منذ تلك الدقيقة تمازجت عواطف خليل بعواطف مريم وصارت نفساهما شعلة واحدة متقدة ينبعث منها النور وتتضوع حولها البخور.
5
منذ ابتداء الدهر إلى أيامنا هذه والفئة المتمسكة بالشرف الموروث تتحالف وتتفق مع الكهان ورؤساء الأديان على الشعب، هي علة مزمنة قابضة بأظافرها على عنق الجامعة البشرية ولن تزول إلا بزوال الغباوة من هذا العالم عندما يصير عقل كل رجل ملكا ويصبح قلب كل امرأة كاهنا.
ابن الشرف الموروث يبني قصره من أجساد الفقراء الضعفاء، والكاهن يقيم الهيكل على قبور المؤمنين المستسلمين، الأمير يقبض على ذراعي الفلاح المسكين والكاهن يمد يده إلى جيبه ، الحاكم ينظر إلى أبناء الحقول عابسا والمطران يلتف نحوهم مبتسما، وبين عبوسة النمر وابتسامة الذئب يفنى القطيع، الحاكم يدعي تمثيل الشريعة والكاهن يدعي تمثيل الدين وبين الاثنين تفنى الأجساد وتضمحل الأرواح.
وفي لبنان - ذلك الجبل الغني بنور الشمس الفقير إلى نور المعرفة - قد اتحد الشريف والكاهن على الفقير الضعيف الذي يحرث الأرض ويستغلها كيما يحمي جسده من سيف الأول ولعنة الثاني.
ابن الشرف الموروث يقف في لبنان بجانب قصره ويصرخ باللبنانين قائلا: «قد أقامني السلطان وليا على أجسادكم.» والكاهن ينتصب أمام المذبح هاتفا: «قد أقامني الله وصيا على أرواحكم.» أما اللبنانيون فيظلون صامتين لأن القلوب المغلغلة بالتراب لا تنكسر؛ لأن الأموات لا يبكون.
فالشيخ عباس الذي كان في تلك القرية وليا وحاكما وأميرا كان محبا لرهبان الدير، محافظا على تعاليمهم وتقاليدهم؛ لأنهم كانوا يشاركونه بقتل المعرفة وإحياء الطاعة في نفوس حارثي حقوله وكرومه.
ففي ذلك المساء - بينما كان خليل ومريم يقتربان من عرش الحب وراحيل تنظر إليهما بانعطاف مستطلعة خفايا نفسيهما - ذهب الخوري إلياس كاهن القرية وأخبر الشيخ عباس بأن الرهبان الأتقياء قد طردوا من الدير فتى متمردا شريرا وأن هذا الملحد الكافر قد جاء القرية منذ أسبوعين، وهو الآن ساكن في بيت راحيل أرملة سمعان الرامي.
ولم يكتف الخوري إلياس بإبلاغ الشيخ هذا الخبر بل زاد قائلا: «إن الشيطان الذي يطرد من الدير لا ينقلب ملاكا في هذه القرية، والتينة التي يقطعها رب الحقل ويلقيها في النار لا تعطي أثمارا جيدة وهي في الموقد، فإن كنا نريد أن تبقى هذه القرية سالمة من جراثيم العلل الخبيثة فعلينا أن نطرد هذا الشاب من منازلنا وحقولنا مثلما طرده الرهبان من الدير.»
فسأله الشيخ عباس قائلا: «وكيف عرفت بأن هذا الشاب سيكون في هذه القرية كالعلة الخبيثة؟ أليس أفضل أن نبقيه عندنا ونجعله ناطورا للكروم أو راعيا للبقر؟ نحن بحاجة ماسة إلى العمال فإذا ما جلبت لنا الطريق فتى قوي الساعدين نسترضيه ولا نتركه.»
Bilinmeyen sayfa