كان الموقف جديدا علي تماما، لم أواجهه من قبل ولا تعلمت كيف أواجهه، وحتى الخبير المجرب يتردد في مواجهته، لم أكن خائفا ولا مترددا بل كنت مندهشا مستغربا، ماذا فعلت لهؤلاء الناس لكي يعادوني على تلك الصورة؟ إني لا أذكر أني آذيت أحدهم أو قدمت إليهم إساءة، كل ما قدمته كان تحزبا لهم واستعدادا دائما لمساعدتهم. وبينما الحركة في الحجرة قد عنفت وازدادت حتى لكأن محتوياتها الآدمية قد بدأت تغلي وتفور، كان صفاء مفاجئ قد سيطر على تفكيري وعقلي، صفاء غريب كصفاء ما قبل الموت، صفاء جعلني أدرك الأمر؛ فلست في نظرهم سوى جزء لا يتجزأ من الإدارة ومن الخصم والفصل والقرارات التعسفية. أنا رمز كالأتوبيسات التي كنا نحرقها حين نتظاهر ونحن طلبة، ما كان هناك عداء بيننا وبين شركة الأتوبيسات، ولكن كنا نحرق فيها الظلم والحكومات الخائنة وأعداء الشعب. وليس بيني وبين هؤلاء العمال عداء، ولكنهم قد يقتلونني ويقتلون في شخصي الظلم والظالمين.
وعلى حين بغتة سمعت شيئا لم أتبينه أول الأمر، ولكني حالا تبينته، كان هتافات ضدي، عدة أصوات تقول: يسقط طبيب الورش. ورعدا هائلا أعنف وأبشع وأقوى رعد يردد ويقول: يسقط طبيب الورش. وتكهرب شيء في نفسي وكأنما صعقته الشحنة الهائلة التي ولدها الرعد، لحظتها عرفت لماذا يقشعر الملوك والحكام من الهتافات والمظاهرات، من هذا الصوت العريض المكتسح الذي يتصاعد من حنجرة خرافية مكونة من آلاف الحناجر، الصوت الذي يهدر به فم واسع، أوسع فم، فم الجماهير حين تفتحه ويصبح لها فك في السماء وفك في الأرض، وتهدد بابتلاع كل ما بين الأرض والسماء.
هم يقشعرون لأن هتاف الجماهير ليس مجرد تعبير عن سخط ولا عن ضيق من حاكم أو شخص. إنه حكم، حكم باتر ساحق لا راد له، يصل إلى الملوك حتى في مخادعها وإلى الحكام ولو كانوا في أبراج محصنة، فيرتعد له الملك ويقشعر له الحاكم؛ إذ لحظتها يتبدد على الفور كلام المداهنين والمتملقين ويدرك كل منهم أن حكما قد صدر عليه، وأنه قد أدين، وأنه لأول مرة يسمع الحقيقة، يسمعها من فم هادر عريض لا يعرف سوى قول الحقيقة، لحظتها يدرك - مهما اعتقد بينه وبين نفسه أنه بريء - أن حكما أبديا قد صدر عليه، حكما لفرط قوته وصلابته وصراحته يجعله يشك حتى في براءة نفسه، فيبدأ يسألها وفرائصه ترتعد: ألا يمكن أن أكون قد أجرمت؟
لحظة قصيرة جدا، أقصر من أن تقاس أو تحسب، ولكنها جعلتني أحس وكأني في يوم الحساب، وكأني بين يدي الجلالة العليا، وكأن الهتاف الذي سمعته نار مقدسة تعرضت لها وأصبح عليها أن تظهر بكل ما فيها وأن تبدو على حقيقتها، لحظة جعلت جدرانا كنت قد أقمتها لنفسي وعشت أتحرك بها تتهاوى وتنهار، ولم يعد أمامي إلا أن أرى ما كنت أتجاهله وأتعامى عنه؛ إذ لست في الواقع والحقيقة سوى جزء من ذلك الجهاز الضخم الكبير الذي يسير هؤلاء العمال ويتحكم في مصائرهم. كنت وأنا أقول لنفسي: أبدا أنا شيء آخر، أنا لي رأي آخر، أنا لي موقف آخر، أنا مع العمال؛ ألم أكن أضحك على نفسي حينئذ؟ فها أنا ذا في ساعة الجد أختار جانب الجهاز الذي أنتمي إليه وأدافع عنه بدفاعي عن نفسي ووظيفتي.
تصاعد هتاف بسقوطي مرة أخرى، وكان آخر هتاف؛ إذ تكلفت أصوات كثيرة بإخماده، وانطلقت ألسنة لا أعرف أصحابها، وربما لن أعرفهم، تندد بالهاتفين وتنصفني، وتقول إني كنت دائما في صفهم، والسبب في موقفي اليوم راجع فقط إلى كبر العدد.
وكان الموقف قد نضج لتدخلي، فقلت بأعلى صوتي: اسمعوا!
وخرجت الكلمة آمرة حامية سكتت لها الضجة في الداخل والخارج، وجعلت الآذان تصغي ولو بدافع حب الاستطلاع.
وبدأت أتكلم. لم أشعر بما قلته بالضبط، ولكني كنت غاضبا أشد الغضب من موقفهم وطريقتهم. كان باستطاعتي أن أجنب نفسي مشقة مواجهتهم بمفردي وأستعين بفرقة بوليس النظام، ولكني آثرت أن أعاملهم كرجال ووثقت فيهم وأمنت لهم، وكانت النتيجة أنهم يريدون أن يستغلوا كثرتهم ويأخذوا الإجازات بالذراع وبالعنف، وأية إجازات يريدون أخذها؟ ثلاثة آلاف عامل يريدون مني أن أمنحهم جميعا ثلاثة أيام إجازة مرضية. من يظنوني؟ رئيس الحكومة! إن كلا منهم لا ينظر إلي إلا من زاويته الضيقة، يريد أن تحتسب له الجمعة، ومعنى أن أوافقه على رغبته أن أوافقهم جميعا على رغباتهم، فهل هذا في قدرتي؟ إن معناه ببساطة أن أفصل من وظيفتي وأقدم للمحاكمة بعدة تهم، وحتى لو حدث هذا فلن تحل مشكلتهم أيضا؛ لأنهم في الجمعة التالية سيواجهون بطبيب جديد آخر، وحتى لو غامر هو أيضا بمستقبله ووظيفته فإجازاتهم المرضية لن تكفي إلا لاحتساب أيام الجمع في أقل من شهرين، فماذا يفعلون في بقية العام؟
وأنهيت كلامي قائلا: أنا مستعد أعطي كل واحد فيكم ثلاثة أيام ويتحسب له يوم الجمعة، وأترفد أنا وأتحبس. أنا مستعد، فهل أنتم مستعدون؟
هل يقبل الواحد فيكم أن يأخذ أجرة يوم مقابل أنه يرفدني أنا ويحبسني؟
Bilinmeyen sayfa