المشكلة أني كنت أعرف أنه مهما طال بي التفكير وتفرع وتشعب، فقد كنت متأكدا سلفا أنني لا يمكن أن أصل إلى طريقة أستطيع أن أقطع معها علاقتي بسانتي بإرادتي. تماما مثلما لو قضيت مئات السنين أفكر فلا يمكن أن أصل إلى طريقة أستطيع بها أن أقتل نفسي بإرادتي؛ فعلاقتي بها بالرغم من كل خجلي وتأنيب ضميري وسخطي، لم تعد مجرد علاقة، أصبحت حياتي هي علاقتي بها.
لم يعد أملي إلا أن أحاول ذلك الحل، وأحاوله وأنا عاجز وحزين. لم يكن حلا جديدا، ولكني تصورت في ضباب ما قبل النوم نجاحه، وتصورت فعلا أني سأظفر بها ثم أتركها. وقبل النوم أيضا حاولت أن أتخيلني معها، ولكني أحسست بخيالي يجمح ويأبى أن يمضي بي خطوة واحدة، ودسست رأسي بين كوعي وألصقتها بالمخدة ونمت.
وعجبت حين استيقظت؛ فقد أدركت أني نمت مبكرا حوالي التاسعة أو العاشرة، وها أنا ذا أستيقظ والدنيا لم تصبح نهارا بعد.
ولم أندم على يقظتي التي جاءت في غير أوانها، في الواقع سررت. الضغط الهائل الذي كان يسحق أعصابي قد زال، والتوتر الذي ساد نفسي كان قد خف وتلاشى، وأصبحت المسائل في نظري أبسط. ولأننا كنا لا نزال في الليل، فخواطري كانت لا تزال دافئة ممكن أن أعيد صياغتها كما أحب، وممكن أن أصنع بها ما أشاء من خطط وأشكلها كما أريد.
وكان السؤال الذي واجهني حين أوقدت النور الصغير وأحسست بدفء اللحاف وبخدر النوم لا يزال يسري في أطرافي، كان السؤال هو: ماذا أفعل لأظفر به؟ كان الاجتماع والخجل وتأنيب الضمير قد زايلتني كلها نهائيا، أو على الأقل أصبح همي الأول أن أفكر في حل للمشكلة وبعدها المجال فسيح للخجل وتأنيب الضمير.
وكما جاءني الخاطر أول مرة فكرت أن أعبر لها عما يجيش في نفسي؛ فقد جاءني نفس الخاطر مرة أخرى وعلى نفس الصورة، لماذا لا أكتب لها خطابا أسطر فيه كل ما أعجز عن قوله أمامها؟ وما أكثر ما كنت أعجز عن قوله أمامها!
وأحسست فقط بالخاطر حين واتاني، أما إحساسي الثاني فلم أشعر به إلا وأنا جالس على المكتب وإلا وأنا أكتب.
والواقع أني كنت أجد لذة في الكتابة إليها لا تقل عن لذتي في رؤيتها ومحادثتها. كان إحساسي أني أكتب «إليها» يملؤني بالنشوة، وإحساسي أنها ستقرأ كلامي، ستقرأ كل كلمة، وتتوقف لدى كل تعبير، كان إحساسي هذا يدفعني إلى الإتيان بكلمات وأفكار أنتقي كلا منها بدقة وشغف وحب وكأنما أنتقي هدية يسعدني أن أقدمها لها. وأعبر عن نفسي بأرفع صدق أملكه - على الأقل - لأريها ذاتي الحقيقية التي لا تظهر إلا بكلماتي.
والموضوع كان شائكا، والاقتراب منه في حاجة إلى براعة عظمى، والذي أعجبني في نفسي أنني لم أتوقف لأشحن قلمي بالبراعة أو لأفكر فيما يجب قوله. وجدت الكلمات تنساب من قلبي وتقترب من الموضوع بأبرع مما كنت أتصوره. وكانت المشكلة التي حاولت أن أجسدها لها هي موقفها الغريب مني. كنت أعلم أن ما سأقوله سيحرجها، ولكني لم أتردد في قوله؛ فقد كان هدفي واضحا وكنت أريد أن أصل إلى النتيجة بسرعة.
قلت لها إنها أنانية؛ فهي تراني أحترق ولا تكلف نفسها مشقة إيقاف هذا الاحتراق. قلت لها إنها تسخر مني؛ لأنها لا تعارض في أن أحدثها عن الحب وأصف لها كيف أتعذب وكيف أهفو إلى كلمة أو نظرة منها، لا تعارض في سماعي وأنا أحدثها عن الحب من بعيد لبعيد، ولكن إذا حاولت مزاولة هذا الحب والاقتراب منها تتراجع إلى الخلف مذعورة وتتهمني بأني بدائي وذئب. وكأنها لا تريد من حبي لها إلا أن يداعب آذانها ويسعدها، أو يجعلها تحس بأنها محبوبة مرغوبة، أما أن يمس هذا الحب شعرة واحدة منها فتلك هي الجريمة البشعة في نظرها.
Bilinmeyen sayfa