نجيب :
أيستطيع كل منا، يا سيدتي، أن يغزل سلكا من شوقه وحنينه ويمده بين روحه والأرواح المنعتقة ؟ أفليس هناك طائفة من الناس قد أعطيت المقدرة على مخاطبة الأرواح واستنزال مشيئتها ومراميها؟
العلوية :
إن بين سكان الأثير وسكان الأرض مخاطبات ومسامرات مستتبة باستتباب الأيام والليالي، وليس بين الناس من لم يأتمر بمشيئة القوى العاقلة غير المنظورة، فكم من عمل يأتي به الفرد متوهما أنه مخير بفعله وهو بالحقيقة مسير، وكم من عظيم في الأرض كانت عظمته في استسلامه التام إلى إرادة روح من الأرواح استسلام قيثارة دقيقة الأوتار إلى نقرات عازف خبير.
أجل، إن بين عالم المرئيات وعالم العقل سبيلا نجتازه في غيبوبات تحدث لنا ونحن غافلون، ثم نعود وفي أكفنا المعنوية بذور نلقيها في تربة حياتنا اليومية، فتنبت أعمالا جليلة أو أقوالا خالدة، ولولا تلك السبل المفتوحة بين أرواحنا والأرواح الأثيرية لما ظهر في الناس نبي ولا قام فيهم شاعر ولا سار بينهم عازف. (ترفع صوتها عن ذي قبل):
أقول، ومآتي الأدهار تشهد لي: إن بين الملإ الأعلى والملإ الأدنى روابط شبيهة بعلاقة الآمر بالمأمور والمنذر بالمنذر؛ أقول: إنا محاطون بوجدانات تستميل وجداناتنا، وعاقلات توعز إلى عاقلاتنا، وقوى تستنهض قوانا؛ أقول: إن شكوكنا لا تنفي امتثالنا إلى ما نشك به، وانصرافنا إلى أماني أجسادنا لا يصرفنا عن مراد الأرواح بأرواحنا، وتعامينا عن حقيقتنا لا يحجب حقيقتنا عن عيون المحجوبين عنا. فنحن وإن وقفنا فسائرون بمسيرهم وإن همدنا فمتحركون بحركاتهم، وإن صمتنا فمتكلمون بأصواتهم؛ فلا الهجوع فينا يزيل يقظتهم عنا، ولا اليقظة بنا تحول أحلامهم عن مسارح خيالنا. فنحن وهم في عالمين يضمهما عالم واحد، وفي حالتين تمنطقهما حالة واحدة، وفي وجودين يجمعهما ضمير كلي سرمدي أحد ليس له بدء، وليس له نهاية، وليس له فوق، وليس له تحت، وليس له حد، وليس له جهات.
نجيب :
أيأتي يوم، يا سيدتي، نعرف فيه بالاستقراء العلمي والاختبار الحسي ما تعرفه أرواحنا بالخيال وما تختبره قلوبنا بالتشويق؟ وهل يتقرر لنا بقاء الذات المعنوية بعد الموت مثلما تقرر لدينا بعض الأسرار الطبيعية، فنلمس بيد المعرفة المجردة ما نتلمسه الآن بأصابع الإيمان؟
العلوية :
نعم، سيأتي ذلك اليوم. ولكن، ما أضل الذين يدركون حقيقة مجردة ببعض حواسهم، ولكنهم يظلون مرتابين بها حتى تبدو لحواسهم الأخرى. ما أغرب من يسمع الشحرور مغردا ويشاهده مرفرفا متنقلا، ولكنه يبقى مشككا بما سمع وما رأى حتى يقبض بيده على جسم الشحرور. ما أغرب من يحلم بحقيقة جميلة ثم يحاول تجسيدها وحبسها بقوالب الظواهر فلا يفلح، فيرتاب بالحلم ويجحد الحقيقة ويشك بالجمال!
Bilinmeyen sayfa