وفي آخر تلك السنة أحرز فؤاد الشهادة المدرسية ورجع إلى البيت مكلل الرأس بإكليل الفخر والمجد، ومكلل القلب بإكليل الهموم والأحزان التي كانت تستنزف دمه.
جارى والديه رغما عنه بإقامة حفلة أعظم من كل حفلة سواها إكراما لرجوعه ونجاحه، ولم يظهر عليه شيء من الهم أو الحزن لأنه كان يعرف كيف يقوم بواجبات الضيوف، ولو اضطر إلى إزعاج نفسه والضغط على عواطفه.
فجاء هذا العمل دليلا على وفرة أدبه، ومبعدا لشك الناس، ومنعشا لقلبي والديه الحزينين.
كانت تلك الحفلة مجلى الأبهة والجمال؛ لأن كل حفلة كانت تقام في بيت الخواجة منصور كانت تفوق على ما سواها، فكيف والحفلة هذه كانت إكراما لرجوع فؤاد من المدرسة وعلى رأسه إكليل الفخر والفوز، والذي زادها رونقا وجمالا هو استعداد البنات التام للظهور بأبهى حلل الزينة والجمال؛ لأن فؤادا كان قد أتم علومه في تلك السنة ... وكان في الحفلة فتاتان على طرفي نقيض: إحداهما جميلة جدا حتى إنها حجبت بجمالها الفتان النظر عن كل فتاة موجودة إذ ذاك، وأخرى قبيحة المنظر جدا ولكن الذي كان ينقص هذه من ضياء الوجه والعنق والزندين كانت تعوضه عليها الحلي الثمينة التي كانت كالكواكب المتلألئة على صدرها، وفي عنقها ويديها ورأسها، وما كان ينقص تلك من نور هذه الجواهر كان يعوضه عليها وجهها، وشتان ما بين الطبيعي والاصطناعي من الأشياء ... لذلك كانت الفتاة الجميلة مع بساطة ملابسها تستلفت الأنظار أكثر من الفتاة القبيحة مع نفاسة الملابس والحلي التي عليها.
وكان مع الأخيرة قريبتها التي كانت تجلس بجانبها دائما، والتي كانت ترتاح إليها بإفشاء أسرارها أكثر من والدتها نفسها. فبعد أن رقصت مع أحد الشبان رجعت إلى تلك المربية التي فتحت المروحة وأخذت تهوي لها، وهي متكئة بجانبها، ولما انتهت نظرت إليها قائلة: ما أبلد هذا الشاب! وأومأت برأسها إلى فؤاد.
قالت المربية: إنه ليس بليدا، ولكنه متكبر على ما أرى. فنظرت إليها الفتاة نظرة الاستخفاف وقالت: متكبر! إن هذا عذر جميل ... فهل تعلمين يا آدال ما أخبرني عنه بعض أصدقائه؟
قالت المربية: كلا.
قالت: قال لي بأنه يكره «الدوطة». وأنه قال عنها بأنها جدار عال يقام فاصلا دون رغبة الشاب في الأهلية بالفتاة، وأنها ضرر اجتماعي كبير في هذه الأيام بعد أن صار الشاب يطلبها قبل أن يطلب العروس، وبعد أن صارت تهمه هي أكثر مما تهمه العروس، ويرتاح إلى النظر إليها قبل اختبار أهلية العروس، وأنها كثيرا ما تدوس على الحب الحقيقي الذي هو أساس السعادة، فكأن الشاب الآن يعشقها دون الفتاة؛ ولهذا فإن أكثر الفتيات ييأسن من الراحة في الحياة إذا لم يكن لهن دوطات. ولكن مهما قال هذا الشاب الجاهل لحقيقة الأمور الآن فسيرى نور منفعتها من بعيد ويسرع إليه؛ لأن الأغنياء يتهافتون على «الدوطة» في هذه الأيام أكثر من الفقراء، فهي الكل في الكل. وأنا أفضل أن يكون والد كل فتاة رحوما كوالدي، فعوضا عن أن يبذل ماله لتعليم ابنته وتهذيبها «يصمد» لها هذا المال فيضيفه إلى دوطتها؛ لأن الفتاة متى كان لها دوطة كبيرة فإلى أي شيء آخر تكون حاجتها؟
فقالت تلك المربية بتدليس: لا بد منه للفقراء من الأغنياء، إن فؤادا لا يكون بهذا المقدار جاهلا يا سيدتي حتى يترك عشرة آلاف ليرة ... رغبة في وجه جميل أو طرف كحيل ...
ولما قالت المربية هذا نظرت تلك الفتاة بوجه الفتاة الجميلة وكانت جالسة بجانب والدتها، وتنهدت دلالة على أن كلامها عن الدوطة كان «فشه كربه»، وأنها هي ذاتها تعتقد بصوابيته، وقالت في نفسها: ما أجملها!
Bilinmeyen sayfa