قالت والدته: لا غرو إذا كنت لا تفهمه يا ولدي؛ لأنك لم تزل حديث العهد بمعرفة النساء، ولم تبل بعد بمكرهن وخداعهن، ولكن أرجو أن تكون هذه الأمثولة كافية لأن تعلمك التحذر منهن مرة ثانية وعدم الوثوق بهن بشيء «ولو قلن نزلن من السماء».
فقال: إنني أسمع هذا من كثيرين، ولكن صدوره عن واحدة من هذا الجنس يجعلني أن أصدقه ولكن ... هل بديعة ماكرة ومخادعة؟ إنني لا أصدق هذا ... إذ ليس كل النساء سواء.
قالت والدته مبتسمة: هنيئا لقلبك الطاهر وطوبى له! وبعد أن استرجع الشاب قوى نفسه عرف بأن والدته تحتقر بديعة باغتيابها، فقال في نفسه: إنني لا أطيق هذا ومع أنني أحب الانتقام من بديعة، فأحب أن يكون هذا الانتقام مني لا من سواي ولو كان «أعز الناس إلي». ثم نظر إلى والدته وقد أخذ لون وجهه الأصلي يرجع إليه وهو يتجلد: إنني أخطأت إذ قلت بأن الضربة قاضية؛ لأنني أرى من نفسي قوة عظيمة على الصبر واعتبار هذه المسألة من التوافه. فكادت والدته تطير من فرحها عند سماع هذا الكلام؛ لأنه غير ما كانت تنتظر، وظنت أن الولد رضي الرضى التام واقتنع، ولكنها - وا أسفاه - قدرت تحكم على الظواهر ولم يخرق نظرها الحاد ما وراء تينك العينين المضيئتين بالذكاء، ولا ذلك الوجه الهادئ لتعلم ما خبأ لها الدهر هناك من المصائب والويلات. وحالا طوقته بذراعيها قائلة وهي تقبله بحرارة: استعمل عقلك كسلاح لمحاربة هذا الأمر التافه يا عزيزي الذي هو لأجل سعادتك. ثم خطر في بالها فأمسكت بيده قائلة: فؤاد، لا أظنت تفعل شيئا من مثل اللحاق ببديعة أو الاضطراب والحزن إلى حد فقد صحتك وعلومك.
أجاب الشاب بسكينة : إنني قادر على قبر هذه الأفكار في صدري يا أمي إلى ما بعد انتهاء أيامي المدرسية، وإذ ذاك أرى ما يوافق الظروف؛ لأنني أفرد لكل عمل وقتا خاصا به.
فهلع قلبها لهذا الكلام الذي عرفت بأنه صائر لا محالة، ولكنها كتمت ما بها «لوقته» وأطاعت ولدها؛ إذ قال لها: يجب أن نرجع إلى حيث والدي لأنني مشتاق إليه.
فحزنت الوالدة لحب الولد لوالده وقالت في نفسها: ماذا يقول لو عرف؟ وهل أعود أستحق هذه الكلمة عنده يا ترى؟ ولم يخف على والده بأن تأثره من كلام والدته كان شديدا، فعندما ضمه إلى صدره وقبله همس في أذنه قائلا: إنني عرفت بكل شيء فلا تخف يا حبيبي؛ لأنني سأكون عضدك وأساعدك بالشيء الذي يشتهيه قلبك.
وبالحقيقة إن صبر فؤاد كان عجيبا نظرا لجيوش الأفكار التي كانت تحاربه، فإنه قضى باقي أيامه في المدرسة هادئا ساكتا؛ وذلك لأنه كان شجاعا يستصغر المصائب مع الصبر والعقل، وقد صدق فيه قول القائل من أن المصيبة تزيد العاقل قوة والجاهل ضعفا، وقد رأى بعين بصيرة أن احتياجه كان إلى الصبر والتجلد والتؤدة كثيرا، ومع أن عاطفة الحب كانت متربعة على دست الرئاسة في قلبه؛ فإنه أنزلها إذ ذاك وأجلس عاطفة الواجب مكانها، وما ذلك إلا لأنه يعرف قيمة الوقت وأن كل شيء يجب أن يعمل بوقته.
وما ترى كان يجديه الهم والجزع لو استسلم لهما؟ إنهما كانا يفقدانه قسما من صحته وربما كلها، ويعيقانه عن إتمام دروسه إن لم ينسياه الماضية منها فإنه كان يشعر بالحب ويحب معرفة أمر بديعة كما هو، ولكنه ترك هذه الأشياء لوقتها أي إلى ما بعد خروجه من المدرسة؛ فكان له من هذه الفكرة قوة على الصبر عظيمة.
الفصل الرابع والعشرون
في البيت ومكتوب بديعة
Bilinmeyen sayfa