وأمد يدي فيمسكها بحذر وأدب ويكاد - لولا الخجل - أن يقبلها، والكلمة الثانية يلتفت ويقول للعمال: طابور.
فإذا حدثت حركة كان بها، وإلا أعقبها بقوله: البيه مش ح يشتغل إلا بطابور.
وتدور حركة زق ودفع وتسلل واسعة النطاق. وأخيرا جدا يتكون طابور، طابور غريب يبدأ داخل حجرة الكشف ويخرج من الباب ويتلوى مع الصالة ويهبط السلم الخشبي العتيق وينحرف إلى يمين ثم إلى يسار ويمتد إلى البوفيه، وأحيانا يصل إلى عنبر البرادة ويدخله ويعطل العمل فيه.
وأدخل أنا الحجرة، فيخرج النفر القليل الذي كان قد تسرب إليها محاولا أن يجد له مكانا عند الباب في أول الطابور، ولكن عشرات الأذرع تمتد وتجذبهم ولا تتركهم إلا حين تتسلمهم أذرع خلفية أخرى، وتظل الأذرع تتبادلهم حتى توصلهم إلى السلم ثم إلى الأرض ثم إلى مؤخرة الطابور.
ويوارب عم مرسي الباب بعدما يعجز عن إغلاقه، وأجلس إلى المكتب، مكتب ضخم كبير واسع عمره لا يقل عن الخمسين عاما. وحجرة الكشف نفسها واسعة جدا يبدو المكتب فيها صغيرا قليل القيمة، وفي ركنها لوحة الكشف على النظر، وقد تكفل الزمن بمحو كل علاماتها، وعلى اليمين كنبة جلد قد بقرت الأيام مسندها وأظهرت أحشاءه.
وفي أدب جم يقول لي عم مرسي: قهوة يا بيه، مش كده؟
ولا ينتظر إجابتي، فيزعق على مرءوسه عم حسين - وهو تومرجي أكبر منه في السن، عجوز جدا نحيف جدا، المفروض أن يقف بجوار الباب ولا يسمح بالدخول إلا لواحد واحد - يزعق ليقول: قهوة ع الريحة للبيه يا حسين.
ويحاول عم حسين أن يهرول لتنفيذ الأمر، ولكن أين يذهب عم حسين وهو لا يكاد يستطيع الوقوف في مكانه؟ قبل أن يتحرك تتحرك ألسنة الواقفين في الطابور، فيقول أقربهم إلى الباب: قهوة ع الريحة للبيه يا جدع.
فيتلقفها الواقف في الصالة، وتسري القهوة في الطابور حتى تصل إلى القهوجي في البوفيه دون أن يتحرك أحد من مكانه، وفي ثانية تكون القهوة قد أعدت وتظل أيدي الطابور تتناولها محافظة عليها حتى تستقر أمامي، دون أن يتحرك أحد من مكانه أيضا.
وكنت أضيق بانتباه هذه الجماهير الغفيرة من العمال وقد تركز علي وأصبحت محوره؛ فمن طباعي أني لا أطيق مواجهة الجماعة الصغيرة إذا وفدت عليها وقامت لتسلم علي، فما بالك ومئات العيون ترقبني وترقب كل حركة من حركاتي، وكل بادرة تدل على أي تغيير في طبعي ومزاجي؟ والمشكلة أنها عيون غير محايدة، عيون لها مطلب عندي، عيون لكثرتها ولإحساسي أني لست بالنسبة إليها سوى بصمجي في يده أن يحتسب يوما أو يخصمه، كانت تجعلني أحس بالمهانة والاحتقار لها ولنفسي، ولظروف الحياة التي تدفعني إلى هذا الموقف السخيف المحرج.
Bilinmeyen sayfa