دخلت الحجرة وألقت بجاكتتها وحقيبة يدها جانبا، وألقت بنفسها على الكرسي الأسيوطي، ثم ما لبثت أن مدت ذراعيها في استرخاء من يستريح بعد طول عناء، وأمالت رأسها قليلا، وراحت تنظر إلي بوجنتين شديدتي الاحمرار وتبتسم، وترمقني بنظرات لا أدرك كنهها، ولكنها مطمئنة لذيذة يتمنى الإنسان لو ظلت تنظر إليه بها سنين وسنين.
وكنت أراقبها أنا الآخر وأنا واقف قبالتها، مرتبك، أبتسم وأنا خجل من نفسي، وأنا غير مستريح أبدا أو مطمئن إلى الأفكار التي تدور في خاطري، ووجدت نفسي أذهب إلى المطبخ وأنا أزعق وأقول لها إني سأصنع لنا كوبين من القهوة. وفي المطبخ أيضا كنت مرتبكا مترددا أحاول التفكير ولا أجرؤ عليه، وأحاول أن أطرد أي تردد جانبا وأغمض عيني وأسير قدما في الخطة التي كنت قد وضعتها. وعدت بالقهوة وجلسنا نحتسيها. وقبل أن يفرغ القدح قلت لها: أريد أن تقرئي شيئا.
نظرت إلي بمكرها اللذيذ وقالت: خطاب؟
قلت: أظن هذا، أتحبين أن أقرأه عليك؟
قالت بمرح صبياني: لا لا لا، أرجوك، أحب أن أقرأه أنا.
ولكن لأمر ما، ربما لأني أحب أن يبدو الأمر على أنه حديث موجه مني إليها، كنت أريد أن أقرأ أنا الخطاب، فقلت: ولكن خطي كما تعلمين. - معلش، دعني أنا أقرؤه. - على رسلك.
قلت هذا وأنا أبحث بحث المرتبك الشديد الارتباك في أدراج المكتب عن الخطاب الذي خيل إلي أن فوهة سحرية قد ابتلعته، ولكني أخيرا وجدته وأعطيته لها. تأملت حجمه قليلا وهي تبتسم وأنا أقشعر من الخجل وكأني بسبيلي لإطلاعها على ملابسي الداخلية، وتركت مكانها وجلست على المكتب ووضعت الخطاب أمامها وراحت تقرؤه، وقلت لها: الخط يعني ...
ولكنها قاطعتني وهي تضع أصبعها على فمها تحذرني من الكلام وكأنما تحذرني من قطع لذة كبرى، وأحسست بارتباك أكثر حتى لقد غادرت الحجرة نهائيا ورحت أدور في الشقة أحاول بطريقة ما أن أداري خجلي من نفسي ومنها. وكل ما كنت أتمناه لحظتها أن ينتهي الموقف على أية صورة وأن ينتهي بأسرع ما يمكن. وكنت في عجب من نفسي لهذا الخجل، ولهذا الاشمئزاز الذي أشعر به حيال ما يدور في عقلي في تلك اللحظة. بالأمس فقط كنت متحمسا شديد الحماس لما أقوم به الآن، بالأمس كان كل شيء يبدو لي منطقيا ومعقولا، وكنت أمام نفسي على حق إلى درجة أن كتبت هذا الخطاب لها، ولحظتها ماذا حدث؟ ولماذا تغيرت المقاييس؟ ولماذا فقدت حماسي لهدفي وخطتي ولكل شيء؟ ولماذا أريد للموقف أن ينتهي بأقصى سرعة وكأنه موقف مخجل؟
وكانت احتمالات الدنيا كلها تدور داخل صدري والوساوس تنهش أعماقي. ترى ماذا يكون بعد قراءتها الخطاب؟ ماذا تظن؟ ماذا تفعل؟ على أي محمل ستأخذ كلامي؟ لم أنتظر حتى أن تنتهي من القراءة لأعرف النتيجة، تسللت عائدا إلى حجرة المكتب دون أن أحدث صوتا لأحاول أن أعرف انفعالاتها وهي تقرأ الخطاب.
وحين أصبحت قامتي الطويلة تسد فتحة الباب تجمدت في مكاني كالمأخوذ؛ فقد فوجئت بمشهد لم أكن قد أعددت نفسي له أبدا ولا حسبت له حسابا، كانت سانتي تبكي، لم تكن تشهق أو تنهنه، كانت عيونها محمرة شديدة الاحمرار وبياضها محتقن والدمع يتساقط من عيونها دون أن تحاول مسحه أو ترفع نظرها عن سطور الخطاب.
Bilinmeyen sayfa