وكان التوتر قد خفت حدة وقعه الأولى، فجلست هي إلى المكتب وجلست مكانها على الكرسي الأسيوطي وأغمضت عيني، وأنا أتمنى في قرارة نفسي لو تحدث المعجزة وينقلب المشهد الحقيقي الذي أعيش فيه إلى حلم أفرح باليقظة منه بعد قليل، أو تحدث المعجزة الأكبر وأفاجأ بها تغير موقفها وتمد يدها الدقيقة وتمسك بيدي مثلا وتقول: لا تصدقني يا يحيى إذا قلت إني لا أحبك، أنا أكذب عليك، أنا مدلهة بك.
أغمضت عيني وتركت نفسي متمنيا أن ينقلب الواقع إلى حلم، أو تنقلب أحلامي إلى واقع، وفتحتهما مرة فوجدتها تبتسم ابتسامة من يتذكر شيئا مضحكا، ثم قالت: هل تعلم شيئا؟ (وكانت أحيانا تستعمل نفس لازمتي.)
قلت مشحونا ببوادر أمل: ماذا؟
قالت: مرة شاب سوداني كنت أعمل معه قال لي إنه يحبني وأصر على أن يتزوجني.
فقلت بسرعة: متى؟ - قبل أن أتزوج. - وبماذا أجبته؟ - حاولت إفهامه أني لا أحبه، ولكنه لم يقتنع أبدا، وهاج وماج، وقال لي: غير مهم أن تحبيني، نتزوج أولا وبعد هذا يأتي الحب.
وسكت سكوت غير المرتاح لكلامها، ولكنني لم أستطع الصبر على سكوتي. كان من المستحيل أن يمر المشهد الذي دبرت له طويلا هكذا ببساطة وبلا نتيجة، وكأني لم أفتح لها قلبي الذي كنت ضنينا به طوال حياتي أن يفتح. لقد ظللت مرة أحب طالبة زميلتي في الكلية ثلاث سنوات كاملة، وأكلمها وأحادثها وأنا مغلق نفسي على عواطفي بإرادة حديدية. وما أبشع الليالي التي قاسيتها أتلظى وأكاد أجن رغبة في أن أبوح لها بحبي، ولكني كنت أثوب إلى رشدي في الصباح، وتعود الإرادة الحديدية تحبس عواطفي؛ فخوفي الأكبر كان أن أعترف لها بحبي فأجد أنها لا تحبني، وأجد أني قد مرغت كرامتي واعتزازي بنفسي أمام أعين غريبة لا يهمها أمري. وبقيت هكذا إلى أن تخرجنا وتفرقنا ولا يعلم بحبي هذا سواي.
لم أستطع الصبر على سكوتي، فسألتها: يعني ... ألم ... ألم تحبي أبدا؟ أقصد قبل أن تتزوجي.
فقالت: طبعا.
قلت ملهوفا: من؟ - زوجي.
وطمأنتني الإجابة؛ فلم أكن أعتقد أن الزوج ممكن أن يلعب دور الحبيب قبل الزواج أو بعده. لا بد أن تقول هكذا لأنها يجب أن تقول هكذا.
Bilinmeyen sayfa