ما أشبه سؤالاتك هذه بسؤالات القضاة والمتشرعين.
أفتظن أنك تستطيع إدراك الجواهر باستفسارك الأعراض، أو معرفة طعم الخمرة بمجرد النظر إلى خارج الجرة؟
نجيب :
بين الأرواح وأجسادها رابطة، وبين الأجساد ومحيطها علاقة. ولما كنت لا أعتقد بالصدف، أرى أن النظر في تلك الروابط وتلك العلاقات لا يخلو من الفائدة.
زين العابدين :
أعجبتني، أعجبتني. يلوح لي أنك على شيء من العلم. إذا، فاسمع. لا أعرف شيئا عن والدة آمنة العلوية سوى أنها ماتت وهي تتمخض بابنتها. أما والدها الشيخ عبد الغني الضرير المشهور بالعلوي، فقد كان إمام زمانه في العلوم الباطنية والتصوف. وقد كان، رحمه الله، ولوعا بابنته إلى درجة قصوى، فهذبها وثقفها وسكب في روحها كل ما في روحه. ولما بلغت أشدها، أدرك أن العلوم التي أخذتها عنه لم تكن من العلم الذي أنزل عليها إلا بمقام الزبد من البحر، فصار يقول عنها: لقد انبثق من ظلمتي نور أستضيء به.
ولما بلغت الخامسة والعشرين، خرج بها لأداء فريضة الحج، ولما قطعا بادية الشام وأصبحا على بعد ثلاث مراحل من المدينة المنورة بلي الضرير بالحمى وتوفي، فدفنته ابنته في لحف جبل هناك وجلست على قبره سبع ليال تناجي روحه، وتستكشفها أسرار الغيب وتستعلم منها عما وراء الحجاب.
وفي الليلة السابعة أوحت إليها روح والدها أن تطلق راحلتها، وتحمل زادها على عاتقها وتسير من ذلك المكان إلى الجنوب الشرقي، ففعلت. (يسكت دقيقة ويحدق إلى الأفق البعيد ثم يعود إلى الكلام):
وظلت آمنة العلوية سائرة في البادية حتى وصلت إلى «الربع الخالي» وهو قلب الجزيرة الذي لم تخترقه قافلة ولم يصل إليه سوى أفراد قليلين منذ بدء الإسلام إلى يومنا هذا. أما الحجاج فظنوا أنها تاهت في تلك القفار وقضت جوعا، ولما عادوا إلى دمشق أخبروا الناس بذلك، فحزن عليها وعلى أبيها من عرف فضلهما ثم التحف ذكرهما النسيان كأنهما ما كانا ...
وبعد خمسة أعوام ظهرت آمنة العلوية في الموصل، وكان ظهورها بما هي عليه من الجمال والهيبة والعلم والصلاح، أشبه شيء بهبوط نيزك من الفضاء. فقد كانت تسير بين الناس مسفرة وتقف بحلقات العلماء والأئمة متكلمة عن الأمور الربانية، وتصف لهم مشاهد إرم ذات العماد بفصاحة ما سمع القوم بمثلها.
Bilinmeyen sayfa