القشور واللباب
نفسي مثقلة بأثمارها
حفنة من رمال الشاطئ
سفينة في ضباب
المراحل السبع
وعظتني نفسي
لكم لبنانكم ولي لبناني
الأرض
بالأمس. واليوم. وغدا
الكمال
Bilinmeyen sayfa
الاستقلال والطرابيش
أيتها الأرض
البحر الأعظم
في سنة لم تكن قط في التاريخ
ابن سينا وقصيدته
الغزالي
جرجي زيدان
مستقبل اللغة العربية
ابن الفارض
العهد الجديد
Bilinmeyen sayfa
الوحدة والانفراد
إرم ذات العماد
سكوتي إنشاد
يا من يعادينا
يا نفس
البلاد المحجوبة
حرقة الشيوخ
بالله يا قلبي
أغنية الليل
البحر
Bilinmeyen sayfa
الشحرور
الجبار الرئبال
إذا غزلتم
الشهرة
بالأمس
ماذا تقول الساقية؟
القشور واللباب
نفسي مثقلة بأثمارها
حفنة من رمال الشاطئ
سفينة في ضباب
Bilinmeyen sayfa
المراحل السبع
وعظتني نفسي
لكم لبنانكم ولي لبناني
الأرض
بالأمس. واليوم. وغدا
الكمال
الاستقلال والطرابيش
أيتها الأرض
البحر الأعظم
في سنة لم تكن قط في التاريخ
Bilinmeyen sayfa
ابن سينا وقصيدته
الغزالي
جرجي زيدان
مستقبل اللغة العربية
ابن الفارض
العهد الجديد
الوحدة والانفراد
إرم ذات العماد
سكوتي إنشاد
يا من يعادينا
Bilinmeyen sayfa
يا نفس
البلاد المحجوبة
حرقة الشيوخ
بالله يا قلبي
أغنية الليل
البحر
الشحرور
الجبار الرئبال
إذا غزلتم
الشهرة
Bilinmeyen sayfa
بالأمس
ماذا تقول الساقية؟
البدائع والطرائف
البدائع والطرائف
تأليف
جبران خليل جبران
القشور واللباب
ما شربت كأسا علقمية إلا كانت ثمالتها عسلا.
وما صعدت عقبة حرجة إلا بلغت سهلا أخضر.
وما أضعت صديقا في ضباب السماء إلا وجدته في جلاء الفجر.
Bilinmeyen sayfa
وكم مرة سترت ألمي وحرقتي برداء التجلد متوهما أن في ذلك الأجر والصلاح، ولكنني لما خلعت الرداء رأيت الأمل قد تحول إلى بهجة والحرقة قد انقلبت بردا وسلاما.
وكم سرت ورفيقي في عالم الظهور فقلت في نفسي: ما أحمقه وما أبلده، غير أنني لم أبلغ عالم السر حتى وجدتني الجائر الظالم وألفيته الحكيم الظريف.
وكم سكرت بخمرة الذات فحسبتني وجليسي حملا وذئبا، حتى إذا ما صحوت من نشوتي رأيتني بشرا ورأيته بشرا.
أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا، متعامون عما خفي من حقيقتنا. فإن عثر أحدنا قلنا: هو الساقط، وإن تماهل قلنا: هو الخائر التلف، وإن تلعثم قلنا: هو الأخرس، وإن تأوه قلنا: تلك حشرجة النزع فهو مائت.
أنا وأنتم مشغوفون بقشور «أنا» وسطحيات «أنتم»؛ لذلك لا نبصر ما أسره الروح إلى «أنا» وما أخفاه الروح في «أنتم».
وماذا عسى نفعل ونحن بما يساورنا من الغرور غافلون عما فينا من الحق؟
أقول لكم، وربما كان قولي قناعا يغشي وجه حقيقتي، أقول لكم ولنفسي: إن ما نراه بأعيننا ليس بأكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا. وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن نستوعبه بقلوبنا. فإن رأينا شرطيا يقود رجلا إلى السجن علينا ألا نجزم في أيهما المجرم. وإن رأينا رجلا مضرجا بدمه وآخر مخضوب اليدين فمن الحصافة ألا نحتم في أيهما القاتل وأيهما القتيل. وإن سمعنا رجلا ينشد وآخر يندب فلنصبر ريثما نتثبت أيهما الطروب.
لا، يا أخي، لا تستدل على حقيقة امرئ بما بان منه، ولا تتخذ قول امرئ أو عملا من أعماله عنوانا لطويته. فرب من تستجهله لثقل في لسانه وركاكة في لهجته، كان وجدانه منهجا للفطن وقلبه مهبطا للوحي. ورب من تحتقره لدمامة في وجهه وخساسة في عيشه، كان في الأرض هبة من هبات السماء وفي الناس نفحة من نفحات الله.
قد تزور قصرا وكوخا في يوم واحد، فتخرج من الأول متهيبا ومن الثاني مشفقا؛ ولكن، لو استطعت تمزيق ما تحوكه حواسك من الظواهر لتقلص تهيبك وهبط إلى مستوى الأسف، وانبدلت شفقتك وتصاعدت إلى مرتبة الإجلال.
وقد تلتقي بين صباحك ومسائك رجلين فيخاطبك الأول وفي صوته أهازيج العاصفة وفي حركاته هول الجيش؛ أما الثاني فيحدثك متخوفا وجلا بصوت مرتعش وكلمات متقطعة، فتعزو العزم والشجاعة إلى الأول، والوهن والجبن إلى الثاني. غير أنك لو رأيتهما وقد دعتهما الأيام إلى لقاء المصاعب، أو إلى الاستشهاد في سبيل مبدأ لعلمت أن الوقاحة المبهرجة ليست ببسالة والخجل الصامت ليس بجبانة.
Bilinmeyen sayfa
وقد تنظر من نافذة منزلك فترى بين عابري الطريق راهبة تسير يمينا ومومسا تسير شمالا؛ فتقول على الفور: ما أنبل هذه وما أقبح تلك! ولكنك لو أغمضت عينيك وأصغيت هنيهة لسمعت صوتا هامسا في الأثير قائلا: هذه تنشدني بالصلاة وتلك ترجوني بالألم، وفي روح كل منهما مظلة لروحي.
وقد تطوف في الأرض باحثا عما تدعوه حضارة وارتقاء، فتدخل مدينة شاهقة القصور فخمة المعاهد رحبة الشوارع، والقوم فيها يتسارعون إلى هنا وهناك؛ فذا يخترق الأرض، وذاك يحلق في الفضاء، وذلك يمتشق البرق، وغيره يستجوب الهواء، وكلهم بملابس حسنة الهندام، بديعة الطراز، كأنهم في عيد أو مهرجان.
وبعد أيام يبلغ بك المسير إلى مدينة أخرى حقيرة المنازل ضيقة الأزقة إذا أمطرتها السماء تحولت إلى جزر من المدر في بحر من الأوحال. وإن شخصت بها الشمس انقلبت غيمة من الغبار. أما سكانها فما برحوا بين الفطرة والبساطة كوتر مسترخ بين طرفي القوس. يسيرون متباطئين ويعملون متماهلين وينظرون إليك كأن وراء عيونهم عيونا تحدق إلى شيء بعيد عنك، فترحل عن بلدهم ماقتا مشمئزا قائلا في سرك: إنما الفرق بين ما شهدته في تلك المدينة وما رأيته في هذه لهو كالفرق بين الحياة والاحتضار. فهناك القوة بمدها وهنا الضعف بجزره. هناك الجد ربيع وصيف وهنا الخمول خريف وشتاء. هناك اللجاجة شباب يرقص في بستان وهنا الوهن شيخوخة مستلقية على الرماد.
ولكن، لو استطعت النظر بنور الله إلى المدينتين لرأيتهما شجرتين متجانستين في حديقة واحدة. وقد يمتد بك التبصر في حقيقتهما فترى أن ما توهمته رقيا في إحداهما لم يكن سوى فقاقيع لماعة زائلة، وما حسبته خمولا في الأخرى كان جوهرا خفيا ثابتا.
لا ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم.
لا، ولا الدين بما تظهره المعاهد وتبينه الطقوس والتقاليد، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنيات.
لا، ولا الفن بما تسمعه بأذنيك من نبرات وخفضات أغنية، أو من رنات أجراس الكلام في قصيدة، أو بما تبصره بعينيك من خطوط وألوان صورة؛ بل الفن بتلك المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات والخفضات في الأغنية، وبما يتسرب إليك بواسطة القصيدة مما بقي ساكتا هادئا مستوحشا في روح الشاعر، وبما توحيه إليك الصورة فترى وأنت محدق إليها ما هو أبعد وأجمل منها.
لا، يا أخي، ليست الأيام والليالي بظواهرها. وأنا، أنا السائر في موكب الأيام والليالي، لست بهذا الكلام الذي أطرحه عليك إلا بقدر ما يحمله إليك الكلام من طويتي الساكنة. إذن لا تحسبني جاهلا قبل أن تفحص ذاتي الخفية، ولا تتوهمني عبقريا قبل أن تجردني من ذاتي المقتبسة. لا تقل: هو بخيل قابض الكف قبل أن ترى قلبي، أو هو الكريم الجواد قبل أن تعرف الواعز إلى كرمي وجودي. لا تدعني محبا حتى يتجلى لك حبي بكل ما فيه من النور والنار، ولا تعدني خليا حتى تلمس جراحي الدامية.
نفسي مثقلة بأثمارها
نفسي مثقلة بأثمارها؛ فهل من جائع يجني ويأكل ويشبع؟
Bilinmeyen sayfa
أليس بين الناس من صائم رؤوف يفطر على نتاجي ويريحني من أعباء خصبي وغزارتي؟
نفسي رازخة تحت عبء من التبر واللجين فهل بين الناس من يملأ جيوبه ويخفف عني حملي؟
نفسي طافحة من خمرة الدهور؛ فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوي؟
هو ذا رجل واقف على قارعة الطريق يبسط نحو العابرين يدا مفعمة بالجواهر ويناديهم قائلا: ألا فارحموني وخذوا مني. أشفقوا علي وخذوا ما معي. أما الناس فيسيرون ولا يلتفتون.
ألا ليته كان شحاذا متسولا يمد يدا مرتعشة نحو العابرين ويرجعها فارغة مرتعشة. ليته كان مقعدا أعمى يمر به الناس ولا يحفلون.
هو ذا مثر جواد نصب خيامه بين مجاهل البيداء ولحف الجبل، يوقد نار القرى كل ليلة ويبعث عبيده ليرصدوا السبل لعلهم يقودون إليه ضيفا يقربه ويكرمه، ولكن السبل بخيلة لا تجود على هباته بمرتزق، ولا تبعث إلى هباته بطالب.
ألا ليته كان صعلوكا منبوذا!
ليته كان عيارا متشردا يطوف البلاد وفي يده عكاز وفي كوعه دلو، فإذا ما جاء المساء جمعته ملتويات الأزقة بزملائه العيارين المتشردين فيجلس بقربهم ويقاسمهم خبز الصدقة!
هو ذا ابنة الملك الأكبر قد استيقظت من رقادها وهبت من مضجعها، وقامت فتردت بأرجوانها وبرفيرها، وتزينت بلؤلؤها وياقوتها، ونثرت المسك على شعرها، وغمست بذوب العنبر أصابعها، ثم خرجت إلى حديقتها ومشت وقطرات الندى تبلل أطراف ثوبها.
في سكون الليل سارت ابنة الملك الأكبر في جنتها تبحث عن حبيبها. ولكن، لم يكن في مملكة أبيها من يحبها.
Bilinmeyen sayfa
ألا ليتها كانت ابنة زراع ترعى أغنام أبيها في الأودية وتعود مساء إلى كوخ أبيها وعلى قدميها غبار المنعكفات وبين طيات ثوبها رائحة الكروم. حتى إذا ما جن الليل ونام سكان الحي اختلست خطواتها إلى حيث يترقبها حبيبها.
ليتها كانت راهبة في الدير تحرق قلبها بخورا فينشر الهواء عطر قلبها. وتوقد روحها شمعا فيحمل الأثير نور روحها. وتركع مصلية فتحمل أشباح الخفاء صلواتها إلى خزائن الزمن حيث تصان صلوات المتعبدين بجانب حرقة المحبين وهواجس المستوحدين!
ليتها كانت عجوزا مسنة تجلس مستدفئة في أشعة الشمس بمن تقاسموا صباها، فذاك خير من أن تكون ابنة الملك الأكبر وليس في مملكة أبيها من يأكل قلبها خبزا ويشرب دمها خمرا!
نفسي مثقلة بأثمارها، فهل في الأرض جائع يجني ويأكل ويشبع؟
نفسي طافحة بخمرها؛ فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوي؟
ألا ليتني كنت شجرة لا تزهر، ولا تثمر، فألم الخصب أمر من ألم العقم، وأوجاع ميسور لا يؤخذ منه أشد هولا من قنوط فقير لا يرزق.
ليتني كنت بئرا جافة والناس ترمي بي الحجارة، فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حي والظامئون يجتازونني ولا يستقون.
ليتني كنت قصبة مرضوضة تدوسها الأقدام، فذاك خير من أن أكون قيثارة فضية الأوتار في منزل ربه مبتور الأصابع وأهله طرشان!
حفنة من رمال الشاطئ
كآبة الحب تترنم، وكآبة المعرفة تتكلم، وكآبة الرغائب تهمس، وكآبة الفقر تندب، ولكن، هناك كآبة أعمق من الحب، وأنبل من المعرفة، وأقوى من الرغائب، وأمر من الفقر. غير أنها خرساء لا صوت لها، أما عيناها فمشعشعتان كالنجوم.
Bilinmeyen sayfa
عندما تشكو مصابا لجارك تهبه جزءا من قلبك، فإن كان كبير النفس شكرك. وإن كان صغيرها احتقرك.
ليس التقدم بتحسين ما كان، بل بالسير نحو ما سيكون.
المسكنة نقاب يخفي ملامح الكبرياء. والدعوى قناع يغشي وجه البلاء.
عندما يجوع المتوحش يقطف ثمرة من شجرة ويأكلها، وعندما يجوع المتمدن يشتري ثمرة ممن اشتراها ممن اشتراها ممن اشتراها ممن قطفها من الشجرة.
الفن خطوة من المعروف الظاهر نحو المجهول الخفي.
بعض الناس يستحثونني على الأمانة إليهم ليتمتعوا بلذة السماح عني.
ما أدركت طوية امرئ إلا حسبني مديونا له.
تتنفس الأرض فنولد، ثم تستريح أنفاسها فنموت.
عين الإنسان مجهر تبين له الدنيا أكبر مما هي حقيقة.
أنا بريء من قوم يحسبون القحة شجاعة واللين جبانة؛ وأنا بريء ممن يتوهم الثرثرة معرفة والصمت جهالة والتصنع فنا.
Bilinmeyen sayfa
قد يكون في استصعابنا الأمر أسهل السبل إليه.
يقولون لي: إذا رأيت عبدا نائما فلا تنبهه لعله يحلم بحريته. وأقول لهم: إذا رأيت عبدا نائما نبهته وحدثته عن الحرية.
المعاكسة أدنى مراتب الذكاء.
الجميل يأسرنا، أما الأجمل فيعتقنا حتى ومن ذاته.
الحماسة بركان لا تنبت على قمته أعشاب التردد.
يظل النهر جادا نحو البحر، انكسر دولاب المطحنة أم لم ينكسر.
صنع الأديب من الفكر والعاطفة ثم وهب الكلام. أما الباحث فقد صنع من الكلام ثم أعطي قليلا من الفكر والعاطفة.
تأكل مسرعا وتمشي متباطئا، فهلا أكلت برجلك ومشيت على كفيك!
ما تعاظم فرحك أو حزنك إلا صغرت الدنيا في عينيك.
العلم يستنبت بذورك ولا يلقي بك بذرا.
Bilinmeyen sayfa
ما أبغضت إلا كان البغض سلاحا أدافع به عن نفسي، ولكن، لو لم أكن ضعيفا لما اتخذت هذا النوع من السلاح.
لو علم جد جد يسوع ما كان مختبئا في شخصه لوقف خاشعا متهيبا أمام نفسه.
الحب سعادة ترتعش.
يحسبونني حاد النظر ثاقبه؛ لأنني أراهم من خلال شبكة الغربال.
لم أشعر بألم الوحشة حتى مدح الناس عيوبي الثرثارة وطعنوا في حسناتي الخرساء.
بين الناس قتلة لم يسفكوا دما قط، ولصوص لم يسرقوا شيئا البتة، وكذبة لم يقولوا إلا الصحيح.
الحقيقة التي تحتاج إلى برهان هي نصف حقيقة.
ألا فأبعدوني عن الحكمة التي لا تبكي ، وعن الفلسفة التي لا تضحك، وعن العظمة التي لا تحني رأسها أمام الأطفال.
أيها الكون العاقل، المحجوب بظواهر الكائنات، الموجود بالكائنات وفي الكائنات وللكائنات؛ أنت تسمعني لأنك حاضر في ذاتي؛ وإنك تراني لأنك بصيرة كل شيء حي. ألق في روحي بذرة من بذور حكمتك لتنبت نصبة في غابتك وتعطي ثمرا من أثمارك. آمين.
سفينة في ضباب
Bilinmeyen sayfa
هذا حديث رجل جمعنا في منزله المنفرد القائم على كتف وادي قاديشا في ليلة مغمورة بالثلوج مرتعشة بالأهوية.
قال محدثنا وهو ينبش رماد الموقد بطرف قضيب كان بيده: تريدون، يا رفاقي، أن أعلن لكم سر كآبتي.
تريدون أن أحدثكم عن المأساة التي تعيد الذكرى تمثيلها في صدري كل يوم وكل ليلة.
لقد مللتم سكوتي وتكتمي. وضجرتم من تنهدي وتململي. وقال بعضكم لبعض: إذا كان لا يدخلنا هذا الرجل إلى هيكل أوجاعه فكيف نستطيع الدخول إلى بيت مودته؟
أنتم مصيبون يا رفاقي. فمن لا يساهمنا الألم لن يشركنا في شيء آخر.
فاسمعوا إذن حكايتي. اسمعوا ولا تكونوا مشفقين، فالشفقة تجوز على الضعفاء وأنا لم أزل قويا بكآبتي.
منذ فجر شبابي وأنا أرى في أحلام يقظتي وأحلام نومي طيف امرأة غريبة الشكل والمزايا. كنت أراها في ليالي الوحدة واقفة قرب مضجعي. وكنت أسمع صوتها في السكينة. وكنت في بعض الأحيان أغمض عيني وأشعر بملامس أصابعها على جبهتي فأفتح عيني وأهب مذعورا مصغيا بكل ما بي من المسامع إلى همس اللا شيء.
وكنت أقول لذاتي: هل تطوح بي خيالي حتى ضعت في الضباب؟ هل صنعت من أبخرة أحلامي امرأة جميلة الوجه عذبة الصوت لينة الملامس لتأخذ مكان امرأة من الهيولي؟ هل خولطت بعقلي فاتخذت من ظلال عقلي رفيقة أحبها وأستأنس بها وأركن إليها وأبتعد عن الناس لأقترب منها، وأغلق عيني ومسامعي عن كل ما في الحياة من الصور والأصوات لأرى صورتها وأسمع صوتها؟ أمجنون أنا يا ترى؟ أمجنون لم يكتف بالانصراف إلى العزلة، بل ابتدع له من أشباح العزلة رفيقة وقرينة؟
قلت: «قرينة» وأنتم تستغربون هذه اللفظة . ولكن، هناك بعض الاختبارات التي نستغربها بل وننكرها؛ لأنها تظهر لنا بمظاهر المستحيل. ولكن استغرابنا ونكراننا لا يمحوان حقيقتها في نفوسنا.
لقد كانت تلك المرأة الخيالية قرينة لي، تساهمني وتبادلني كل ما في الحياة من الميول والمنازع والأفراح والرغائب، فلم أستيقظ صباحا إلا رأيتها متكئة على مساند سريري وهي تنظر إلي بعينين يملأهما طهر الطفولة وعطف الأمومة. ولم أحاول عملا إلا ساعدتني على تحقيقه. ولم أجلس إلى مائدة إلا جلست قبالتي تحدثني وتبادلني الآراء والأفكار. وما جاء مساء إلا اقتربت مني قائلة: قم بنا نسر بين التلول والمنحدرات، كفانا الإقامة في هذا المنزل. فأترك إذ ذاك عملي وأسير قابضا على أصابعها، حتى إذا ما بلغنا البرية المتشحة بنقاب المساء المغمورة بسحر السكون نجلس جنبا إلى جنب على صخرة عالية محدقين إلى الشفق البعيد. فكانت تارة تومئ إلى الغيوم المذهبة بأشعة الغروب، وطورا تسترعي سمعي إلى تغريد الطائر يبعث صوته تسبيحة شكر وطمأنينة قبيل أن يلتجئ إلى الأغصان للمبيت.
Bilinmeyen sayfa
وكم مرة دخلت علي وأنا أشتغل في غرفتي قلقا مضطربا فلا تلمحها عيني حتى يتحول قلقي إلى الهدوء، واضطرابي إلى الائتلاف والاستئناس.
وكم لقيت الناس في روحي جيش يزحف متمردا على ما أكرهه في نفوسهم، ولكنني ما تبينت وجهها بين وجوههم إلا انقلبت الزوبعة في باطني إلى أنغام علوية.
وكم جلست منفردا وفي قلبي سيف من ألم الحياة ومتاعبها وحول عنقي سلاسل من مشاكل الوجود ومعضلاته، ثم ألتفت فأراها واقفة أمامي محدقة إلي بعينين تفيضان نورا وبهاء فتنقشع غيومي ويتهلل قلبي وتبدو الحياة لبصيرتي جنة أفراح ومسرات.
وأنتم تسألون، يا رفاقي، ما إذا كنت مقتنعا بهذه الحالة الشاذة الغريبة. تسألون ما إذا كان المرء وهو في عنفوان شبابه، يستطيع الاكتفاء بما تدعونه وهما وخيالا وحلما بل وعلة نفسية؟
أقول لكم: إن الأعوام التي صرفتها في تلك الحالة لهي زبدة ما عرفته في الحياة من الجمال والسعادة واللذة والطمأنينة. أقول لكم: إنني كنت ورفيقتي الأثيرية فكرة مطلقة مجردة تطوف في نور الشمس، وتطفو على وجه البحار، وتسعى في الليالي المقمرة، وتتهلل بأغان ما سمعتها أذن، وتقف أمام مشاهد ما رأتها عين. إن الحياة، كل الحياة، هي في ما نختبره بأرواحنا؛ والوجود، كل الوجود، هو في ما نعرفه ونتحققه فنبتهج به أو نتوجع لأجله. وأنا قد اختبرت أمرا بروحي، اختبرته كل يوم وكل ليلة حتى بلغت الثلاثين من عمري.
ليتني لم أبلغ الثلاثين. ليتني مت ألف مرة ومرة قبل أن أبلغ تلك السنة التي سلبتني لباب حياتي، واستنزفت دماء قلبي وأوقفتني أمام الأيام والليالي شجرة يابسة عارية مستوحدة، فلا ترقص أغصانها لأغاني الهواء ولا تحوك الأطيار أعشاشها بين أوراقها وأزهارها.
وسكت محدثنا دقيقة وقد ألوى رأسه وأغمض عينيه وأرخى زنديه إلى جنب مقعده فبان كأنه اليأس مجسما. أما نحن فبقينا صامتين مترقبين استماع تتمة حديثه. ثم فتح أجفانه وبصوت متقطع خارج من أعماق كيان مكلوم قال: تذكرون، يا رفاقي، أنه منذ عشرين سنة بعثني حاكم هذا الجبل بمهمة علمية إلى مدينة البندقية، وأصحبني برسالة إلى محافظ تلك المدينة الذي كان قد عرفه في القسطنطينية.
تركت لبنان وأبحرت على سفينة إيطالية، وقد كان ذلك في شهر نيسان وروح الربيع ترتعش بين ثنايا الهواء، وتنثني مع أمواج البحر، وتتمثل بصور جميلة متقلبة في الغيوم البيضاء المتلبدة فوق الآفاق. كيف أصف لكم تلك الأيام وتلك الليالي التي صرفتها على ظهر السفينة؟ إن قوة الكلام المتعارف بين البشر لا تتجاوز ما تحويه مدارك البشر وما يشعرون به. وفي الروح ما هو أبعد من الإدراك وأدق من الشعور فكيف أرسمها لكم بالكلام؟
لقد كانت تلك السنون التي صرفتها مع رفيقتي الأثيرية ممنطقة بالأنس والألفة، مغمورة بالسكينة والرضى، فلم يدر في خلدي أن الألم رابض لي وراء حجب سعادتي، وأن المرارة ثمالة راكدة في أعماق كأسي. لا، لم أخش قط ذبول زهرة نبتت فوق الغيوم، واضمحلال أنشودة ترنمت بها عرائس الفجر.
ولما تركت هذه التلول والأودية كانت رفيقتي جالسة بقربي في المركبة التي حملتني إلى الساحل. وفي الثلاثة الأيام التي قضيتها في بيروت قبيل سفري، كانت قرينتي تذهب حيثما أذهب وتقف عندما أقف، فلم أجتمع بصديق إلا رأيتها تبتسم له، ولم أزر معهدا إلا شعرت بيدها قابضة على يدي، ولم أجلس مساء في شرفة النزل مصغيا إلى أصوات المدينة إلا شاركتني في التأمل وساهمتني الفكر.
Bilinmeyen sayfa
ولكن، لما فصلني الزورق عن ميناء بيروت، في الدقيقة التي وطئت فيها ظهر السفينة، شعرت بتغير في فضاء روحي، شعرت بيد خفية قوية تتمسك بساعدي وسمعت صوتا عميقا يهمس في أذني قائلا: ارجع، ارجع من حيث أتيت. انزل إلى الزورق وعد إلى شواطئ بلادك قبل أن تبحر السفينة.
وأبحرت السفينة وأنا على ظهرها أشبه شيء بعصفور بين مخالب باشق يسبح محلقا في الخلاء. ولما جاء المساء وقد انحجبت قمم لبنان وراء ضباب البحر، رأيتني واقفا وحدي على مقدمة السفينة وفتاة أحلامي - المرأة التي أحبها قلبي، المرأة التي رافقت شبابي - لم تكن معي. الصبية العذبة التي كنت أرى وجهها كلما حدقت إلى الفضاء، وأسمع صوتها كلما أصغيت إلى السكينة، وألمس يدها كلما مددت يدي إلى الأمام، لم تكن على ظهر تلك السفينة. لأول مرة، ولأول مرة وجدتني واقفا وحدي أمام الليل والبحر والفضاء.
وبقيت على هذه الحالة أنتقل من مكان إلى مكان مناديا رفيقتي في قلبي، ناظرا إلى الأمواج المتقلبة لعلي أرى وجهها في بياض الزبد.
وعندما انتصف الليل وقد التجأ ركاب السفينة إلى مراقدهم وبقيت أنا وحدي هائما ضائعا مضطربا، التفت بغتة فرأيتها واقفة في الضباب على بعد بضع خطوات فانتفضت مرتعشا ومددت يدي إليها هاتفا: لم تركتني؟ ... لم تركتني في وحدتي؟ إلى أين ذهبت؟ أين كنت يا رفيقتي؟ اقتربي، اقتربي مني ولا تتركيني بعد الآن.
فلم تدن مني، بل ظلت جامدة في مكانها ثم بدت على وجهها سيماء توجع ولهفة ما رأيت أهول منهما في حياتي، وبصوت خافت ضئيل قالت: جئت من أعماق اللجة لأراك لمحة واحدة. وها أنا راجعة إلى أعماق اللجة. ادخل مخدعك وارقد واحلم.
قالت هذه الكلمات وامتزجت بالضباب واضمحلت. فطفقت أناديها بلجاجة الطفل الجائع وأبسط ذراعي إلى كل ناحية فلا أقبض إلا على الهواء المثقل بندى الليل.
دخلت مخدعي وفي روحي عناصر تتقلب وتتصارع وتهبط وتتصاعد، فكنت في جوف تلك السفينة سفينة أخرى في بحر من اليأس والالتباس. وللغرابة أنني لم ألق رأسي على وسائد مضجعي حتى أحسست بثقل في أجفاني وبتخدر في جسدي فنمت نوما عميقا حتى الصباح. ولقد رأيت في نومي حلما. رأيت رفيقتي مصلوبة على شجرة تفاح مزهرة وقطرات الدماء تسيل من كفيها وقدميها على غصني الشجرة وعمدها ثم تنسكب على الأعشاب وتمتزج بأزهار الشجرة المنثورة.
وظلت السفينة تسعى الأيام والليالي بين اللجتين وأنا على ظهرها لا أدري ما إذا كنت بشرا مسافرا إلى بلد بعيد بمهمة بشرية أم شبحا تائها في فضاء خال إلا من الضباب، فلم أشعر بقرب رفيقتي ولم ألمح وجهها في اليقظة أو في المنام، وباطلا كنت أنادي مصليا مبتهلا للقوى الخفية لتسمعني من مقاطع صوتها، أو لتريني ظلا من ظلالها أو تجعلني أشعر بملامس أصابعها على جبهتي.
ومر أربعة عشر يوما وأنا في هذه الحالة. وعند ظهيرة اليوم الخامس عشر ظهرت عن بعد شواطئ إيطاليا، وفي مساء ذلك النهار دخلت السفينة ميناء البندقية وجاء قوم بزوارق مطلية بألوان ورسوم بهجة لينقلوا الركاب وأمتعتهم إلى المدينة.
أنتم تعلمون، يا رفاقي، أن البندقية قائمة على عشرات من الجزر الصغيرة المتقاربة، فشوارعها ترع ومنازلها وقصورها مبنية في الماء، والزوارق هناك تقوم مقام المركبات.
Bilinmeyen sayfa
فلما نزلت من السفينة إلى الزورق سألني النوتي قائلا: إلى أين يريد سيدي أن يذهب؟
فلما ذكرت اسم محافظ المدينة نظر إلي باهتمام واحترام وأخذ يضرب الماء بمقذافه.
سار بي الزورق وكان قد جاء الليل وألقى رداءه على المدينة، فظهرت الأنوار في نوافذ القصور والمعابد والمعاهد فانعكست أشعتها في الماء متلألئة مرتعشة، فبانت البندقية كحلم شاعر يفتنه الغريب من المشاهد والوهمي من الأماكن. ولم يبلغ بي الزورق إلى منعطف أول ترعة حتى سمعت رنين أجراس لا عداد لها تملأ الفضاء بأنات محزنة متقطعة مخيفة. ومع أنني كنت في غيبوبة نفسية تفصلني عن كل المظاهر الخارجية، فقد كانت تلك الطنات النحاسية تخترق لوح صدري كالمسامير.
ووقف الزورق بجانب سلم حجري تتصاعد درجاته من الماء إلى الرصيف، فالتفت البحري إلي وأشار بيده نحو قصر قائم في وسط حديقة وقال: هذا هو المكان. فصعدت من الزورق وسرت مبطئا نحو المنزل والبحري يتبعني حاملا حقيبتي على كتفه، حتى إذا ما بلغت باب المنزل ناولته أجرته وصرفته، ثم طرقت الباب ففتح لي، وإذا أنا أمام رهط من الخدم مطأطئي الرؤوس وهم يبكون وينوحون ويتأوهون بأصوات منخفضة، فاستغربت هذا المشهد واحترت بأمري.
وبعد هنيهة تقدم مني خادم كهل ونظر إلي من وراء أجفان مقروحة وسألني متنهدا: ماذا يريد سيدي؟ فقلت: أليس هذا منزل محافظ المدينة؟ فحنى رأسه إيجابا.
فأخرجت، إذ ذاك الرسالة التي أصحبني بها حاكم لبنان وناولته إياها، فنظر في عنوانها صامتا ثم راح متماهلا نحو باب في مؤخر ذلك الدهليز.
جرى كل ذلك وأنا بدون فكر ولا إرادة. ثم دنوت من خادمة صبية وسألتها عن سبب حزنهم ونواحهم فأجابت متوجعة: عجبا، ألم تسمع أن ابنة المحافظ قد ماتت اليوم؟
ولم تزد على هذه الكلمات، بل غمرت وجهها بكفها واستسلمت إلى البكاء.
تأملوا، يا رفاقي، حالة رجل قطع البحار وهو كفكرة سديمية ملتبسة أضاعها جبار من جبابرة الفضاء بين الأمواج المزبدة والضباب الرمادي. صوروا لنفوسكم حالة فتى سار أسبوعين بين عويل اليأس وصراخ اللجة، ولما بلغ نهاية الطريق وجد نفسه واقفا في باب منزل تتمشى في جنباته أشباح التفجع وتملأ قرانيه أنات اللوعة. صوروا لنفوسكم، يا رفاقي، رجلا غريبا يطلب الضيافة في قصر تخيم عليه أجنحة الموت.
وعاد الخادم الذي حمل الرسالة إلى سيده وانحنى قائلا: تفضل يا سيدي فالمحافظ ينتظرك.
Bilinmeyen sayfa
قال هذا ومشى أمامي فاتبعته حتى إذا ما بلغنا بابا في نهاية الممشى أومأ إلي أن أدخل، فدخلت قاعة واسعة عالية السقف منارة بالشموع وقد جلس فيها بعض الوجهاء والكهان وكلهم في سكوت عميق. فلم أكد أخطو بضع خطوات حتى قام من صدر القاعة شيخ ذو لحية بيضاء وقد حنت ظهره الأشجان وثلمت وجهه الأوجاع وتقدم نحوي وأخذ بيدي قائلا: يعز علي أن تأتي من بلاد بعيدة وتجدنا مصابين بأحب من لدينا. ولكني أرجو أن لا يكون مصابنا حائلا دون إتمام الغرض الذي جئتنا من أجله، فكن مطمئن البال يا ولدي.
فشكرت له عطفه مظهرا أسفي لمصابه ببعض الألفاظ المشوشة.
وقادني الشيخ إلى كرسي بجانب مقعده فجلست صامتا مع الجلاس الصامتين أنظر خلسة إلى وجوههم الكئيبة، وأسمع تأوههم فتتولد في صدري كتلات من الضيم واللهفة. وبعد ساعة انصرف القوم الواحد تلو الآخر، ولم يبق سواي مع الوالد الحزين في تلك القاعة الخرساء، فوقفت إذ ذاك وتقدمت إليه قائلا: اسمح لي يا سيدي بالانصراف. فقال ممانعا: لا، يا صديقي، لا تذهب؛ كن ضيفنا إن كان بإمكانك احتمال النظر إلى كآبتنا واستماع أنة لوعتنا. فأخجلني كلامه وحنيت رأسي امتثالا. ثم عاد وقال: أنتم اللبنانيين أبر الناس بالضيف؛ فهلا بقيت عندنا لنريك ولو قليلا مما يلقاه الغريب في بلادكم!
وبعد هنيهة قرع الشيخ المنكوب جرسا فضيا فدخل علينا حاجب بملابس مزركشة مقصبة، فقال له الشيخ مشيرا إلي: سر بضيفنا إلى الغرفة الشرقية، وانظر بشأن مأكله ومشربه، وتول بنفسك شؤونه، وكن ساهرا على راحته.
فقادني الحاجب إلى غرفة رحبة بديعة الهندسة، فخمة الرياش تغشي جدرانها الرسوم والمنسوجات الحريرية، في وسطها سرير نفيس مغطى باللحف والمساند المطرزة.
تركني الحاجب فارتميت على مقعد أفكر بنفسي ومحيطي وبغربتي ووحدتي ومآتي أول ساعة صرفتها في بلاد قصية عن بلادي.
وعاد الحاجب يحمل طبقا عليه الطعام والشراب ووضعه أمامي فأكلت قليلا، ولكن بدون رغبة ثم صرفت الحاجب.
ومرت ساعتان وأنا أتمشى تارة في تلك الغرفة وطورا أقف في جوانب إحدى نوافذها محدقا إلى الفضاء مصغيا إلى أصوات البحارة، وخفق مقاذيفهم في الماء حتى إذا ما نهكني السهر وتضعضعت فكرتي بين مظاهر الحياة وخفاياها، ارتميت على السرير مستسلما إلى غيبوبة تتآلف فيها سكرة الهجوع وصحو اليقظة ويتقلب فيها التذكار والنسيان مثلما يتناوب الشواطئ مد البحر وجزره، فكنت كساحة حرب صامتة تتناضل فيها فيالق صامتة ويجندل الموت فرسانها فيقضون صامتين.
لا، لا أدري، يا رفاقي، كم ساعة صرفت أنا في هذه الحالة. إن في الحياة فسحات تجتازها أرواحنا، ولكننا لا نستطيع أن نقيسها بالمقاييس الزمنية التي ابتدعتها فكرة الإنسان.
لا، لا أعرف كم ساعة بقيت في هذه الحالة. كل ما عرفته إذ ذاك وكل ما أعرفه الآن هو أنني بينما كنت في تلك الحالة الملتبسة شعرت بكيان حي واقف بقرب سريري، شعرت بقوة ترتعش في فضاء الغرفة، شعرت بذات أثيرية تناديني ولكن بدون صوت، وتستفزني ولكن بدون إشارة، فنهضت على قدمي وخرجت من الغرفة إلى الدهليز مدفوعا مأمورا مجذوبا بعامل قاهر ضابط كلي. سرت ولكن بغير إرادتي. سرت كمن يسير وهو نائم، سرت في عالم مجرد عما نحسبه زمنا ومسافة، حتى إذا ما بلغت نهاية الدهليز دخلت قاعة كبرى في وسطها نعش تنيره كوكبتان من الشموع وتحيط به الأزهار. فتقدمت وركعت بجانبه ونظرت، نظرت فرأيت وجه رفيقتي، رأيت وجه رفيقة أحلامي وراء نقاب الموت، رأيت المرأة التي أحببتها حبا فوق الحب. رأيتها جثة هامدة بيضاء بأثواب بيضاء بين أزهار بيضاء تخيم عليها سكينة الدهور ورهبة الأزل.
Bilinmeyen sayfa