والعجيب في أمره، أنه أقام الصلوات عليها بعد وفاتها، وكذلك فعل في تشييع جميع أعزائه، ومنهم أخته التي نهت في وصيتها عن إقامة الشعائر الدينية على جثتها، وما كان ذلك عن إيمان منه بالشعائر التي تقام على جثث الموتى، بل لأنه يرى أن الأمر أهون من أن يساوي مصادمة شعور من حوله، ولا سيما شعور المعزين الذين يواسونه في مصابه.
أما علاقاته بالمرأة عامة، فخلاصتها أنها مهمة في كتبه ومذهبه، غير مهمة في حياته وعواطفه، وهو لا يؤمن بالحب إلا أن يكون علاقة مراسلة لا مغامسة، ولا يرى في الشهوات الجسدية ما يستحق أن يتهالك عليه، بل يعاف هذه الشهوات ويعجب كيف يتلاقى في وضح النهار رجل وامرأة قضيا الليل في مغامستها. ويقول: لولا هوان هذه الشهوة لما اختيرت لها أعضاء النفايات!
كانت له علاقات مع كثيرات، أشهرهن في عالم الفن الممثلة البارعة إللن تيري، وأشهرهن في عالم الدعوات الفكرية آنا بيزانت، وأشهرهن في عالم الدعوات الاجتماعية إلينور أصغر بنات كارل ماركس.
وهو يقول عن إللن تيري إنها تعبت من خمسة أزواج ولم تتعب منه إلى يوم مماتها؛ لأنه أبى أن يشوب الصلة بينهما بشائبة المتعة الجسدية، وقد تبين فعلا أنها بقيت على حبه إلى سويعاتها الأخيرة، فكان آخر ما كتبته كلمة تحية له وثناء عليه.
أما آنا بيزانت فقد كانت مثلا في غرابة الأطوار وتقلب المزاج؛ خطيبة مفوهة وكاتبة فصيحة، تجمع خطبها ورسائلها بين الدفاع عن الإلحاد والدفاع عن الصوفية والإشادة بالبرهمية، وقد هامت به وهي متزوجة لا سبيل إلى ربط حياتها بحياته كما كانت تريد، إلا أنها لجأت إلى وسيلة تعوضها عن رابطة الزواج وتوافق ما اشتهرت به من غرابة الأطوار ... جاءته يوما وفي يدها ميثاق مكتوب تطلب منه أن يوقعه ويتعهد بتنفيذه، وإذا بالميثاق جملة من الشروط المطولة تلزمه وتلزمها بتنظيم علاقة الحب بينهما ... فضحك ولما يفرغ من قراءتها، وقال لها: «إن الميثاق أصعب من جميع العهود التي تفرضها جميع الكنائس في رابطة الزواج.» فغضبت وجاءته مرة أخرى برسائله تردها إليه، وتؤذنه بانقطاع المودة بينهما، فصاح بها مظهرا للدهشة والامتعاض: ماذا؟ ألا تحرصين حتى على هذا الأثر مني؟ ... حسن. وقذف بالأوراق في النار.
أما بنت كارل ماركس، فقد أراحه منها زميل في الدعوة الاشتراكية من العلماء يسمى إدوارد أفلنج، خدعها وهي تحسب أنه أعزب، وعاشت معه حتى ماتت زوجته، فلما عرضت عليه أن يتزوج بها أعرض عنها، فبخعت نفسها كما فعلت أخت لها من قبل، إيثارا للموت على الشيخوخة في أوانها.
ولا يدعي شو أنه كان ملكا نورانيا في جميع مغامراته مع النساء، فقد غلبته مآزق الفتنة غير مرة، ولكنه لم يكن صاحب الإغراء في كل مرة، بل كان في أكثرها هو المغرى الذي تحيط به الشبكة قبل أن يتمكن من الإفلات.
ثم تزوج شو كما تزوج أبوه بعد أن جاوز الأربعين، فعقد زواجه (أول يونيو سنة 1898) على الآنسة باين تونزند، وهي فتاة أيرلندية من الوارثات اللائي أضجرهن فراغ الغنى وتفاهة الحياة بغير وجهة، فشغلت نفسها بالدعوة الاشتراكية، وأحبت شو لطلاوة أحاديثه وطيبة قلبه وشهرته واشتغاله بالإصلاح والمسائل الإنسانية، وأشفقت عليه في عزلته وسوء معيشته في مسكنه، وأشفق هو على سمعتها من طول ملازمتها إياه، فاتفقا على الزواج، ولبثت على إعجابها به وإكبارها له بعد الألفة الزوجية، فكانت لا تذكره باسمه إذا تحدثت عنه، وإنما تسميه «العبقري» فتقول: هكذا أراد العبقري، وهنا يحب العبقري أن يجلس، فيعلم السامعون من تعنيه، وهي التي كانت تغريه بالسياحة والطواف حول «الكرة الأرضية» وتعنى به عناية الأمهات بالأبناء.
ثم فقدها وانقطع لعزلة الشيخوخة وهو أحوج ما يكون إليها.
من يره اليوم في الرابعة والتسعين يذكر تلك الصورة الوصفية الرائعة التي صوره بها أديب التشك الأكبر - كارل كابك - حيث قال: «لكأنه شخصية مما وراء الطبيعة. مفرط الطول مفرط النحافة، يبدو كأنه نصف إله ونصف ساتير، طال تساميه مع الزمن آلاف السنين حتى أنبتت كل صلة تلصقه بالطبيعة. له شعر مشتعل ولحية بيضاء وبشرة موردة، وعينان صافيتان لا تشبهان عين إنسان، وعليه سمة من سمات دون كيشوت، فهو من جانب يلوح في هيئة الرسل، ومن جانب يلوح كالعابث الذي يهزأ بكل ما في الدنيا وهو منها. وما رأيت في حياتي قط كائنا مختلفا كهذا الكائن. لقد خفت منه، وخطر لي أنه روح من الأرواح يزعم أنه الشهير برنارد شو ، وهو يفيض بالحياة، ولديه آكام من الأحاديث الشائقة عن نفسه أو عن سترندبرج أو عن رودان، وغيرهم من الناس المشهورين والأشياء المشهورة، وإصغاؤك إليه مسرة مقرونة بالروعة والهول.»
Bilinmeyen sayfa