قامت الطائرة التي تقلني إلى واشنطن لقضاء عطلة عيد الميلاد في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحا؛ وكان يجلس أمامي في الطائرة زوجان صغيران في السن؛ فالزوج لا يزيد أبدا عن العشرين، ولا يمكن أن تزيد الزوجة عن الثامنة عشرة، ولم يكونا يستطيعان الصبر على عدم التقبيل فترة طويلة؛ وإني لأرجح أنهما عروسان في طريقهما إلى مكان يقضيان فيه شهر العسل ... كانا يميلان أحدهما على الآخر، فيتلاصق الخدان أو يتساند الرأسان، ثم يهوي الشاب على زوجته الطفلة تقبيلا في عنقها وذراعها وخدها وشفتها؛ وتنتظر هي قليلا ثم ترد له التقبيل تقبيلا مثله ... هكذا قطعا الطريق إلى واشنطن، فأخذتني والله حسرة شديدة على مصر؛ فهذه علامات لا أستهين بها في التدليل على ما في المجتمع من صحة نفسية؛ لماذا يا ربي لا يجوز هذا في مصر؟ أنا لا أريد أن يكون هذا بين العاشقين، بل أريده بين الزوجين ... من ذا الذي ابتلانا بهذه الصرامة الظاهرية التي حطمت أعصابنا وخربت عقولنا وأتلفت تفكيرنا، وجعلت عيشنا كله سلسلة من تحريمات؛ تحريم إثر تحريم؟
كانت الشمس غاية في الإشراق واللمعان، وكان الجو غاية في الصفاء، وغاية في البرودة إلا في الأماكن المغلقة طبعا؛ لأن كل مكان هنا فيه تدفئة ...
وأعود إلى الزوجين الشابين فألاحظ أنهما من ذوي المناظير، وكنت آسف لهما حين يدنوان بوجهيهما للتقبيل فيصطك منظار بمنظار؛ إن لبس المنظار يهدم جزءا كبيرا من حلاوة الغزل بالعين، وينقص من لذة التقبيل؛ وإني لأحسدكم يا من سلمت عيونكم فلا تلبسون المناظير، أحسدكم على أن أعينكم تتلاقى كما أراد لها الله أن تتلاقى بغير حواجز من زجاج.
وصلت إلى واشنطن في الساعة الواحدة، ولم أكد أقذف بحقيبتي في غرفتي بالفندق حتى خرجت كالنهم يريد أن يرى كل شيء في لحظة واحدة! ... نظرت إلى خريطة المدينة وصممت لنفسي طريقا أسير فيه؛ فأنا في المدن التي أزورها لا أركب بل أسير على قدمي ساعات وساعات لأرى كل شيء أستطيع رؤيته.
مررت بالبيت الأبيض لأنه مجاور للفندق، وعبرت الميدان الواسع ... فالسعة في الشوارع والميادين قد بلغت حدا يتحدى المشاة! ... عبرت الميدان الواسع الواقع أمام البيت الأبيض قاصدا إلى النصب التذكاري لواشنطن، وهو على شكل مسلة كبيرة عالية، تصعد إلى قمتها من داخلها بمصعد أو بسلم؛ وصعدت بالمصعد إلى قمة المسلة، وفي المصعد مذياع يدير شريطا مسجلا يستغرق الزمن الذي نقطع فيه المسافة إلى القمة، ويحكي للزائرين عن هذا النصب التذكاري بعض تفصيلات؛ ومن قمة المسلة أشرفت على واشنطن في هذا الجو الرائق المشرق ...
وقصدت بعد ذلك إلى متحف التاريخ الطبيعي الذي يبهر العين بناء ومحتوى، ولست أنوي كتابة تفصيلات ما رأيته هناك، وحسبي أن أذكر قاعة وقفت عند معروضاتها الفنية مسحورا مفتونا؛ قاعة كتب عليها اسم «هربرت وورد» وهو نحات (1863-1919م)، وفي هذه القاعة عرضت بعض التماثيل التي نحتها الفنان ليمثل بها بعض جوانب الحياة في القبائل البدائية؛ فسبحان من أنطق الحجر تحت إزميل هذا الفنان العجيب! تمثال «شيخ القبيلة» جالسا القرفصاء وحربته في يده، وتمثال «حاملة الحطب» لامرأة تحمل على كتفها حزمة من حطب، وتمثال «الهاربون» وهو رجل حمل طفليه وراح يعدو فزعا، وتمثال «الساحر»، وتمثال «الحزين» وهو رجل وقف مطأطئ الرأس مسندا إياه على زنديه، وتمثال «أفريقيا النائمة»: زنجية مستلقية في استرخاء، وتمثال «واضع الخطة»: رجل جلس القرفصاء، وراح يخطط الأرض بإصبعه ...
الأحد 20 ديسمبر
أخذت أتصفح في الصباح جريدة «واشنطن بوست»، وجدتها على نفس النظام والتقسيم الذي وجدت عليه الجرائد المحلية في كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالجريدة ذات عشرة أجزاء، كل جزء منها يساوي حجم «الأهرام» عندنا حين تكون في أكبر حالاتها: قسم عام للحوادث السياسية، وقسم للسيدات، وآخر للألعاب، وآخر للفنون والآداب، وآخر للأطفال، وآخر للأسواق التجارية، وآخر لوسائل التسلية من إذاعة وسينما ومسرح ... إلخ إلخ.
وهذا موضوع يحسن عنده أن أذكر حقيقة عن المقالة الصحفية هنا كيف تتولى توزيعها شركات صحفية خاصة؛ وكنت قد قرأت عنها في مصر لكني لم أفهمها فهما جيدا إلا هنا ... فهنالك شركات تشتري من الكاتب الصحفي مقالته، فلا تكون العلاقة بين الكاتب والصحيفة علاقة مباشرة، بل يكون بينهما هذه الشركة تجمع مقالات الكتاب وتوزعها على الصحف في شتى أنحاء البلاد، وبهذا يتاح للمقالة الواحدة أن تنشر في وقت واحد في ثلاثين أو أربعين صحيفة في شتى الجهات؛ وهنالك تنظيم للتوزيع من شأنه ألا تنشر المقالة الواحدة في جريدتين تصدران في بلد واحد؛ وبهذا يمكن للجرائد المحلية أن تنشر مقالات أكبر الكتاب في نفس اليوم الذي تصدر فيه المقالة في صحف واشنطن ونيويورك؛ لأن ثمن المقالة بالنسبة للجريدة يكون عندئذ أقل جدا مما كانت تدفعه لو كتب لها الكاتب وحدها، وفي الوقت نفسه يكون أجر الكاتب عن المقالة الواحدة مبلغا جسيما؛ لأنه حين يبيعه لشركة النشر فإنما يبيعه لينشر في عشرات الصحف مرة واحدة.
هل يمكن قيام نظام كهذا في مصر؟ فيكتب الكاتب مقالة لتنشر في كل جرائد الأقاليم، وبهذا ترتفع جرائد الأقاليم من جهة، ويزداد إيراد الكاتب من جهة أخرى؟ ... إنك تسأل هذا السؤال فسرعان ما يأتيك الجوانب، وهو أن ذلك مستحيل عندنا الآن، لسبب بسيط وهو ألا قراءة ولا قراء؛ وبالتالي ليس هناك في الأقاليم صحف تذكر، وبضع جرائد قليلة تصدر في القاهرة كافية أن تغطي حاجات القطر كله! ... ربما نجح المشروع لو فكرنا فيه على أساس اتخاذ البلاد العربية كلها وحدة صحفية.
Bilinmeyen sayfa