ترك الشاب مرعاه، واستعانت الفتاة براع يرعى لها الغنم ويعلمها رعايته، وكان الراعي يعلم ما بين الشاب والفتاة من عناد، ويعلم كذلك بطبائع الإنسان والغنم على السواء؛ قال لها ذات يوم في خبث وهو يشير لها إلى غنمة تترك صغارها لتجري وراء كبشها: هذه طبيعة الغنم، وطبيعة الناس! فالمرأة طبيعتها أن تنسل إلى حضن الرجل ولا تستريح بالا إلا وهي تحت جناحه، إنها تفعل ذلك لكنها إذا قيل لها هذا الحق غضبت وثارت لكرامتها، كأنما تكره أن يذكرها أحد بطبيعتها ...
وثارت عاصفة هوجاء، وضاع كثير من غنم المرعى، وجاء من الجبل فهد مفترس، واشتدت الأزمة ووقعت الفتاة في حيص بيص لا تدري ماذا تصنع والكوارث آتية على مرعاها من كل ناحية ... وهنا جاء الشاب الخاطب مارا في طريقه مصادفة ودفعته النخوة أن ينقذ الأمور، وأحست الفتاة في وجوده أمنا وطمأنينة، فذابت بين ذراعيه وهي تقول: لك أن تشرف على المرعى كما كنت تشرف، وأن تدخلني في رحابك، وتضعني تحت سطوتك وسلطانك، واعتبرني منذ اليوم غنمة من الغنم!
قلت لنفسي: إن كاتب هذه القصة أمريكي، والفتاة التي يحللها أمريكية، وإذا فالأمريكي كالمصري، كأي إنسان في الدنيا، من طبيعته أن ينتشي لطاعة المرأة، والأمريكية كالمصرية، كأية امرأة في الدنيا، من طبيعتها أن تذل للرجل وتخضع، ولذلك كله حدود يمكن معرفتها بالإدراك السليم؛ فمجاوزتها طغيان والانتقاص منها غباء وحمق.
الجمعة 18 ديسمبر
رغب الطلبة اليوم في أن أحدثهم عن مصر بدل أن أحاضرهم في الدرس؛ فاليوم هو آخر الأيام قبل إجازة عيد الميلاد؛ فحدثتهم عن مدى الخطأ الذي يخطئونه في فكرتهم عنا، ومصدر الخطأ خيانة كتابهم ومخرجي الأفلام السينمائية؛ فهؤلاء جميعا يهمهم أن يصورونا في صورة غريبة أكثر مما يهمهم أن يصفوا الحق والواقع؛ فالفكرة العامة عند الأمريكيين هي أننا حفنة من العرب نغوص في الجهل والشهوة؛ قلت لهم: ها أنا ذا أمامكم، فهل رأيتموني أتكلم أو أفكر أو أسلك على صورة تدل على أنني إنسان أقل من متوسط الناس عندكم؟ فأنا هو مصر، لست في بلدي إلا واحدا من أوساط الناس، أنا في عالم الثقافة والتفكير في بلدي من غمار الأوساط؛ فقد يسأل سائل منكم عشرة آلاف مصري يختارهم عفوا من المثقفين في مصر: هل تعرفون فلانا؟ وسيجد إجابتهم: من فلان هذا؟ ...
الحق أني قد تركت فيهم أثرا أعتقد أنه لن يمحى من أذهانهم؛ قال لي أحدهم، وهو طالب حاصل على درجة الجامعة وعلى درجة الأستاذية ويحضر رسالته للدكتوراه، وهو غاية في النضوج العقلي: أقول لك مخلصا إنني قبل أن أراك لم أكن أتصور «العربي» إلا إنسانا أقرب إلى الهمجية في ثيابه الواسعة ولحيته الكثة وجهله المطبق، وأظن أن مجرد وجودك بيننا تحاضرنا وتتحدث إلينا قد بدد هذه الخرافة، لا أقول عندي وحدي بل في الجامعة كلها، كلهم يقولون عنك ذلك ... وقال طالب آخر: لا بد أن تفكروا في وسيلة تنشرون بها حقيقة شعبكم، إن رجلا مثلك يستطيع أن يوسع من صلاته في أمريكا وقتا ما، وذلك وحده عامل قوي في ذاته ...
كنت أتعشى الليلة في المطعم المألوف، وحدث ما لم يحدث إلا نادرا، وهو أن جلس زوجان معي على مائدة واحدة، هما صغيران، فلا أحسبهما يزيدان على العشرين، وعليهما علامات السذاجة، كأنما جاءا إلى كولمبيا من الريف؛ أوشك الشاب أن يبدأ طعامه، فرفع الشوكة والسكين، فابتسمت له الزوجة قائلة: ألا تنوي الصلاة يا عسل؟ فترك الشاب سكينه وشوكته وطأطأ الرأس، وطأطأت الزوجة رأسها، وتوجها بالدعاء إلى الله أن يبارك لهما في طعامهما، وأن يجعل لهما الرزق موصولا.
الفصل الثاني
في واشنطن
السبت 19 ديسمبر
Bilinmeyen sayfa