إهداء
السيدة وردة
وردة الهاني
صراخ القبور
مضجع العروس1
خليل الكافر
إهداء
السيدة وردة
وردة الهاني
صراخ القبور
Bilinmeyen sayfa
مضجع العروس1
خليل الكافر
الأرواح المتمردة
الأرواح المتمردة
تأليف
جبران خليل جبران
إهداء
إلى الروح التي عانقت روحي، إلى القلب الذي سكب أسراره في قلبي، إلى اليد التي أوقدت شعلة عواطفي. أرفع هذا الكتاب.
جبران
السيدة وردة
Bilinmeyen sayfa
وردة الهاني
1
ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته، ويهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه، ويضع بين كفيها ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته!
وما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة، فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه ويسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب الامرأة! •••
عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي، وهو رجل لبناني الأصل بيروتي المولد والدار متحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الأمجاد الغابرة، فكان مولعا بسرد الحوادث التي تبين نبالة آبائه وجدوده، متبعا بمعيشته عقائدهم وتقاليدهم منصرفا إلى تقليدهم في العادات والأزياء الغربية المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق.
وكان رشيد بك طيب القلب، كريم الأخلاق لكنه كالكثيرين من سكان سوريا لا ينظر إلى ما وراء الأشياء بل إلى الظاهر منها، ولا يصغي إلى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه، ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحظة الملذات الوقتية، وكان من أولئك الرجال الذين يتسرعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء، ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت عندما تصير الندامة مجلبة للسخرية والاستهزاء بدلا من العفو والغفران.
هذه هي الصفات والأخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة وردة الهاني قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيما. •••
غبت عن بيروت بضعة أعوام، ولما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد، فوجدته ضعيف الجسد مكمد اللون، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان، وتنبعث من عينيه الحزينتين نظرات موجعة تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره، وبعيد أن بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نحوله وانقباضه سألته قائلا: «ما أصابك أيها الرجل؟ وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزيز، أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء؟ قل لي بحق الصداقة ما هذه الكآبة المعانقة نفسك، وهذا النحول المالك جسدك؟»
فنظر إلي نظرة متأسف أرته الذكرى رسوم أيام جميلة ثم حجبتها، وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال: «إذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبر ويتعزى، وإذا خسر الإنسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو، ولكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها؟! وبم يستعيض عنها؟ يمد الموت يده ويصفعك بشدة، فتتوجع ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح، يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بك بأعين مستديرة مخيفة، ويقبض على عنقك بأظافر محددة ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية، ويذهب ضاحكا ثم لا يلبث أن يعود إليك نادما مستغفرا، فينتشلك بأكفه الحريرية، ويغني لك نشيد الأمل، فينزل بك مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل تضمحل أمامك بمجيء الصباح، وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك، ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائرا تحبه وتطعمه حبات قلبك وتسقيه نور أحداقك، وتجعل ضلوعك له قفصا ومهجتك عشا، وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذ به قد فر من بين يديك، وطار حتى حلق السحاب ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل إلى رجوعه، فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل، قل لي ماذا تفعل وأين تجد الصبر والسلوان، وكيف تحيي الآمال والأماني؟»
لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق متوجع، ووقف على أقدامه مرتجفا كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجة على شيء ليمزقه إربا إربا، وقد تصاعد الدم إلى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم، وكبرت عيناه وجمدت أجفانه، وأحدق دقيقة كأنه رأى أمامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء ليميته، ثم نظر إلي وقد تغيرت ملامحه بسرعة وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول إلى التوجع والألم وقال باكيا: «هي المرأة، المرأة التي أنقذتها من عبودية الفقر، وفتحت أمامها خزائني وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة، والحلي الثمينة والمركبات الفخمة، والخيول المطهمة. المرأة التي أحبا قلبي، وسكب على أقدامها عواطفه ومالت إليها نفسى فغمرتها بالمواهب والعطايا. المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ورفيقا مخلصا وزوجا أمينا قد خانتني وغادرتني وذهبت إلى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب. المرأة التي أحببتها، الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي، وأسقيته نور أحداقي وجعلت ضلوعي له قفصا، ومهجتي عشا قد فر من بين يدي وطار إلى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج؛ ليأكل فيه الحسك والديدان، ويشرب من جوانبه السم والعلقم. الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانا مخيفا، وهبط إلى الظلمة ليتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته.»
Bilinmeyen sayfa
وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه ثم تنهد قائلا: «هذا كل ما أقدر أن أقوله، فلا تسألني أكثر من ذلك، ولا تجعل لمصيبتي صوتا صارخا بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني.»
فقمت من مكاني والدموع تراود أجفاني والشفقة تسحق قلبي، ثم ودعته ساكتا لأنني لم أجد في الكلام معنى يعزي قلبه الجريح ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة.
2
بعد أيام التقيت لأول مرة بالسيدة وردة الهاني في بيت حقير محاط بالزهور والأشجار، وكانت قد سمعت لفظ اسمى في منزل رشيد بك نعمان، ذلك الرجل الذي داست قلبه وتركته ميتا بين حوافر الحياة، ولما رأيت عينيها المنيرتين وسمعت نغمة صوتها الرخيمة، قلت في ذاتي: «أتقدر هذه المرأة أن تكون شريرة؟ وهل بإمكان هذا الوجه الشفاف أن يستر نفسا شنيعة وقلبا مجرما؟ أهذه هي الزوجة الخائنة؟ أهذه هي المرأة التي جنيت عليها مرات عديدة بتصورها لفكري كثعبان مخيف مختبئ في جسم طائر بديع الشكل؟» ولكني رجعت وهمست في سري قائلا: «إذا أي شيء ذلك الرجل تعسا إذا لم يكن هذا الوجه الجميل؟ أولم نسمع ونر أن المحاسن الظاهرة كانت سببا لمصائب خفية هائلة وأحزان عميقة أليمة؟ أوليس القمر الذي يسكب في قرائح الشعراء شعاعا هو القمر الذي يهيج سكينة البحار بالمد والجزر.»
جلست وجلست السيدة وردة وكأنها قد سمعتني مفتكرا، فلم ترد أن يطول الصراع بين حيرتي وظنوني، فأسندت رأسها الجميل بيدها البيضاء وبصوت يحاكي نغمة الناي رقة قالت: «لم ألتق بك قبل الآن أيها الرجل، ولكني سمعت صدى أفكارك وأحلامك من أفواه الناس، فعرفتك شفوقا على المرأة المظلومة، رؤوفا بضعفها، خبيرا بعواطفها وميولها؛ من أجل ذلك أريد أن أبسط لك قلبي وأفتح أمامك صدري لترى مخبآته وتخبر الناس إن شئت بأن وردة الهاني لم تكن قط امرأة خائنة شريرة ...
كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قادني القدر إلى رشيد بك نعمان، وكان هو إذ ذاك قريبا من الأربعين فشغف بي، ومال إلي ميلا شريفا كما يقول الناس، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخم بين خدامه الكثيرين، فألبسني الحرير وزين رأسي وعنقي ومعصمي بالجواهر والحجارة الكريمة، وكان يعرضني كتحفة غريبة في منازل أصدقائه ومعارفه، ويبتسم ابتسامة الفوز والانتصار عندما يرى عيون أترابه ناظرة إلي بإعجاب واستحسان، ويرفع رأسه تيها وافتخارا إذ يسمع نساء أصحابه يتكلمن عني بالإطراء والمودة، لكنه لم يكن يسمع قول السائل: «أهذه زوجة رشيد بك أم هي صبية تبناها؟» وقول الآخر: «لو تزوج رشيد بك في زمن الشباب لكان بكره أكبر سنا من وردة الهاني.»
جرى كل ذلك قبل أن تستيقظ حياتي من سبات الحداثة العميق، وقبل أن توقد الآلهة المحبة في قلبي، وقبل أن تنبت بذور العواطف والأميال في صدري، نعم جرى كل ذلك عندما كنت أحسب منتهى السعادة في ثوب جميل يزين قامتي، ومركبة فخمة تجرني ورياش ثمينة تحيط بي، ولكن عندما استيقظت، عندما استيقظت وفتح النور أجفاني، وشعرت بألسنة النار المقدسة تلسع أضلعي وتحرقها، وبالمجاعة الروحية تقبض على نفسي فتوجعها، عندما استيقظت ورأيت أجنحتي تتحرك يمينا وشمالا، وتريد النهوض بي إلى سماء المحبة، ثم ترتجف وترتخي عجزا بجانب سلاسل الشريعة التي قيدت جسدي قبل أن أعرف كنه تلك القيود، ومفاد تلك الشريعة.
عندما استيقظت وشعرت بهذه الأشياء عرفت بأن سعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده، ولا بكرمه وحلمه، بل بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده ويجعلها ويجعله عضوا واحدا من جسم الحياة وكلمة واحدة على شفتي الله، عندما بانت هذه الحقيقة الجارحة لبصيرتي رأيتني في منزل رشيد نعمان مثل لص سارق يأكل خبزه، ثم يستتر بظلام الليل، وعرفت أن كل يوم أصرفه بقربه هو كذبة هائلة يخطها الرياء بأحرف نارية ظاهرة على جبهتي أمام الأرض والسماء؛ لأنني لم أقدر أن أهبه محبة قلبي لقاء كرمه، ولا أن أمنحه انعطاف نفسي ثمنا لإخلاصه وصلاحه، وقد حاولت - وباطلا حاولت - أن أتعلم محبته فلم أتعلم؛ لأن المحبة هي قوة تبتدع قلوبنا، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها، ثم صليت وتضرعت، وباطلا تضرعت وصليت في سكينة الليالي أمام السماء لتولد في أعماقي عاطفة روحية تقربني من الرجل الذي اختارته رفيقا لي، فلم تفعل السماء؛ لأن المحبة تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله لا بطلب من البشر.
وهكذا بقيت عامين كاملين في منزل ذلك الرجل أحسد عصافير الحقل على حريتها، وبنات جنسي يحسدنني على سجني، وكالثكلى الفاقدة وحيدها كنت أندب قلبي الذي ولد بالمعرفة، واعتل بالشريعة، وكان يموت في كل يوم جوعا وعطشا، ففي يوم من تلك الأيام السوداء نظرت من وراء الظلمة ، فرأيت شعاعا لطيفا ينسكب من عيني فتى يسير وحده على سبل الحياة، ويعيش منفردا بين أوراقه وكتبه في هذا البيت الحقير، فأغمضت عيني كي لا أرى ذلك الشعاع وقلت لنفسي: «نصيبك يا نفس ظلمة القبر فلا تطمعي بالنور.» ثم أصغيت فسمعت نغمة علوية تهز جوارحي بعذوبتها، وتمتلك كليتي بطهرها فأغلقت أذني وقلت: «نصيبك يا نفس صراخ الهاوية فلا تطمعي بالأغاني.» ... أغمضت أجفاني كي لا أرى، وأغلقت أذني كي لا أسمع، لكن عيني ظلتا تريان ذلك الشعاع، وهما مطبقتان، وأذني تسمعان تلك النغمة، وهما معلقتان فخفت لأول وهلة خوف فقير وجد جوهرة بقرب قصر الأمير، فلم يجسر أن يلتقطها لخوفه، ولم يقدر أن يتركها لفاقته، وبكيت بكاء ظامئ رأى الينبوع العذب محاطا بكواسر الغاب، فارتمى على الأرض مترقبا جازعا.»
وسكتت السيدة وردة دقيقة وقد أغمضت عينيها الكبيرتين كأن ذلك الماضي قد انتصب أمامها، فلم تجسر أن تحدق بي وجها لوجه، ثم عادت وقالت: «هؤلاء البشر الذين يجيئون من الأبدية ويعودون إليها قبل أن يذوقوا طعم الحياة الحقيقية لا يمكنهم أن يدركوا كنه أوجاع المرأة عندما تقف نفسها بين رجل تحبه بإرادة السماء، ورجل تلتصق به بشريعة الأرض.
Bilinmeyen sayfa
هي مأساة أليمة مكتوبة بدماء الأنثى ودموعها، يقرؤها الرجل ضاحكا؛ لأنه لا يفهمها وإن فهمها انقلب ضحكه فجورا وقساوة، وأنزل على رأس المرأة من غضبه نارا وكبريتا وملأ أذنيها لعنا وتجديفا، هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع كل امرأة تجد جسدها مقيدا بمضجع رجل عرفته زوجا قبل أن تعرف ما هي الزيجة، وترى روحها مرفرفة حول آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة، وبكل ما في المحبة من الطهر والجمال، هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة والقوة في الرجل، ولا ينتهي حتى تنقضي أيام عبودية الضعف للقوة، هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة، وعواطف القلب المقدسة قد طرحت بالأمس في ساحتها وكدت أموت جزعا وأذوب دموعا، لكنني وقفت ونزعت عني جبانة بنات جنسي، وحللت جناحي من ربط الضعف والاستسلام، وطرت في فضاء الحب والحرية وأنا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور، ولا توجد قوة في هذا العالم تستطيع أن تسلبني سعادتي؛ لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب.»
ونظرت إلي السيدة وردة نظرة معنوية كأنها تريد أن تخترق صدري بعينيها؛ لترى تأثير كلامها في عواطفي، وتسمع صدى صوتها من بين ضلوعي، لكنني بقيت صامتا كي لا أوقفها عن الكلام، فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية: «يقول لك الناس إن وردة الهاني امرأة خائنة جحودة قد اتبعت شهوة قلبها، وهجرت الرجل الذي رفعها إليه وجعلها سيدة في منزله.
ويقولون لك: هي زانية عاهرة قد أتلفت بمقابضها القذرة إكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة، واتخذت عوضا عنه إكليلا وسخا محبوكا من أشواك الجحيم، وألقت عن جسدها ثوب الفضيلة وارتدت بلباس الإثم والعار، ويقولون لك أكثر من ذلك لأن أشباح جدودهم مازالت حية في أجسادهم، فهم مثل كهوف الأودية الخالية يرجعون صدى أصوات ولا يفهمون معناها، هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته، ولا يفقهون مفاد الدين الحقيقي، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئا أو بارا، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة إلى ظواهر الأعمال، ولا يرون أسرارها فيقضون بالجهل ويدينون بالعماوة، ويستوي أمامهم المجرم والبريء والصالح والشرير، فويل لمن يقضي وويل لمن يدين، أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان؛ لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تصيرني السماء قرينة له بشريعة الروح والعواطف، وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي، أما الآن فصرت طاهرة نقية؛ لأن ناموس الحب قد حررني، وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس، نعم كنت زانية ومجرمة عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة، واليوم صرت طاهرة وشريفة، وهم يحسبونني عاهرة دنسة؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد ويقيسون الروح بمقاييس المادة .»
والتفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل، وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز كأنها رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط: «انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع، انظر وتأمل جيدا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة، هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب، هي قصور تتشامخ جدرانها تيها وافتخارا نحو العلاء، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض، هي منازل ينظر إليها القروي الفقير بأعين دامعة، ولو علم بأنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئا وعاد إلى حقله مشفقا.»
وأمسكت السيدة وردة بيدي وقادتني إلى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور، وقالت: «تعال فأريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أرض أن أكون مثلهم، انظر إلى ذلك القصر ذي الأعمدة الرخامية والجوانح النحاسية، والنوافذ البلورية ففيه يسكن رجل غني ورث ماله عن والده البخيل، واكتسب أخلاقه من جوانب الأزقة المفعمة بالمفاسد، وقد تزوج منذ عامين بامرأة لم يعرف عنها شيئا سوى أن لوالدها شرفا موروثا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد، ولم ينقض شهر العسل حتى ملها متضجرا، وعاد إلى مسامرة بنات الهوى، وتركها في هذا القصر مثلما يترك السكير جرة خمر فارغة، فبكت وتوجعت لأول وهلة ثم تصبرت وسلت سلو من عرف خطأه، وعلمت بأن دموعها هي أثمن من أن تهرق على خسارة رجل مثل زوجها، وهي الآن مشغولة عن كل شيء بعشق فتى جميل الوجه حلو الحديث تسكب في راحتيه عواطف قلبها، وتملأ جيوبه من ذهب بعلها الذي يغض الطرف عنها ؛ لأنها تغض الطرف عنه ...
ثم انظر إلى ذلك البيت المحاط بالحديقة الغناء، فهو مسكن رجل ينتمي إلى أسرة شريفة حكمت البلاد مدة طويلة، وقد انخفض مقامها اليوم بتوزيع ثروتها وانصراف أبنائها إلى التواني والكسل، وقد اقترن هذا الرجل منذ أعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنية جدا، وبعد استيلائه على ثروتها الطائلة نسي وجودها، واتخذ له خليلة حسناء وغادرها تنهش أصابعها ندما، وتذوب شوقا وحنينا، وهي الآن تصرف الساعات بتجعيد شعرها، وتكحيل عينيها وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير، وتزين قامتها بالأطالس والحرير لعلها تحظى بنظرة من أحد زائريها لكنها لا تحصل إلا على نظرات شبحها في المرآة ...
ثم انظر إلى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش والتماثيل، فهو منزل امرأة جميلة الوجه خبيثة النفس قد مات زوجها الأول، فاستأثرت بأمواله وأملاكه ثم اختارت من بين الرجال رجلا ضعيف الجسم والإرادة، واتخذته بعلا لتحتمي باسمه من ألسنة الناس وتدافع بوجوده عن منكراتها، وهي الآن بين مريديها كالنحلة تمتص من الزهور ما كان حلوا ولذيذا، وانظر إلى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة، فهي مسكن رجل مادي الأميال كثير المشاغل والمطامع وله زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن، وكل ما في روحها حلو ولطيف، وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتآلف في الشعر نغمة الوزن برقة المعاني، فهي قد كونت لتعيش بالحب وتموت به، لكنها كالكثيرات من بنات جنسها قد جنى عليها والدها قبل بلوغها الثامنة عشرة من عمرها، ووضع عنقها تحت نير الزيجة الفاسدة، وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة، وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة، وتفنى حبا بشيء جميل تشعر به ولا تراه وتصبو حنينا إلى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام بجمع الدنانير والليالي بعدها، ويصر أسنانه مجدفا على الساعة التي تزوج فيها بامرأة عاقر لا تلد له ابنا ليحيي اسمه ويرث ماله وخيراته ... ثم انظر إلى ذلك البيت المنفرد بين البساتين فهو مسكن شاعر خيالي، سامي الأفكار، روحي المذهب له زوجة غليظة العقل، خشنة الطباع، تسخر بأشعاره؛ لأنها لا تفهمها وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة، وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء، وتسيل رقة وتولد في قلبه النور بانعطافها، وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظراتها.»
وسكتت السيدة وردة هنيهة، وقد جلست على مقعد بجانب النافذة كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية، ثم عادت تقول بهدوء: «هذه هي القصور التي لم أرض أن أكون من سكانها، هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها، هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم، وخلعت عني نير جامعتهم، هؤلاء هم المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد، ويتنافرون بالروح ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله، أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم، ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوا إلى الرياء والكذب والخباثة، ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم؛ لأنني لا أحب الاغتياب والنميمة بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت بالأمس مثلهم فنجوت، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة؛ لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي، وخرجت عن سبل خداعهم المظلمة، وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل، وقد نفوني الآن من جامعتهم، وأنا راضية لأن البشر لا ينفون إلا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور، ومن لا يؤثر النفي على الاستعباد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب.
أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية، وكان رشيد بك يقترب مني عندما يشعر بحاجة إلى الطعام، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين، ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم أقدر؛ لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف أقامته الأجيال المظلمة، ودعته الشريعة، فكسرت قيودي لكنني لم ألقها عني حتي سمعت الحب مناديا، ورأيت النفس متأهبة للمسير، فخرجت من منزل رشيد نعمان خروج الأسير من سجنه تاركة خلفي الحلي والحلل، والخدم والمركبات وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح، وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب؛ لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد حاجبة رأسي بساعدي ساكبة حشاشتي من أجفاني قائلة هذا نصيبي من الحياة، إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة متي يجيء الفجر، وعندما يجيء الفجر أقول متى ينقضي هذا النهار.
إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعسا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل إلى السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله. هذه هي حكايتي أيها الرجل، وهذا احتجاجي أمام السماء والأرض، وأنا أردده وأترنم به، والناس يغلقون آذانهم ولا يسمعون؛ لأنهم يخشون ثورة أرواحهم، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رؤوسهم، هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي، ولو جاء الموت واختطفني الآن لوقفت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل، بل بفرح وأمل، وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج؛ لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فصلها الله عن ذاته، ولم أتبع غير نداء القلب، وصدى أغاني الملائكة، هذه هي روايتي التي يحسها سكان بيروت لعنة في فم الحياة، وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية، ولكنهم سوف يندمون عندما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات، فيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقي عليه السلام قائلا: ههنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة لتحيا بناموس المحبة الشريفة، وحولت وجهها نحو الشمس كي لا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك.» •••
Bilinmeyen sayfa
ولم تنته السيدة وردة من كلامها حتى فتح الباب، ودخل علينا فتى نحيل القوام جميل الوجه تنسكب من عينيه أشعة سحرية، وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إلي بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة واسمه مشفوعا بنظرة معنوية؛ فعرفت بأنه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله، ثم جلسنا جميعا صامتين لانشغال كل منا بمعرفة رأي الآخر فيه حتى إذا مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما، وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر فرأيت ما لم أره قط، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم، رأيت روحا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدين يجملهما الشباب ويسربلهما الاتحاد، وقد وقف بينهما إله الحب باسطا جناحيه ليحميهما من لوم الناس وتعنيفهم، وجدت التفاهم الكلي منبعثا من وجهين شفافين ينيرهما الإخلاص ويحيط بهما الطهر: وجدت لأول مرة في حياتي طيف السعادة منتصبا بين رجل وامرأة يرذلهما الدين وتنبذهما الشريعة.
وبعد هنيهة وقفت وودعتهما مظهرا بغير الكلام تأثيرات نفسي، وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلا للحب والوفاق، وسرت بين تلك القصور والمنازل التي أظهرت لي خفاياها السيدة وردة مفكرا بحديثها، وبكل ما ينطوي تحته من المبادئ والنتائج، لكنني لم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان فتمثلت لبصيرتي لوعة قنوطه وشقائه، فقلت في ذاتي: «هو تعس مظلوم ولكن هل تسمعه السماء إذا وقف أمامها متظلما شاكيا وردة الهاني؟ هل جنت عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة؟ فمن هو الظالم من الاثنين ومن هو المظلوم؟ ومن هو المجرم ومن هو البريء يا ترى؟» ثم عدت قائلا لذاتي مستفتيا أخبار الأيام مستقصيا حوادثها كثيرا ما أباح الغرور للنساء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء؛ لأن شغف المرأة ببهرجة الملابس ونعومة العيش يعمي بصيرتها ويقودها إلى العار والانحطاط، فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غني مفعم بالحلي والحلل والرياش والخدم، وذهبت إلى كوخ رجل فقير لا يوجد فيه سوى صف من الكتب القديمة؟ وكثيرا ما يميت الجهل شرف المرأة ويحيي شهواتها، فتترك بعلها مللا وتضجرا، وتطلب ملذات جسدها بقرب رجل آخر أكثر منها انحطاطا وأقل شرفا، فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة بالملذات الجسدية عندما أعلنت استقلالها على رؤوس الأشهاد، وانضمت إلى فتى روحي الأميال، وقد كان بإمكانها أن تشبع حواسها سرا في منزل زوجها من هيام الفتيان الذين يستميتون ليكونوا عبيد جمالها وشهداء غرامها؟ وردة الهاني كانت امرأة تعسة، فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها، وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الإنسانية، وتنفيها الشريعة.
همست تلك الكلمات في مسامع الأثير ثم قلت مستدركا: «ولكن أيسوغ للمرأة أن تشتري سعادتها بتعاسة بعلها؟» فأجابتني نفسي قائلة: «وهل يجوز للرجل أن يستعبد عواطف زوجته ليبقى سعيدا؟» •••
وظللت سائرا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي حتى بلغت أطراف المدينة، والشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأت الحقول والبساتين تتشح بنقاب السكينة والراحة، والطيور تنشد صلاة المساء، فوقفت متأملا ثم تنهدت قائلا أمام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر، على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي، في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها، وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته ومن طبيعته ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها ... أما البشر فمحرومون من هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسنوا لأجسادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسيا، وأقاموا لميولهم وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما، فإذا ما قام واحد من بينهم، وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت ... ولكن هل يظل الإنسان عبدا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقا بالتراب أم يحول عينيه نحو الشمس كي لا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم؟
صراخ القبور
1
تربع الأمير على منصة القضاء، فجلس عقلاء بلاده عن يمينه وشماله وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجه الكتب والأسفار، وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف رافعين الرماح، ووقف الناس أمامه بين متفرج أتى به حب الاستطلاع، ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبه، وجميعهم قد أحنوا رقابهم، وخشعوا ببصائرهم وأمسكوا أنفاسهم كأن في عيني الأمير قوة توعز الخوف، وتوحي الرغبة إلى نفوسهم وقلوبهم. حتى إذا ما اكتمل المجلس، وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ قائلا: «أحضروا المجرمين أمامي واحدا واحدا، وأخبروني بذنوبهم ومعاصيهم.» ففتح باب السجن وبانت جدرانه المظلمة مثلما تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح فكيه متثائبا، وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود والسلاسل متآلفة مع أنين الحبساء ونحيبهم، فحول الحاضرون أعينهم، وتطاولت أعناقهم كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم؛ ليروا فريسة الموت خارجة من أعماق ذلك القبر.
وبعد هنيهة خرج من السجن جنديان يقودان فتى مكتوف الساعدين يتكلم وجهه العابس، وملامحه المنقبضة عن عزة في النفس وقوة في القلب، وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلا إلى الوراء، فأحدق به الأمير دقيقة ثم سأل قائلا: «ما جريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة؟»
فأجابه رجل من أعوانه قائلا: «هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس قائدا من قواد الأمير، وجندله صريعا إذ كان ذاهبا بمهمة بين القرى، وقد قبض عليه والسيف المغمد بدماء القتيل ما زال مشهورا في يده.»
فتحرك الأمير غضبا فوق عرشه، وتطايرت سهام الحنق من عينيه، وصرخ بأعلى صوته قائلا: «أرجعوه إلى الظلمة، وأثقلوا جسده بالقيود وعندما يجيء فجر الغد اضربوا عنقه بحد سيفه، ثم اطرحوا جثته في البرية؛ لتجردها العقبان والضواري، وتحمل الرياح رائحة نتانتها إلى أنوف أهله ومحبيه.»
Bilinmeyen sayfa
أرجعوا الشاب إلى السجن والناس يتبعونه بنظرات الأسف والتنهيدات العميقة؛ لأنه كان فتى في ربيع العمر حسن المظاهر قوي البنية.
وخرج الجنديان ثانية من السجن يقودان صبية جميلة الوجه ضعيفة الجسد، قد وشح معانيها اصفرار اليأس والقنوط، وغمرت عينيها العبرات، وألوت عنقها الندامة والحسرة.
فنظر إليها الأمير قائلا: «وما فعلت هذه الامرأة المهزولة الواقفة أمامنا وقوف الظل بجانب الحقيقة؟»
فأجابه أحد الجنود قائلا: «هي امرأة عاهرة قد فاجأها بعلها ليلا، فوجدها بين ذراعي خليلها فأسلمها للشرطة بعد أن فر أليفها هاربا.»
فأحدق الأمير بها، وهي مطرقة خجلا ثم قال بشدة وقساوة: «أرجعوها إلى الظلمة، ومددوها على فراش من الشوك لعلها تذكر المضجع الذي دنسته بعيبها، وأسقوها الخل ممزوجا بنقيع العلقم عساها تذكر طعم القبل المحرمة، وعند مجيء الفجر جروها عارية إلى خارج المدينة، وارجموها بالحجارة، واتركوا جسدها هناك لكي تتنعم بلحمانه الذئاب، وتنخر عظامه الديدان والحشرات.»
توارت الصبية بظلمة السجن والحاضرون ينظرون إليها بين معجب بعدل الأمير، ومتأسف على جمال وجهها الكئيب، ورقة نظراتها المحزنة.
وظهر الجنديان ثالثة يقودان كهلا ضعيفا يسحب ركبتيه المرتعشتين كأنهما خرقتان من أطراف ثوبه البالي، ويلتفت جزعا إلى كل ناحية، ومن نظراته الموجعة تنبعث خيالات البؤس والفقر والتعاسة.
فالتفت الأمير نحوه، وقال بلهجة الاشمئزاز: «وما ذنب هذا القذر الواقف كالميت بين الأحياء؟»
فأجابه أحد الجنود قائلا: «هو لص سارق قد دخل الدير ليلا، فقبض عليه الرهبان الأتقياء ووجدوا طي أثوابه آنية مذابحهم المقدسة.»
فنظر إليه الأمير نظرة النسر الجائع إلى عصفور مكسور الجناحين، وصرخ قائلا: «أنزلوه إلى أعماق الظلمة، وكبلوه بالحديد وعند مجيء الفجر جروه إلى شجرة عالية واشنقوه بحبل من الكتان، واتركوا جسده معلقا بين الأرض والسماء، فتنثر العناصر أصابعه الأثيمة نثرا، وتذري الرياح أعضاءه نتفا.»
Bilinmeyen sayfa
أرجعوا اللص إلى السجن والناس يهمسون بعضهم في آذان بعض قائلين: «كيف تجرأ هذا الضعيف الكافر على اختلاس آنية الدير المقدسة؟»
ونزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرعون، وسار الجند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان إلا من عويل المسجونين، وزفرات القانطين المتمايلة كالخيالات على الجدران.
جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المرآة أمام الأشباح السائرة مفكرا بالشرائع التي وضعها البشر للبشر، متأملا بما يحسبه الناس عدلا، متعمقا بأسرار الحياة باحثا عن معنى الكيان، حتى إذا ما تضعضعت أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلا لذاتي: الأعشاب تمتص عناصر التراب، والخروف يلتهم الأعشاب، والذئب يفترس الخروف، ووحيد القرن يقتل الذئب، والأسد يصيد وحيد القرن. والموت يفني الأسد . فهل توجد قوة تتغلب على الموت، فتجعل سلسلة هذه المظالم عدلا سرمديا؟! ... أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة إلى نتائج جميلة؟! أتوجد قوة تقبض بكفها على جميع عناصر الحياة، وتضمها إلى ذاتها مبتسمة مثلما يرجع البحر جميع السواقي إلى أعماقه مترنما؟ أتوجد قوة توقف القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسروق منه أمام محكمة أسمى وأعلى من محكمة الأمير؟
2
وفي اليوم الثاني خرجت من المدينة، وسرت بين الحقول حيث تبيح السكينة للنفس ما تسره النفس، ويميت طهر الفضاء جراثيم اليأس والقنوط التي تولدها الشوارع الضيقة والمنازل المظلمة، ولما بلغت طرف الوادي التفت فإذا بأجواق كثيرة من العقبان والغربان والنسور تتطاير تارة، وتهبط طورا وقد ملأت الفضاء بنعابها وصفيرها وحفيف أجنحتها، فتقدمت قليلا مستطلعا، فرأيت أمامي جثة رجل معلقة على شجرة عالية، وجثة امرأة عارية مطروحة بين الحجارة التي رجمت بها، وجثة فتى غارقة بالدماء المجبولة بالتراب، وقد فصل رأسها عنها.
وقفت وهول المشهد يغشى بصيرتي بنقاب كثيف مظلم، ونظرت فلم أر سوى خيال الموت المريع منتصبا بين الجثث الملطخة بالدماء، وأصغيت فلم أسمع غير عويل العدم ممزوجا بنعاب الغربان الحائمة حول فريسة شرائع البشر.
ثلاثة من أبناء آدم كانوا بالأمس على أحضان الحياة، فأصبحوا اليوم في قبضة الموت.
ثلاثة أساءوا بعرف البشر إلى الناموس، فمدت الشريعة العمياء يدها، وسحقتهم بقساوة.
ثلاثة جعلهم الجهل مجرمين؛ لأنهم ضعفاء فجعلتهم الشريعة أمواتا لأنها قوية.
رجل فتك برجل آخر، فقال الناس: هذا قاتل ظالم، وعندما فتك به الأمير قال الناس: هذا أمير عادل.
Bilinmeyen sayfa
ورجل حاول أن يسلب الدير، فقال الناس: هذا لص شرير، وعندما سلبه الأمير حياته، قالوا: هذا أمير فاضل.
وامرأة خانت بعلها، فقال الناس: هي زانية عاهرة، ولكن عندما سيرها الأمير عارية ورجمها على رؤوس الأشهاد، قالوا: هذا أمير شريف.
سفك الدماء محرم، ولكن من حلله للأمير؟
سلب الأموال جريمة، ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟
خيانة النساء قبيحة، ولكن من صير رجم الأجساد جميلا؟
أنقابل الشر بشر أعظم ونقول هذه هي الشريعة، ونقاتل الفساد بفساد أعم، ونهتف هذا هو الناموس، ونغالب الجريمة بجريمة أكبر، ونصرخ هو العدل؟
أما صرع الأمير عدوا في غابر حياته؟ أما سلب مالا أو عقارا من أحد تابعيه الضعفاء؟ أما راود امرأة جميلة عن نفسها؟ هل كان معصوما عن هذه المحرمات، فجاز له إعدام القاتل وشنق السارق ورجم الزانية؟
ومن هم الذين رفعوا هذا اللص على الشجرة؟ أملائكة نزلوا من السماء أم رجال يغتصبون ويسرقون كل ما تصل إليه أيديهم؟
ومن قطع رأس هذا القاتل؟ أأنبياء هبطوا من العلاء أم جنود يقتلون ويسفكون الدماء أينما حلوا؟
ومن رجم هذه الزانية؟ أنساك طاهرون أتوا من صوامعهم أم بشر يأتون المنكرات ويفعلون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟
Bilinmeyen sayfa
الشريعة، وما هي الشريعة؟ من رآها نازلة مع نور الشمس من أعماق السماء؟ وأي بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر، وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين: «احرموا الضعفاء نور الحياة، وأفنوا الساقطين بحد السيف، ودوسوا الخطأة بأقدام من حديد.»
وظلت هذه الأفكار تتزاحم على فكرتي وتتساهم عواطفي حتى سمعت وطء أقدام قريبة مني، فنظرت وإذا بصبية قد ظهرت من بين الأشجار، واقتربت من الجثث الثلاث متحذرة متلفتة بخوف إلى كل ناحية، حتى إذا ما رأت رأس الفتى المقطوع صرخت جزعا، وركعت بجانبه وطوقته بزنديها المرتجفتين، وأخذت تستفرغ الدموع من عينيها، وتلامس شعره الجعدي بأطراف أصابعها، وتنتحب بصوت عميق جارح خارج من صميم الكبد، ولما أنهكها البكاء وغلبتها الحسرات، أسرعت تحفر التراب بيديها حتى إذا ما حفرت قبرا وسيعا، وجرت إليه الفتى المصروع، ومددته على مهل موجع، ووضعت رأسه المضرج بالدماء بين كتفيه وبعد أن غمرته بالتراب غرست نصل السيف الذي قطع عنقه على قبره، وإذ همت بالانصراف تقدمت نحوها، فأجفلت وارتعشت خوفا ثم أطرقت والدمع السخين يتساقط كالمطر من مقلتيها وقالت متنهدة: «اشكني إلى الأمير إن شئت فخير لي أن أموت وألحق بمن خلصني من قبضة العار من أن أترك جسده طعاما لقشاعم الطير والوحوش الكواسر.» فأجبتها قائلا: «لا تخافي مني أيتها المسكينة. فأنا قد ندبت حظ فتاك قبلك بل خبريني كيف أنقذك من قبضة العار.»
فقالت والغصص تقطع صوتها: «جاء قائد الأمير إلى حقولنا ليتقاضى الضرائب ويجمع الجزية ولما رآني نظر إلي نظرة استحسان مخيفة ثم فرض ضريبة باهظة على حقل والدي الفقير يعجز الغني عن دفعها فقبض علي ليقتادني قهرا إلى صرح الأمير بدلا من الذهب فاسترحمته بدموعي فلم يحفل واستحلفته بشيخوخة والدي فلم يرحم فصرخت مستغيثة برجال القرية فجاء هذا الشاب وهو خطيبي وخلصني من بين يديه القاسيتين فاستشاط غضبا وهم أن يفتك به فسبقه الشاب وامتشق سيفا قديما معلقا على الحائط وصرعه به مدافعا عن حياته وعن عرضي، ولكبر نفسه لم يفر هاربا كالقتلة المجرمين بل لبث واقفا بقرب جثة القائد الظلوم حتى جاء الجند وساقوه إلى السجن مكبلا بالقيود.»
قالت هذا ونظرت إلي نظرة تذيب الفؤاد وتثير الشجون وولت مسرعة ورنات صواتها الموجعة تولد بين تموجات الأثير اهتزازا وارتعاشا.
وبعد هنيهة نظرت فرأيت فتى في ربيع العمر يتقدم ساترا وجهه بأثوابه حتى إذا ما بلغ جثة المرأة الزانية وقف بقربها وخلع عباءته وستر بها أعضاءها العارية وأخذ يحفر الأرض بخنجر كان معه ثم حملها بهدوء وواراها التراب ساكبا مع كل حفنة قطرة من أجفانه. ولما انتهى من عمله جنى بعض الزهور النابتة هناك ووضعها على القبر منحني الرأس منخفض الطرف. وإذا هم بالذهاب أوقفته قائلا: «ما نسبة هذه المرأة الساقطة إليك حتى سعيت مخالفا إرادة الأمير ومخاطرا بحياتك لكي تحمي جسدها المرضوض من طيور السماء الجوارح؟»
فنظر إلي وأجفانه المقرحة من البكاء والسهر تتكلم عن شدة حزنه ولوعته وبصوت مخنوق ترافقه التنهيدات الأليمة قال: «أنا هو ذلك الرجل التعس الذي رجمت من أجله، أحببتها وأحبتني مذ كنا صغيرين نلعب بين المنازل. نمونا ونما الحب معنا حتى صار سيدا قويا نخدمه بعواطف قلبينا فيستميلنا إليه ونهابه بسرائر روحينا فيضمنا إلى صدره. ففي يوم وقد كنت غائبا عن المدينة زوجها والدها كرها من رجل تكرهه ولما رجعت وسمعت بالخبر تحولت أيامي إلى ليل طويل حالك وصارت حياتي نزاعا مرا متواصلا. وبقيت أصارع عواطفي وأغالب ميول نفسي حتى تغلبت علي وقادتني مثلما يقود البصير ضريرا أعمى. فذهبت إلى حبيبتى سرا وأقصى مرامي أن أرى نور عينيها وأسمع نغمة صوتها فوجدتها منفردة تندب حظها وترثي أيامها فجلست والسكينة حديثنا والعفاف ثالثنا، ولم تمر ساعة حتى دخل زوجها فجأة ولما رآني أوعزت إليه نياته القذرة فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين وصرخ بأعلى صوته «تعالوا وانظروا الزانية وعشيقها» فهرول الجيران ثم جاء الجند مستطلعين الخبر فأسلمها إلى أيديهم الخشنة فاقتادوها محلولة الشعر ممزقة الأثواب. أما أنا فلم يمسني أحد بضرر لأن الشريعة العمياء والتقاليد الفاسدة تعاقب المرأة إذا سقطت، أما الرجل فتسامحه.»
وعاد الشاب نحو المدينة ساترا وجهه بأثوابه ولبثت أنا ناظرا متأملا متنهدا وجثة اللص المشنوق ترتجف قليلا كلما هز الهواء أغصان الشجرة كأنها تسترحم بحراكها أرواح الفضاء لتهبط وتمددها على صدر الأرض بجانب قتيل المروءة وشهيدة الحب.
وبعد ساعة ظهرت امرأة ضعيفة الجسم ترتدي خرقا بالية ووقفت بقرب المشنوق تقرع صدرها باكية ثم تسلقت الشجرة وقضمت حبل الكتان بأسنانها فسقط الميت على الأرض سقوط الثوب البليل. فنزلت المرأة وحفرت قبرا بجانب القبرين ووضعته فيه: وبعد أن غمرته بالتراب أخذت قطعتين من الخشب وصنعت منهما صليبا وغرسته فوق رأسه. ولما تحولت نحو الوجهة التي جاءت منها أوقفتها قائلا: «ما غرك أيتها المرأة فجئت تدفنين لصا سارقا؟»
فنظرت إلي بعينين غارقتين مكحولتين بأشباح الكآبة والشقاء وقالت: «هو زوجي الصالح ورفيقي الحنون ووالد أطفالي. خمسة أطفال يتضورون جوعا أكبرهم في الثامنة وأصغرهم رضيع لم يفطم ... لم يكن زوجى لصا بل كان زارعا يفلح أرض الدير ويستغلها ولا يحصل من الرهبان إلا على رغيف نتقاسمه عند المساء ولا تبقى منه لقمة إلى الصباح ... مذ كان فتى وهو يسقي بعرق جبينه حقول الدير ويزرع عزم ساعديه في بساتينه. ولما ضعف وانتهبت أعوام العمل قواه وراودت الأمراض جسده أبعدوه قائلين: «لم يعد الدير محتاجا إليك فاذهب الآن وعندما يشب أبناؤك ابعثهم إلينا لكي يأخذوا مكانك في الحقل» فبكى وأبكاني واسترحمهم باسم يسوع واستحلفهم بالملائكة والقديسين فلم يرحموه ولم يشفقوا عليه وعلي وعلى صغارنا العراة الجائعين. فذهب يطلب عملا في المدينة وعاد مطرودا لأن سكان تلك القصور لا يستخدمون إلا الفتيان الأقوياء. ثم جلس على قارعة الطريق مستعطيا فلم يحسن الناس إليه بل كانوا يمرون به قائلين: «الصدقة لا تجوز على مغلوب التواني والكسل» ففي ليلة وقد برح العوز بنا حتى صار أطفالنا يتلوون جوعا على التراب. والرضيع بينهم يمص ثديي ولا يجد لبنا. تغيرت ملامح زوجي وذهب مستترا بالظلام ودخل قبوا من أقبية الدير حيث يخزن الرهبان غلة الحقول وخمر الكروم وحمل زنبيلا من الدقيق على ظهره وهم بالرجوع إلينا. لكنه لم يسر بضع خطوات حتى استيقظ القسس من رقادهم وقبضوا عليه وأوسعوه ضربا وشتما وعندما جاء الصباح أسلموه إلى الجند قائلين: «هو لص شرير جاء لكي يسرق آنية الدير الذهبية» فاقتاده الجند إلى السجن ثم إلى المشنقة ليملأوا أجواف العقبان من جسده لأنه حاول أن يملأ أجواف صغاره الجياع من فضلات الغلة التي جناها بأتعابه إذ كان خادما للدير.»
وذهبت المرأة الفقيرة ولكلامها المتقطع أشباح محزنة تتصاعد وتتسارع إلى كل ناحية كأنها أعمدة من الدخان يتلاعب بها الهواء. •••
Bilinmeyen sayfa
وقفت بين القبور الثلاثة وقفة مؤبن أرتج عليه وانعقد لسانه لوعة فانسكب دمعه متكلما عن عواطفه. وحاولت التفكر والتأمل فعصتني نفسي لأن النفس كالزهرة تضم أوراقها أمام الظلمة ولا تعطي أنفاسها لخيالات الليل.
وقفت ومن دقائق تراب تلك القبور ينبثق صراخ التظلم انبثاق الضباب من خلايا الأودية ويتموج حول مسامعي ليوحي إلي الكلام.
وقفت ساكتا ولو فهم الناس ما تقوله السكينة لكانوا أقرب إلى الآلهة منهم إلى كواسر الغاب.
وقفت متنهدا ولو لامست شعلات تنهيداتي أشجار ذلك الحقل لتحركت وتركت أماكنها وزحفت كتائب كتائب وحاربت بقضبانها الأمير وجنوده وهدمت بجذوعها جدران الدير على رؤوس رهبانه.
وقفت ناظرا ومع نظراتي تنسكب حلاوة الشفقة ومرارة الحزن على جوانب تلك القبور الجديدة: قبر فتى دافع بحياته عن شرف عذراء ضعيفة وأنقذها من بين أظافر ذئب كاسر فقطعوا عنقه جزاء شجاعته، وقد أغمدت تلك الصبية سيفه بتراب قبره ليبقى هناك رمزا يتكلم أمام وجه الشمس عن مصير الرجولة في دولة الحيف والغباوة. وقبر صبية لامس الحب نفسها قبل أن تغتصب المطامع جسدها فرجمت لأن قلبها أبى إلا أن يكون أمينا حتى الموت. وقد وضع حبيبها باقة من زهور الحقل فوق جسدها الهامد لتتكلم بذبولها وفنائها البطيء عن مصير النفوس التي يقدسها الحب بين قوم أعمتهم المادة وأخرسهم الجهل. وقبر فقير بائس أوهت ساعديه حقول الدير فطرده الرهبان ليستعيضوا عنها بسواعد غيره، فطلب الخبز لصغاره بالعمل فلم يجده، ثم رجاه بالتسول فلم ينله، وعندما دفعه اليأس إلى استرجاع قليل من الغلة التي جمعها بأتعابه وعرق جبينه قبضوا عليه وفتكوا به، وقد وضعت أرملته صليبا على قبره ليستشهد في سكينة الليل نجوم السماء على ظلم رهبان يحولون تعاليم الناصري إلى سيوف يقطعون بها الرقاب ويمزقون بحدودها السنينة أجساد المساكين والضعفاء.
وتوارت الشمس إذ ذاك وراء الشفق كأنها ملت متاعب البشر وكرهت ظلمهم. وابتدأ المساء يحيك من خيوط الظل والسكون نقابا دقيقا ليلقيه على جسد الطبيعة، فرفعت عيني إلى العلاء وبسطت يدي نحو القبور وما عليها من الرموز وصرخت بأعلى صوتي: «هذا هو سيفك أيتها الشجاعة فقد أغمد بالتراب، وهذه هي زهورك أيها الحب فقد لفحتها النيران. وهذا هو صليبك يا يسوع الناصري فقد غمرته ظلمة الليل.»
مضجع العروس1
خرج العريس والعروس من الهيكل يتبعهما المهنئون الفارحون وتتقدمهما الشموع والمصابيح، ويسير حولهما الفتيان المترنمون بالأهازيج والصبايا المنشدات أغاني السرور.
بلغ الموكب منزل العريس المزدان بالرياش الثمينة والأواني المتلمعة والرياحين العطرة فاعتلى العروسان مقعدا مرتفعا وجلس المدعوون على الطنافس الحريرية والكراسي المخملية حتى غصت تلك القاعة الوسيعة بأشكال الناس. وسعى الخدام بآنية الشراب فتصاعدت رنات الكؤوس متآلفة مع هتاف الغبطة، ثم جاء الموسيقيون وجلسوا يسكرون النفوس بأنفاسهم السحرية ويبطنون الصدور بألحانهم المنسوجة مع همس أوتار العود وتنهيدات الناس وحفيف الدفوف.
ثم قامت الصبايا يرقصن ويتمايلن بقامات تلاحق مقاطيع اللحن مثلما تتابع الأغصان اللينة مجاري هبوب النسيم، وتنثني طيات أثوابهن الناعمة كأنها سحب بيضاء يداعبها شعاع القمر، فشخصت إليهن الأبصار وسجدت لهن الرؤوس وعانقتهن أرواح الفتيان وتفطرت لجمالهن مرائر الشيوخ، ثم مال الجميع يستزيدون من الشراب ويغمرون أميالهم بالخمور، فنمت الحركة وعلت الأصوات وسادت الحرية وتوارت الرزانة وتضعضعت الأدمغة وتلهبت النفوس واضطربت القلوب وأصبح ذلك المنزل بكل ما فيه كقيثارة مقطعة الأوتار في يد جنية غير منظورة تضرب عليها بعنف وتولد منها أنغاما جامعة بين التناسق والالتباس، فهنا فتى يبوح بسرائر حبه لفتاة أولاها الجمال تيها ودلالا، وهناك شاب يستعد لمحادثة حسناء مستحضرا إلى حافظته أعذب الألفاظ وأرق المعاني، وهنالك كهل يجرع الكأس وراء الكأس ويطلب بلجاجة إلى المنشدين إعادة أغنية ذكرته بأيام صبابته، في هذه القرنة امرأة تغامز بأطراف أجفانها رجلا ينظر بمودة إلى سواها، وفي تلك الزاوية سيدة قد بيض الشيب مفرقها تنظر مبتسمة نحو الصبايا لتنتقي منهن عروسة لوحيدها، وبجانب تلك النافذة زوجة قد اتحذت سكر حليلها فرصة فاقتربت من خليلها وجميعهم غارقون في بحر من الخمر والغزل مستسلمون إلى تيار الغبطة والسرور متناسون حوادث الأمس منصرفون عن مآتي الغد منعكفون على استثمار دقائق الحاضر.
Bilinmeyen sayfa
كان يجري كل ذلك والعروس الجميلة تنظر بعينين كئيبتين إلى هذا المشهد مثلما ينظر الأسير اليائس إلى جدران سجنه السوداء. وتتلفت بين الآونة والأخرى نحو زاوية من زوايا تلك القاعة حيث جلس فتى في العشرين من عمره منفردا عن الناس المغبوطين انفراد الطائر الجريح عن سربه، مكبلا زنديه على صدره كأنه يحول بهما بين قلبه والفرار محدقا بشيء غير منظور في فضاء تلك القاعة كأن ذاته المعنوية قد انفصلت عن ذاته الحسية وسبحت في الخلاء متبعة أشباح الدجى.
انتصف الليل وتعاظمت غبطة الجماعة حتى صارت ثورة، واختمرت أدمغتهم حتى تلجلجت ألسنتهم، فقام العريس من مكانه وهو كهل خشن المظاهر وقد تغلب السكر على حواسه وطاف يتكلف اللطف والرقة بين الناس.
في تلك الدقيقة أومأت العروس إلى صبية أن تقترب منها فاقتربت وجلست بجانبها وبعد أن تلفتت العروس إلى كل ناحية تلفت جازع يريد أن يفشي سرا خفيا هائلا لزت إلى الصبية وهمست في أذنها هذه الكلمات بصوت مرتعش: «أستحلفك يا رفيقتي بالعواطف التي ضمت نفسينا مذ كنا صغيرتين، أستحلفك بكل ما هو عزيز لديك في هذه الحياة، أستحلفك بمخبآت صدرك، استحلفك بالحب الذي يلامس أرواحنا ويجعلها شعاعا، أستحلفك بأفراح قلبك وأوجاع قلبي أن تذهبي الآن إلى سليم وتطلبي إليه أن ينزل خفية إلى الحديقة وينتظرني هناك بين أشجار الصفصاف، تضرعي عني يا سوسان حتى يجيب طلبي، ذكريه بالأيام الغابرة، توسلي إليه باسم الحب، قولي له هي تعسة عمياء، قولي هي مائتة تريد أن تفتح قلبها أمامك قبل أن يكتنفها الظلام، قولي له هي هالكة شقية تريد أن ترى نور عينيك قبل أن تختطفها نار الجحيم، قولي له هي خاطئة تريد أن تعترف بذنوبها وتلتمس عفوك، أسرعي إليه وابتهلي عني أمامه ولا تخافي مراقبة هؤلاء الخنازير لأن الخمور قد سدت آذانهم وأعمت بصائرهم.»
فقامت سوسان من جانب العروس وجلست بقرب سليم الكئيب المنفرد وحده وأخذت تستعطفه هامسة في أذنه كلمات رفيقتها ودلائل الود والإخلاص بادية على ملامحها وهو منحني الرأس يسمع ولا يجيب ببنت شفة، حتى إذا ما انتهت من كلامها نظرت إليها نظرة ظامئ يرى الكأس في قبة الفلك وبصوت منخفض تخاله آتيا من أعماق الأرض أجابها قائلا: «سوف أنتظرها في الحديقة بين أشجار الصفصاف.»
قال هذه الكلمات وقام من مكانه وخرج إلى الحديقة ولم تمض بضع دقائق حتى قامت العروس واتبعته مختلسة خطواتها بين رجال فتنتهم ابنة الكروم ونساء أشغلت قلوبهن صبابة الفتيان. ولما بلغت الحديقة الموشاة بأثواب الليل أسرعت ملتفتة إلى الوراء، ومثل غزال جازع هارب إلى كناسه من الذئاب الخاطفة تقدمت نحو أشجار الصفصاف حيث وقف ذلك الفتى، ولما رأت نفسها بجانبه ترامت عليه وطوقت عنقه بزنديها وأحدقت بعينيه ثم قالت والألفاظ تتسارع من شفتيها بسرعة الدموع من أجفانها: «اسمعني يا حبيبي، اسمعنى جيدا، ها قد ندمت على جهالتي وتسرعي، قد ندمت يا سليم حتى سحقت الندامة كبدي، أنا أحبك ولا أحب سواك وسوف أحبك إلى منتهى العمر، قد أخبروني بأنك سلوتني وهجرتني وتعلقت بهوى غيري أخبروني بكل ذلك يا سليم وسمموا قلبي بألسنتهم ومزقوا صدري بأظافرهم وملأوا نفسي بكذبهم. قد أخبرتني نجيبة بأنك سلوتني وكرهتني وانشغفت بحبها، قد ظلمتني تلك الخبيثة واحتالت على عواطفي لكي أرضى بنسيبها عريسا فرضيته يا سليم ولا عريس لي سواك. والآن، والآن قد رفع الغشاء عن عيني فجئت إليك، قد خرجت من هذا المنزل ولن أعود إليه، قد جئت لكي أضمك بذراعي ولا توجد قوة في هذا العالم ترجعني إلى ذراعي الرجل الذي زففت إليه كرها ويأسا، قد تركت العريس الذي اختاره لي الكذب بعلا، وتركت الوالد الذي أقامه القدر وليا، وتركت الزهور التي ضفرها الكاهن إكليلا، وتركت الشرائع التي حبكتها التقاليد قيودا، قد تركت كل شيء في هذا المنزل المملوء بالسكر والخلاعة وأتيت لأتبعك إلى أرض بعيدة، إلى أقاصي العالم، إلى مكامن الجن، إلى قبضة الموت. تعال نسرع يا سليم من هذا المكان متسترين بوشاح الليل، هلم نسير إلى الساحل ونركب سفينة تحملنا إلى بلاد بعيدة مجهولة، تعال نمشي الآن فلا يجيء الفجر إلا ونحن في مأمن من أيدي العدو. انظر، انظر هذه الحلي الذهبية، وهذه القلائد والخواتم الثمينة، وهذه الجواهر النفيسة، فهي تكفل مستقبلنا وتكفي لنعيش بأثمانها كالأمراء، لماذا لا تتكلم يا سليم؟ لماذا لا تنظر إلي؟ لماذا لا تقبلني؟ أسامع أنت صراخ قلبي وعويل نفسى؟ ألا تصدق بأني هجرت عريسي وأبي وأمي وجئت بأثواب العرس لكي أهرب معك؟ تكلم أو هلم نسرع فهذه الدقائق أثمن من حبات الألماس وأغلى من تيجان الملوك.»
كانت العروس تتكلم وفي صوتها نغمة أعذب من همس الحياة وأمر من عويل الموت وألطف من حفيف الأجنحة وأعمق من أنين الأمواج، نغمة تتموج نبضاتها بين اليأس والأمل، واللذة والألم، والفرح والشقاء ، وكل ما في صدر الامرأة من الميول والعواطف.
أما الشاب فكان يسمع وفي داخل نفسه يتصارع الحب والشرف، ذلك الحب الذي يجعل الوعر سهلا، والظلام نورا، وذلك الشرف الذي يقف أمام النفس، ويثنيها عن رغائبها ومنازعها. ذلك الحب الذي ينزله الله على القلب، وذلك الشرف الذي تسكبه تقاليد البشر في الدماغ.
وبعد أحيان خرساء هائلة شبيهة بالأجيال المظلمة التي تتمايل فيها الأمم بين النهوض والاضمحلال، رفع الشاب رأسه وقد تغلب شرف نفسه على ميلها وحول عينيه عن الصبية الخائفة المترقبة وقال بهدوء: «ارجعي أيتها الامرأة إلى ذراعي عريسك فقد قضي الأمر ومحت اليقظة ما صورته الأحلام. أسرعي إلى أحضان المسرات قبل أن تراك أعين الرقباء فيقول الناس قد خانت عريسها في ليلة العرس مثلما خانت حبيبها أيام البعاد.»
فارتعشت العروس لهذه الكلمات وتململت كزهرة ذابلة أمام الريح ثم قالت متوجعة: «لا أعود إلى هذا المنزل وبي رمق من الحياة، قد خرجت منه إلى الأبد، قد تركته وكل من فيه مثلما يترك الأسير أرض المنفى، فلا تبعدني عنك ولا تقل بأنني خائنة؛ لأن يد الحب الذي مزجت روحي بروحك هي أقوى من يد الكاهن التي أسلمت جسدي إلى مشيئة العريس، ها قد طوقت ذراعي حول عنقك فلا تحلهما القوات وقربت نفسي إلى نفسك فلا يفرقهما الموت.»
فقال الشاب محاولا الخلاص من ذراعيها متكلفا إظهار المقت والاشمئزاز: «ابتعدي عني أيتها المرأة فقد سلوتك، نعم سلوتك وكرهتك وتعلقت بهوى غيرك، فلم يقل الناس غير الصحيح. هل سمعت ماذا أقول؟ قد سلوتك حتى نسيت وجودك وكرهتك حتى أبت نفسي مرآك فابتعدي عني ودعيني أذهب في سبيلي، وعودي إلى عريسك وكوني له زوجة أمينة.»
Bilinmeyen sayfa
فقالت الصبية متفجعة: «لا، لا أصدق كلامك فأنت تحبني وقد قرأت معنى الحب في عينيك وشعرت بملامسه عندما لمست جسدك، أنت تحبني وتحبني وتحبني مثلما أحبك فأنا لا أترك هذا المكان إلا بجانبك ولن أدخل هذا المنزل وفي نفسي بقية من الإرادة، قد جئت لكي أتبعك إلى آخر الأرض فسر أمامي وارفع يدك وأهرق دمي.»
فقال الشاب وقد رفع صوته عن ذي قبل: «اتركيني أيتها الامرأة وإلا صرخت بأعلى صوتي وجمعت في هذه الحديقة أولئك الناس المدعوين إلى أفراح عرسك وأريتهم عارك وجعلتك مضغة مرة في أحناكهم ومثلا قبيحا على ألسنتهم وأوقفت نجيبة التي أحبها قلبي تسخر بك وتبتسم فارحة بانتصارها مستهزئة بانغلابك.»
قال هذا وأمسك بذراعها ليبعدها عنه فتغيرت ملامحها وأبرقت عيناها وتحولت بكليتها من الاستعطاف والرجاء والتوجع إلى الغضب والقساوة وصارت كلبوة فقدت أشبالها أو كبحر أثارت أعماقه الزوابع ثم صرخت: «من هي التي تتمتع بحبك بعدي وأي قلب يسكر بقبل شفتيك غير قلبي؟!»
لفظت هذه الكلمات وانتشلت من بين أثوابها خنجرا سنينا وأغمدته بصدره بسرعة البرق، فهوى وسقط على الأرض كغصن قصفته العاصفة فانحنت فوقه والخنجر في يدها يقطر دما، ففتح عينيه المغمورتين بظل الموت وارتعشت شفتاه وخرجت هذه الكلمات مع أنفاسه الضعيفة: «اقتربي الآن يا حبيبتي اقتربي يا ليلى ولا تتركيني، الحياة أضعف من الموت والموت أضعف من الحب، اسمعي اسمعي قهقهة الفارحين بعرسك، اسمعي رنين كؤوسهم يا حبيبتي، لقد أنقذتني يا ليلى من قساوة هذه القهقهة ومرارة تلك الكؤوس فدعيني أقبل اليد التي كسرت قيودى، قبلي شفتي، قبلي شفتي اللتين تكلفتا الكذب وأخفتا أسرار قلبي، أغمضي أجفاني الذابلة بأصابعك المغموسة بدمي، وعندما تطير روحي في الفضاء ضعي الخنجر في يميني وقولي لهم قد انتحر يأسا وحسدا، قد أحببتك يا ليلى ولم أحب سواك ولكنني رأيت تضحية قلبي وسعادتي وحياتي أفضل من الهرب بك في ليلة عرسك، قبليني يا حبيبة نفسي قبل أن يرى الناس جثتى، قلبيني قبليني يا ليلى.»
ووضع المصروع يده فوق قلبه المطعون ولوى عنقه وفاضت روحه!
فرفعت العروس رأسها والتفتت نحو المنزل وصرخت بصوت هائل: «تعالوا، تعالوا أيها الناس، فهنا العرس وهذا العريس، هلموا لنريكم مضجعنا الناعم، استيقظوا أيها النيام وانتبهوا أيها السكارى وأسرعوا لنريكم أسرار الحب والموت والحياة.»
تموج صراخ العروس في زوايا ذلك المنزل حاملا كلماتها إلى آذان المحتفلين المغبوطين، فارتعشت أرواحهم، وأصغوا هنيهة كأن الصحو قد باغت نشوتهم، ثم تراكضوا مسرعين من أبواب المنزل ومخارجه وساروا ملتفتين يمينا وشمالا حتى إذا ما رأوا جثة المصروع والعروس الجاثية بقربها تراجعوا مذعورين إلى الوراء ولا أحد منهم يجسر على استقصاء الخبر كأن منظر الدماء المنبعثة من صدر القتيل ولمعان الخنجر في يد العروس قد عقد ألسنتهم وأجمد الحياة في أجسادهم.
فالتفتت العروس إليهم وقد اتشحت ملامحها بهيبة محزنة وصرخت قائلة: «اقتربوا أيها الجبناء ولا تخافوا خيال الموت فهو عظيم لا يدنو من صغارتكم، اقتربوا ولا ترتجفوا جزعا من هذا الخنجر فهو آلة مقدسة لا تلامس أجسادكم القذرة وصدوركم المظلمة، انظروا هذا الفتى الجميل المتسربل بحلة العرس، هو حبيبي وقد قتلته لأنه حبيبي، هو عريسي وأنا عروسته وقد بحثنا فلم نجد مضجعا يليق بعناقنا في هذا العالم الذي جعلتموه ضيقا بتقاليدكم ومظلما بجهالتكم وفاسدا بلهاثكم ففضلنا الذهاب إلى ما وراء الغيوم. اقتربوا أيها الضعفاء الخائفون وانظروا لعلكم ترون وجه الله منعكسا على وجهينا وتسمعون صوته العذب منبثقا من قلبينا. أين هي تلك المرأة الخبيثة الحسودة التي وشت إلي بحبيبي وقالت بأنه شغف بها وسلاني وتعلق بحبها لينساني. قد توهمت تلك الشريرة بأنها ظفرت عندما رفع الكاهن يده فوق رأسي ورأس نسيبها. أين نجيبة المحتالة؟ أين تلك الأفعى الجهنمية؟ دعوها تقترب الآن وترى بأنها قد جمعتكم لتفرحوا بعرس حبيبي وليس بعرس الرجل الذي اختارته لي ... أنتم لا تفهمون كلامي، لأن اللجة لا تعي أغاني الكواكب. لكنكم سوف تخبرون أبناءكم عن المرأة التي قتلت حبيبها ليلة عرسها، سوف تذكروني وتلعنوني بشفاهكم الأثيمة، أما أحفادكم فسوف يباركونني لأن الغد سيكون للحق والروح. وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليصيرني له زوجة، أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب، أنت رمز هذه البلاد المستسلمة لغباوتها استسلام الأعمى إلى قائده الأعمى، أنت ممثل الرجولة الكاذبة التي تقطع الأعناق والمعاصم توصلا إلى العقود والأساور، أنا أغتفر لك صغارتك لأن النفس الفارحة بذهابها من هذا العالم تغتفر جميع زلات هذا العالم.»
حينئذ رفعت العروس خنجرها نحو العلاء ونظير ظامئ يقرب حافة الكأس إلى شفتيه أغمدته بعزم في صدرها وهبطت بجانب حبيبها نظير زنبقة قطع عنقها حد المنجل، فتململت النساء وصرخن صراخ الخوف والألم وأغمي على بعضهن وتصاعد ضجيج الرجال من كل ناحية واقتربوا من المصروعين بوجل وهيبة.
فنظرت إليهم العروس المنازعة وقالت ونجيع الدماء ينهل بغزارة من صدرها البلوري: «لا تقتربوا أيها العاذلون ولا تفصلوا بين جسدينا، وإن حاولتم فالروح الحائمة فوق رؤوسكم تقبض على أعناقكم وتخنقكم بعنف وقساوة، دعوا هذه الأرض الجائعة تلوك جسدينا لقمة واحدة، دعوها تخفينا وتحمينا في صدرها مثلما تحمي البذور من ثلوج الشتاء حتى يجيء الربيع.»
Bilinmeyen sayfa
ولزت العروس إلى حبيبها وألقت شفتيها على شفتيه الباردتين وخرجت هذه الكلمات المتقطعة مع أنفاسها الأخيرة: «انظر يا حبيبي، انظر يا عريس نفسي كيف وقف الحساد حول مضجعنا، انظر عيونهم المحدقة بنا، واسمع صرير أسنانهم وتكسير ضلوعهم، قد انتظرتني طويلا يا سليم فها أنذا. قد كسرت القيود وفككت السلاسل فلنسرعن نحو الشمس فقد طال وقوفنا في الظل، ها قد امحت الرسوم وانحجبت الأشياء فلم أعد أرى سواك يا حبيبي، ها شفتاي فاقتبل أنفاسي الأخيرة، هلم نذهب يا سليم فقد رفع الحب أجنحته وسبح أمامنا نحو دائرة النور.»
وألقت العروس صدرها على صدر حبيبها فامتزجت دماؤها بدمائه وأحنت رأسها على عنقه وظلت عيناها محدقتين بعينيه.
ولبث الناس صامتين هنيهة وقد اصفرت وجوههم وتراخت ركابهم كأن هيبة الموت قد سلبتهم القوة والحراك.
فتقدم إذ ذاك الكاهن الذي ضفر بتعاليمه أكاليل ذلك العرس وأشار بيمينه نحو القتيلين ونظر نحو القوم المذهولين وخاطبهم بصوت خشن قائلا: «معلونة هي الأيدي التي تمد إلى هذين الجسدين الملطخين بدماء الجريمة والعار، وملعونة هي الأعين التي تذرف دموع الحزن على هالكين قد حملت الأبالسة روحيهما إلى الجحيم، لتبق جثة ابن سادوم وجثة ابنة عمورة مطروحتين على هذا التراب الدنس المجبول بدمائهما حتى تتقاسم لحمانهما الكلاب وتذري عظامهما الرياح. اذهبوا إلى مساكنكم أيها الناس واهربوا من الرائحة المنتنة المتصاعدة من داخل قلبين جبلتهما الخطيئة وسحقتهما الرذيلة، تفرقوا أيها الواقفون بقرب هاتين الجيفتين، وانصرفوا مسرعين قبل أن تلسعكم ألسنة النار الجهنمية ومن يبق منكم ههنا يكن محروما ومرذولا فلا يدخل الهيكل الذي يركع فيه المؤمنون ولا يشترك بالصلاة التي يقدمها المسيحيون!»
فتقدمت سوسان، تلك الصبية التي بعثتها العروس رسولا إلى حبيبها، ووقفت أمام الكاهن ونظرت إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقالت بشجاعة: «أنا أبقى هنا أيها الكافر الأعمى وانا أحرسهما حتى يجيء الفجر وأنا أحفر لهما قبرا تحت هذه الأغصان المتدلية، فإن منعتم عني محفرا مزقت صدر الأرض بأصابعي، وإن ربطتم ساعدي حفرته بأسناني، أسرعوا من هذا المكان المملوء برائحة البخور واللبان فالخنازير تأبى استنشاق العطور الزكية، واللصوص الخاطفة تهاب رب البيت وتخشى قدوم الصباح، أسرعوا إلى مضاجعكم المظلمة لأن أغاني الملائكة المتموجة فوق شهيدي الحب لا تدخل آذانكم المسدودة بالتراب.»
وتفرق الناس من أمام وجه الكاهن العبوس ولبثت تلك الصبية واقفة بقرب الجثتين الهامدتين كأنها أم رقوب تحرس طفليها في سكينة الليل ولما توارى الجمع وخلا ذلك المكان استسلمت للبكاء والنحيب.
خليل الكافر
1
كان الشيخ عباس بين سكان تلك القرية المنزوية في شمال لبنان كالأمير بين الرعية، وكان منزله القائم بين أكواخهم الحقيرة يشابه الجبار الواقف بين الأقزام. وكانت معيشته ممتازة عن معيشتهم بميزة السعة عن العوز وأخلاقه مختلفة عن أخلاقهم باختلاف القوة عن الضعف.
إن تكلم الشيخ عباس بين أولئك الفلاحين أحنوا رؤوسهم إعجابا كأن القوى العقلية قد انتدبته ممثلا لها واتخذت لسانه ترجمانا عنها، وإن غضب ارتجفوا جزعا وتبددوا من أمام وجهه مثلما تتراكض أوراق الخريف أمام الأرياح وإن صفع خد رجل منهم ظل ذلك الرجل جامدا صامتا كأن الضربة قد أتت من السماء؛ فمن الكفر أن يتجاسر أو يرفع عينيه ليرى من أنزلها. وإن تبسم لرجل آخر قال الجميع: ما أسعده فتى رضي عنه الشيخ عباس.
Bilinmeyen sayfa
ولم يكن استسلام أولئك المساكين إلى الشيخ عباس وخوفهم قساوته صادرين عن ضعفهم وقوته فقط، بل كانا ناتجين عن فقرهم واحتياجهم إليه؛ لأن الحقول التي كانوا يحرثونها والأكواخ التي يسكنونها كانت ملكه وقد ورثها عن أبيه وجده مثلما ورثوا الفقر والتعاسة من آبائهم وجدودهم، فكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها ويحصدونها تحت مراقبته ولا يحصلون لقاء أتعابهم وجهادهم إلا على جزء من الغلة لا يكاد ينقذهم من أظافر الجوع، قد كان أكثرهم يحتاج الخبز قبل انقضاء أيام الشتاء الطويلة فيذهب إليه الواحد بعد الآخر ويتضرع أمامه باكيا مستعطفا لكي يقرضه دينارا أو مكيالا من الحنطة فكان الشيخ عباس يجيب سؤالهم مسرورا لعلمه بأنه سيستوفي الدينار دينارين ومكيال الحنطة مكيالين عندما تجيء أيام البيادر والموسم. وهكذا كان يبقى أولئك التعساء مثقلين بديون الشيخ عباس مكبلين بحاجتهم إليه خائفين غضبه طالبين رضاه.
2
قدم الشتاء بثلوجه وعواصفه وخلت الحقول والأودية إلا من الغربان الناعية والأشجار العارية، فلزم سكان تلك القرية أكواخهم بعد أن أشبعوا أهراء الشيخ عباس من الغلة وملأوا آنيته من عصير الكروم وأصبحوا ولا عمل لهم يفنون الحياة بجانب المواقد متذكرين مآتي الأجيال الغابرة مرددين على مسامع بعضهم حكايات الأيام والليالي.
انقضى كانون الأول (دسمبر) وقضى العام العجوز متنهدا أنفاسه الأخيرة في الفضاء الرمادي وجاءت الليلة التي يتوج فيها الدهر رأس عام الطفل ويجلسه على عرش الوجود.
توارى النور الضئيل وغمرت الظلمة البطاح والأودية وابتدأت الثلوج تنهمر بغزارة العواصف تصفر وتتسارع ملعلعة من أعالي الجبال نحو المنخفضات حاملة الثلوج لتخزنها في الوهاد فترتعش لهولها الأشجار وتتململ أمامها الأرض فمزجت الأرياح بين ما تساقط من الثلج في ذلك النهار والساقط منه في تلك الليلة حتى أصبحت الحقول والطلول والممرات كصفحة واحدة بيضاء يكتب عليها الموت سطورا مبهمة ثم يمحوها، وفصل الضباب بين القرى المنثورة على كتفي الوادي وتوارت الأنوار الضئيلة التي كانت تشعشع في نوافذ البيوت والأكواخ الحقيرة، وقبضت الرعبة على نفوس الفلاحين وانزوت البهائم بقرب المعالف واختبأت الكلاب في القراني ولم يبق سوى الريح تخطب وتضج على مسامع الكهوف والمغاير فيتصاعد صوتها الرهيب من أعماق الوادي تارة وطورا ينقض من أعالي قمم الجبال، فكأن الطبيعة قد غضبت لموت العام العجوز فقامت تأخذ بثأره من الحياة المختبئة في الأكواخ وتحاربها بالبرد القارس والزمهرير الشديد.
ففي هذه الليلة الهائلة وتحت هذا الجو الثائر كان فتى في الثانية والعشرين من عمره يسير على الطريق المتصاعدة بتدرج من دير قزحيا
1
إلى قرية الشيخ عباس وقدأ يبس البرد مفاصله وانتزع الجوع والخوف قواه وأخفت الثلوج ثوبه الأسود كأنها تريد أن تكفنه قبل أن تميته، فكان يخطو إلى الأمام والأرياح تصده وترجعه إلى الوراء كأنها أبت أن تراه في منازل الأحياء، وتتشبث الطريق الوعرة بأقدامه فيسقط ثم ينهك ثم يصرخ بأعلى صوته مستغيثا ثم يخرسه البرد فيقف صامتا مرتجفا فكأنه العناصر المتحاربة كالأمل الضعيف بين اليأس الشديد والحزن العميق، أو كعصفور مكسور الجناحين سقط في النهر فحمله التيار الغضوب إلى الأعماق.
وظل الشاب سائرا والموت يتبعه حتى خارت قواه وانحطت عزيمته وتجمدت الدماء في عروقه فارتمى على الثلوج.
وصرخ صوتا هائلا هو بقية الحياة في جسده: صوت خائف قد رأى خيال الموت وجها لوجه، صوت منازع قانط أتلفته الظلمة وقبضت عليه العاصفة لترمي به إلى الهاوية، صوت محبة الكيان في فضاء العدم.
Bilinmeyen sayfa
3
في الجهة الشمالية من تلك القرية كوخ صغير منفرد بين الحقول تسكنه امرأة تدعى راحيل مع ابنتها مريم غير المتجاوزة الثامنة عشرة من سنيها، هذه المرأة هي أرملة سمعان الرامي الذي وجد قتيلا في البرية منذ خمسة أعوام ولم يعرف قاتله بعد.
كانت راحيل مثل جميع الأرامل الفقيرات تعيش بالاجتهاد والعمل مخافة الموت والفناء، فكانت تخرج أيام الحصاد وتلتقط السنابل المتروكة في الحقل وفي أيام الخريف كانت تجمع فضلات الأثمار المنسية في البساتين وفي الشتاء كانت تغزل الصوف وتخيط الأثواب لقاء دريهمات قليلة أو مكيال من الذرة، وكانت جميع أعمالها مقرونة بالثبات والصبر والاعتناء، أما ابنتها مريم فكانت صبية جميلة هادئة تشاطر والدتها الأتعاب وتساهمها أعمال البيت.
ففي تلك الليلة المخيفة التي وصفناها كانت راحيل وابنتها جالستين بقرب موقد قد تغلب البرد على حرارته واكتنف الرماد جمره، وفوق رأسيهما سراج ضعيف يبعث أشعته الصفراء الضئيلة إلى قلب الظلمة مثلما تبعث الصلاة أشباح التعزية إلى كبد الفقير الحزين.
انتصف الليل والمرأتان جالستان تسمعان ولولة الأرياح خارجا ومن وقت إلى آخر كانت الصبية تقف وتفتح الكوة الصغيرة وتنظر نحو الفضاء المظلم ثم تعود إلى مكانها مضطربة مرتعبة من غضب العناصر.
في تلك الدقيقة تحركت الصبية فجأة كأنها استيقظت من سبات نوم عميق والتفتت بوجل نحو أمها وقالت بسرعة: «هل سمعت يا أماه؟ هل سمعت صوت صارخ مستغيث؟»
فرفعت الوالدة رأسها وأصغت هنيهة ثم أجابت: «لا لم أسمع سوى عويل الأرياح يا ابنتي.»
فقالت الصبية: «أنا قد سمعت صوتا أعمق من هزيم الريح وأمر من عويل العاصفة.»
قالت هذه الكلمات وانتصبت واقفة وفتحت الكوة وأصغت دقيقة ثم قالت: «قد سمعت الصراخ ثانية يا أماه.»
فأجابت الأم وقد أسرعت مرتاعة نحو النافذة: «وأنا قد سمعت أيضا ... تعالي نفتح الباب وننظر ... أوصدي النافذة كي لا تطفئ الريح السراج.»
Bilinmeyen sayfa
قالت هذا والتفت برداء طويل وفتحت الباب وخرجت بقدم ثابتة وبقيت مريم واقفة في الباب والهواء يتلاعب بجدائل شعرها.
مشت راحيل بضع خطوات فالحة الثلج بقدميها ثم وقفت ونادت: «من الصارخ؟ أين المستغيث؟» فلم يجبها أحد ثم رددت كلماتها هذه ثانية وثالثة وإذ لم تسمع غير صراخ الزوبعة تقدمت إلى الأمام بشجاعة ملتفتة إلى كل ناحية حاجبة وجهها من تموجات الريح العنيفة، ولم تسر رمية سهم حتى رأت أثر أقدام غارقة في الثلج قد أوشكت الأرياح أن تمحوها فاتبعتها بسرعة جازع مترقب وبعد هنيهة نظرت فرأت أمامها جسدا مطروحا على الثلج كرقعة سوداء على ثوب ناصع البياض، فتقدمت وذرت الثلج عنه وأسندت رأسه على ركبتيها ووضعت يدها على صدره وإذ شعرت بنبضات قلبه المتهاونة التفتت نحو الكوخ وصرخت قائلة: «هلمي يا مريم هلمي إلى معونتي فقد وجدته.»
فخرجت مريم من البيت متبعة أثر أقدام والدتها مرتعشة من البرد والخوف حتى إذا ما بلغت المكان ورأت الشاب الملقى بلا حراك على الثلج تأوهت وصرخت بلهفة وتوجع، فقالت الأم وقد وضعت يديها تحت إبطيه: «هو حي فلا تخافي بل أمسكي بأطراف أثوابه وتعالي نحمله إلى البيت.»
حملت المرأتان الفتى والأرياح الشديدة تصدهما والثلوج تتمسك بأقدامهما حتى إذا ما بلغتا به الكوخ ألقتاه بجانب الموقد وأخذت الأم تفرك أعضاءه المتجلدة والابنة تجفف بأطراف ثوبها شعره البليل وأصابعه الباردة، فلم تمر بضع دقائق حتى عادت إليه الحياة فتحرك قليلا وارتعشت أجفانه وتنهد تنهيدة عميقة بثت الأمل بنجاته في قلبي المرأتين الشفوقتين، فقالت مريم بعد أن حلت سيور حذائه المهشم وخلعت عباءته البليلة: «انظري يا أماه! انظري ملابسه فهى شبيهة بأثواب الرهبان.» فالتفتت راحيل وقد وضعت في الموقد غمرا من القضبان اليابسة وقالت مستغربة: «إن الرهبان لا يخرجون من الدير في مثل هذه الليلة المخيفة فأي شيء يا ترى جعل هذا المسكين يخاطر بحياته؟»
فقالت الصبية مستدركة: «ولكن هو أمرد يا أماه وللرهبان لحى كثيفة.» فنظرت إليه الوالدة وقد انسكبت الرأفة الوالدية من عينيها وقالت متنهدة: «جففي قدميه جيدا يا ابنتي راهبا كان أم مجرما.»
وفتحت راحيل الخزانة الخشبية وأخرجت منها جرة صغيرة مملوءة خمرا وسكبت منها في إناء من الفخار ثم قالت لابنتها: «أسندي رأسه يا مريم لنجرعه قليلا من الخمر فينتعش وتعود الحرارة إلى جسده.»
قربت راحيل حافة الطاس إلى شفتي الشاب وجرعته قليلا ففتح عينيه الكبيرتين ونظر إلى منقذيه لأول مرة نظرة لطيفة محزنة قد انبعثت مع دموع الشكر ومعرفة الجميل، نظرة من شعر بملامس الحياة بعد أن كان بين مخالب الموت، نظرة الأمل بعد اليأس. ثم ألوى عنقه وخرجت هذه الكلمات من بين شفتيه المرتعشتين: «ليبارككما الله.»
فقالت راحيل وقد وضعت يدها على كتفه: «لا تزعج نفسك بالكلام يا أخي بل ابق صامتا حتى تعود إليك القوة.»
وقالت مريم: «اتكئ يا أخي إلى هذا المسند واقترب قليلا من الموقد.»
فاتكأ الشاب متنهدا وبعد دقيقة ملأت راحيل الطاس خمرا وسقته ثانية ثم التفتت نحو ابنتها وقالت: «ضعي جبته بقرب النار لتجف.» ففعلت مريم ثم جلست تنظر إليه بحنو وشفقة كأنها تريد أن تبث بنظراتها الحرارة والقوة في جسده النحيل.
Bilinmeyen sayfa
وأحضرت راحيل إذ ذاك رغيفين من الخبز وقصعة مملوءة دبسا وطبقا عليه بعض الثمار المجففة وجلست بجانبه تطعمه بيدها لقما صغيرة مثلما تفعل الأم وطفلها، حتى إذا اكتفى من الطعام وشعر بشيء من النشاط استوى جالسا على البساط فانعكست أشعة النار الوردية على وجهه المصفر، وتلمعت عيناه الحزينتان ثم قال هازا رأسه بهدوء: «الرحمة والقساوة تتصارعان في القلب البشري مثلما تتحارب العناصر في فضاء هذه الليلة المظلمة، ولكن سوف تتغلب الرحمة على القساوة لأنها إلهية وسوف تمر مخاوف هذه الليلة بمجيء النهار.» وسكت الشاب دقيقة ثم زاد بصوت منخفض يكاد لا يسمع: «يد بشرية دفعتني إلى الهوان ويد بشرية خلصتني فما أشد قساوة الإنسان وما أكثر رأفته!»
فقالت راحيل بصوت تمتزج بمقاطعه عاطفة الأمومة بعذوبة الطمأنينة: «كيف تجرأت يا أخي وتركت الدير في هذه الليلة التي تخافها الذئاب وتنزوي بالكهوف وتهابها العقبان فتختبئ بين الصخور؟»
فأغمض الشاب عينيه كأنه يريد أن يعيد بأجفانه الدموع إلى أعماق قلبه ثم قال: «للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه.»
فقالت راحيل: «هكذا قال يسوع الناصري عن نفسه عندما طلب إليه أحد الكتبة أن يتبعه إلى حيث يذهب.»
فأجاب الشاب: «وهكذا يقول كل من يريد أن يتبع الروح والحق في هذا الجيل المملوء بالكذب والرياء والفساد.»
فسكتت راحيل مفكرة بمعنى كلماته ثم قالت بشيء من التردد: «ولكن في الدير غرف عديدة رحبة، وخزائن طافحة بالذهب والفضة، وأقبية مملوءة بالغلة والخمور، وزرائب غاصة بالعجول والكبوش المسمنة، فأي أمر جعلك تترك جميع هذه الأشياء وتخرج في مثل هذه الليلة؟»
فقال الشاب متنهدا: «قد تركت جميع هذه الأشياء وخرجت كرها من الدير.»
فقالت راحيل: «إن الراهب في الدير نظير الجندي في ساحة الحرب يزجره رئيسه فينحني صامتا ويأمره فيطيع مسرعا، وقد سمعت بأن الرجل لا يصير راهبا إلا إذا نزع عنه الإرادة والفكر والميل وكل ما يختص بالنفس، ولكن الرئيس الصالح لا يطلب من مرءوسيه فوق طاقتهم فكيف يطلب منك رئيس دير قزحيا أن تسلم حياتك إلى العواصف والثلوج؟»
فأجاب الشاب: «إن الرجل لا يصير راهبا في عرف رئيسه إلا إذا كان مثل آلة عمياء خرساء فاقدة الحس والقوة، أما أنا فقد خرجت من الدير لأنني لست آلة عمياء بل إنسانا يرى ويسمع.»
فأحدقت به راحيل ومريم كأنهما قد رأتا في وجهه سرا خفيا يريد كتمانه، وبعد هنيهة قالت الوالدة مستغربة: «أيخرج الإنسان الذي يرى ويسمع في مثل هذه الليلة التي تعمي العيون وتصم الآذان؟»
Bilinmeyen sayfa
فتنهد الشاب وأحنى رأسه على صدره وقال بصوت عميق: «خرجت مطرودا من الدير.»
فقالت راحيل بدهشة: «مطرودا؟!»
ورددت مريم هذه الكلمة متأوهة.
فرفع الشاب رأسه وقد ندم على إظهاره الحقيقة للمرأتين وخاف أن تتحول رأفتهما عليه إلى استياء واستهجان، ولكنه نظر فرأى في عينيهما أشعة الشفقة متموجة مع محبة الاستطلاع فقال بصوت مخنوق: «نعم خرجت مطرودا من الدير لأنني لم أستطع أن أحفر قبري بيدي لأن قلبي قد تعب في داخلي من متابعة الكذب والرياء؛ لأن نفسي أبت أن تتنعم بأموال الفقراء والمساكين، لأن روحي قد امتنعت عن التلذذ بخيرات الشعب المستسلم إلى الغباوة. خرجت مطرودا لأن جسدي لم يعد يجد راحة في الغرف الرحبة التي بناها سكان الأكواخ؛ لأن خوفي لم يعد يقبل الخبز المعجون بدموع اليتيم والأرملة، لأن لساني لم يعد يتحرك بالصلاة التي يبيعها الرئيس بأموال المؤمنين والبسطاء. خرجت مطرودا كالأبرص القذر؛ لأنني رددت على مسامع القسس والرهبان آيات الكتاب الذي جعلهم قسسا ورهبانا.»
وسكت الشاب وظلت راحيل ومريم ناظرتين إليه مستغربتين كلامه محدقتين بوجهه الجميل الحزين متلفتتين بين الآونة والأخرى إلى بعضهما كأنهما تتساءلان بالسكينة عن الأسباب الغريبة التي جاءت به إليهما، حتى إذا ما نمت محبة الاستقصاء في قلب الوالدة نظرت إليه بانعطاف وسألته قائلة: «أين أبوك وأمك يا أخي؟ هل هما حيان؟»
فأجاب الشاب والغصات الموجعة تقطع ألفاظه: «ليس لي أب ولا أم ولا أخت ولا مسقط رأس.»
فتنهدت راحيل متأثرة وحولت مريم وجهها نحو الحائط لتخفي دمعة محرقة استقطرتها الشفقة من أجفانها، فنظر إليهما الشاب نظرة المغلوب إلى منجده وقد انتعشت نفسه برقة عواطفهما مثلما تنتعش الزهرة النابتة بين الصخور عندما يسكب الصباح قطرات الندى في قلبها، ثم رفع رأسه وقال: «مات أبي وأمي قبل أن أبلغ السابعة من عمري فأخذني كاهن القرية التي ولدت فيها إلى دير قزحيا، فسر الرهبان بي وجعلوني راعيا للبقر ولما بلغت الخامسة عشرة ألبسوني هذا الثوب الأسود والخشن وأوقفوني أمام المذبح قائلين: أقسم بالله وقديسيه بأنك قد نذرت الفقر والطاعة والعفة. فرددت كلامهم قبل أن أفهم مفاد كلامهم، وقبل أن أدرك معاني الفقر والطاعة والعفاف، وقبل أن أرى السبيل الضيقة التي سيروني عليها. كان اسمي خليلا فصار الرهبان منذ ذلك الحين يدعونني الأخ مبارك ولكنهم لم يعاملونى قط كأخ لهم، كانوا يتنعمون باللحوم والمآكل الشهية ويطعمونني الخبز اليابس والبقول المجففة ويتلذذون بالخمور والمشارب الطيبة ويسقونني الماء ممزوجا بالدموع، ويتضجعون على الأسرة الناعمة وينيمونني على فراش حجري في غرفة مظلمة باردة بجانب زرائب الخنازير فكنت أقول في نفسى: متى أصير راهبا يا ترى فأشارك هؤلاء السعداء بغبطتهم، وأصبح خليقا بملذاتهم ومسراتهم فلا تقطع قلبي رائحة الطعام، ولا تعذب كبدي ألوان الخمور، ولا ترتعش روحي لصوت الرئيس. ولكن باطلا كنت أتمنى وأحلم لأنني بقيت أرعى البقر في البرية وأنقل الحجارة الثقيلة على ظهري وأحفر التراب بساعدي، بقيت أفعل كل ذلك لبقاء الخبز الدنيء والمأوى الضيق لأنني لم أكن أعلم بأنه يوجد مكان غير الدير يمكن أن أعيش فيه لأنهم علموني الكفر بكل شيء إلا معيشتهم، وسمموا نفسي بنقيع اليأس والاستسلام حتى ظننت بأن هذا العالم هو بحر أحزان وشقاء وأن الدير هو ميناء الخلاص.
واستوى خليل جالسا وانبسطت ملامحه المنقبضة، ونظر كأنه رأى شيئا جميلا منتصبا أمامه في ذلك الكوخ. أما راحيل ومريم فلبثتا صامتتين محدقتين به وبعد هنيهة عاد فقال: «إن السماء التي شاءت فأخذت والدي ونفتني يتيما إلى الدير لم تشأ أن أصرف العمر كله كالأعمى السائر في المعابر الخطرة، ولم ترض بأن أكون عبدا تعسا متصاغرا إلى نهاية الحياة، ففتحت عيني وأذني وأرتني النور مشعشعا وأسمعتني الحقيقة متكلمة.»
فهزت راحيل رأسها إذ ذاك وقالت: «أيوجد نور غير النور الذي تسكبه الشمس على جميع الناس؟ وهل بإمكان البشر أن يعرفوا الحقيقة؟»
فأجاب خليل قائلا: «النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس ويجعلها فارحة بالحياة مترنمة باسم الروح، أما الحقيقة فهي كالنجوم لا تبدو إلا من وراء ظلمة الليل. الحقيقة هي مثل جميع الأشياء الجميلة في هذا العالم لا تظهر مفاعليها المستحبة إلا لمن شعر بتأثيرات البطل القاسية، الحقيقة هي تلك العاطفة الخفية التي تعلمنا أن نفرح بأيامنا وتجعلنا نتمنى ذلك الفرح نفسه لجميع الناس.»
Bilinmeyen sayfa
فقالت راحيل: «كثار هم الذين يعيشون حسب العاطفة الخفية الكائنة في قلوبهم، وكثار هم الذين يعتقدون بأن هذه العاطفة هي ظل الناموس الذي سنه الله للإنسان. ولكنهم لا يفرحون قط بأيامهم بل يظلون تعساء حتى الموت.»
فأجابها خليل قائلا: «باطلة هي الاعتقادات والتعاليم التي تجعل الإنسان تعسا في حياته، وكذابة هي العواطف التي تقوده إلى اليأس والحزن والشقاء؛ لأن واجب الإنسان أن يكون سعيدا على الأرض وأن يعلم سبل السعادة ويكرز باسمها أينما كان، ومن لا يشاهد ملكوت السموات في هذه الحياة لن يراه في الحياة الآتية؛ لأننا لم نجئ هذا العالم كالمنفيين المرزولين بل جئنا كالأطفال الأغبياء لكي نتعلم من محاسن الحياة وأسرارها عبادة الروح الكلي الخالد واستطلاع خفايا نفوسنا. هذه هي الحقيقة التي عرفتها عندما قرأت تعاليم يسوع الناصري وهذا هو النور الذي انبثق من داخلي وأبان لي الدير ومن فيه كهوة مظلمة تنبعث من أعماقها الأشباح المخيفة لتميتني، هذا هو السر الخفي الذي أعلنته البرية الجميلة لنفسي عندما كنت أجلس جائعا باكيا متأوها في ظل الأشجار؛ ففي يوم وقد سكرت نفسي من هذه الخمرة السماوية تشجعت ووقفت بين الرهبان إذ كانوا جالسين في حديقة الدير مثلما تربض البهائم المتخومة وأخذت أبين لهم أفكاري وأتلو على مسامعهم آيات الكتاب التي تبين ضلالهم وكفرهم. قلت لهم: لماذا نصرف الأيام في هذه الخلوة متمتعين بخيرات الفقراء والمساكين مستطيبين الخبز المعجون بعرق جبينهم ودموع أجفانهم متلذذين بغلة الأرض المسلوبة منهم؟ لماذا نعيش في ظلال التواني والكسل مبتعدين عن الشعب المحتاج إلى المعرفة حارمين البلاد قوى نفوسنا وعزم سواعدنا؟ إن يسوع الناصري قد بعثكم كالخراف بين الذئاب فأي تعاليم جعلتكم تصيرون كالذئاب بين الخراف؟ لماذا تبتعدون عن البشر وقد خلقكم الله بشرا؟ إذا كنتم أفضل من الناس السائرين في موكب الحياة فعليكم أن تذهبوا إليهم وتعلموهم وإن كانوا أفضل منكم فامتزجوا بهم وتعلموا. كيف تنذرون الفقر وتعيشون كالأمراء وتنذرون الطاعة وتتمردون على الإنجيل وتنذرون العفة وقلوبكم مفعمة بالشهوات؟ أنتم تتظاهرون بقتل أجسادكم ولكنكم لا تقتلون غير نفوسكم، وتتظاهرون بالترفع عن العالميات وأنتم أكثر الناس طمعا. وتتظاهرون بالتنسك والتقشف وأنتم كالبهائم المشغولة عن المعرفة بطيب المرعى. تعالوا نعيد أراضي الدير الوسيعة إلى سكان هذه القرى المحتاجين ونرجع إلى جيوبهم الأموال التي أخذناها، تعالوا نتفرق إلى كل ناحية مثلما تتفرق أسراب الطيور فنخدم الشعب الضعيف الذي جعلنا أقوياء، ونصلح البلاد التي نعيش بخيراتها، ونعلم هذه الأمة التعسة أن تبتسم لنور الشمس وتفرح بمواهب السماء ومجد الحياة والحرية؛ لأن المتاعب التي نجدها بين الناس هي أجل وأجمل من الراحة التي نستسلم إليها في هذا المكان، والرأفة التي نلامس بها قلب القريب هي أسمى من الفضيلة المختبئة في قراني الدير، وكلمة التعزية التي نقولها على مسامع الضعيف والمجرم والساقطة هي أشرف من الصلاة الطويلة التي نرددها في الهيكل.»
وسكت خليل دقيقة مسترجعا أنفاسه ثم رفع عينيه نحو راحيل ومريم وقال بصوت هادئ: «كنت أتكلم بهذه الأشياء وما يشابهها أمام الرهبان وهم سامعون ودلائل الاستغراب بادية على وجوههم كأنهم لم يصدقوا بأن فتى مثلي يقف بينهم ويتكلم متجاسرا بمثل هذا الكلام حتى إذا ما انتهيت اقترب أحدهم وقال صارفا أسنانه: «أتتجرأ أيها الضعيف وتتلفظ أمامنا بمثل هذا الكلام؟» واقترب آخر وقال ضاحكا مستهزئا: «هل تعلمت هذه الحكمة من البقر والخنازير التي رافقتها كل أيام حياتك؟» وجاء آخر وقال متوعدا: «سوف ترى ما يحل بك أيها الخبيث الكافر.» ثم تفرقوا عني إلى كل ناحية مثلما يبتعد الأصحاء عن الأبرص، وذهب بعضهم وشكوني إلى الرئيس فاستدعاني عند غروب الشمس وبعد أن وبخني بقساوة على مسمع من الرهبان المبتهجين أمر بجلدي فجلدت بسياط من المرس، ثم حكم بسجني شهرا كاملا، فاقتادني الرهبان متقهقهين فرحين إلى غرفة رطبة مظلمة ... انقضى الشهر وأنا مطروح في ذلك القبر لا أرى النور ولا أشعر بغير دبيب الحشرات ولا ألمس سوى التراب ولا أعرف نهاية الليل من بدء النهار ولا أسمع سوى وطء أقدام أحد الرهبان عندما يجيء ويضع بقربي كسرة من الخبز اليابس العطن وطاسا من الماء الممزوج بالخل، ولما خرجت من ذلك السجن ورأى الرهبان نحول جسدي واصفرار وجهي توهموا بأن أميال نفسي قد ماتت في داخلي وأنهم بالجوع والعطش والعذاب قد قتلوا العاطفة التي أحياها الله في قلبي ... مرت الأيام أثر الليالي وأنا أجهد النفس مفكرا في ساعات انفرادي بما يجعل أولئك الرهبان يرون النور ويسمعون نغمة الحياة، ولكن باطلا كنت أفتكر وأفتكر، لأن الغشاء الكثيف الذي حاكته الأجيال الطويلة على بصائرهم لا تمزقه الأيام القليلة، والطينة التي طلت بها الغباوة آذانهم قد تحجرت فلا تزيلها ملامس الأصابع الناعمة.»
وبعد سكينة مملوءة بالتنهدات رفعت مريم رأسها والتفتت نحو والدتها كأنها تستأذنها بالكلام ثم نظرت بكآبة نحو خليل وسألته قائلة: «هل عدت وتكلمت ثانية أمام الرهبان فطردوك من الدير في هذه الليلة المخفية التي تعلم الإنسان أن يكون رؤوفا ورفوقا حتى بأعدائه؟»
فقال الشاب: «في هذا المساء عندما تعاظم هول العاصفة وابتدأت العناصر تتحارب في الفضاء جلست منفردا عن الرهبان المستدفئين حول النار والمشغولين بسرد الحوادث والحكايات المضحكة وفتحت الإنجيل متأملا بتلك الأقوال التي تستميل النفس وتنسيها غضب الطبيعة وقساوة العناصر، ولما رآني الرهبان بعيدا عنهم اتخذوا انفرادي سببا للسخرية بي، فجاء بعضهم ووقفوا بقربي وأخذوا يتغامزون ويضحكون ويشيرون نحوي مستهزئين، فلم أحفل بهم بل أطبقت الكتاب وبقيت ناظرا من النافذة، فتململوا لذاك غيظا ونظروا إلي شزرا لأن سكوتي قد أيبس عواطفهم ثم قال أحدهم ساخرا: «ماذا تقرأ أيها المصلح العظيم؟» فلم أرفع عيني نحو المتكلم بل فتحت الإنجيل وقرأت منه بصوت عال هذه الآية: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه: يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا تقولون في نفوسكم: إن لنا إبراهيم أبا؛ لأني أقول: لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة فكل شجرة لا تعطي ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم من: له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا.» عندما قرأت هذه الكلمات التي قالها يوحنا المعمدان سكت الرهبان دقيقة كأن يدا خفية قد قبضت على أرواحهم ولكنهم عادوا وقهقهوا ضاحكين ثم قال أحدهم: «قد قرأنا هذا الكلام مرات عديدة ولسنا نحتاج لرعاة البقر أن يرددوه على مسامعنا.» فقلت: «لو كنتم تقرأون هذه الآيات وتفهمونها لما كان سكان هذه القرى المغمورة بالثلوج يتأففون بردا ويتضورون جوعا وأنتم ههنا تتمتعون بخيراتهم وتشربون عصير كرومهم وتأكلون لحوم مواشيهم.» لم تخرج هذه الألفاظ من بين شفتي حتى صفعني أحد الرهبان على وجهي كأني لم أتكلم بغير الحماقة، ثم رفسني آخر برجله وآخر انتزع الكتاب من يدي، وآخر نادى الرئيس فجاء مسرعا وإذ أخبروه بما جرى تعالت قامته وزوى ما بين عينيه وارتجف غضبا وصرخ بأعلى صوته: «اقبضوا على هذا الشرير المتمرد وجروه بعيدا عن الدير، ودعوا العناصر الغضوبة تعلمه الطاعة، أخرجوه إلى الظلمة الباردة لتفعل به الطبيعة مشيئة الله، ثم اغسلوا أكفكم خوفا من سموم الكفر المتعلقة بأثوابه وإن عاد متضرعا متظاهرا بالتوبة فلا تفتحوا له الأبواب؛ لأن الأفعى إذا سجنت في القفص لا تنقلب حمامة والعليقة إذا غرست في الكرم لا تثمر تينا».»
حينئذ قبض الرهبان علي وجروني بعنف إلى خارج الدير وعادوا ضاحكين وقبل أن يوصدوا الأبواب سمعت أحدهم يقول ساخرا: «كنت بالأمس ملكا وكانت رعيتك البقر والخنازير، وقد خلعناك اليوم أيها المصلح لأنك أسأت السياسة فاذهب الآن وكن ملكا على الذئاب الجائعة والغربان المتطايرة وعلمها كيف يجب أن تعيش في كهوفها وأوجرتها.»
وتنهد خليل تنهيدة عميقة ثم حول وجهه ونظر إلى النار المتأججة في الموقد، وبصوت جارح بحلاوته قال: «هكذا طردت من الدير، وهكذا سلمني الرهبان إلى يد الموت فسرت والضباب يحجب الطريق عن بصري والأرواح الشديدة تمزق أثوابي والثلوج المتراكمة تتمسك بركابي حتى وهنت قواي فسقطت مستغيثا صارخا صراخ يائس شعر بأنه لا يوجد من يسمعه سوى الموت المخيف والأودية المظلمة، ولكن من وراء الثلوج والأرياح، من وراء الظلمة والغيوم، من وراء الأثير والكواكب ومن وراء كل شيء قوة هي كل معرفة وكل رحمة قد سمعت صراخي وندائي فلم تشأ أن أموت قبل أن أتعلم ما بقي من سرائر الحياة فبعثتكما إلي لكي تسترجعاني من أعماق الهاوية والعدم.»
وسكت الشاب والمرأتان تنظران إليه بانعطاف وإعجاب وشفقة كأن نفسيهما قد فهمتا خفايا نفسه واشتركتا معها بالشعور والمعرفة، وبعد هنيهة مدت راحيل يدها أسر إرادتها ولمست يده بلطف وقالت والدموع تتلمع في عينيها: «إن من تختاره السماء نصيرا للحق لا تفنيه المظالم ولا تميته الثلوج والعواصف.»
وهمست مريم قائلة: «إن العواصف والثلوج تفني الزهور ولكنها لا تميت بذورها.»
فقال خليل وقد أنارت التعزية وجهه المصفر مثلما تنير أشعة الفجر خطوط الأفق: «إن كنتما لا تحسباني متمردا وكافرا كما يحسبني الرهبان يكون الاضطهاد الذي لقيته في الدير رمزا للشدة التي تعانيها الأمة قبل بلوغها المعرفة، وتكون هذه الليلة التي كادت تميتني شبيهة بالثورات التي تتقدم الحرية والمساواة؛ لأن من قلب الامرأة الحساس تنبثق سعادة البشر ومن عواطف نفسها الشريفة تتولد عواطف نفوسهم .»
Bilinmeyen sayfa