وحينما توسطت ردهة الفندق هتفت بي فتاته: المطر غزير يا سنيور! قلت: هذا جميل يا آنسة. ولم يكن ردي مبنيا على المغامرة أو عدم الاكتراث ففي سواحل مصر الشمالية ألفت منذ حداثتي المطر المنهمر، والبحر المضطرب، والسماء الغائمة، والنوء العاصف، والبرق اللامع، وهذا سر الملاح التائه الذي عرفه ركاب السفينة المتأرجحة في يد العاصفة وهم يعجبون من هذا الفتى الأسمر الذي يقتحم غرفة المائدة ليملأ معدته بالطعام بينما هم مستلقون على ظهورهم من دوار البحر أو ممسكون بمعداتهم الخاوية من الألم والاضطراب.
وابتسمت الفتاة قائلة لي برطانتها الإنجليزية: إلى أين؟ قلت: إلى ميدان «سان ماركو». فأومأت بيدها اللطيفة إلى جسر صغير، واندفعت حيث أشارت، وما كدت أرفع رأسي حتى وجدتني حيال مشهد، إن أنس فلن أنساه ما حييت، وقفت حيث أن وسمر ناظراي فيما حولي ومرت لحظات كأنها نهزات وحي هامر أو إلهام غامر، وأخذت عيناي تنبيان المرائي وتتثبتان مما تريان تحت أضواء العواكس الكهربائية والثريات المعلقة، بنظام هندسي فريد في أرجاء المكان ... هذا ميدان «سان ماركو»! أي روعة؟ أي فتنة؟ إن الألفاظ عاجزة عن تصوير ما أرى، وأجد نفسي مفعمة بما لا طاقة لي على الإبانة عنه أو وصفه؛ غاص بصري في هذا الجمع الحاشد وكأن يوما من أيام ڤنيسيا القديمة قد عادها هذا المساء، وكأن هذا الحشد في انتظار الدوج العظيم، مرتقبا طلوعه من شرفة القصر الخالد، كل العيون متجهة حيث الكنيسة وحيث القصر وحيث البناء التاريخي العجيب الذي يحيط بالميدان إحاطة السوار بالمعصم، وقد نهض برج الساعة في ركن الميدان سامقا كأنه عملاق من عمالقة الأساطير أو كأنه «جلڤر» لفظ أنفاسه حيث هو دون أن يشعر به الناس!!
تحركت قدماي، ونزلت الميدان، عن يميني وعن شمالي موائد مصفوفة، ومقاعد مبثوثة، غاصة بالجالسين، مزدحمة بالوافدين من شعب المدينة، ومن حولهم جمهور سائر لا ينقطع كأنه سلسلة متصلة الحلقات تلف على دولاب دائر؛ وفي وسط الميدان نهضت منصة الموسيقى برجالها تحت الأضواء الباهرة، وقد وقف الرجال بأردية السهرة السوداء وفي أيديهم آلات العزف والنفخ والنقر.
واشرأبت الأعناق، ودارت العيون، ووقف السائرون في أماكنهم، وأمسكت كل شفة عن همسها، وارتفعت يد «المايسترو» فبدأ اللحن هادئا ثم تعالى رويدا، ثم انفجر كأنه عين ثرة دافقة، ثم ماجت الألحان فكانت مزاجا أخاذا يثير الشجو ويهز القلب ويفعم النفس، وانتهت الموسيقى من عزفها وارتج الميدان بالتصفيق وهتاف التقدير والاستحسان، وانطلق غلمان ألحان مطوفين بالموائد حتى بدأت الموسيقى لحنها الثاني فلم يكن ثمة من سعادة يحلم بها إنسان أكثر من هذه الليلة، كان مطر، ولكن ماذا يفعل المطر بهذه النفوس المتعطشة إلى فيض هذا الفن العالي؟ وما بلل الثياب وارتعاش الأجسام حيال هذا السحر الدافع؟ إذ تسبح النفوس وتنهل القلوب وتتكلم العيون وتتدانى الرءوس الحانية وتتشابك الأيدي المحبة كأنما تجدد ميثاقها لسطان الحب القاهر على هيكل الفن الساحر!
واشتد المطر فحال دون العزف، وجمع الرجال أوراقهم وغادروا المكان ونهض الناس، ونهضت بينهم أتملى بناء المكتبة، وبينا أغادر المكان مر بي رجل تترفق ساعده سيدة صغيرة غريرة كأنها حمامة مقدسة من حمام هذا الميدان ولكنها ذات ريش أبيض ... وأخذ الرجل يناقش السيدة وهي تعارضه وتتحداه، فهمت هذا من حركاتهما قبل أن أفهمه من لغتهما، ونظر الرجل إلي فوجدني إزاءه فرفع يده مرات بالتحية هاشا، فأحنيت رأسي محييا باسما، ولم يترك لي فرصة حتى أقبل علي قائلا: هل للسيد أن يدلني على ريالتو؟ قلت: ما هذه الريالتو؟ وكانت إيطالية الرجل سقيمة حتى لا يكاد يبين، فتدخلت السيدة وتكلمت بالإنجليزية وبطلاقة: هو يسأل عن «پونت دي ريالتو» قلت: المعذرة يا سيدتي، إني غريب هنا، حضرت الليلة ولما يمض علي في هذه المدينة ساعتان. فافتر ثغرها، وأدرك الرجل معنى ما أقول فسألني: ألدى السيد مانع من صحبتنا فنحن غريبان أيضا؟ ثم استطرد في سؤاله: أأنت هنا وحدك؟
قلت: نعم.
قال: وأين زوجتك؟
قلت: لا زوج لي.
فتعجب الرجل وكأنما كان جوابي باعثا على استثارة دهشته.
قلت: هل في الأمر غرابة؟
Bilinmeyen sayfa