وتحدثنا في العمل، قالت لي إنها هي اليونانية وزميلتها أبوها فرنسي وأمها يونانية، وإنها سمعت عنا من تنظيمها الذي يحارب في قبرص، وتريد أن تفعل شيئا لنصرة القضية التي نحارب من أجلها، والتي هي شخصيا مؤمنة بعدالتها، ولم تجد أنسب من أن تضع نفسها في خدمة مجلتنا. وحيرني حديثها؛ فالواقع أن المجلة لم تكن تشكو من قلة الأيدي العاملة فيها، ثم ماذا تستطيع فتاة يونانية أن تفعل لمجلة تصدر في القاهرة باللغة العربية؟ حيرني حديثها لأنه لم يكن من المعقول أن أقول لها: أنا في غاية الأسف يا سيدتي العزيزة؛ فلا مكان لك في مجلتنا، وعليك أن تذهبي في طريقك ونذهب نحن في طريقنا. ومن غير المعقول أيضا أن أؤكد لها أنها ستعمل معنا لمجرد أنني أصبحت أريد أن تعمل معنا؛ فأنا لم أكن أملك سلطة هذا التأكيد، وإذا أخذت المهمة على عاتقي فقد يضر عملها معنا بصالح المجلة، فأكون بهذا قد ألحقت بمجلتنا خسارة لمجرد نزوة شخصية عنت لي.
حيرني حديثها، وأخيرا قررت أن أحصل منها على ما أستطيع الحصول عليه من معلومات، ثم أناقش الوضع كله مع أحمد شوقي رئيس التحرير. وحتى حديث العمل بحيرته ومشكلته لم يكن له الأهمية الأولى في تلك الجلسة؛ فجزء كبير من اهتمامي كنت أوجهه إليها هي، وكنت أتأملها بطريقة لا تسترعي انتباهها؛ إذ كنت أنظر في وجهها ونحن نتحدث عن ضرورة تنسيق الكفاح بيننا وبين إخواننا اليونانيين، وأرسم على وجهي كل علامات الاهتمام بذلك الحديث والتركيز فيه، وأحتم على ملامحي أن تمثل هذا، ولكني في واقع الأمر أتأملها وأحاول أن أمد عيوني الخاصة إلى نفسها الخاصة؛ لأتأمل تلك التي كنت قد قررت أنها لي.
ومع هذا فلو طلب أحدهم مني بعد مقابلتي لها أن أصفها لما استطعت، فما جدوى الوصف؟ إنه لشيء مضحك أن نقرأ في قصص الحب أن البطل غرق إلى آذانه في حب البطلة لشعرها الأسود المتهدل، أو عيونها العسلية ذات الرموش الطويلة. هراء وتخريفات؛ فنحن لا نفضل إنسانا على آخر لأن ملامح هذا أجمل من ملامح ذاك، أو نحب فتاة لعيونها الجريئة أو لالتفاتاتها الرشيقة. يخيل إلي أننا نحب الإنسان لشيء لا نستطيع تحديده في الإنسان، واسألوا كل من أحب ماذا أحببت في رفيقك؟ ودعوه يجيب، وحققوا له كل ما يقوله في رفيق آخر، فسوف يظل يقول هناك شيء ناقص لو سألناه عن كنهه لما استطاع الإجابة. وفي كل منا شيء لا نستطيع تحديده هو روحه، هو مجموع أجزائه الظاهرة وأجزائه التي لا تظهر، دمه، شخصيته، ظله، شيء نطلق عليه أسماء كثيرة لنحدده فلا تفعل الأسماء أكثر من أن تؤدي بنا إلى مجهولات أخرى في حاجة إلى تحديد، شيء هو المسيطر الأعلى علينا، هو الذي يحدد إرادتنا وماذا نكره وماذا نحب، وهو أيضا الشيء الذي يحب وكأنه أصلنا، وما أجسادنا وأشكالنا وأنوفنا وعيوننا إلا أعراضه وتجسيداته.
حتى بعد تأملي الذي طال لها لم أكن أستطيع وصفها، ويكفي أن أقول إن كل ما فيها أعجبني، طريقتها في الحديث، ابتسامتها، أسنانها الأمامية حين ينفرج عنها فمها الصغير، لونها، وملامحها الصغيرة الدقيقة، عيناها حين تضحكان، إحساسي بأني موجود داخل عينيها وأنها تراني وتتذكر أشياء من أجلي أنا. ذلك هو أهم ما خرجت به من تلك المقابلة الأولى، أحسست أننا انسجمنا وأننا سنصبح سعداء لو عملنا معا، وأننا قد تقاربنا بطريقة أسرع مما تصورنا، ولكن إحساسي هذا كان مجرد إحساس داخلي لم تظهر منه بادرة واحدة، أو ينبئ عن وجوده بتصرف واحد؛ فقد كان سلوكي الاجتماعي إزاءها لم يتعد أبدا حدود المعرفة البسيطة التي حدثت، لا يتعدى حدود زميلين، واحد من مصر والآخر من اليونان التقيا في معركة مشتركة، وأنهما سيلتقيان مرة أخرى، وأنهما لا يكرهان أن يلتقيا مرة أخرى .
وخرجت من المطعم وأنا منتش تلك النشوة التي تفجر السعادة في قلوبنا وتجعلنا نحس بها في كل شيء نراه، في عازف الكمان العجوز المتجول، في ضوضاء الشارع الصاخبة، في الوجوه الخارجة لتوها من ازدحام السينما، في أمس وكل ما دار فيه، وفي الغد بكل ما يأتي به، إنسانة حلوة رقيقة وضعتها الظروف أمامي في وسط المعركة الجافة الجادة التي كنا نخوضها، إنسانة أعجبتني ويبدو أنني أعجبتها، فتاة صغيرة في السن لم تتعد العشرين بالغة الحماس والذكاء واسعة الثقافة، إنسانة ممكن أن أحبها أو أتزوجها أو أتجاوب معها ذلك التجاوب الذي نفتقده كثيرا ونحن إليه دائما، ما الضرر أن أحس بكل هذا بيني وبين نفسي، ما دمت أؤدي دوري على أكمل وجه في المجلة وفي الكفاح وفي الحياة؟
خرجت من المطعم متجدد الحماس، وقضيت بقية النهار راضيا عن نفسي والدنيا وحركة الزمن؛ فقد قضيته سعيدا!
2
وكان مفروضا ألا ألتقي بها إلا تلك المرة القادمة التي أقدمها فيها لأحمد شوقي رئيس التحرير؛ حيث تعمل معه أو حيث يوصلها إلى تنظيم السيدات وحيث تنتهي علاقتها المباشرة بي، ولكني لم أجد أبدا ثمة داع قوي يدعوني للعجلة، فلماذا لا يتم هذا في اللقاء الثالث مثلا؟ ولماذا لا أؤجل حديثي عنها مع شوقي بضعة أيام أراها فيها على انفراد مرة أخرى؟ في لحظة قررت أن أبيح لنفسي تلك الخطيئة البريئة على أن تكون الخطيئة الأخيرة.
وفي الميعاد وجدتها جالسة تنتظرني وتبتسم، وجلست ونادت الجرسون وأصرت على أن تعزمني، وضحكنا طويلا ونحن نتجادل حول الموضوع وأنا أقول إنها ما دامت في بلادنا الشرقية فلا بد أن تخضع لتقاليدنا، فترد هي بقولها إن التقاليد تتطور وبعزومتها لي تبدأ عملية التطور.
وطوال الوقت كنت أيضا لا أزال أحيا في تلك النشوة التي تجعل الإنسان لا يرى إلا ما في الأشياء من جمال، أو تجعله يرى كل الأشياء جميلة، وكل ما يفعله حلال، ولا شيء هناك يستحق أن يؤنبه عليه ضميره.
Bilinmeyen sayfa