من العواطف الذي انتهت إليه علاقتنا، كان هدفي واضحا وصريحا، مجرد مغامرة حب سريعة خاطفة. والرجل حين يحدد هدفه من المرأة يدفعها إليه واحدة فواحدة، بنظرة مرة، بضغطة على اليد مرة، باصطناع غضبة، باختلاق غيرة، بلوم، بإهمال أحيانا، وتوريط أحيانا أخرى. وهو لا يفعل هذا بوعي؛ فالإنسان منا آلة معقدة غريبة! ضع لها الهدف واتركها تتصرف، وثق أن كل حركة من حركاتها سيكون مقصودا بها الاقتراب من ذلك الهدف.
وحتى بعد أن تحدد الهدف ظللنا نتحرك تجاه بعضنا البعض بانجذاب متساو. ولكن الأوضاع لا تدوم هكذا أبدا؛ فلا بد في آخر كل أمر أن يقوى أحد الطرفين ويصبح هو القطب الغالب فيقف في مكانه ثابتا واثقا من نفسه، متأكدا أن الآخر سائر نحوه، وأنه قد أصبح في تلك العلاقة المسيطر صاحب اليد العليا والكلمة المسموعة.
Bilinmeyen sayfa
كانت سانتي تأتي من أجل أن تتقوى في العربي كما اتفقنا . وفي أول يوم لمجيئها أحضرت معها كراسة وكتاب مطالعة من كتب الأطفال. وتحدثنا قليلا، وشربنا قهوة، ثم أخذت في إعطائها الدرس، واستمر الدرس حوالي ساعة وتسلينا به كثيرا، أضحكها من نفسي على دوري كمدرس، وتضحكني من نفسها على دورها كتلميذة، وأحاول أن أوضح ما أريد بالكتابة فلا تستطيع قراءة خطي، وتطلب مني أن آخذ أنا درسا في اللغة العربية، إلى أن انتهى الدرس.
وكنا قد اتفقنا على أن أعطيها الدرس مرتين في الأسبوع، السبت والثلاثاء. وسانتي كانت تعمل، لم أكن أعرف ماذا تعمل بالضبط، ولكنها على أية حال كانت تخرج من عملها في الثانية، فاتفقنا على أن يكون لقاؤنا في الثالثة والنصف. كان ميعادا غير مناسب، ولكنه على ما بدا كان الوحيد الذي يهيئ لنا فرصة أكبر لمده وإطالته.
وكنا أيامها في فبراير، في تلك الفترة التي يتقلب فيها الجو بين الدفء والبرودة، وتتقلب فيها الأمزجة كذلك.
وحين جاءت لتأخذ «الدرس» الثاني جاءت ومعها «الواجب» الذي كنت قد أعطيته لها، ولم تنس أيضا الكراسة وكتاب المطالعة.
ولم يستغرق الدرس هذه المرة إلا الوقت الذي «صححت» فيه الواجب، وأعطيتها «عشرة على عشرة» رغم أنف كل ما كان هناك من أخطاء، وكنا نتحدث قليلا ثم نبدأ الدرس، ولكنا تحدثنا كثيرا ولم يبدأ الدرس في ذلك اليوم أبدا. وفي حديثنا لا أذكر أن جدلا نشب بيننا حول أي شيء، كانت أحاديثنا تجاوبا لا غير، نتحدث في السياسة فإذا برأيها هو نفس رأيي، وحتى ما يعن لي من نقد هو نفس ما يعن لها، ونتحدث في الموسيقى فتقول: إنها تحب موزار، ولا أكون قد سمعت من موزار إلا قطعة أو قطعتين فأؤكد لها أني أحبه أنا الآخر ومتعصب له.
ومع أن الدروس انقطعت بعد هذا الدرس الثاني الذي لم يبدأ، إلا أننا اقترحنا أن نزيد عدد الحصص إلى ثلاث مرات في الأسبوع «لنسرع» في البرامج أكثر. ولا أذكر من منا هو الذي اقترح هذا، ولكن الأكيد أن كلينا تحمس للاقتراح ووافق عليه في الحال .
كنا نقترب كما قلت بانجذاب رائع متساو.
إلى أن كان يوم!
كانت سانتي تأتي في العادة حوالي الثالثة والنصف، وكنت أيامها قد افتتحت عيادة صغيرة، وكان وقتي موزعا توزيعا يكاد يكون كاملا بين العمل كطبيب لورش السكك الحديدية في الصباح والعمل في العيادة ابتداء من السادسة مساء، ثم العمل في المجلة إلى ساعة متأخرة من الليل. ودونا عن بقية ساعات الأيام كلها كانت الساعة الثالثة والنصف من أيام السبت والثلاثاء والخميس (وهي الأيام التي اتفقنا أن تأتي فيها)، قد أصبحت لدي شيئا حبيبا. أصبحت تلك اللقاءات وما نتبادله فيها من حديث واحة جميلة أحن إليها هربا من جفاف حياتي. وأنى لي أن أعرف أني بتلك الواحة كنت أجتاز أسعد أيام العمر؟! فنحن لا نسعد إذا استرحنا دائما، نحن نسعد بساعة الراحة إذا جاءت في وسط يوم كامل أو ربما حياة كاملة من الشقاء، نسعد بها سعادة مبالغا فيها كتلك التي يحسها الضارب في الضارب في الصحراء حين ينتهي إلى واحة يرى في نخيلها القليل وبئر مائها المهدم جنة تضارع جنان الخلد.
وذات يوم دق لي شوقي تليفونا في مكتبي بالورش وقال لي إن البوليس قد صادر المجلة، وإن علي أن أحضر في الحال. وذهبت وكنت متأكدا أني حتما سأستطيع الرجوع إلى البيت قبل حلول موعدي مع سانتي بوقت طويل، ولكن الموضوع تطور، وعرضت المجلة على النيابة وطال التحقيق، وجاءت الثالثة والنصف والرابعة والخامسة دون أن ينتهي وأنا رائح غاد لا أستطيع حتى الاعتذار، والنيران تأكل قلبي وأنا أتخيلها تنتظر على مضض هي الأخرى، ثم وأنا أتخيلها تنصرف ضيقة بي وبقلة ذوقي.
Bilinmeyen sayfa
وعدت إلى البيت في التاسعة مساء متعبا منهكا حزينا، غير أني فوجئت بأعجب شيء؛ فقد وجدت النور مضاء في شقتي، والشقة كنت أقطنها وحدي ولها مفتاحان: واحد معي والآخر مع أم الطلبة، وأم الطلبة تعبير لا أدري من أطلقه على أم عمر، فذهب مثلا. والواقع أنه كان لا يخلو من حق؛ فأم عمر أرملة صعيدية خشنة المظهر والصوت والسواعد ، عمرها تاه فيه الحاسبون، ولكنه لا يمكن أن يقل عن الخمسين، ومع هذا فقد كان لها عنفوان رجال الصعيد وأمانتهم. كان أكبر غسيل لا يأخذ من يديها القويتين أكثر من ربع ساعة، وأضخم شقة تنظفها وتمسحها إذا احتاج الأمر تلحسها في دقائق؛ ولهذا فقد كان من الطبيعي جدا أن توزع طاقتها الجهنمية؛ فكانت تعمل في وقت واحد عند أكثر من عشرة من الطلبة الأغراب الذين يسكنون بمفردهم، كل واحد منهم أو كل اثنين في حجرة، بل قيل إن عدد من تعمل لديهم غير معروف؛ فهي تحتفظ به سرا حتى لا يطلع أحد على إيرادها، ذلك الإيراد الذي زعم البعض أنه يكفي لشراء عمارة أو عدة فدادين، وبعد أن تخرجت وسكنت في تلك الشقة في بولاق، وتخيلت أني انتهيت من أم الطلبة وحياتهم وشظفها، فوجئت بها ذات يوم تطرق على الباب كالقدر المحتوم وتعاتبني بشدة على أني هربت منها، وهكذا وضعتني أمام الأمر الواقع، واضطررت أن أعود لاستخدامها.
عدت كما قلت فوجدت الشقة مضاءة، وفتحت باحتراس فوجدت أم الطلبة جالسة على كرسي في الصالة جلسة كادت تميتني من الضحك - فتلك أول مرة كنت أراها فيها جالسة على كرسي - وكانت جلسة غريبة ما في ذلك شك؛ فقد كانت جالسة وكأنها غير مطمئنة أبدا إلى هذا الشيء ذي الأرجل الأربع الذي من المحتمل جدا أن يسقط قاعه، جالسة وكأنها تعاني من أزمة أو من إمساك. وقبل أن أفتح فمي وجدتها تنتصب واقفة وتقول بصراخها الطبيعي: تعملها فينا يا بوي وتسيب المزمازيه إكديه!
ولم تكن «المزمازيه» غير سانتي التي ما كادت تراني حتى هبت واقفة منزعجة تسألني عما حدث، وعن سبب غيابي الطويل.
وردت إلي الروح.
وبينما كنت أحكي لها بكلمات مشتتة مختصرة كل ما حدث، كانت فرحة غامرة تجتاحني؛ إذ أدركت لحظتها أني أستطيع أن أقف في مكاني ثابتا ممتلئا بالاطمئنان والثقة، وأنها سائرة بخطى واسعة في طريقها إلي، ويوم وصولها قريب.
وقد تبدو حادثة بسيطة كهذه شيئا تافها، ولكن معناها ظل يضطرم في نفسي طوال ليلتها، وأنا راقد في الفراش محموم تلك الحمى النفسية التي لا تعتري الإنسان إلا في لحظات خاطفة من حياته، اللحظات التي يحس فيها بالسعادة شيئا ماديا ملموسا يمور في جسده ويؤججه ويتقلب على دفئه.
وكان اليوم التالي يوما من الأيام التي لا تأتي سانتي فيها، ولكني لم أفاجأ كثيرا حين وجدت الباب يدق في الثالثة والنصف، ووجدتها هي الطارقة، بل لم أفاجأ أيضا حين أصبحت تأتي كل يوم تقريبا، لم أعد أفاجأ أو أضطرب أو أتكلف، بل أصبحت مستمتعا غاية المتعة بذلك الموقف الذي كنت أقفه، الموقف الذي لم يكن علي فيه إلا أن أثبت في مكاني ولا أتحرك، وأنتظر تاركا نفسي على سجيتها وأنا ضامن أن كل تصرف من تصرفاتي حيالها سيكون مقبولا ومحبوبا ومرادا، وأني قد أصبحت السيد.
غير أنه يبدو أن مفاجآت من نوع آخر هي التي كانت تنتظرني؛ إذ بدأت ممرضة المستوصف المجاور لشقتي تغير من كثرة تردد سانتي، قالت لي وأنا صاعد في السلم ذات يوم وهي هابطة عندما حاولت مداعبتها: اوعى كده.
ولم أتراجع، ووقفنا نتحدث وأنا أتحين الفرصة المناسبة وأعود لمداعبتها، ولكنها في النهاية قالت وفي ملامحها اشمئزاز مصطنع: ما تروح أحسن لحتة الخوجاية بتاعتك اللي بتجيلك كل يوم، أنا عارفة بتحبوهم على إيه؟ دي مشيتها حتى زي مشية شيتا.
وأكملت صعود السلم وأنا في كلام البنت التي لا أذكر اسمها، والذي كل ما أذكره عنها أنني ما كدت أعرف أن مستوصفا سيفتح في الشقة التي خلت بجوار شقتي حتى بدأت أفكر في التعزيل فورا، ولكن كسلي ومشقة التعزيل حالتا دون تنفيذ رغبتي، وأصبح كل همي أن أتحايل على نفسي لإقناعها بفوائد وجود مستوصف بجواري، فوائد ليس أقلها وجود ممرضة جميلة فيه، ولكني حين رأيتها خاب أملي؛ فلم تكن أكثر أو أقل من مصرية قصيرة القامة، قمحية، وجهها مشرب بحمرة وبحب شباب، وكانت أحيانا تأتي إلى المستوصف مرتدية ملاءة لف وحينئذ كانت تبدو أحلى وأجمل، وفي أحيان أخرى كانت تأتي وهي مرتدية «جونلة وجيب» لم يكن من المستبعد أبدا أن تكون هي التي صنعتهما لنفسها.
Bilinmeyen sayfa
ولم يكن صعبا أن أعرفها وتعرفني؛ فالطبيب الذي يعمل بالمستوصف كان زميلي، وكنت أحيانا أزوره وأراها في أثناء الزيارات، والأطباء الشبان لهم طريقة خاصة مجربة في التفاهم مع الممرضات والحكيمات، ولهم خبرة في بدء الحديث بالكلام عن السينما والأفلام وإنهائه بقرصة في الخد أو زغدة في الكتف. ودائما ليس لدى الممرضات مانع طالما هن بنات لم يتزوجن بعد، وما دام الطبيب المعاكس شابا لم يتزوج هو الآخر؛ فحلم الواحدة منهن الدائم أن تتزوج من طبيب.
ولا أعرف لماذا كنت أداعبها كلما قابلتها على السلم، كل ما أذكره عنها هو وجهها المنتفخ الأحمر وعيناها الصغيرتان السوداوان، وحب الشباب بالذات في وجهها. حب الشباب كان يقف حائلا بيني وبين استلطافها كلية، والمشغوليات الكثيرة ودوامة العمل كانت تمتص كل طاقاتي بما فيها تلك الطاقة الكامنة فينا التي تدفعنا لمناوشة الجنس الآخر أنى وجدناه.
وإذا كانت مشغولياتي قد حالت بيني وبينها، فيبدو أنها هي التي تفرغت لي وعرفت عني كل ما تريد معرفته من أم الطلبة أم عمر، بل لا بد أنها كانت تراقب زواري مراقبة دقيقة.
يومها أكملت صعود السلم وكلامها عن سانتي يرن في أذني رغما عني ويدفعني إلى التفكير فيه، صحيح كنت قد لاحظت أن سانتي تمشي مسرعة وليس لخطواتها ذات الإيقاع الذي تحرص السيدات والفتيات على تعلمه زيادة في تأنيث أنفسهن؛ ولهذا تبدو مشيتها سريعة متوثبة كمشية الصبي المعفرت، صحيح كنت قد لاحظت هذا، ولكن ما فائدة ملاحظته وإعجابي بها يملأ علي كل نفسي ويلغي من عقلي وجود أية فتاة أو امرأة أخرى مهما بدت أروع وأجمل وأكثر أنوثة؟ كل ما فعله كلام الممرضة أنه جعلني أضع في احتمالي أن سانتي، وإن كنت أراها كاملة، إلا أنه من المحتمل جدا أن تكون لها عيوب.
ليس هذا فقط، بل بدأت أفكر في أمور كنت أتجاهل التفكير فيها إلى تلك اللحظة، منها أشياء قد يخجل الإنسان عن ذكرها. صدرها مثلا لم يكن بارزا ذلك البروز الذي ينبئ عن أنوثة مكتملة، وطريقة سلامها مثلا، كانت تقبض على اليد بقوة وحماس وليس في تسليمها رقة المرأة.
أقول: بدأت «أفكر» في هذه الأمور مجرد تفكير، تفكير كل ما كان يفعله أن يزيدني ربما إعجابا بها، وربما لهذه الأشياء بالذات تلك التي يخالها الناس العاديون عيوبا، فحتى تلك اللحظة لم أكن قد سمحت لنفسي أن أتوقف وأتساءل عن كنه علاقتي بها، وهل أنا معجب بها؟ وبأي شيء أنا معجب؟ ماذا أريد منها وماذا تريد هي مني؟ كل ما كان يشغلني في تلك الأيام هو انجذابي التلقائي إليها وحرصي على القرب منها والبقاء أطول مدة معها، وكأنها قطعة موسيقية أو أغنية أحبها وأفضل سماعها دون أن أتلمس لهذا التفضيل أسبابا.
ولم لا أقول الحقيقة كلها وأذكر أن كلام الممرضة قد استغرق جزءا أكبر من تفكيري، وأنني في النهاية آثرت، بل وتمنيت، أن يكون صحيحا، وأن تكون لسانتي عيوب ليزداد أملي فيها؟ فمشكلتي الكبرى كانت أنني لم أكن من ذلك الصنف من الشبان الذين في استطاعتهم أن يتيهوا بوسامتهم على الفتيات، كنت أنظر في المرآة وأجعل عيني رغما عني لا ترى الأشياء التي لا أريدها أن تراها في وجهي وملامحي، الأشياء التي لم أكن أحتاج لرؤيتها لأدرك أنها هناك؛ فقد كنت لفرط إدراكي لها أحفظها عن ظهر القلب.
لم أكن وسيما ولا جميلا ولا يعد وجهي حتى من الوجوه المقبولة الشكل. لم يكن به عيب جوهري، كل ما في الأمر أن ملامحي لم تكن منسجمة، لأمر ما كان فمي يبدو للناظر واسعا كفم البحر إذا انفتح، مائلا إلى الناحية اليسرى إذا انغلق. أجل، كنت حقيقة أراه وكأنه ليس فمي وكأنه عاهة مستديمة أصبت بها منذ الصغر، وكأنه جرح عريض ملتئم يقطع وجهي ويميل إلى اليسار، وملامحي الأخرى لم يكن بها عيب، ولكن هذا الفم بوجوده الدائم بينها لا أدري لماذا كان يشوهها.
وأفظع ما في الأمر كان ابتسامتي، وعشرات الآلاف من المرات وقفت أمام المرآة أبتسم وأحاول أن أصلح الابتسامة وأجملها؛ إذ كنت قد قرأت أن ملامح الإنسان ممكن تغييرها بالتمرين الشاق الطويل. عشرات الآلاف من المرات ابتسمت فيها محاولا أن أجعلها ابتسامة مستقيمة كابتسامات كل الناس، محاولا أن أرفع قليلا ذلك الجزء الساقط منها إلى اليسار بلا فائدة حتى يئست، وتحول يأسي إلى عادة وتحولت العادة إلى نسيان مستمر مستديم لا ينتهي إلا في فترات محددة نادرة. وفي مثل تلك الساعة أو الساعات التي رحت أفكر فيها في كلمات قالتها الممرضة، وربما كانت صادرة عن حقد وموجدة، ساعتها عاد شكل ابتسامتي إلى ذاكرتي، ساعتها تمنيت لو كانت سانتي تمشي حقيقة كشيتا، تمنيت لو نبتت لها فجأة آلاف العيوب.
وبمثل الومضة التي تذكرت بها ملامحي اختفت الذكرى، وبدأت فجأة أنظر للأمور وكأني أصبحت على قدم المساواة مع سانتي، وكأن مشيتها تلغي بشاعة ابتسامتي، وكأننا أصبحنا أندادا، أو على الأقل يجب أن نصبح أندادا. ولكي يحدث هذا، ولكي يثبت هذا، كان علي أن أتوج أهدافي من سانتي بإيقاعها.
Bilinmeyen sayfa
وقد يحاول البعض أن يفسر هذا على ضوء علم النفس المضحك ويقول إني كنت معقدا، وإني كنت أعاني من عقدة القبيح الذي يحاول أن يثبت لنفسه أنه وسيم بإيقاع أكبر عدد من النساء، وأي تفسيرات أخرى تقال - وقد تكون صحيحة - ولكن هل تلغي تفسيرات كهذه الحقيقة البسيطة التي تقول إن الرجل بعد أن يقول لنفسه: هذه هي فعلا من أريد، لا بد أن يعود ويقول لنفسه: ما دام الأمر كذلك فعليك بها، أوقعها؟
4
ولم يكن إيقاع سانتي بالأمر السهل.
لم يكن سهلا أبدا أن أتخطى بقفزة واحدة حواجز منيعة تكاد تعادل تلك التي تقوم بين الإنسان وأخته، حواجز الزمالة والعمل المشترك. ولكني كنت أعتمد على الزمن ونمو العلاقة والتأكد بشكل قاطع أنها على الأقل راضية؛ ولهذا حين وجدتها تنتظرني تلك الساعات الطوال وتتلهف على قدومي اعتبرت ذلك الانتظار برهانا أكيدا على اهتمامها الشديد بي وقربها مني. وما يكاد الإنسان يعثر على برهان أكيد أو أرض صلبة مثل تلك حتى تتوالى الشواهد. وهكذا وجدت في مجيئها كل يوم رغبة، وفي قطعها كل تلك المسافات بين بيتها وبيتي واقتحامها ذلك الحي الشعبي الذي أقطن فيه، واحتمالها لنظرات الممرضة وأصحاب الدكاكين المتراصة على الناصيتين، رأيت في هذه كلها شواهد جديدة تثبت لي على الأقل أن رغبتها في لا تقل عن رغبتي فيها.
وزادني هذا ثقة بنفسي، وبالأرض التي أقف عليها.
ثم إن كلام الممرضة كان قد جعلني أبدأ أتأمل سانتي، وأجد أنها كفتاة وكأنثى تكاد، لولا مبالغتي في تقديرها، أن تكون عادية لا يحق لي أن أستكثرها على نفسي، بل حتى من الممكن أن أعتبر أن لي أنا الآخر مزايا يمكن أن تكون غير عادية، وتضاعف رصيد الثقة في نفسي.
وكان هذا مهما؛ فمجرد سؤالنا لأنفسنا: ترى هل نستطيع؟ مجرد السؤال بداية شك في قدرتنا وثقتنا بأنفسنا، وما لم تتدعم تلك الثقة فلن نستطيع الاقتراب خطوة. وهكذا أصبحت سانتي بكل أحاديثها ووجهها المعبر المسمسم وروحها شيئا آخر ما لم تعد ندا أخافه وأخشاه وأعمل حسابا كبيرا لكل خطوة أخطوها ناحيته. أصبحت فريسة جمدتها في مكاني وما علي سوى أن أمد يدي وأتناولها.
وأنا لا أزعم أني كنت أفكر في هذا وأحلله وأتصرف على أساسه. إننا في أمثال تلك المواقف نسمع ونرى ونحس ونقدر، ثم يهدينا تفكيرنا إلى أنسب التصرفات دون تحليل أو تمحيص.
وقالت لي سانتي يوما في أواخر جلسة لنا: رأيت فرقة الأوبرا الإيطالية؟ ولم أكن قد رأيتها أبدا. وحدثتني كثيرا عنها، وأخبرتني أنها تذهب مساء كل يوم لرؤيتها، وأن لديها «أبونيه» لمؤخر الصالة، ورقم كرسيها الدائم 71. وطبعا أبديت حماسا كبيرا لأن أذهب معها في مساء نفس اليوم، واتفقنا على أن نلتقي هناك، وأن علي أن أحاول العثور على كرسي بجوارها.
وأغرب شيء أني بذلت جهود المستميت للحصول على التذكرة، وحصلت عليها ودخلت وأنا لا أعرف «الأوبرا» التي كانت ستعرض في مساء ذلك اليوم، ولا أدري إن كانت «ريجوليتو» أم «عايدة». ودخلت، ومن بين مئات الوجوه المزدحمة في مؤخر الصالة لمحت وجهها الأبيض المحمر النحيف الدقيق الملامح، وأهم من هذا لمحتها تبحث بعينيها في لهفة، وكان من المؤكد أنها تبحث عني وقد قرب موعد رفع الستار. وحين رأتني احتلت وجهها كله ابتسامة رضا وفرح، كادت تكون أعذب وأمتع ابتسامة رضاء لمحتها في حياتي.
Bilinmeyen sayfa
ولست أدري ما حدث ليلتها.
كانت الأوبرا تموج بالناس والأضواء؛ ومعظم المتفرجين من الإيطاليين المقيمين في مصر؛ واليونانيين والفرنسيين والأجانب بشكل عام. ومعظمهم سيدات، شابات وعجائز، الشابات جميلات وأنيقات، والعجائز يظهرن وكأنهن شابات، وكلهن يبتسمن ويضحكن، ورواد الصالة والبناور يسخرون بنظراتهم من رواد البلكون وأعلى التياترو، فيقابل هؤلاء سخريتهم بسخرية أشد. والجو يملؤه ذلك الأزيز الأنثوي الذي يصدر عن الجماعة إذا كان معظمها من النساء، والرواد جميعا واضح أنهم في ساعة مرح وتفرغ كامل للاستماع والاستمتاع، لا مشاغل لا تفكير في مشاكل. الابتسامات كثيرة تملأ الأركان، والضحكات أسهل من الكلمات، والأرواح شفافة خفيفة يلونها المرح الدافق بألوان زاهية ساحرة.
وقالت لي سانتي همسا: خفت ألا تأتي.
وقلت وأنا مبهور بالجو الذي حولي، قلت شيئا ما، كلاما من الكلام الذي نسد به خانات الحديث؛ إذ كان تفكيري الأكبر موزعا بين تأمل كل تلك الوجوه الشابة الجميلة، وبين الاستعداد لسماع الأوبرا نفسها وهي تجربة جديدة، وبين استعادة لهفة سانتي على مجيئي وإبقائها حاضرة في ذهني لا تغيب.
وحين أقول اللهفة فإني أعنيها؛ إذ يبدو أن من كثرة استعمالنا لبعض الكلمات فقدت تلك الكلمات وقعها ومعناها. اللهفة التي لمحتها ناطقة بها ملامحها، اللهفة النابعة من الأعماق المتجسدة كيانها كله حتى أصابع القدمين، هذه اللهفة ...
ليلة الأوبرا ...
ما فائدة أن أتكلم عنها؟ إن كل ما حدث ليلتها أشياء لو قلتها لبدت عادية جدا، ولكن الأشياء العادية تصبح في أحيان ذات معان غير عادية بالمرة. اللهفة التي قابلتني بها ممكن أن تكون لهفة الصديقة التي دعت صديقا إلى الأوبرا ثم مضى وقت طويل ولم يظهر له أثر، ولكنها لم تكن كذلك، وقد أطيل ويبدو حديثي مملا، ولكني أود أن أوحي بالفرق، الفرق الدقيق الذي يحس ولا يوصف. إنك تستطيع أن تصافحني عشر مرات، بنفس القوة، بنفس القبضة والضغطة ونفس الترحيب، ولكني أستطيع أن أقول دائما أي تلك المرات كانت أدفأ وأكثر مودة.
ولو كنت قد رأيت أعز الناس لدي يحتل مقعدا في مؤخر الصالة أو في أي مكان من المسرح، لما كنت قد تذكرت الآن أني رأيته؛ فعقلي لم يدر فيه أي شيء خارج سانتي، الفتاة الصغيرة النحيلة التي كانت تجلس على بعد قليل (إذ لم يأت مقعدي بجوارها تماما)، الفتاة التي تعجبني جدا والتي دعتني إلى الأوبرا وتلهفت على قدومي.
في تلك الليلة بدأ إحساسي بملكيتها.
بدأت أحس أن هذه المرأة لي، أو إن لم تكن كذلك فيجب أن تصبح لي وحدي.
Bilinmeyen sayfa
وفرق كبير بين أن تكون منجذبا إلى إنسانة أو أن إنسانة معجبة بك، وبين أن تبدأ تفكر فيها على أنها فتاتك وأنثاك.
هو نفس الفرق الذي لم أحس معه بالستار حين ارتفع، ولا الموسيقى حين بدأت تتصاعد وتنتشر في أرجاء الأوبرا كالعطر الصوتي الثمين الذي ينتزع الآهات والأشجان. كل همي كان أن تأتي الاستراحة. كنت أريد أن أحدثها. كنت أريد أن أقول لها رأيي في الليلة والناس والحفلة وفيها. وكنت أريد أن أسمع تعليقاتها على رأيي. وكنت أعرف أنها ستوافقني على كل ما أقول. ولكني كنت متلهفا على سماع تلك الموافقة وهي تخرج من بين شفتيها.
وذهبنا إلى البوفيه وهي تسبقني، وكلانا يحاول أن يجد له طريقا بين الأجساد المتلاطمة المزدحمة. وكنت وأنا أستسمح هذا أن يدعني أمر، وأعتذر لذاك وأبتسم. أحس بنفسي رقيقا دقيقا كوتر الكمان، كلامي موسيقى، وحركاتي أريد أن أحيلها إلى رقصات باليه. إن السعادة أحيانا تخلق من الإنسان شاعرا. ووصلنا إلى البوفيه ووقفنا نرشف أقداح القهوة ونتكلم وأقول لها آرائي وتقول آراءها، وتبتسم كثيرا ونتجاوب بشدة. كان يخيل إلي وهي واقفة أمامي ولا يفصلنا سوى ابتساماتنا والبريق الصادر عنها، ووجهها حلو قد أضفى عليه الليل والأنوار بياضا وحمرة ووسامة، والروج في شفتيها أنيق رقيق كشفتيها . هي تتحدث، وتقول «نعم» أحيانا، وأحيانا تضم شفتيها تلك الضمة التي تبرزها إلى الأمام وتجعدها تلك التجاعيد التي يجف لها الحلق قائلة «لا». كان يخيل لي كلما أفقت أننا أخيرا التقينا. أجل، أحسست تلك الليلة أنها قد أصبحت فتاتي وأنثاي. نظرات عينيها، البريق المشع المتلهف الذي كان يملأ حدقتيها، النشوة وهي ترجف رموشها، الحياة التي تتذبذب وتتلوى في قسماتها. هي بكل ما فيها، بكل خلاياها وانفعالاتها، بردائها الأسود الأنيق، بغطاء رأسها، بتلك «الطاقية» السوداء الجميلة ذات «الطرة» المدلاة إلى ناحية تلامس أذنها ورقبتها وتداعبها، وهي بكل الهالة الحيوية الساحرة التي تحيطها، هذا كله لا يمكن أن يبدو من امرأة إلا لرجل قد وقع عليه اختيارها.
والمهم أني لم أرها على حالة واحدة أبدا. كان شكلها يتغير على الدوام في نظري، ويبدو لي وجهها في كل دقيقة وجها آخر أجمل وأحلى. حتى بريق عينيها كان يتغير في كل ومضة أو نظرة، وكنت مذهولا أحاول عبثا أن أحتفظ لها بصورة واحدة. ولكن ألوانها تختلط بألوان، وبياضا في احمرار دائم متغير، وسواد ثيابها يشع غموضا حبيبا يلفها ويلف الوقفة واللحظة، ووجهها مرة أراه وجها أعرفه وأحفظه، ومرة أراه وجه ملكة من ملكات التاريخ، وجه إلهة من آلهة اليونان، أو جنية من جنيات الأساطير، وأحيانا وجها جديدا تماما أراه لأول مرة في حياتي.
كان الثابت الدائم هو إحساسي أن تلك الإنسانة التي لا تستقر صورتها في خاطري لحظة، لي، ملك خواطري، أنثاي، كل هذا التغير والتبدل من أجلي أنا.
وكانت تتحدث والضوضاء كثيرة، وكانت ترفع فمها إذا تكلمت ليكون قريبا من أذني ومني، وكنت أسمعها وألتهم كلماتها، وألتهم معها إحساسي بأنها لا تتحدث لي ولكنها تناجيني، إحساسي أنها أصبحت جد قريبة وأصبحت راضية وما علي سوى أن أمد يدي وأقطفها، فأحدثها أنا الآخر وأعصابي قد وترتها إشعاعات جسدية صادرة عن قربها مني، ولولا الناس والمكان لما استطعت المقاومة.
وحين كنا نتجول خلال الاستراحة، قابلت سانتي زوجين يبدو أنهما كانا على صلة ما بها. لم يكونا عجوزين ولم يكونا شابين، وعرفتني بهما. وقالت الزوجة بعدما تعارفنا بانبهار: أنت طبيب حقيقي؟
قلت: طبعا.
قالت: لا تؤاخذني، ولكنك تبدو صغير السن جدا على طبيب.
فقلت وقد ملأني كلامها نشوة، أو بالدقة ملأني ذلك الكلام على مسمع من سانتي نشوة حبيبة، قلت: وماذا تقولين لو عرفت أني تخرجت من سنوات ثلاث أيضا؟
Bilinmeyen sayfa
ورمقتني السيدة لحظتها بنظرة ما زلت أذكرها، نظرة أنستني ابتسامتي المعوجة وملامحي غير المنسجمة، تلك النظرة التي تقولها المرأة بعد ما تكون قد تخطت السن وتقول بها للشباب: ليتني أصغر أو ليتك أكبر.
وحين انتهت الرواية هبطنا السلم معا، وعند نهايته ودعتني سانتي. ورحت أحتج أنا وأطلب منها أن أوصلها ولكنها أخبرتني أنها ذاهبة مع زوجها الذي يعزف مع الفرقة الإيطالية كلما حضرت إلى القاهرة. ودهشت قليلا ولكن نظرتها وهي تودعني سلبتني دهشتي وملأتني بالسعادة. كانت نظرات من تودع إنسانا حبيبا لتأخذ طريقها إلى حياتها الخالية من الأشياء الحبيبة.
أقول: دهشت قليلا لأني اعتقدت ربما أول مرة قابلتها فيها، أن من غير المعقول أن تكون علاقتي بسانتي علاقة بسيطة من تلك التي تنشأ بين أي شاب وأية فتاة، والظروف التي أحاطت بتعارفنا لم تكن تكفي لإعطاء صيغة خاصة لتلك العلاقة. كان شعوري الداخلي يؤكد باستمرار أن هناك شيئا ما لا أعرفه عن سانتي، ولكنه مهم جدا بالنسبة لعلاقتنا، وكنت أتوقع باستمرار أن يكون شيئا خارقا للعادة، ولم أتوقع، بل لم يطرأ موضوع كهذا على أحاديثنا، لم أسألها إن كانت متزوجة ولم تسألني. كنت أستنكر هذا السؤال عليها ولها كل مؤهلات الصغيرات وقلبهن الخالي.
دهشت قليلا لأني أخيرا عرفت بشكل قاطع ذلك الشيء الذي توقعته دائما، وعرفته بطريقة بسيطة حتى كدت لا أتبينه. سانتي إذن متزوجة، ولها زوج يعمل عازفا في الفرقة الموسيقية ويوصلها في ذهابها إلى الأوبرا وعودتها. لماذا لم تخبرني قبلا؟ ولماذا فاجأتني الليلة؟ أسئلة لم تدر في عقلي إلا متأخرا جدا، بعد ما عدت من الأوبرا واستهلكت تأملي لكل ما أحسسته من متع وبدأت أتهيأ للنوم، أسئلة لم آخذها أبدا مأخذا جديا ولا ناقشتها على اعتبار أنها مشكلة بالغة الخطورة قد تلغي علاقتنا مثلا أو تحيلها إلى علاقة من نوع آخر. فلتكن متزوجة أو أرملة؛ فقد عرفت هذا بعد فوات الأوان، وحتى حين عرفته ماذا بيدي أصنعه؟ أنا لا أريد منها شيئا لا ترضاه هي. أنا لا أريد اختلاس حق زوجها، وأنا لا أريد منها أي شيء بالذات. حتى هي نفسها كان واضحا أنها لا تفعل شيئا من وراء ضميرها أو خلقها، فلماذا أجعلها أنا محط الانتظار؟
ونمت.
وثاني يوم جاءت سانتي.
كانت الساعة قد تعدت الثالثة والنصف، وكانت أم عمر في المطبخ تعد الغداء وتغني بصوت أجش نائح أغنية صعيدية حزينة، وكنت جالسا في حجرة المكتب وحيدا أتثاءب وأسترخي بعد ساعات العمل الشاقة وأستعد لتناول الطعام أو لمجيء سانتي. كفت أم عمر عن الغناء ووضعت كمية من «السبانخ» التي كانت قد انتهت من إعدادها في طبق، وكمية من الأرز في طبق آخر، وأعدت المائدة الصغيرة التي في الصالة، وأخيرا نادت علي وقالت: كل يا بوي بالهنا والشفا، والله طبيخي يا سي يحيى ما يطلع من تحت إيد الخواجات.
وقمت وأنا لا أزال أتثاءب وأعرض على أم عمر أن تتزوجني بالمرة ما دامت تجيد الطهي، وقالت أم عمر: يه يا بوي! يا عيب الشوم! دا أنت اسم الله على مقامك من ولادي.
والغريب أنها كانت تأخذ دائما عروضي للزواج منها مأخذا جادا، حتى لو قلتها وأنا أخرج لساني وأضحك.
وما كدت أبدأ تناول الطعام حتى دق جرس الباب، وفتحت أم عمر وشهقت وقالت: المزمازيه يا بوي.
Bilinmeyen sayfa
ودخلت سانتي ضاحكة، ووقفت وقابلتها ضاحكا أنا الآخر، عازما عليها بالغداء، وفوجئت بها تقبل وتوقعني في حيرة عظمى، فلم تكن شقتي مجهزة بأدوات طعام تليق بها أو بأي إنسان آخر سواي. ثم إن الطعام نفسه لم يكن يصلح ليقدم للضيف؛ فهو طعام شاب أعزب يتناول مرتبا لا يزيد على العشرين جنيها إلا بضعة قروش. قبلت سانتي وجلست تأكل معي وأنا خجل أردد تلك الكلمات التي نقولها لنعتذر بها في لهجة مهذبة عن فقرنا وحاجتنا، اعتذارات هدفها أن نبدد عن أنفسنا فكرة الحاجة والفقر، ولكنها مضت غير عابئة بكلامي تأكل بشهية متفتحة وتثني على طهي أم عمر، الواقفة قريبا منا كالديدبان الحارس، المتلهفة على رأي الخوجاية في طهيها، القائلة بعدما ترجمت لها ذلك الرأي: بالهنا والشفا يا بوي، والله يا سي يحيى البنت دي طيبة وباين عليها العز، إنما مش عارفة خايفة عليك منها ليه يا بوي، ما تزعلشي أهو كلام من كلام خالتك أم عمر الفارغ، بالهنا والشفا يا بوي.
وفي الواقع لم يكن هذا أنسب وقت لكلامها الفارغ؛ فقد كنت غارقا فيما أنا فيه من حرج، وفي عشرات الأسئلة التي مضت تحوم في عقلي عن سانتي وكنهها ومن هي وماذا تعمل وما هي حكاية زواجها ذلك.
وانتهى الطعام.
وجلسنا ندخن السجائر ونحتسي القهوة، وهمي كله أن أراقب سانتي وهي تدخن السيجارة وتأخذ الرشفات، ولا أعرف لماذا ننظر إلى المرأة وهي تدخن تلك النظرة الغريبة التي يختلط فيها الإعجاب والدهشة والاستحسان ببعض الاستنكار أيضا. ما أعرفه أني كنت أتلهى بمراقبتها عن الأسئلة الكثيرة التي تتزاحم على لساني لتنطلق وتجد إجابات شافية مقنعة لها. كانت متناقضات كثيرة غامضة تكتنف سانتي. كانت أحيانا تبدو كأنها غنية غنى فاحشا، وأحيانا تبدو في زي الكادحات. كانت تتحدث بالعربية في انطلاق من يعرفها أحيانا، وأحيانا لا تعرف معنى أبسط الكلمات. كانت تقول إنها تعمل، ولا يبدو عليها أنها تعمل أو أن هناك حاجة تدفعها للعمل. وبالأمس عرفت بشكل قاطع أن لها على الأقل زوجا، ومع هذا فلم تذكره مرة واحدة في حديثها معي ويكاد لا يبدو عليها الزواج، وها أنا ذا أتأكد الآن أن هناك دبلة في يدها اليسرى كأن ما رأيتها قبلا.
أسئلة كنت أمنع انطلاقها، وأمنع حديثنا أن يقترب منها مخافة أن تأتي الإجابة عليها أو على أحد منها بعقبة ضخمة تقف بيننا وأوجدها أنا بحب استطلاعي الغبي. لماذا أسألها؟ ولماذا أحاول معرفة أي شيء أكثر من أنها هنا معي، جاءت من أجلي وجالسة تتحدث إلي؟
ولكن الأسئلة التي منعت لساني أن ينطلق بها لم أستطع أن أمنع سانتي من أن تقرأها مرتسمة بكل تفاصيلها فوق ملامحي. لا بد أن هذا ما حدث، ولا بد أنه السبب في ذلك السكوت الذي وجدناه قد خيم على جلستنا، وفي الخجل القليل الذي اعترى سانتي وهي تقطع السكوت وتقول: لعلك لم تدهش حين عرفت أني ...
وتوقفت عن الكلام، ورسمت تساؤلا ضخما على ملامحي، فمضت تقول: إني متزوجة.
قلت وأنا أضحك وكأني أتحدث عن شيء آخر: أبدا! لم أدهش.
ولكن بعد قليل وجدت نفسي أعود للضحك فجأة وأقول: الحقيقة أني دهشت؛ فلم يكن يبدو عليك، إنه شيء لا يستطيع الإنسان تصديقه بسهولة.
قالت: ومع هذا فأنا حقيقة متزوجة.
Bilinmeyen sayfa
ولم أجد في نفسي أية رغبة لمواصلة الحديث، ولكني خفت أن يحل الصمت بعد كلامها السابق مباشرة؛ فتخجل ويصيبها الحرج، فمضيت أسألها بلا اهتمام كبير عن زوجها وعمله. وقالت لي أشياء كالتي نقرأ عنها في القصص. قالت إن عائلتيهما موزعتان على مصر وقبرص واليونان، وإنها هي شخصيا ولدت وعاشت في مصر ولم تذهب إلى الوطن الأم إلا مرات قليلة ولفترات لم تتعد الشهور، وإن أباها كان متجنسا بالجنسية المصرية، ولكنه فضل أن تنشأ هي على الجنسية اليونانية، وإنه كان يملك أطيانا كثيرة في الفيوم باعوا معظمها بعد وفاته واشتروا بها مكتبة كبيرة وسط البلد، وزوجها كان معها في المدرسة، وتزوجته رغم معارضة أمها، وإنه تخصص في الهندسة البحرية وقضيا عاما متزوجين، ثم في أثناء احتفالهما بعيد الزواج الأول صارحها بأنه يريد الانضمام إلى حركة التحرير القبرصية، ولكن مشاكل حزبية وتنظيمية حالت بينه وبين الانضمام، وهكذا قنع بالبقاء في مصر على أن يقوم بجمع أكبر كمية من التبرعات ويرسل بها إلى «أيوكا»، ولكنها تخالفه بشدة في الرأي، وترى أن اليونانيين المقيمين في مصر عليهم إذا أرادوا الكفاح أن يساعدوا المصريين؛ فهم الأولى بالمساعدة والأجدر.
قصة غريبة بدأت أسمعها وأنا غير مصدق، وحين انتهت منها كنت لا أزال غير مصدق أيضا. أكثر من هذا كنت لا أريد أن أشغل نفسي بفحصها وتمحيصها والتأكد منها، ومن يدري قد أصدقها حينئذ، ومن يدري أيضا أي موقف حرج أجد نفسي فيه بعد تصديقها؟
أخذتها إذن مأخذ الحديث العابر الذي لا يحتاج لأي تعليق، الحديث الذي يقال بغير اهتمام ونسمعه بلا اهتمام أيضا. وحاولت جادا أن أغير من نظرتي لسانتي بعد سماعي ما قالته، حاولت أن أنظر إليها من خلال تلك المعلومات الجديدة منها ففشلت. ظلت في نظري هي هي لم تتغير، الفتاة النحيلة الجميلة التي أجد نفسي منجذبا إليها بقوى أكبر مني ولا أملك إلا طاعتها.
وأحببت أن أغير حينئذ مجرى الحديث، فبدأنا نتكلم عن الأفلام المعروضة، وقالت سانتي إن في سينما ميامي فيلما فرنسيا رائعا.
وكنت أغير مجرى الحديث وكلي خوف أن يكون ما قالته - وإن لم يؤثر في أنا - قد أثر فيها هي وغير من نظرتها لي ومن انجذابها نحوي، فقلت وأنا أضع الخاطر موضع الاختبار وأضع يدي على قلبي مخافة النتيجة: هل تقبلين دعوتي لرؤيته؟
وفي الحال وبلا أي تردد وجدتها تهز رأسها علامة القبول، وشككت في تلك الموافقة السريعة وعدت أكرر الدعوة وعادت تقبل. واتفقنا، واعتذرت عن عدم إمكانها أن تذهب في حفلات الليل، ولم أسألها لم، واتفقنا على أن يكون الموعد يوم الأحد في الساعة الثالثة أمام سينما ميامي.
وكان بيننا وبين الأحد عدد من الأيام.
وكان ثمة عيد قد أقبل، وكان علي أن أسافر إلى بلدتنا. شيء مقدس أن يعود أبناء القرى الذين استوطنوا المدن إلى قراهم في الأعياد. إنه الشيء التقليدي الخافت الذي ترعرعوا ونشئوا في كنفه.
والواقع أني قد بدأت أشتاق للبلدة ولعائلتي ولآلاف الأشياء التي غادرتها هناك من صغري، ذلك الشوق الذي أعرف أن ساعة واحدة أقضيها في القرية تكفي تماما لإطفائه؛ إذ ما أكاد أهبط من القطار وتطالعني الأشجار التي أعرفها، والنخيل الذي كان قبل أن أوجد ولا يزال في مكانه من يوم وجدت، والبيوت الرمادية الداكنة التي أعرف عن قاطنيها كل شيء. ما أكاد أعود مرة أخرى إلى ذلك الهدوء الممدود الذي يرقد ريفنا في قاعه، وما تكاد آذاني تستريح من الطنين الذي لا ينقطع في المدينة وأهبط إلى المكان الذي لا ضجة فيه ولا طنين، بل الهدوء الحافل الكبير، هدوء يغري بالهدوء ويثبط الهمم. ما أكاد أطالع كل هذا حتى أبدأ أتناقض مع نفسي؛ فنحن نسير في المدينة بسرعتها القاهرة المجنونة، ولكنا هناك في تلك الأرض الواسعة غير المحدودة نحدو بل نقف في أماكننا لا نسير. وما نكاد ندرك أننا وقفنا وأن سرعتنا هبطت إلى العدم حتى نبدأ نحن إلى الطنين والجري والحركة الهائلة الدائمة التي لا تكف ولا تسكت.
سافرت إلى البلدة إذن، وطالعني كل ما أعرف سلفا أنه سوف يطالعني، ومع هذا فللقائنا بالقرية فرحة كفرحة رؤيتنا لصورنا ونحن أطفال، ولخطنا أيام أن كنا تلامذة في ابتدائي وثانوي. وقوبلت بما تعودت أن أقابل به، جرى أخي الصغير حين رآني من المحطة وعانقني والتف حول ساقي، ثم انفلت وانطلق يعلن الخبر لأبي وأمي وبقية إخوتي، وقبل أن أصل إلى الباب كان يزدحم بمظاهرتهم الحافلة الفرحة الصغيرة، وأنا حائر أعانق من وأسلم على من؟ أكاد أبكي من فرط انفعالي وخجلي وتأثري! ودائما أفتقد أمي في تلك المظاهرة، وأعرف أنها كالعادة غاضبة علي لأي سبب أو للا سبب، وأنها جالسة متناومة أو متمارضة ولا بد لي أن أذهب وأقبل رأسها فتنفر مني، وأعود أقبل يدها فتسحبها بوجه صارم تحاول صاحبته أن تمنع أي بادرة انفعال أن ترتسم عليه. وأفعل هذا كله بحكم الواجب والعرف والتقاليد وبلا أية رغبة حقيقية في فعله؛ فأنا لم أكن حريصا على إرضائها مثلما كانت هي الأخرى غير حريصة على إرضائي. علاقتنا كانت غريبة في بابها منذ صغري ودونا عن بقية إخوتي؛ فلا هي علاقة حب ولا علاقة كره. كنت ابنها الثالث، خلفتني وقد بدأت تضيق بزواجها بأبي، وجئت شبهه، وبكل عنفوان الفلاحة الفتية ذات الخمسة والعشرين عاما عاملتني وربتني، بكل الخشونة والغلظة والجفاف، وكنت طفلا ساكنا حساسا سرحان، روعتني معاملتها لي إلى حد أنها أربكتني وجعلتني أخاف أخطائي إلى الدرجة التي أتردى دائما فيها. وبالعصا والأقلام والشلاليت كانت تواجه أخطائي، وبالرعب كنت أواجهها، رعبا ملك علي كل طفولتي فلم أجد معه وقتا أو جرأة أسأل فيها نفسي: ترى هل أحبها؟ أسأل نفسي فلم أكن في حاجة لسؤالها عن كنه عواطفها نحوي؛ فعواطف الآخرين نقيسها ونحن أطفال من زاوية واحدة فقط، زاوية حنانهم. الحنان عندنا يعني كل شيء، يعني الحب والخير والطيبة. والغلظة تعني كل شيء، تعني الكره والشر والتوحش. وأنى لي وأنا في تلك السن الصغيرة البعيدة أن أدرك أن حنانها هو الذي كان يدفعها لإمساك العصا وتوجيه الصفعات.
Bilinmeyen sayfa